ترجمة فضيلة الأستاذ العالم الجليل السيد أحمد رافع الطهطاوي
كلمة للمؤرخ
إن خير البلاد ما أنجب عظماء الرجال، فلا غرو إذا كانت طهطا إحدى مراكز مديرية جرجا في مقدمة البلاد السعيدة بأبنائها، ولا بدع إذا فاخرت أكبر العواصم بمن أنجبت من كبار علماء الأمة وعظماء رجال الدين.
ومنهم الآن الأجل الفاضل السيد محمد عبد العزيز رافع قد اجتمع له الدين والدنيا ومكارم الأخلاق، تولى الإفتاء مدة في مديرية جرجا، ثم اقتصر على اشتغاله بشأن نفسه من أمر دينه ودنياه وله ابنان، أحدهما له وظيفة نقابة أشراف تلك الجهة، بعد أن جاور بالأزهر مدة، والآخر منهمك في طلب العلم مع النجابة الزائدة. ا.ﻫ.
مولده ونشأته
والثاني هو صاحب هذه الترجمة وقد ولد بمدينة طهطا بمديرية جرجا في جمادى الثانية من سنة ١٢٧٥ﻫ «الموافقة لأوائل سنة ١٨٥٩م»، ونشأ بها واشتغل بتعلم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الشريف حتى أتم حفظه وهو ابن عشر سنين، ثم اشتغل بحفظ المتون العلمية على يد والده السالف ذكره فحفظ منها جملة كثيرة حفظًا جيدًا، وكان مع ذلك يأخذ عن والده وغيره مبادئ علم التوحيد والنحو والفقه، ثم وفد إلى الجامع الأزهر في سنة ١٢٨٧ﻫ، وسنه إذ ذاك اثنتا عشرة سنة فواظب فيه على تلقي العلم الشريف ومكث به نحو اثنتي عشرة سنة، أخذ فيها جميع العلوم الجاري قراؤها فيه متلقيًا عن كثير من أكابر علمائه كالأستاذ الجليل الشيخ محمد عليش، وابنه الشيخ عبد الله والأستاذ محمد الخضري الدمياطي الأزهري، والعلامة شمس الدين محمد الإمبابي، وتلميذه المحقق الشيخ حسن بن رضوان الخفاجي الدمياطي، والشيخ عبد الهادي الإبياري، والشيخ عبد الرحمن الشربيني، والشيخ زين المرصفي، والشيخ محمد أبي النجاة الشرقاوي، والشيخ عبد القادر الرافعي، والشيخ عبد الرحمن القطب النواوي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد البسيوني الببياني.
وقد أذن له بالتدريس في سنة ١٢٩٩ﻫ العلامة شمس الدين الإنبابي شيخ الجامع الأزهر إذ ذاك، وأجاز له أن يروي عنه ما يجوز له رواية وما يصح عنه دراية بعد أن لازمه مدة وأخذ عنه علومًا عدة «قال»: فلما لاح لي كوكب صلاحه وفاح لي مسك فلاحه ورأيته أهلًا لتلك الصناعة، وجديرًا بتعاطي هاتيك البضاعة حيث أخذ من الفنون بأقوى طرف، وأراد الاقتداء في أخذ الأسانيد بمن سلف بادرت إلى طلبه لإعطائه بلوغ أربه، فلم أثن عنه عنان العناية بل أجزت له بما يجوز لي رواية ويصح عني دراية من فروع وأصول ومنقول ومعقول، وأذنت له في التدريس وأن يتخذ العلم خير جليس «إلى آخر ما قال»، وكذا أجاز له العلامة الجليل السيد علي بن خليل الأسيوطي الذي تلقى عن الشيخ علي بن عبد الحق القوصي عن الشيخ محمد الأمير الكبير، وكذا أجاز له والده السابق ذكره الذي تلقى عن الشيخ علي بن محمد الفرغلي الأنصاري عن الشيخ محمد الأمير الكبير، وقد تلقى مسلسل عاشوراء عن الأستاذ الشيخ إبراهيم السقا، وسمع الحديث المسلسل بالأولية من الأستاذ الشيخ محمد الأشموني الشافعي عن الشيخ علي البخارتي عن الشيخ الأمير الكبير، وكان العلامة الشيخ محمد العباسي المهدي مدة مشيخته للجامع الأزهر رغب أن يعين صاحب الترجمة في وظيفة شرعية كبرى، وعرض عليه ذلك فأبى قبولها، واختار البقاء على حالته التي نشأ عليها من مبدأ اشتغاله بالعلم، وهي الاطلاع على الكتب العالية الغريبة والتنقير فيها على غرائب الفوائد؛ ليتهيأ له السلوك في سبيل الأفهام السديدة الانتقادات الصائبة التي يضمنها مؤلفاته، وقد ظهرت فوائده العلمية ومواهبه العقلية وعرفت لدى الخاص والعام، وشهد له بالتفوق في العلوم مشايخ الجامع الأزهر، وكثير من علمائه الأعلام فيما قرظوا به كتابيه بلوغ السول، وكمال العناية الآتي ذكرهما.
وقد اشتغل المترجم في بلدة «طهطا» بالتأليف والدراسة، فقرأ كثيرًا من الكتب الجليلة قراءة بحث وتدقيق بمشاركة كثير من أفاضلها كتفسير الخطيب الشربيني، وشفاء القاضي عياض، وشرح السعدي على العقائد النسفية، ومغني اللبيب وغير ذلك.
ثم رجع إلى القاهرة في سنة ١٩٠٨م وأقام بها بمنزله الذي اشتراه بالحلمية الجديدة، وله مؤالفات كثيرة جمة الفوائد تميزت عن غيرها بقلائد الفرائد في التفسير، والحديث واللغة، والنحو، والمعاني والبيان، والبديع، والمنطق، وتواريخ الرجال، «منها» رسالة بلوغ السول بتفسير لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ المطبوعة في سنة ١٣٠٥ﻫ.
«ومنها» كمال العناية بتوجيه ما في لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ من الكناية المطبوع في سنة ١٣١٣هجرية.
«ومنها» القول الإيجابي في ترجمة العلامة شمس الدين الألباني المطبوعة في سنة ١٣١٤ﻫ.
«ومنها» رفع الغواشي عن مفصلات المطول والحواشي الذي بلغ خمسة أجزاء ضخام طبع الجزء الأول منها في سنة ١٣٣٣ﻫ.
«ومنها» نفحات الطيب على تفسير الخطيب، أعانه الله على إتمامها على النموذج البديع المثال الذي توخاه فيها.
«ومنها» الثغر الباسم في مناقب سيدي أبي القاسم الذي طبع في سنة ١٣٣٣ﻫ.
«ومنها» شرح الصدر بتفسير صورة القدر.
«ومنها» نظم الدرر الحسان في تفسير آية شهر رمضان.
«ومنها» المسعى الرجيح إلى فهم شرح غرامي صحيح.
«ومنها» النسيم السحري على مولد الخضري.
«ومنها» منصة الابتهاج بقصة الإسراء والمعراج.
«ومنها» فرائد الفوائد الوفية بمقاصد خفية الألفية، وقد ألفها وسنه إحدى وعشرون سنة؛ ولذلك قال في خطبتها كما قال الأخضري:
«ومنها» هداية المجتاز إلى نهاية الإيجاز وهو شرح على منظومة بيانية، وقد قال في آخره:
«ومنها» الرياض الندية على الرسالة السمرقندية.
«ومنها» الطراز المعلم على حواشي السلم، وقد ألفه وسنه لم تتجاوز تسع عشرة سنة؛ ولذا قال في خطبته كما قال الفاضل الشيخ عبد العزيز بن أبي الحسن الأنصاري في بعض منظوماته:
«ومنها» رسائل المحاضرة في مسائل المناظرة.
«ومنها» كتابه الذي لم ينسج ناسج على منواله المسمى «المسعى الحميد إلى بيان وتحرير الأسانيد».
ومختصر نعم الحافظ شمس الدين أبي عبد الله الذهبي الدمشقي مع زيادات عديدة مفيدة.
وملخص معجم تاج الدين أبي نصر عبد الوهاب السبكي كذلك.
ومختصر معجم الحافظ بن حجر العسقلاني المصري كذلك.
وملخص ما في معجم الجلال السيوطي، وكتاب نظم العقيان له من تراجم شيوخ عصره كذلك.
وجزء يتضمن تراجم كثير من شيوخ الحافظ صلاح الدين أبي سعيد خليل بن كيكلدي العلائي الدمشقي ثم المقدسي.
«ومنها» غير ذلك كالتعليقات التي كتبها على هوامش متن المغني وشرح الدماميني عليه، وعلى هوامش الهمزية وعلى هوامش كتاب سيدي محمد بن علي السنوسي الخطابي المسمى «بغية المقاصد في خلاصة المراصد».
وله بعض مقالات إنشاء منها ما سبق طبعه في جريدة الحكومة المصرية «الوقائع المصرية»، ومنها مقالة سماها رايات الأفراح بآيات الانشراح طبعت على حدتها، وفي ضمن رسالة «فرح الصعيد» ومنها مقالة مطبوعة في ضمن كتاب «القول الحقيق» وغير ذلك.
وقد أنعم عليه بكسوة التشريف المظهرية من الدرجة الثانية بإرادة سنية صادرة في ١٩ جمادى الثانية، من سنة ١٣١٩ﻫ الموافق ٢ أكتوبر سنة ١٩٠١، ثم بها من الدرجة الأولى بإرادة سنية صادرة في ١٢ شعبان من سنة ١٣٢٢ﻫ الموافق ٢١ أكتوبر سنة ١٩٠٤.
وقد أنشأ ببلدة «طهطا» في سنة ١٨٩٨م مدرسة خيرية إسلامية، سماها «مدرسة فيض المنعم» تخرج منها كثير من التلاميذ الذين حازوا بعد ذلك الشهادات العالية، ومكث ينفق عليها نحو أربع عشرة سنة، ثم قدمها إلى مديرية جرجا في سنة ١٩١٢م لإدارتها بمعرفتها.
وترجمته مذكورة بأبسط من ذلك في كتابين من مؤلفات أفاضل العصر: أحدهما «سمر الأجلاء بتراجم الأخلاء»، والثاني يسمى «سلافة العصر». وقد امتدحه كثير من الفضلاء بقصائد نقتصر منها على قصيدة حضرة الفاضل أحمد أفندي سمير، الذي بعث بها إليه من مدينة «استتجارت» في ٣٠ نوفمبر سنة ١٨٨٩م قال في أوائلها:
ثم قال:
إلى أن قال:
صفاته وأخلاقه
ولا شك أن القارئ الكريم بعد تصفحة ترجمة هذا البحر الفهامة والعالم العلامة يتأكد له فضله، وغزارة علمه، وبحر أدبه، وسمو مداركه، مع كرم الأخلاق، ولين الجانب، حفظه الله وأبقاه ولا حرم العلم والأدب من بحر أفضاله.