المارد
كنت أعتقد أني عرفت كل شيء عن نفسي؛ دوافعي الخفية وأسباب نزواتي، كمية شجاعتي وما فيَّ من ضعف، ما أحبه وما أكرهه، وما أحتار بين رغبتي فيه وبغضي له؛ إلى أن حدث ذلك الحادث الذي أكد لي بعده أني مثل غيري، لا تتعدى معرفتي لنفسي طبقة القشور، الحادث وقع من زمن، منذ أكثر من عام، ولقد رويته في كل مناسبة للأهل والأصدقاء حتى التصقت تفاصیله بذاکرتي، وأصبح الحادث نفسه جزءًا لا يتجزأ من تفكيري ومن نفسي.
أنا ممن يحبون المشي من أجل المشي، وغالبًا ما أفضِّله على الركوب لأسباب كثيرة لا أعرف معظمها، ولكن المؤكد أني أستمتع به. إنك وأنت راكب الأوتوبيس تصبح جزءًا من الأوتوبيس وازدحامه وحديده وخشبه، وأنت في سيارتك مجرد سائق ومسيطر على آلات. فقط وأنت سائر، وأنت تنقل القدم وتتبعها بالأخرى، وأنت تتحرك فيتحرك معك كل جزء من جسدك، أنت حينئذٍ تحس، أكثر من أي وقت آخر، أنك نفسك، أنك إنسان، أنك شباب، أو ربما أكثر شبابًا، أنك حر تقف أو تمشي أو تسرع، أنك حرٌّ أنت الذي تتحرك، أنك كائن حي وليست آلة أخرى هي التي تُحركك؛ تحس بفرحتك أنك على الأقل قادر على السير، إحساس لا يقدره حق قدره إلا من اضطُر يومًا ما أن يرقد أو يُحرَّم عليه المسير. لهذه الأسباب العامة أحب المشي كما قلت، ولسبب آخر خاص بي؛ ذلك أني أحب أن أسرح وأفكر وأحلم، ولا يحلو لي أن أصنع هذا كله إلا وأنا سائر، وكأن مع المشي تتحرك أجهزة الخيال عندي وتمضي هي الأخرى تسير في أي اتجاه شاءت. ولأن هذا السبب الأخير سبب خطير في الوقت نفسه؛ إذ ليس أخطر من السرحان أثناء السير؛ فأنا إذا مشيت أراعي دائمًا أن ألازم الرصيف، وأغالي إلی درجة أكاد أسير معها لصق الحائط، ومتخذًا هذا الاحتياط الأكيد لا يصبح عليَّ لكي أحلم وأفكر كما أشاء إلا أن أتفادى المارَّة فقط، وتلك مهمة يؤديها عقلي تلقائيًّا، وفي نفس الوقت الذي يقوم فيه جزؤه الأكبر بالتفكير كما يشاء.
باستطاعتكم إذن أن تتصوروا مبلغ دهشتي حين أكون سائرًا على كورنيش النيل بعد ظهر يوم، متخذًا نفس الاحتياطات السابقة، وإذ بي أجد نفسي وجهًا لوجه أمام عربة من عربات نصف النقل المخصَّصة لتعليم السائقين في الجيش، والحقيقة ليس بالضبط وجهًا لوجه، إنما الوضع حدث کالآتي؛ كان السائق يسير بسرعة كبيرة، وفجأة انحرفت منه العربة انحرافًا حادًّا لم يعرف سببه، وإن كان السائق قد ذكر أن سببه انفلات في تروس عجلة القيادة، وكانت نتيجة السرعة الكبيرة والانحراف الحاد أن انقلبت العربة. ولم تنقلب مرة واحدة، ولكنها دخلت في سلسلة من الانقلابات كان مفروضًا أن يستقر كل انقلاب منها فوق جسدي ويحطمه. ولم يكن هذا مفروضًا فقط، ولكنه كان شيئًا مؤكدًا مفروغًا منه، تأكُّدك من إصابة شخص تطلق عليه النار من بعد متر. أما كيف لم يحدث هذا، وكيف أني لا زلت على قيد الحياة أتحدث وأروي القصة، فهو ما سأحاول شرحه، وأرجو أن أنجح؛ فالمهمة ليست سهلة كما قد تظنون، وأنا نفسي لا زلت لا أصدقها.
طبعًا حالَ عقلي المشغول بالخيالات والأحلام بيني وبين أن أدرك أن هناك عربة جيش تسير بسرعة مجنونة في الطريق؛ فالمفروض أن تسير في الطريق عربات، ومع أن المفروض ألا تسير بسرعة مجنونة، إلا أنه ليس كل مفروض مرغوبًا أو مطاعًا، ما علينا. انحرفت العربة، وانقلبت انقلابها الأول على بعد كبير مني، على بعد خمسين مترًا أو أكثر، في هذه اللحظة فقط، أي بعد انقلابها الأول، بدأت أتنبه وأدرك أن ثَمة حادثًا قد وقع، وأن عربة انقلبت، وأن بيني وبينها مسافة، وكان لا يمكن أن أتصور بأي حال أنه رغم كل هذه المسافة من الممكن أن تصبح العربة، على بعد ثانية أو أقل من ثانية، أمامي مباشرة، ولكن هذا بالضبط ما حدث؛ فما كدت أراها مقلوبة على جنبها، حتى رأيتها تقفز مرة أخرى في الهواء، وسمعت صراخ المارَّة: ابعد … ابعد … حاسب حاسب.
لم أعرف أني المقصود بالصراخ إلا في اللحظة التالية، ولكن قبل الصراخ، قبله بجزء على ألف من الثانية، كان شيء ما في نفسي قد دق ونبهني إلی أني سأواجه حالًا خطرًا قاتلًا ساحقًا. من الصعب عليَّ جدًّا أن أصوِّر الموقف؛ فلقد حدث كله في لمحة، والآن، وأنا جالس إلى مكتبي أقيس الزمن بمقياسه الطبيعي، لا أستطيع أن أتخيل كيف في مثل تلك الومضات الخاطفة، تحدث كل تلك الأشياء، وأفكر في كل تلك الاحتمالات، وأتذكر أثناءها ما لا يمكن تذكره، حواسي كانت تؤكد لي أني في أمان، وأن الخمسين مترًا مسافة لا يمكن أن تقطعها عربة مقلوبة على عجلاتها، بل حتى لو كانت تسير على عجلاتها لأخذ الأمر بعض الوقت کي تصلني؛ لهذا حين سمعت الأصوات تُحذرني، وتلفَّتُّ تلفتًا سريعًا، ولكنه تلفُّت المطمئن على أية حال، وجدت أن التفاتي جاء متأخرًا؛ فالعربة في انقلاباتها الصاعقة كانت قد وصلتني، وأصبح ما بينها وبيني لا یزید عن المتر، ولكنه متر يتناقص بسرعة مذهلة؛ إذ العربة كانت مرتكزة على حدها، وفي طريقها للانقلاب ناحيتي والانقضاض عليَّ. ومن سرعة التمطي والتثاؤب، سرعة السلحفاة التي كان عقلي يجتر بها خواطره، وجدت سرعته تقفز إليَّ أسرع من الضوء تحاول أن تجد الحل. ومع هذا، ومع هذه السرعة الخارقة، كان الخطر أسرع. وهكذا وجدت نفسي عاجزًا عن التفكير بالمرة، فلا وقت هناك ولا قدرة، وحتى لو كانت يد رحيمة قد امتدت من السماء وأمسكت العربة ومنعتها من السقوط فوقي لدقيقة مثلًا أو لدقيقتين لكي تتاح لي فرصة التفكير، فماذا كان باستطاعتي أن أفكر فيه، وأي تصرف كان يمكنني عمله؟ ماذا تفعل والخطر أسرع من قدرتك على القفز والجري إذا أردت الجري، وحتى من طيرانك إذا أوتيت أجنحة لتطير. ساعات بأكملها جلستها وحدي أتذكر وأعتصر عقلي کي أعرف بالضبط ماذا فعلت وكيف دون جدوى؛ فنحن لا ندرك أننا فكرنا إلا إذا كنا قد فكرنا بعقولنا، ولا نعي بتصرفاتنا إلا إذا كنا قد تصرفنا بإرادتنا وبأمر من ذلك الجهاز الجبار الرابض في جماجمنا. أمَا وقد قلت لكم إن عقلي كان قد توقف على التفكير، كالآلة حين تُحمَّل فوق طاقتها فتتوقف عن الدوران، أمَا والذي فكَّر وتصرَّف لم يكن هو ذلك العقل الواعي الإرادي الذي غاب عن وعيه وإرادته، أمَا وثَمة مصدر آخر هو الذي دبَّر وأراد ونفَّذ، فكيف يمكنني أن أعرف أو أتذكر؟! كل ما حدث وكل ما أذكره هو مشهد العربة، أو على وجه أصح الجزء الأسفل من العربة وهو يتهاوى بسرعة لينقضَّ عليَّ، ثم إحساسي بأني أتحرك خفيفًا في اتجاه مغایر، ثم من جديد مشهد آخر للعربة بجزئها الأعلى هذه المرة وهي تنقض وأنا أتحرك. كم مرة حدث هذا؟ لا أذكر، ربما ثلاثة، ربما مائة، لا أعرف.
المشهد التالي الذي أذكره كنت راقدًا فيه على جنبي، وبجواري تمامًا، وعلى بعد عدة سنتيمترات، ترقد العربة على جنبها أيضًا، وكلانا بغير حَراك، ولكن العربة لم تلبث أن غابت عن ناظري، وتولَّت حجبَها حلقةٌ مُحكَمة من الأقدام والسيقان العارية، وبنطلونات لرجال وسيدات وأطفال. ورفعت عيني لأجد حلقةً مُحكَمة عُليا أخرى من الرءوس والعيون. ورغم آلاف الكلمات المتناثرة من عشرات الأفواه، ورغم الأيدي التي امتدت تتحسس أذرعي وأرجلي وتسألني عن نفسي، كنت أنا بعيدًا عن هذا كله، في لحظة صفاء ذهني ما شعرت بمثلها في حياتي؛ وكأن عقلي كان كشكولًا مملوءًا بالمسودات والصور والبقع والكتابات، ثم حدث ما محا منه كل هذا، وأصبح نظيفًا ناصع البياض لتوِّي تسلَّمته من مخازن المدرسة. وحين بدأت أفهم الكلمات وأعرف قائليها وجدتها تأتيني في نبرات وأصوات واضحة قوية، وكأنها أول ما يُدوَّن في صفحة ذاكرتي.
ووُلد من جديد تعبیرٌ أدبي يُستخدم في هذه الأحوال، ولكني فعلًا كنت كالمولود الجديد، كائن وكأنْ لا صلة له مطلقًا بمن كانه منذ دقائق معدودات. لا، لم أكن قد فقدت ذاکرتي أو نسيت شيئًا، إذ ما لبثت أن بدأت أسترجع بصورة غير مركزة أولَ الأمر، ثم على وجه أكثر تركيزًا ما حدث، وعرفت هذا حين مرت لحظة الصفاء الرائعة. ليتها ما مرت ومضيت فيها إلى الأبد. أفقت وتمالكت نفسي، وبدأت أسأل عما حدث، وأغرب شيء أن الناس كلهم أجمعوا على أنهم بلا استثناء كانوا قد تأكدوا تمامًا أني انتهیت، وأنهم في طريقهم لرؤية جثة مشوَّهة؛ إذ مسألة مصرعي كانت أمرًا مفروغًا منه، ثم بدأ بعضهم يقطع روايته ويسألني إن كنت رياضيًّا أو إذا كنت في فترة ما من حياتي قد زاولت رياضة القفز. وبالطبع نفیت، فلست ریاضیًّا قط، ولكن من يوم أن قال لي مدرس الرياضة البدنية رأيه بصراحة فيَّ وفي طريقة لعبي، وفصلني من «القسم المخصوص» أيام كان في المدارس قسم مخصوص للرياضة، ومن يومها، وبيني وبين الرياضة بكافة أنواعها ما صنع الحداد. يصدقني الناس. وحين مضوا يؤكدون أني لا بد ریاضي عتيد، وحينئذٍ سألت البقية الباقية من الحلقة التي كان كثير من أفرادها قد تسرَّبوا ومضوا إلى حال سبيلهم، ولم يبقَ منهم إلا كل فاضٍ متلکئ محب للاستطلاع، سألتهم لماذا يذكرون مسألة الرياضة والقفز، ولم أعرف السبب إلا حين أوقفوني وأروني العلامات التي خلَّفتها العربة في انقلاباتها الكثيرة. كان ما بين العلامة والعلامة لا يقل عن الأربعة أو الخمسة أمتار. وحسبوا أني أسخر، وكانوا يزدادون استنكارًا كلما أقسمت لهم أني لا أعرف شيئًا ولم أدرِ بما فعلته. وتحت إلحاحي تطوع أحدهم بالشرح، وقال لي إني كنت كلما قاربت العربة الانقضاض عليَّ وسحقي، كنت قُبيل استوائها فوقي وسحقي تمامًا أقفز، أقفز أحيانًا وأنا واقف، وأحيانًا وأنا راقد، قفزات أبعد بها عن العربة، القفزة منها لا تقل عن عرض العربة عن ثلاثة أمتار، وليس قفزًا إلى الأمام، ولكنه قفز إلى الخلف.
وتطوَّع آخر كان يبدو أن بينه وبين الرياضة صلة بإخباري أني قمت بسلسلة من «البلانسات» الخلفية لا يمكن أن يقوم بها إلا بطل ریاضي أو لاعب «أكروبات» محترف قضى عمره كله يتدرب عليها، وحتى كان من المشكوك أن ينجح فيها كلها.
وبنظري قست المسافة، وتصورت الوضع، ووجدت أني من المستحيل أن أكون قد قمت بهذه القفزات، غير أني شئت أم لم أشأ، ومهما بلغ تصوري ورفضي لهذا التصور، كان عليَّ أن أصدق أني لا بد قد قمت بها، لسبب بسيط، هو أني إذا لم أكن قد فعلت فقد كان لا بد أن تلحقني العربة وتقتلني.
وسواء صدقت أم لم أصدق، فقد كان همي أن ينتهي الموقف الذي كنت فيه محط الأبصار والأسماع والاستفسارات، وأن أغادر المكان وأبتعد عن المنطقة كلها في الحال، ما دمت قد اطمأننت إلى أن كل شيء فيَّ على ما يرام، وأني لم أصب إلا بخدوش بسيطة لا يمكن إلا أن أحمد الله عليها.
وكنت أعتقد أني حالما أبتعد، وأصل إلى البيت مثلًا، ستنتهي الحالة التي انتابتني، وأعود نفس الشخص الذي كنته قبل الحادث، وألا يصبح الأمر سوى ذكرى أرويها للناس؛ ولكن شيئًا من هذا لم يحدث؛ فقد ظللت طوال الساعات الأولى أحس وكأني لست المتحكم تمامًا في نفسي وتصرفاتي — حقيقة — لم أكن أنا الذي يتحدث أو يخترق الشارع أو يجلس على المقعد. ظللت أحس أن عقلي ليس هو القوة الوحيدة التي تملي عليَّ ما أفعله وما لا أفعله، أُحس وكأن قوة أخرى هي التي لا تزال مسيطرة؛ قوة لا يمكن أن يكون مركزها العقل وإلا لأدرکتها وعرفتها؛ قوة لم أكن أدرکها، کأنها نابعة من جسدي نفسه، من أطرافي وعظامي وعضلاتي، قبل أن أشرع في التفكير تكون قد تصرفت وأبعدتني؛ قوة متوجسة لا تطمئن لشيء، إذا سمعت نفير عربة اشرأبَّت، وإذا صافحت أنا شخصًا قبل أن أكون قد كونت فكرة عنه تكون هي قد انجذبت إليه أو نفرت منه، وفعلت هذا بطريقة حاسمة باترة لا يصلح فيها جدل. ولم يستغرق الأمر بضع ساعات فقط، لعدة أيام لم ينقطع إحساسي بتلك القوة المجهولة التي تملي عليَّ إرادتها. أحيانًا أحس وكأني ارتددت بضعة ملايين من السنين إلى الوراء، وعدت كتلة لحم حية تنكمش إذا سقط عليها الضوء، وتبتعد تلقائيًّا عن الأعداء والكهرباء. وأحيانًا أحس وكأني نسيت كل ما تعلمته وجربته وعرفته وكونت فكرة عنه، وعدت أرى الأشياء من حولي بفهم بدائي جدید، وخاصية لا تعرف إلا أن تنجذب لمصادر الحياة وتنكمش عن مصادر الخطر. وعقلي طوال الوقت يعمل ولا يكف عن العمل، ويفكر ويتأمل فيما أنا فيه وفيما أعانيه، ومع هذا لا يملك إزاء ما يحدث لي تحبيذًا ولا منعًا. قلت لنفسي إنها غريزة الدفاع عن النفس وقد سيطرت عليَّ، ولكن الحادثة مضت، والخطر زال، فماذا يدعو غريزة كهذه إلى البقاء مسيطرة عليَّ؟ قلت إنه جسدي نفسه الذي تصرَّف لحظة الأزمة ونحَّى عقلي جانبًا، وبقي بعد انتهاء اللحظة كأي مستبد اعتلى كرسي الحكم، بقي يحكمني ويتحكم فيَّ. قلت لعلها الصدمة، لعلها الأزمة، لعله الأثر الساحق لما حدث، لعله اضطراب ألمَّ بي، لعلني في حاجة إلى رقاد أو إجازة أو فترة أريح فيها الأعصاب. قلت لنفسي أشياء كثيرة، دون أن أقتنع بأيها؛ فقد كان الشعور بأني کائن آخر، بأني لم أعد أبدًا نفس الشخص الذي كنته، بأن شيئًا مهولًا وافدًا قد طرأ عليَّ، وأصبح هو أنا، وأصبحت أنا إياه؛ كان هذا الشعور أقوى وأعمق من أن يفسره أي افتراض شعور مذهل غريب، جعلني حین عدت إلى البيت مثلًا وتمددت على الفراش، أتذكر أحداثًا في طفولتي كان لا يمكن أن أتذكرها، وأفكر في أشياء للمستقبل مستحيل أن كانت تخطر لي على بال، بل کدت أحس أني قد أصبحت أكثر شفافية وإدراكًا، وأن بوسعي أن أشعر بحدوث وقائع لم أعلم بها، وكأني بكلي قد تحولت إلى مجموعة من أجهزة الالتقاط الدقيقة الزائدة الحساسية التي تكاد تجعلني أحس بالنمل إذا دب، وبعواطف صديقي الغائب عني، ورأي طفلي الرضيع فيَّ.
وكما قلت لأن عقلي كان يعمل طوال الوقت؛ فقد كان هو الذي يُطمئنني، ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، كان يُشعرني بأني شيئًا فشيئًا أعود إلى حيث كنت، وأن القوة الخفية الجبارة التي تملكتني تخف قبضتها لدى كل زمن يمضي، وأنها في الطريق إلى الزوال.
ولا أستطيع أن أضع فاصلًا حاسمًا أحدد به متى انتهت تلك الفترة، ومتى بدأت أصبح نفسي الأولى. وماذا أقول؟ هل تصدقونني إذا قلت إن ذلك الحادث الذي لم يستغرق إلا أقل من لحظة لم يذهب أثره عني تمامًا إلا بعد شهور، بل لا أستطيع أن أقسم أنها كانت شهورًا، وأيضًا لا أستطيع أن أقرر إن كنت حقًّا قد عدت تمامًا كما كنت؛ فلقد نسيت ماذا كنت وبالضبط من كنته، وهي ثانية واحدة تلك التي انقطع فيها ضوء ذاكرتي، ولكن آثار ذلك الظلام اللحظي ظلت تحيط نفسي الأولى بطبقات ضباب مستحيلة الاختراق.
وأيضًا ليس كل ما ذكرت هو المهم؛ فلو اقتصر الأمر على ما حدث لما كان مبررًا وجيهًا لأروي القصة؛ إني أرويها لكي أسجل الشيء الذي لا زلت لا أصدقه، والذي أحس كلما طلعت السماء أو هبطت الأرض لا بد لي من التسليم به وتصديقه …
فالحقيقة لم أستطع أن أنسى الموضوع، وظل، حتى وأنا أرويه لأي مستمع جديد، يشغلني ولا أمل التفكير فيه، وأكثر من مرة أذهب إلى مكان الحادث أعاينه، وأضع علامة عند الموضع الذي انقلبت فيه العربة لأول مرة، وعلامة عند البقعة التي كنت سائرًا فيها، وأقيس مدى انقلابات العربة المتتالية، وأقيس مدى القفزات، وأحاول أن أتصور نفسي وأنا أقوم بها، وفي كل مرة أستعد لتصديق أي شيء في العالم إلا أن أصدق أني قمت بها فعلًا، بل بسلسلة منها، ولمَ لا أقول إني حاولت مرة، وقد أغلقت عليَّ باب حجرتي حتى أتفادى السخرية، أن أرقد على الأرض وأقفز إلى الخلف كما فعلت، وأني استجمعت قواي کلها؛ وبذلت جهود الجبابرة، وأكثر من عشر مرات حاولت وفي كلها فشلت، لا في القفز إلى الخلف فقط، ولكن في مجرد ثني الجزع حتى يلامس الأرض، فما بالك بإتمام القفزة ولمسافة أربعة أمتار!
وإلى الآن وأنا كلما مررت بمكان الحادث، أو أخذت في روايته، أحس حقيقة، أحس بقشعريرة، نفس القشعريرة التي كانت تتملكني وأنا طفل كلما مررت بمكان يقال عنه إنه مسكون أو إن العفاريت تظهر فيه، وأنا طبعًا لم أعد أومن بالعفاريت والقشعريرة التي أحسها تجاه نفسي، أو بالضبط حين أتصور نفسي وقد فعلت ما فعلت؛ إذ في هذه اللحظة لا أتصور أني أنا نفس الشخص الذي يروي القصة هو الذي قام بما قام به، ولكنه كائن آخر؛ قوة أخرى، قوة ماردة خارقة انتفضت من داخل ذلك الشخص، من داخلي، وجعلتني أقفز بمثل ما لم يقفز به بشر، قوة طلعت لي في لحظة، ورأيت آثارها، وأتيح لعشرات قليلة من الناس أن تراها وهي تنتفض من جسدي وتنطلق، رأي العين، قوة كالجن الخارقة القوة، كامنة فينا لا تُرى، ولكنها تستجيب إذا دعت الحاجة وتنبثق، كأختنا الموجودة تحت الأرض، کملاکنا الحارس وشيطاننا. إني مع علمي التام أنه أنا، أنها قوَّتي، وكلها من داخلي، ولكني حين أتصور أو أتذكر ما فعلتْه وما هي قادرة على فعله، أخاف. فلومضة يضيء شيء في نفسي ويطلعني، في لمحة كالبرق، على مارد هائل خفي نمتلكه ونجهله، نحن هو ولكنه لا يخضع لطلبنا وإرادتنا، فأمره يتلقاه من الحياة مباشرة، من أصل الحياة، مارد أكبر منا ومن إدراكنا ومن كل سعينا إلى الإدراك.
ثَمة أمر جانبي نسيته. كنت عقب الحادث قد قررت قرارًا لا رجعة فيه، ألا أسرح أو أفكر أو أحلم وأنا سائر أبدًا. والحق أني نفَّذت القرار بكل دقة في أيامه الأولى، ولكن كما أن الحياة رغم كل شيء وبأي شيء لا تنقطع، إذ سرعان ما تلتئم وتتصل وتعود، عدت أنا الآخر، وأصبح القرار شيئًا فشيئًا وكأنه ما كان، كل ما في الأمر أن تأملاتي وأنا سائر كان قد أضيف إليها موضوع مؤرق جدید؛ ذلك المارد الجبار الذي بأجسادنا وبأنفسنا نخفيه.