ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد المجيد اللبان
ولد حفظه الله في شهر شوال سنة ١٢٨٨ﻫ ببلدة سنويون من أعمال مركز فوه بمديرية الغربية من أبوين شريفين في أسرة كبيرة، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
ولما أتم حفظ القرآن الكريم بمكتب بلدته بعث به والده إلى الجامع الأزهر المعمور على عادة الكثير من أعيان الريف في ذلك الوقت، فتلقى فيه العلوم العربية والشرعية والعقلية على كبار علمائه، ومشهوري أعلامه في ذلك الحين أمثال المغفور لهم الأساتذة الأجلاء الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر السابق، والأستاذ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقًا، والشيخ أحمد الرفاعي الفيومي والشيخ محمد البحيري الديروطي، وقد عكف على الاشتغال بالعلوم بهمة لا تعرف الملل، واشتهر في ذلك الدور من حياته بالذكاء النادر وحب الاطلاع والإخلاص للعلم والرغبة فيه، حتى طار صيته في الأزهر بين أقرانه وصار له لدى أساتذته مكانة سامية، فقد كانت له مع بعضهم مناظرات على غير عادة الطلاب في ذلك العصر، وعلى الأخص المغفور له الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فكانت هذه المناقشات سببًا في بروز شخصيته وظهوره بالاستقلال في الرأي والإصابة في الحكم، وتقدير الأستاذ الإمام لمواهبه، وفي ٧ ربيع الأول سنة ١٣١٨ﻫ، نال شهادة العالمية بعد أن شهدت له اللجنة التي شكلت لاختباره برئاسة المرحوم الشيخ البشري بالتفوق، وأثنت عليه الثناء المستطاب ثم تصدى للتدريس بالجامع الأزهر الشريف فأقبل عليه الطلاب أيما إقبال، فأفاد إفادة حفظها له الأزهر وبنوه واستمر على ذلك إلى أن تأسس معهد الإسكندرية، واتجهت فكرة القائمين به إلى اختيار المبرزين من العلماء للتدريس به، فكان فضيلته في مقدمتهم وفعلًا عين لذلك في أوائل سنة ١٣٢٤ﻫ، وهناك أعاد سيرته الأولى وقرأ أعاظم الكتب واشتهر بالعطف على الطلبة، والأخذ بناصرهم والعمل على سعادتهم؛ ولذلك اختير عضوًا بمجلس إدارة ذلك المعهد فكانت له فيه الآراء الصائبة والأفكار السامية.
وظل بالإسكندرية حتى تقرر نقله إلى الأزهر في ٤ أكتوبر سنة ١٩٢١، تبعًا لنقل القسم العالي من معهدي الإسكندرية وطنطا إليه، واستمر على التدريس فيه حتى اختير مفتشًا عامًّا للأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية الأخرى في شهر أكتوبر سنة ١٩٢٣، ومع قيامه بهذه المهمة فقد أسند إليه التدريس بقسم التخصيص المنشأ حديثًا، وفي هذه الأطوار تراه المثل الأعلى والقدوة الصالحة في الإخلاص في العمل والأمانة فيما يكلف به.
وعلى يديه تخرج كثير من أفاضل العلماء من مدرسين وقضاة، كما كانت دروسه مصدر نبوغ طائفة كبيرة من خريجي مدرسي القضاء الشرعي ودار العلوم، الذين بدءوا حياتهم الدراسية على يديه.
وفي أثناء مقامه في الإسكندرية شجر الخلاف بينه وبينه الكتاب في بعض المسائل العلمية، وفي مقدمتهم المرحومان الشيخ علي يوسف وحفني بك ناصف، فكانت دروس عالية في أدب المناظرة وقوة الإقناع، وبعد ذلك توالت مقالاته الممتعة على الصحف اليومية في الموضوعات العلمية والأدبية والدينية والسياسية.
ولما رأى حاجة المسلمين ماسة إلى الإصلاح أسس في سنة ١٩١٤م بمدينة الإسكندرية جمعية إرشاد الخلق إلى الحق، التي ضمت كثيرًا من العلماء والأعيان لمواساة الفقراء، وإصلاح ذات البين وإبطال شبه الملحدين، وتأسيس المدارس لتعليم مبادئ الدين والأخلاق، ولولا وقوف حكومة ذلك العهد في وجهها لكان لها اليوم شأن عظيم في ترقية الآداب والأخلاق، ونشر الاتحاد والوئام، ولما نهض زعيم البلاد عقب الهدنة لتشكيل الوفد المصري، وكان جمهور العظماء والمفكرين في كل مدينة يجتمعون للتفكير في مستقبل البلاد كان هو أول من رفع صوته بذلك في مدينة الإسكندرية، وكان منزل فضيلته بها مجمع رجال الوطنية المخلصين من أبنائها، وحينما اعتقلت السلطة دولة سعد باشا زغلول في ٩ مارس سنة ١٩١٩، اعتقلت فضيلته أيضًا في اليوم التالي في حجرة خاصة بقسم محرم بك بالإسكندرية، ثم أفرجت عنه في اليوم الذي أطلق فيه سراح دولة الرئيس وزملائه من مالطة، فعاد إلى مكانه في قيادة الحركة الوطنية في ثغر الإسكندرية، وكان أول من رفع علم الاتحاد فيه، وصورته الفوتوغرافية التي أخذت لذلك الحين مع كبار رجال الدين من الأقباط في الإسكندرية تذكار دائم لهذا العمل المجيد، الذي قدره عظماء الطائفتين قدره وقد أهدى إليه عظماء الأقباط بهذه المناسبة علم الاتحاد، فتسلمه منهم في احتفال كبير أقيم لهذا الغرض، وبقي وديعة لديه إلى أن سلمه لدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول في حفلة استقباله بالإسكندرية لدى عودته من أوربا للمرة الأولى في ٤ أبريل سنة ١٩٢١، وعندما شجر الخلاف بين فريق من الأرمن والمصريين بالإسكندرية سنة ١٩١٩، واعتدى الأرمن على المصريين لقيت المدينة في شخص فضيلته عاملًا كبيرًا من عوامل السلام، ففاوضه زعماء الأرمن في إزالة أسباب الخلاف وفعلًا تألف وفد من زعماء الفريقين برياسة فضيلته للعمل على تهدئة الخواطر، فزار كنيسة الأرمن ردًّا لزيارة زعمائهم منزل فضيلته، وكانت جاليتهم قد التجأت إليها بدسائس المغرضين من السياسة، فأعاد اللاجئين إلى منازلهم بعد أن تبادل الفريقان عبارات المحبة والوئام، كما كان له الفضل العظيم في إعادة مياه الصفاء إلى مجراها بين المصريين وضيوفهم الأجانب في حوادث مايو المشئومة، فزار مع فريق من الأعيان قناصل الدول، وحادث الصحفيين منهم مؤكدًا لهم عطف المصريين على ضيوفهم، فكان لمساعيه أثرها الطيب في إزالة الشقاق.
وقبيل مجيء لجنة ملنر نفته السلطة من الإسكندرية إلى عزبته بمركز فوه مع اثنين من أنجاله، كما نفت كثيرًا من زعماء المصريين إلى قراهم، فقضى بها عشرة شهور، ولم يسمح لفضيلته بالعودة إلى الإسكندرية إلا عندما جاء المندوبون الأربعة لعرض مشروع ملنر على الأمة، وقد أبدى فضيلته رأيه في المشروع في اجتماع عقد بقاعة مجلس الإسكندرية البلدي، فرفض المشروع ما لم يعدل تعديلًا يضمن استقلال مصر والسودان التام وإلغاء الحماية.
ولقد قدرت الأمة وطنيته وإخلاصه كما قدر الوفد ودولة رئيسه حُسن بلائه في خدمة البلاد فرشحه لعضوية مجلس النواب عن دائرة أبي مندور، عندما طلب أهلها فضيلته للنيابة عنهم، وفعلًا انتخب لعضوية هذه الدائرة بأغلبية ساحقة، ويعتبر فضيلته العضو الوحيد النائب عن الأزهر في مجلس النواب؛ لأنه يجمع بين عضوية المجلس ووظيفة سامية من وظائف الأزهر هي تفتيش المعاهد الدينية التي نرجو لفضيلته في خدمتها رقيًّا مستمرًّا، كما أنه يعتبر العالم الديني الوحيد الذي جاهد بقلمه جهادًا صادقًا في خدمة بلده بعد الأستاذ الإمام محمد عبده، وأول عالم ديني اعتقل في النهضة الوطنية، وظل فيها وفيًّا لها من يوم أن قامت إلى الآن معروفًا بتأييده للقائمين بها، ومشهورًا بإخلاصه لجلالة المليك وولائه لعرشه الكريم، وإجلاله لزعيم الأمة، ورئيس نهضتها الأمين صاحب الدولة سعد باشا زغلول.