ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد حسين القصبي
مقدمة للمؤرخ
من رجال الأمة المصرية العظام الذين برزوا في ميدان الجهاد الوطني، وتجلت مواهبهم السامية في كل أدوار الجهاد، وثبتوا في مبادئهم ثبات الأبطال في حومة الميدان، وكانوا خير عضد ونصير للرئيس الجليل، وامتازوا بلا جدال بأصالة الرأي، والحكمة، والسداد، وحسن المشورة في جلائل الأمور، وأمهات المسائل في أوقات الشدائد، هذا الوطني الصميم والسري الجليل الذي حاز مكانة عالية في قلوب المصريين عامة، والعاملين المجاهدين خاصة.
انضم هذا الوطني العظيم تحت لواء الزعيم الكبير متحملًا ما تحمله أعضاء الوفد المصري الكرام من تنكيل، واعتقال، وهو السري بماله، والوجيه بين قومه والعظيم بما تحلى به من أخلاق، وفضائل، ونال ما نال من عسف، وجور، واضطهاد، بصبر وجلد فلم يتزحزح قيد أنملة عن شريف موقفه، بل ناضل وجاهد ولم تزده عوامل الشدة والعنف إلا تمسكًا بأهداب الوطنية الصادقة.
فشهم هذه نفسيته جدير بكل إجلال، وإكرام، وجدير بحملة الأقلام والمؤرخين خاصة أن يتباروا في تعداد مناقبه الشريفة، وخدماته الجليلة، ووطنيته العالية؛ ليقتدي به ويتمشى على منواله من رام تخليد حياته في بطون التاريخ لتدوم ذكراهم العاطرة ما دامت السماوات والأرض ناطقة لهم بالفخر والإعجاب.
وإننا مع اعترافنا بالعجز وعدم إمكاننا تدوين كل شاردة وواردة من خدماته وأعماله الكثير عددها، لا سيما ما كان منها خاصًّا بالحركة الوطنية، إلا أن واجبنا التاريخي يحتم علينا تدوين ما يمكن لنا معرفته من تاريخه المجيد، اعترافًا منا بفضله وإقرارًا بكبير وطنيته فنقول:
مولده ونشأته
ولد حفظه الله في شهر رمضان المعظم من سنة ١٢٨٤ﻫ، فاستبشر والده بهذا الطالع خيرًا وأخذ يعتني بتربيته وتعليمه، حيث استحضر له بعض كبار علماء الجامع الأحمدي بطنطا ليتلقى عنهم بعض العلوم المختلفة، فكان مثال الجد والنشاط والذكاء في كل ما يلقى إليه فبرع براعة تامة شهد له بها أساتذته، وصارحوا بسرعة خاطره، ووثقوا بنجاح مستقبله، وطالع سعده فكان قرة عين والده ومحط سروره وسعادته، غير أن الدهر الغادر عكر صفو هذه العائلة الكريمة في إبان سرورها بانتقال عميدها المرحوم الطيب الذكر خالد الأثر، والد حضرة صاحب الترجمة من دار الفناء إلى دار البقاء، فانقلب سرورها أحزانًا وأفراحها أتراحًا، خصوصًا لأن الابن لم يكن قد بلغ بعد سن الرجولية حين وقوع ذاك المصاب الأليم، إذ لم يك يتجاوز الخمس عشرة سنة.
غير أن من كان على شاكلته في الجد، والنشاط، والذكاء، والإقدام، لا يحجم عن احتمال بعض الشدائد في بادئ الأمر، فوجه همته واهتمامه إلى تنظيم مزرعته، وإصلاحها الإصلاح الذي بلغ بها أعلى درجات الكمال رغم صغر سنه، فأصبحت واسعة النطاق، غزيرة النتاج، بفضل ما بذله من الهمة في رعايتها وإصلاحها بنفسه، فأقبلت عليه الدنيا بخيراتها ودنت إليه بسعادتها، ونظرًا لشهرته العظيمة في الشؤون الزراعية، فقد نال الميدالية الذهبية من حضرة صاحب السمو السلطاني الأمير كمال الدين حسين رئيس الجمعية الزراعية الملكية في المباراة التي تمت بإشراف الجمعية الزراعية الملكية عن سنة ١٩٢٤–١٩٢٥ لزراعته التي بناحية إخناوي بمديرية الغربية، كما كتب له سمو الأمير كتابا رقيقًا يهنئه فيه بهذه النتيجة السارة.
ولحضرة صاحب الترجمة ولع شديد بالسياحات في بلاد الغرب للوقوف على أحوالها لا سيما شؤونها الزراعية، والتجارية، وقد ساح مرارًا عديدة في البلاد السورية وزار الأستانة العلية مرارًا فكان في سياحاته هذه موضع احترام الجميع له ومحط إعجابهم به، لا سيما الأعيان والعلماء الذين اعترفوا له بالفضل، وعلو المكانة، والكفاءة الشخصية، في كل حديث دار معهم، وما كان له أن ينسى ذكر مصر، وحب مصر، ومجد مصر، واستقلال مصر، في كل غدواته وروحاته.
دخوله في ميدان الجهاد الوطني
ومن الخطأ المحض أن يقال عن صاحب الترجمة: إنه حديث الظهور في إظهار ما تكنه عواطفه من حبه لمصر أو أن تلك الروح المتشبعة بالوطنية الصادقة لم يشتعل لهيبها إلا وقت تأليف الوفد المصري، فانضم إليه، كلًّا، فإن ما عرف عن صاحب الترجمة من الإخلاص الأكيد للوطن المفدى، والتمسك بأهداب الحق الصراح، والمجاهرة بما يراه مبدأ وعقيدة، من زمن مديد لا يسعه إلا الاعتراف بكبير وطنيته واستعداده لكل تضحية في سبيل استقلال مصر فقد بذل فضيلته الجهود الكثيرة في خدمة البلد فيما تقلب فيه من المراكز النيابية، وما قام به من الرحلات السياسية، فقد خدم بلاده أثناء انتخابه عضوًا بمجلس طنطا البلدي، فتم على يديه إصلاحات كثيرة نافعة، وكذلك لما كان عضوًا بمجلس المديرية، فقد كانت له اليد الطولى في المشاريع النافعة والمنشآت الهامة في مديرية الغربية، وإن أنس لا أنسى خدمته الجلى لمصر لما كون وفدًا مع إسماعيل أباظة باشا وفريق من عظماء الأمة، حيث سافروا جميعًا إلى لندن وجعلوا شعارهم شكوى حكومة إنجلترا إلى الشعب الإنجليزي، فبثوا شكوى مصر إلى عظماء الأمة الإنجليزية من الأحرار وغيرهم، وطلب إليهم السير إدارد جراي أن يقابلوه فرفضوا إلا في غرفته بالبرلمان، وقد كانت المقابلة ذات أثر يذكر في السياسة الإنجليزية في مصر.
وقد جاء تأليف الوفد المصري مطابقًا لتلك الروح المتقدة غيرة وحماسًا، وعندئذ انفجر ذلك الشعور الدفين الكامن بين جوانحه، واندفع تيار إخلاصه في حب مصر، ولاقى ما لاقى من ضروب القمع والإرهاب والاعتقال من أجل مصر وهو ثابت الجأش، ولسان حاله يقول: «الاستقلال التام أو الموت الزّؤام.»
ولا يمكن لمصري ممن حضروا تلك الحركة الوطنية المباركة، وشاهدوها بمرأى العين إلا الاعتراف والمجاهرة بحسن بلاء صاحب الترجمة، ومحافظته على مبدئه إلى النهاية، في حين أن فريقًا ممن انضموا تحت لواء هذا الوفد شقوا عصا الطاعة نحو الرئيس الجليل، وحادوا عن مبادئهم لغايات شائنة كشفت الأيام عنها الستار، فغدوا مضغة في الأفواه وأضحوكة بين الشعب المصري الذي أمكنه تقدير خدم المخلصين العاملين ونبذ المارقين المنافقين.
وقد جاهر دولة الزعيم الجليل أثناء خطبه وأحاديثه السايرة بما انطوى عليه هذا المجاهد من الإخلاص الأكيد، والولاء المتين في كل أدوار تلك الحركة المباركة ومن بعدها بأنه يحفظ له في فؤاده كل إجلال وإكبار، وذلك بعد أن خبره وعرف فيه تلك الغريزة السامية، والوطنية العالية، وهكذا يكون نصيب العاملين المخلصين لبلادهم، فإن الأمة ترفعهم إلى قمة المجد ذاكرة لهم حسن بلائهم، وشريف خدماتهم ولن تنسى لحضرة صاحب الترجمة بوجه خاص تلك العزيمة التي لا تهاب الموت في سبيل استقلال مصر، وما تحلى به من كرم النفس وجوده على الفقراء والمعوزين، وبره باليتامي والبائسين، فهو لا يرد سائلًا ولا يخيب طالبًا.
وقد مدحه بعض من الشعراء بقصائد رنانة، آثرنا نشر بعض أبيات مختارة مما قاله فيه أحدهم يصف غزارة فضله وعالي نسبه:
إلى أن قال:
صفاته وأخلاقه
شديد التمسك بأهداب الحق، ولا يخشى في المجاهرة به لومة لائم، ثابت في إيمانه ومبدئه، دمث في أخلاقه، ظريف في محادثاته، كريم اليد، وبالإجمال فهو آية من آيات الولاء والإخلاص لوطنه خليق بكل تجلة واحترام.
حفظه الله وحقق آمال الأمة بفضل حسن جهاد رجالها العاملين المخلصين.