المقدمة

جاء اتساع الإمبراطورية العثمانية نتيجة استيلاء الأتراك العثمانيين في الفترة ما بين القرن الرابع عشر وبداية القرن الثامن عشر على أجزاء كبيرةٍ من البلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبذلك ضمت الإمبراطورية في بنيتها العديد من بلادٍ وشعوبٍ متباينة في مراحل نموها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فضلًا عن تباين هذه البلاد والشعوب فيما بينها من الناحية العرقية والدينية.

لقد بدا واضحًا للعيان أن الإمبراطورية العثمانية قد أخذت في التخلف منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر، عن الدول الأوروبية المتقدمة، التي بدأت الرأسمالية فيها تتطور بخطًى متواثبة. وما لبثت الإمبراطورية العثمانية تتعرض لهزائم منكرةٍ في حروبها، في الوقت الذي تعاظمت فيه حركات التحرر الوطني داخل الشعوب المقهورة واشتدت نزعات الاستقلال لدى الحكومات الإقليمية.

كان لنظام الدولة في الإمبراطورية العثمانية وتقاليد المؤسسات فيها دورهما في الحد من تطور النظام الرأسمالي في اقتصاد البلاد. على أن التطور في هذا النظام قد حدث بالفعل، وإن جرى هذا بصورة بطيئة، وخاصةً في الأقاليم الأوروبية للإمبراطورية، تلك الأقاليم التي كانت وثيقة الصلة بالسوق الأوروبية. وكان هذا التطور هو التربة التي ساعدت على تكوين جماعاتٍ قومية داخل الشعوب الخاضعة، وكذلك على نمو حركات التحرر الوطني. لقد ظهرت هذه العمليات أول مرة بين اليونانيين في الربع الأخير من القرن الثامن عشر؛ لأسباب عديدة، ثم ما لبثت أن ظهرت بين الصرب والبلغار وشعوب أخرى. وفي الستينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر أخذ الوعي القومي لدى الشعوب المسلمة في الإمبراطورية العثمانية في التشكل على نحوٍ فعَّال، وكان من بينها الشعوب العربية والأكراد والأتراك أنفسهم.

لقد أدى ضعف الإمبراطورية العثمانية والتعقيدات بداخلها إلى زيادة حدة صراع الدول الأوروبية من أجل إخضاع الإمبراطورية اقتصاديًّا والتقسيم الإقليمي «للتركة العثمانية»، وظهر بشكلٍ حادٍّ على الساحة ما عُرف باسم «المسألة الشرقية»، تلك المسألة التي جذبت الاهتمام نحوها وخاصةً في فترة الانتفاضة اليونانية في عشرينيات القرن التاسع عشر، ثم في فترة الصراع التركي المصري من عام ١٨٣١م إلى ١٨٤١م.

لقد ظهر كم هائل من الكتب التي تناولت تاريخ المسألة الشرقية سواء باللغات الأوروبية أو الشرقية، كما نُشر عدد كبير من المصادر حول هذا الموضوع في القرنين التاسع عشر والعشرين. على أنه، ولأسبابٍ عديدة، فإن الكتابات التاريخية لم تتناول بشكلٍ كافٍ على الإطلاق دور الإمبراطورية العثمانية نفسها في الصراعات الدولية التي نشبت في القرن التاسع عشر؛ إذ جرت العادة على بحث هذا الدور من زاوية كونه أثرًا معرقِلًا للطموحات السياسية للدول الأوروبية. فضلًا عن أن تاريخ الدبلوماسية العثمانية لم يحظَ بالدراسات الكافية.

وفي غضون ذلك، فإن الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من كل ما آلت إليه من ضعفٍ وتخلف، وما عانته من مصاعب داخلية، واصلت وجودها باعتبارها شريكًا مستقلًّا في العلاقات الدولية، وكثيرًا ما استغلت بنجاحٍ التناقضات بين الدول الأوروبية.

ويقوم مؤلف هذا العمل بمحاولةٍ لدراسة الدبلوماسية العثمانية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر من داخلها، أي من وجهة نظر الأهداف السياسية الخارجية ومهام الحكومة العثمانية، وتلك المناهج التي استخدمتها الدبلوماسية العثمانية من أجل تحقيق هذه الأهداف.

ظلت الإمبراطورية العثمانية طوال فترة ازدهارها وقوتها تنظر إلى العالم الأوروبي باعتباره عدوًّا لها؛ «دارًا للحرب»، وكانت ترى أن إقامة علاقاتٍ ثقافية وسياسية وطيدة معه أمر يمس هيبتها. وفي الوقت نفسه مثلت قوة الإمبراطورية العثمانية وعقائدها الدينية أسبابًا لعزلة الدولة، وهي العزلة التي انعكست بشكلٍ واضحٍ على جميع مجالات الحياة فيها.

لقد انخفضت العلاقات بين الإمبراطورية العثمانية والدول الأوروبية إلى الحد الأدنى. وقد أدت هذه السياسة إلى صعوبة تعرف الأوروبيين على الحياة الداخلية للإمبراطورية، ولهذا فعندما بدأ الباب العالي١ في نهاية القرن الثامن عشر في إدراك مدى ما وصل إليه من تخلفٍ عن أوروبا، واضطر تحت ضغط ظروف السياسة الخارجية إلى الدخول في علاقات دبلوماسية دائمة مع الدول الأوروبية، فإنه قد حقق بذلك خطوةً هامة على طريق قيام تعارفٍ مشترك أوثق بين أوروبا وتركيا.

شهدت الإمبراطورية العثمانية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر قيام نظامٍ دبلوماسي جديدٍ كان مؤسسه وأكثر ممثليه وضوحًا هو رجل الدولة العثماني الشهير مصطفى رشيد باشا (١٨٠٠–١٨٥٨م)، الذي ارتبطت باسمه أول فترة للإصلاحات الداخلية دخلت تاريخ البلاد، وعُرفت باسم «التنظيمات». وقد اعتبرت مشكلات السياسة الخارجية التي واجهت الإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة واحدة من الأسباب الحافزة للبدء بهذه الإصلاحات. وعلى هذا فإن دراسة الدبلوماسية العثمانية يُمكن اعتبارها واحدةً من المداخل التي تسعى إلى توضيح أسباب وطابع تلك التغيرات التي حدثت في البلاد في تلك الفترة الصعبة من تاريخها.

لقد بات من الممكن دراسة هذا الموضوع بفضل دراسة المصادر التركية التي أصبحت متاحةً أمام الباحثين بعد نشرها في تركيا على مدى الخمس والعشرين سنةً الأخيرة.

إن قيام المؤرخين الأتراك المعاصرين بنشر عدد لا يُستهان به من الوثائق التركية، وبصورة رئيسية من أرشيف الدولة في تركيا، ومن المجموعات الشخصية المتعلقة بحياة ونشاط الدبلوماسي مصطفى رشيد باشا، قد سمح لنا بأن نوجِّه دراستنا تحديدًا للدبلوماسية التركية، أهدافها، مناهجها، إمكاناتها، وما أسفرت عنه من نتائج.

على أننا وقبل أن نشرع في وصف الوثائق ذاتها، نود أن نذكر هنا بضع كلماتٍ حول نشرها. لقد قامت الجمعية التاريخية التركية في عام ١٨٥٤م بنشر واحدة من أكثر الوثائق شمولًا وغنًى من ناحية المضمون. وقد أعدها المؤرخ التركي رشيد كاينار، الذي قام على مدى عشر سنوات بجمع وثائق ومواد أخرى حول مصطفى رشيد باشا (انظر المرجع ٤٨).

إن مؤلف رشيد كاينار، الذي تزيد صفحاته عن ٥٦٥ صفحة، يتميز بالتعقيد على نحوٍ كبير، فإلى جانب المواد التي كتبها مصطفى رشيد باشا بقلمه، وكذلك معاصروه، فإن الكتاب يضم بعض الوثائق الرسمية، إلى جانب عددٍ من المقتطفات من السجلات والمؤلفات التاريخية التركية كتبها مشاركون في صنع هذا التاريخ وشهود عيان على ما جرى فيه من أحداث.

يضم كتاب كاينار أيضًا اقتباساتٍ من المؤلفات الخاصة بالنشاط الإصلاحي والدبلوماسي لمصطفى رشيد (٢٨ صفحة من الكتاب)، وبناء على الحسابات التي أجريناها على عدد الصفحات، فقد شكلت المواد ذات الطابع الدراسي للمصادر حوالي ٨٠٪ تقريبًا من إجمالي صفحات الكتاب. وهي تقارير السفارات والتقارير المرفوعة للسلطان، والتي أعدها مصطفى رشيد وكذلك محاضر اجتماعات المجالس ومحاضر المباحثات الدبلوماسية التي أجراها كبار رجال الدولة الأتراك مع السفراء الأوروبيين وخطابات وتقارير رجال الدولة وموظفي الباب العالي. ومعظم هذه الوثائق تُنشر للمرة الأولى.

وبفضل ما نشره كاينار، أصبحت هذه المواد متاحةً للمرة الأولى أمام الباحثين الذين لا يملكون إمكانية العمل في الأرشيف التركي. كما أن العديد من هذه الوثائق محفوظة، وفقًا لما أعلنه كاينار نفسه، في مكتبته الشخصية.

وتشكل التعليقات التي وضعها المؤلف، والتي تُمثل وصفًا موجزًا للوضع التاريخي والأحداث التي يدور حولها الحديث — ٨٦ صفحة — تشتمل على التقديم والمدخل — ٣٩ صفحة — وقد أشار كاينار في المقدمة إلى أنه لم يسعَ لإضفاء أي تقييمٍ ذاتي على الوثائق، معتبرًا أن هدفه اقتصر على نشر المصادر فقط.

لا يحمل الجزء الأكبر من هذه الوثائق أية تواريخ،٢ كما أن نصوصها نُشرت بالأحرف اللاتينية، وغابت الصور الأصلية للوثائق، وهو ما يُقلل بطبيعة الحال من القيمة العلمية لهذا المرجع.

بداهةً فإن المختصين الذين لم يتسنَّ لهم العمل في دُور المحفوظات التركية لا يستطيعون أن يُقيِّموا هذا المصدر من زاوية وفرة ونوعية النص. ومن هنا جاءت أهمية تقييمه بالنسبة لنا من خلال ما كتبه عنه المؤرخ التركي والخبير البارز في شئون السجلات التركية أرجيومين كوران في عام ١٩٥٦م (المرجع ٢١٤).

وحول دقة قراءة نصوص كاينار كتب كوران قائلًا: «على الرغم من وجود بعض الكلمات التي جرت قراءتها على نحوٍ خاطئ، فإن نصوص الوثائق المنشورة هي نصوص صحيحة تمامًا.»

وحول وفرة التقارير التي رفعها السفير مصطفى رشيد والموجودة في هذا المرجع، يؤكد كوران على بعض الخلل الذي وقع فيه المؤلِّف، ويخبرنا أن أرشيف الدولة المركزي في إسطنبول يحتفظ بتقارير مصطفى رشيد التي أرسلها من باريس ولندن، والتي تعود إلى عامَي ١٨٣٦م و١٨٣٧م، وهي تقارير لم يضمها مؤلف كاينار. وقد نُشرت هذه التقارير فيما بعد على مدى الفترة من ١٨٥٤م وحتى ١٨٦٣م على يد المؤرخ التركي م. جاويد بايسون (المرجع ٤٦).

إن طبعة كاينار يشوبها بعض النقص المحدود، فلا نجد فيها ببليوجرافيا موحدةً تضم المراجع المستخدمة، كما أن الحواشي الببليوجرافية تحتوي على العديد من الأخطاء (انظر المرجع ٤٨ ص٣، ٤٢، ٤٥، ٤٨، ١٦٠،٥٢، ٦١، ١٥٠-١٥١، وغيرها).

كما لم يُشِر مؤلف الكتاب في أحوالٍ كثيرةٍ إلى المعلومات التي صدرت قبل نشر الوثائق. وقد أشار كوران إلى ذلك أيضًا، الأمر الذي جعل من الصعب أحيانًا التحقق مما إذا كانت هذه الوثيقة أو تلك قد نُشرت من قبل أم أنها تُنشر للمرة الأولى. من ناحيةٍ أخرى فقد جرى ذكر بعض أسماء رجال الدولة الأوروبية بشكل خاطئ،٣ ولم تُصاحب بعض الأسماء الأخرى أية إيضاحاتٍ بشأنها.٤

تعود المواد المعروضة في الكتاب إلى أحداث وصلت إلى ذروتها عام ١٨٤٦م. أما الأعوام الأخيرة من حياة مصطفى رشيد باشا فالمواد الخاصة بها لم تُنشر به.

تتناول تقارير السفارات الأخيرة التي كتبها مصطفى رشيد عن الأعوام من ١٨٣٤م وحتى ١٨٣٧م، ثم من ١٨٤١م وحتى ١٨٤٥م، إلى جانب المواد الأخرى التي نشرها كاينار الموضوعات التالية:
  • (١)

    جهود الباب العالي الدبلوماسية وخاصةً ما قام به مصطفى رشيد بهدف إعادة الجزائر إلى كيان الدولة العثمانية بعد أن استولت عليها فرنسا في عام ١٨٣٠م.

  • (٢)

    سياسة الباب العالي وعلاقاته بالدول الأوروبية (روسيا، إنجلترا، فرنسا، النمسا، وبروسيا) بخصوص الصراع التركي المصري (شغل مصطفى رشيد إبان فترة الصراع منصب السفير لدى فرنسا وإنجلترا، ثم أصبح وزيرًا للخارجية منذ عام ١٨٣٧م).

  • (٣)

    التنافس التركي الفرنسي في تونس.

  • (٤)

    الخلاف التركي اليوناني بسبب الأقاليم التي يسكنها اليونانيون والتي ظلت داخل نطاق الإمبراطورية العثمانية بعد حصول اليونان على استقلالها عام ١٨٣٠م.

  • (٥)

    الثورة في لبنان في أربعينيات القرن التاسع عشر وتدخُّل الدول الأوروبية في الشئون الداخلية للإمبراطورية العثمانية فيما يتعلق بالأحداث الجارية في هذه المنطقة، ونشاط الإدارة التركية في تسوية الأزمة اللبنانية.

  • (٦)

    إلقاء الضوء على عدد من المشكلات، مثل: إنشاء سفارات عثمانية دائمة في الخارج في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، المحاولات التي بُذلت لمواجهة تدخلِ الدول في الشئون الداخلية للدولة العثمانية في الأربعينيات من القرن الماضي، دور مصطفى رشيد في عقد الاتفاقية التجارية بين تركيا وإنجلترا في عام ١٨٣٨م وموقفه من هذه الاتفاقية، إلى جانب بعض المشكلات الأخرى.

وتشغل المواد ذات الصلة بالنشاط الإصلاحي لمصطفى رشيد و«التنظيمات» الإصلاحية بوجهٍ عامٍّ حيزًا كبيرًا من الكتاب الذي وضعه كاينار (١٤٨ صفحة)، وقد قمنا باستخدام هذه المواد في كتابنا هذا فيما يتعلق منها بالمشكلات الدبلوماسية فقط.

وما تزال المصادر التركية التي أوردها كاينار في كتابه نادرة الاستخدام حتى وقتنا هذا، وحتى ما يُستخدم منها فإنه موجَّه فقط لإلقاء الضوء على التنظيمات الإصلاحية.٥

يعود تاريخ تقارير السفارات التي كتبها مصطفى رشيد من باريس ولندن إلى فترة سفارته الأولى (من سبتمبر ١٨٣٤م، وحتى أبريل ١٨٣٥م)، وكذلك إلى فترة سفارته الثانية (من سبتمبر ١٨٣٥م، وحتى أغسطس ١٨٣٧م)، وقد قام بنشرها م. ج. بايسون بدءًا من عام ١٩٤١م، ولم يتجاوز ما نشره فيها حتى عام ١٩٦٣م أكثر من ٦٥ تقريرًا (المراجع ٤٥، ٤٦)، ضم كاينار منها في كتابه عددًا محدودًا للغاية.

ومن اللافت للنظر أن الجزء الأكبر من التقارير التي نشرها بايسون مؤرخة إما بواسطة المرسل، أو بواسطة إدارة الباب العالي يوم وصولها. وقد ذكر م. ج. بايسون أن جزءًا من هذه الوثائق كان مُشفَّرًا ثم جرى فك شفرته من قِبل الناشر. وقد نُشِرت هذه التقارير كلها، كما حدث في طبعة كاينار، بالأحرف اللاتينية دون نشر للأصول.

سنشرع الآن في تحليل مضمون المصادر التركية ذات الصلة المباشرة بموضوع كتابنا.

تُمثل تقارير مصطفى رشيد من لندن وباريس في الفترة من ١٨٣٤م وحتى ١٨٤٥م الجزء الأكبر من المصادر المذكورة. وإلى جانب هذه التقارير ففي حوزتنا تقارير مصطفى رشيد التي رفعها للسلطان،٦ وتقارير الباب العالي المرفوعة للسلطان، وكذلك عدد من الخطابات والمذكرات وملحوظات مصطفى رشيد، ومن بينها ردُّ مصطفى رشيد على مذكرة الكاتب الفرنسي م. ديستريل، الموجهة ضد مصطفى رشيد وسياسته الداخلية والخارجية (المصدر ١٥٩). ويُظهِر لنا مضمون الرد (غير المؤرخ) أن مصطفى رشيد وقف إلى جانب القضاء على نظم الإجراءات الحكومية في الاقتصاد والاحتكار وشراء السلع إجباريًّا بأسعارٍ متدنية، وأن كبار رجال الدولة كانوا يناصرونه في آرائه (٤٨، ص١٢٩).

وتُعتبر هذه الوثيقة إحدى أهم الوثائق التي استندنا إليها في هذا العمل لنصل إلى استنتاجٍ مفاده أن اتفاقية التجارة التركية الإنجليزية عام ١٨٣٨م قد عقدها الجانب التركي ليس فقط بتأثير ضرورات السياسة الخارجية وإنما عن وعي، وبغرض خلق ظروفٍ موضوعيةٍ لتنمية الاستثمار الرأسمالي في اقتصاد البلاد.

تُعتبر تقارير السفارات التي وضعها مصطفى رشيد هي مصدرنا الرئيسي في هذا الكتاب، إن تحليلها والمقارنة بينها وبين المصادر الأوروبية يسمحان بالوصول إلى عددٍ من الاستنتاجات، بما في ذلك الاستنتاجات المتعلقة بالنشاط الموجَّه والفعَّال للدبلوماسية التركية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، وكذلك الحِرفية الرفيعة للسفير التركي مصطفى رشيد، التي تجلت على مدى نصف عامٍ منذ وصوله الأول إلى باريس عام ١٨٣٤م إبان المباحثات التي دارت بينه وبين وزير خارجية فرنسا بشأن الجزائر (٤٨، ص٧٢–٧٧).

تُمثل تقارير مصطفى رشيد التي أرسلها من لندن خلال عامَي ١٨٣٦-١٨٣٧م أهميةً بالغة، فهي تعرض لنا كيف حاول رشيد الحصول من بالمرستون على دعمٍ مؤثرٍ أكبر للسلطان محمود الثاني في صراعه مع محمد علي، وتدل هذه التقارير على أن بالمرستون كان يميل إلى السماح بوقوع صدام مُسلحٍ بين جيش السلطان وجيش محمد علي، كما تدل على أنه حاول أيضًا في عام ١٨٣٧م دفع السلطان نحو هذ العمل (٤٦، رقم ١٧، ١٨، ص١٨٣–١٨٥).

إن مثل هذا الموقف من جانب بالمرستون ليس له — كما هو معروف — أي صدًى في المراجع التاريخية. فالمراجع الأوروبية لا تُناقش سوى مسألة ما إذا كان السفير الإنجليزي في إسطنبول بونسونبي هو الذي قام — بعلمٍ من بالمرستون — بحث السلطان على الدخول في حربٍ ضد محمد علي (انظر المراجع ٦٣، ص٧٤-٧٥، ١٢٤، الجزء الأول، ص٣٠١).

إن أهمية تقرير مصطفى رشيد هذا تكمن في تضمنه معلومةً تُفيد تصريحات بالمرستون الموجَّهة ضد سياسة فرنسا في مصر. كما أنها دليل نادر للغاية؛ إذ إننا نجد في جميع الوثائق الأخرى المتاحة لنا، والتي يرجع تاريخها للفترة التي سبقت وتلت أغسطس ١٨٣٧م، أن موقف الممثلين الرسميين لإنجلترا، بمن فيهم بالمرستون نفسه، تتلخص في التأكيد المستمر للباب العالي على أن الجزائر تُعد استثناءً، أما بالنسبة للقضايا الأخرى فإن فرنسا سوف تدافع عن مصالح السلطان؛ إذ إنها تقف ومعها إنجلترا ضد السياسة الشرقية لروسيا.

للأسف فنحن لا نملك معلوماتٍ كافيةً تُمكننا من الحديث عن أسباب هذه التغيرات التي طرأت على موقف بالمرستون وخاصةً في أغسطس عام ١٨٣٧م، على أن هناك — دون أدنى شكٍّ — دورًا مُحددًا في هذا التغير يرجع لنشاط الدبلوماسي التركي مصطفى رشيد، الذي نجح في الحصول على تأييد إنجلترا فيما يتعلق بإشعال الحرب التركية المصرية (انظر ٤٦، رقم ١٤، ص٦٥–٧٠، رقم ١٥، ص١٣٧-١٣٨).

وتؤكد التقارير الواردة من لندن أن تعيين مصطفى رشيد في منصب وزير الخارجية كان مؤشرًا على التقارب التركي الإنجليزي (١٢٤، ج١، ص٢٩٣).

وتؤكد ذلك المذكرة التي رفعها الوزير الجديد للسلطان محمود الثاني في خريف عام ١٨٣٧م (٤٨، ص٨٤–٩٣). وتحتوي هذه الوثيقة الهامة على اقتراح صاحب المذكرة بالتوجه ناحية إنجلترا من أجل تصفية الصراع التركي المصري.

وقد استطاع مصطفى رشيد أن يدعم وجهة نظره بالحجج من جميع النواحي، ومن أجل هذا عرض رشيد السياسة الخارجية لإنجلترا وفرنسا والنمسا وبروسيا وروسيا للتحليل وعرض لمواطن التقاء المصالح والاختلاف، وكذلك موقف هذه الدول من أعدائها؛ السلطان ومحمد علي. وفي معرض محاولته لإقناع محمود الثاني بالموافقة على خططه، سعى مصطفى رشيد لتقوية الشك لدى محمود الثاني في سياسة روسيا. وفي الوقت نفسه راح يُقدِّم له النصح بألا يُفسد علاقته بروسيا وإنما يعمل فقط على ألا يلجأ للحصول على أي مساعدةٍ عسكرية منها بموجب معاهدة أونكيار إيسكيليسي، التي كانت دول أوروبا الغربية تقف ضدها موقفًا معاديًا. أما فيما يتعلق بإنجلترا، فقد أثبت مصطفى رشيد للسلطان أن ما تُقدمه للباب العالي من مساعدة أمر لا يخلو من غرض، فإنجلترا، التي تُعادي محمد علي، تقف في الوقت نفسه ضد روسيا بسبب الخلافات المتعلقة بمصالحها في إيران وربما في الهند أيضًا. كانت الإشارة إلى الاهتمام المغرض لإنجلترا، بداهةً، برهانًا دامغًا لإقناع السلطان بقبول اقتراح مصطفى رشيد بشأن سُبل تصفية النزاع التركي المصري.

على أن الباب العالي، وبعد أن اتفق مع رأي وزير خارجيته وغيَّر من توجه سياسته الخارجية، لم يتخل تمامًا عن تحالفه مع روسيا، وإنما على العكس من ذلك، سعى ألا يُفسد هذا التحالف بأي شكلٍ من الأشكال، ولهذا قدم لها مكاسب ملموسة. وهناك العديد من الوثائق التي تدل على اهتمام الباب العالي بتأييد علاقات الصداقة مع روسيا تعود إلى الفترة من عام ١٨٣٤م وحتى ١٨٣٩م. وتشتمل هذه الوثائق على تقارير السفارات التي رفعها مصطفى رشيد من كل من باريس ولندن في الفترة من عام ١٨٣٤م وحتى ١٨٣٩م (٤٨، ص٦٥، ٤٦، رقم ١٥، ص١٣٣–١٣٦، رقم ١٦، ص٤٩–٥٣، رقم ١٧-١٨، ص٧٦–١٧٨، ١٨١–١٨٣). وكذلك محضر اجتماع الباب العالي الذي عُقد في النصف الأول من عام ١٨٣٩م (٥٣، مجلد ٦، ص١٧) بعد رفض إنجلترا لتوقيع مشروع الاتفاق التركي الإنجليزي ضد محمد علي، وأيضًا خطة السلطان حول بعثة مصطفى رشيد إلى لندن عام ١٨٣٨م (٤٨، ص١٤٢–١٤٤).

وتسمح مذكرة مصطفى رشيد، التي تتضمن تقييمًا للعلاقات الدولية في تلك الفترة، أن نَحكم على مدى الدرجة الرفيعة لأهليته وموهبته الدبلوماسية.

وتكتسب تقارير مصطفى رشيد من لندن وباريس عام ١٨٣٩م أهميةً كبيرة؛ ففي تلك الفترة التي سبقت تعيينه وزيرًا للخارجية نجح في التوصل إلى توقيع اتفاقية تحالُف مع إنجلترا، وهي الاتفاقية التي كانت موجهةً ضد محمد علي. وتدل هذه التقارير على موقف إنجلترا من الاستعدادات التي تمت للصدام المسلح بين السلطان والجيش المصري. وعلى الرغم من رفض بالمرستون توقيع الاتفاق التركي، فقد وعد مصطفى رشيد في مطلع يونيو ١٨٣٩م بتوجيه أسطول بحري عسكري نحو منطقة الصراع والتدخل في مجريات الأحداث، في حالة ما إذا تعرض جيش السلطان للهزيمة، أي وكما ورد على لسان مصطفى رشيد، أنه اعتزم أن يتبع «سياسة الحذر» تجاه هذا الأمر (٨٤، ص١٥٤).

لم تُلقِ المراجع التاريخية الأوروبية الضوء على محتوى اجتماع سفراء إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا المعتمدين لدى إسطنبول برئاسة وزير خارجية الباب العالي مصطفى رشيد من أجل إعداد شروط تسوية الصراع التركي المصري في نهاية عام ١٨٤٠م والربع الأول من عام ١٨٤١م. وتؤكد محاضر هذه الاجتماعات (٤٨، ص٣٤٣–٣٧٢) اهتمام إنجلترا بإضعاف محمد علي وفرض شروطٍ يُمكن من خلالها إخضاع السلطان وإفقاده إمكانية ممارسته لسياسةٍ مستقلة. وهذه الوثائق تُشير أيضًا إلى أن موقف السفير الإنجليزي بونسونبي كان متعنتًا إلى حد أن مصطفى رشيد اضطر إلى الكتابة بشأن هذا الموقف إلى السلطان باعتباره أمرًا مرفوضًا دعا إلى اعتراض سفراء الدول الأوروبية الأخرى أنفسهم عليه أيضًا (٤٨، ص٣٧٤–٣٨٠).

إن تقارير مصطفى رشيد تُشكل مادةً خصبة لدراسة النزاع التركي اليوناني، وخاصةً النزاع الإقليمي في النصف الأول من أربعينيات القرن التاسع عشر، وكذلك لدراسة التنافس الفرنسي التركي في تونس في تلك الفترة ذاتها. إن هذه المادة الوثائقية قد أتاحت لنا أن نتعرف على صفحاتٍ تكاد تكون مجهولةً من تاريخ نضال اليونانيين، الذين بقوا داخل كيان الإمبراطورية العثمانية، من أجل العودة إلى اليونان، ودور الدول الأوروبية في الخلاف التركي اليوناني، وعلى معلوماتٍ غير معروفة تتعلق بسياسة باي تونس، الذي استغل التنافس الفرنسي التركي في الحصول على قدرٍ كبير من الاستقلال عن الباب العالي.

وبفضل المطبوعات التركية توفَّرت لدينا وثيقتان تضمان التعليمات التي أرسلت لسفيرين:٧
  • (١)

    إلى روح الدين أفندي، وكان يشغل منصب نائب السفير إبان توجه مصطفى رشيد لقضاء إجازته في إسطنبول، وقد أرسلها الباب العالي في الربع الأول من عام ١٩٣٥م (٤٥، رقم ١٢، ص٤٥٣، ٤٨، ص٧٧).

  • (٢)

    إلى مصطفى رشيد الذي عُيِّن سفيرًا لدى باريس في سبتمبر عام ١٨٤١م (٤٨، ص٣٩٣، ٤٩٢).

أما الوثيقة الأولى فتعود أهميتها لما تحويه من تقييم للجزائر باعتبارها «مكانًا لا طائل من ورائه»، وأما الثانية فتُقيِّم التحالف الأنجلوفرنسي من وجهة نظر مصالح العلاقات الدولية للباب العالي.

وهناك استشهاد شهير ورد في وثيقةٍ ثالثة تضم أيضًا تعليماتٍ «غير مذكورٍ بها المرسل إليه» وتتعلق بأمورٍ تخص الجزائر (٤٥، رقم ٧، ص٤٩، الملحوظة ٢).

ويعتبر سجل المؤرخ التركي أحمد لطفي الذي يضم بين دفتيه الأحداث التي وقعت في الفترة من ١٨٢٥ إلى ١٨٤٩م، واحدًا من المصادر التركية الهامة، ففي هذا السِّفر نجد تسجيلًا لبعض المناقشات التي دارت بين كبار رجال الدولة الأتراك والسفراء الأوروبيين حول مشكلات العلاقات الدولية (مثل المناقشة التي دارت بين قاني بيه والسفير بونسونبي)، كما نجد محاضر لاجتماعات الحكومة التركية، وقد قام لطفي بتقييم الاتفاقية التركية الإنجليزية التي عُقدت عام ١٨٣٨م، ورأى أنها وثيقة مفروضة من الخارج، ولكنه أشار أيضًا إلى أن عددًا من أعضاء حكومة السلطان قد أقروا نظام الاحتكار ورأوا أن القيود ضارة بالتجارة، وأن التجارة الحرة تساعد على رخاء البلاد والرعية.

لقد تركت المصادر التركية سابقة الذكر بعض الثغرات في عرضها للموضوع، كما أنها لم تقدم بشكلٍ كامل كل التيارات في العلاقات الدولية المتشابكة للإمبراطورية العثمانية. وينطبق هذا بالدرجة الأولى على تاريخ النزاع التركي المصري، على الرغم من أن كثيرًا من الكتابات التاريخية ومن بينها كتاب لطفي قد تناولتها بشكلٍ مسهب للغاية.

على أن كتاب لطفي يترك أسباب النزاع الذي كان قائمًا بين أنصار التوجه الروسي والإنجليزي داخل حكومة السلطان، والشكوك التي راودت كبار رجال الدولة الأتراك، ومن بينهم مصطفى رشيد نفسه دون توضيح، وقد كان لهذه الشكوك — بداهةً — دورها في تصرفاتهم في أوقاتٍ مختلفة. كما ظلت أيضًا أسباب الانتقاد الشديد الذي صرح به بالمرستون في أغسطس ١٨٣٧م حول موقف فرنسا تجاه مصر، وحول أسباب التغيرات التي طرأت على سياسة إنجلترا تجاه النزاعات التركية المصرية في هذه الفترة بالتحديد دون تفسير.

لا نعرف على وجه التحديد، استنادًا على لطفي، درجة استحسان مصطفى رشيد لشروط الاتفاقية التجارية المعقودة بين إنجلترا وتركيا عام ١٨٣٨م، وموقفه المتأخر منها بعد أن أصبحت سارية المفعول. ولم يُحدد الكتاب بشكلٍ قاطعٍ عددًا من التواريخ الهامة، مثل تاريخ وصول مصطفى رشيد إلى لندن لعقد المعاهدة العسكرية بين إنجلترا وتركيا ضد محمد علي. كما لم يُشر إلى تاريخ اجتماع حكومة السلطان الذي جرت فيه مناقشة المشروع الإنجليزي لهذه المعاهدة، والذي كان مصطفى رشيد قد بعث به من لندن، كذلك لم يؤرخ للنسخة الإنجليزية من المعاهدة، وهي النسخة المحفوظة في أرشيف السياسة الخارجية الروسية (١٦، المخطوطان ٧٥، ٧٦).

لم يحدد لطفي أيضًا بشكلٍ تام أسباب تنحية مصطفى رشيد باشا من منصب وزير الخارجية في باريس ١٨٤١م بعد النجاح التام تقريبًا في إنهاء النزاع التركي المصري ومكافأته بالنجمة الماسية، وظل مجهولًا ما إذا كان ذلك الأمر قد تم بضغطٍ من النمسا، التي كانت تخشى تجدُّد النزاع المسلح من جانب فرنسا ومحمد علي في حالة المماطلة لشروط التسوية، أم تم على يد المعارضة الداخلية.

إن نشر عددٍ قليل للغاية من التعليمات التي أصدرها مصطفى رشيد إبان عمله سفيرًا أمر يدعو للأسف الشديد. كما تغيب عنا تعليمات الباب العالي له عند تعيينه في المرة الأولى سفيرًا لدى باريس عام ١٨٣٤م، ثم بعد انتقاله للعمل في لندن في خريف ١٨٣٦م. وقد كانت الفترة الأخيرة في غاية الأهمية لتوضيح موقف الباب العالي في تلك الفترة من كل من إنجلترا وروسيا.

وقد اعتمد أحمد لطفي في كتابه على مواد رسمية من نصوص اتفاقيات: أونكيار إيسكيليسي عام ١٨٣٣م (٣٩، ص٨٩–٩٢)، اتفاقية ميونخنجريتس عام ١٨٣٣م (٣٩، المجلد ٤، جزء ١، ص٤٣٨)، اتفاقية التجارة الإنجليزية التركية عام ١٨٣٨م (٤٩، المجلد ١، ص٢٧٢، ٤١، ص١١٠-١١١، ٤٢، ص٢٤٩–٢٥٣)، مشروع المعاهدة الإنجليزية التركية بشأن التحالف ضد محمد علي (٥٣، المجلد ٦، ص٧-٨، ٤٨، ص١٣١). المشروع الإنجليزي لنفس المعاهدة (النسخة الفرنسية) (١٩، المخطوطان ٧٥-٧٦)، خطي جولخانة عام ١٨٣٩م (٤٨، ص١٧٦–١٨٠/ ٣٩، ص١٧١–١٧٥/ ٤٢، ص٢٨٨–٢٩٠)، ثم قرارات مؤتمر لندن ١٨٤٠-١٨٤١م (٣٤، المجلد ١٢، ص١٢٠–١٤١/ ٤٠، الجزء ٣، ص٦٨٩–٦٩٧/ ٤٢، ص٣٠٥–٣١٤/ ٣٤، الجزء ٢، ص٤١٧، ٤٩، الجزء ٤، ص٢١٢–٢١٥/ ٤٨، ص٣٣١–٣٣٥).

ويضم أرشيف السياسة الخارجية الروسية قدرًا كبيرًا من المعلومات القيِّمة الخاصة بنشاط الدبلوماسية التركية، من بينها تقارير السفير الروسي في إسطنبول أ. ب. بوتينيف، وتتعلق مباشرةً بمباحثات محمد علي مع الباب العالي التي جرت في شهر يوليو من عام ١٨٣٩م، واستؤنفت في نهاية نفس العام ومطلع عام ١٨٤٠م (١٩، المخطوطات ٣٧٠–٣٨٠، ٢٢). ويحتفظ الأرشيف أيضًا بنسخةٍ من المشروع الإنجليزي للاتفاقية الإنجليزية التركية (النسخة الفرنسية)، وهو المشروع الذي تقدمت به إنجلترا عام ١٨٣٩م مقابل المشروع التركي (١٩، المخطوطات ٧٥-٧٦).

وتتضمن كتابات المعاصرين، الذين عاشوا فتراتٍ طويلةً في تركيا، معلوماتٍ تصف بعض أحداث تاريخ الدبلوماسية العثمانية، على الرغم من أن هذه الكتابات كانت مكرسةً أساسًا لمشكلاتٍ أخرى، أو كانت مجرد أعمالٍ عامةٍ عن الدولة العثمانية. ومن هؤلاء الكُتَّاب: القنصل الروسي ك. م. بازيلي، الذي عمل في بيروت في الفترة من ١٨٣٩م وحتى ١٨٥٣م (٢٧)، المؤرخ والدبلوماسي السويدي مورادجا دوسون، الذي ترك لنا وصفًا تفصيليًّا شاملًا للإمبراطورية العثمانية (١٦٠، المجلد ٣، ص٤٣٧–٤٦٢)، المستشرق والدبلوماسي النمساوي إ. هامر مؤلف كتاب تاريخ تركيا (١٦٨، ص١٥٨–١٦٧)، الدبلوماسي الروسي ف. أ. تيبلوف الذي خدم في إسطنبول في السبعينيات من القرن التاسع عشر (١٣٤، ١٣٥)، المستشرق الروسي الشهير إ. ن. بيرزين (٨١)، الضابط البروسي والمدرس بالجيش التركي ج. مولتكي (١٠٣، ٣٧، العدد ٩).

ومن البحوث القيمة التي استند إليها هذا العمل ما قام به ج. روزين، الذي عمل بالسفارة البروسية في الدولة العثمانية من أربعينيات وحتى ستينيات القرن التاسع عشر (وقد صدر كتابه في ترجمةٍ روسية). وقد استعان مؤلف هذا الكتاب بالمواد الموجودة في أرشيف الدولة في بروسيا، والمواد الصحفية الأوروبية، إلى جانب مشاهداته الشخصية. والبحث مكرس لدراسة التاريخ السياسي والدبلوماسي للإمبراطورية العثمانية أكثر من كونه دراسةً للإصلاحات الداخلية فيها. في الوقت نفسه فكتاب روزين يُلقي بالضوء على العديد من قضايا سياسة الدولة الأوروبية المتعلقة بتركيا. وعلى الرغم من التحيز الواضح في تفسيره لموقف حكومة السلطان التي يرى أنه كان موقفًا غير مستقل على الإطلاق، فالكتاب يحتوي مع ذلك على مادةٍ موضوعيةٍ لم يسبق تسجيلها من قبلُ في أي مرجعٍ آخر. ويُعتبر روزين من القلائل الذين أكدوا عزم إنجلترا في النصف الأول من ثلاثينيات القرن التاسع عشر على تأييد محمد علي لا السلطان، وكيف أنها راحت تتراجع تمامًا يومًا بعد الآخر عن هذا الموقف، ويولي كتاب روزين أيضًا أهميةً كبيرةً لتطور العلاقات الإنجليزية التركية من عشرينيات وحتى خمسينيات القرن التاسع عشر (١٢٤).

إن المؤلفات التي قمنا بإحصائها (٢٧، ١٦٠، ١٦٨، ١٣٤، ١٣٥، ١٠٣، ٣٧، ١٢٤) والتي كتبها شهود عيان ومشاركون في الأحداث، هي مؤلفات تحمل في الوقت نفسه طابع المراجع والأبحاث.

وهكذا نجد أن المصادر التركية قد أتاحت لنا — بدرجةٍ معلومةٍ — أن نسد ثغراتٍ جوهرية، وأن نستكمل المعلومات المتاحة الخاصة بالعلاقات الدولية المعقدة في فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن التاسع عشر بفضل المواد المتعلقة بنشاط الدبلوماسية التركية. كما استطعنا أيضًا — على نحوٍ موضوعي — تصحيح المعلومات المجتزأة من المصادر الأوروبية التي تناولت أهداف وجهود الإمبراطورية العثمانية استنادًا إلى المعلومات التركية، كما جرى تجنُّب بعض الأخطاء التي ظهرت نتيجة نقص المعلومات. ومن بين تلك المعلومات التي كانت مبتورة تلك الأسطورة التي شاعت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي استندت إلى التصور الأوروبي المركزي، الذي يدعي طابع التبعية الكاملة، الذي ميز الدبلوماسية العثمانية، لهذه أو لتلك من الدول الأوروبية. وقد أشار عدد من المؤرخين والدبلوماسيين الروس في مستهَل القرن العشرين إلى بطلان هذه الاستنتاجات (١١٥، ص٧٠-٧١، ١٣٣، ص٢٧). كما أسس العلماء الروس شكوكهم في صحة هذه النظرة للدبلوماسية العثمانية على حقائق مستقاةٍ من تاريخ العلاقات الروسية التركية. على أنه كان من المستحيل وبدون التعرف الواسع والمتعمق على المصادر التركية الوصولُ إلى حلٍّ مقنع لهذه المشكلة. إن المصادر الروسية والأوروبية الغربية ظلت أقل مصداقيةً بسبب الاطلاع غير الكافي لمؤلفيها، وقد أشار إلى خصائص المصادر الأوروبية كلاسيكيُّو الماركسية وعدد من الباحثين في مجال العلاقات الدولية (١٢، ص٢٢، ٨٥، ٥٦٠/ ١٠٢، ص١٩/ ٦٢، ص٢٥، ٢٧).

وقد ظهر في السنوات الأخيرة عدد من البحوث كتبها مؤرخون سوفييت وأجانب يدرسون بشكلٍ مباشرٍ مشكلات العلاقات الدولية والدبلوماسية للإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وتتفق جميع هذه البحوث على استنتاجٍ واحدٍ مفاده أن الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من تبعيتها الاقتصادية والسياسية جزئيًّا للدول الاستعمارية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، احتفظت بقدرٍ محدودٍ من استقلاليتها في مجالات العلاقات الدولية والدبلوماسية، مستغلةً بمهارةٍ التناقضات القائمة بين مختلف الدول آنذاك وبين الجماعات الأقليات الصغيرة فيها، لقد كان لدى الإمبراطورية العثمانية نظرةٌ ثاقبة قادرة على إدراك مصالحها الخاصة، ومهارة كبيرة في ملاحقة أهدافها (انظر على سبيل المثال ٥٧، ص٤، ٦٣، ص٧٦، ١٧٢، ص٦، ١٨٣، ١٩٥). وتؤكد المصادر التي يستند إليها بحثنا هذا نفس الفكرة.

وتُعد أعمال كلاسيكيي الماركسية من الأعمال الرئيسية في هذا البحث، وقد أولت جميعها اهتمامًا كبيرًا للمسألة الشرقية ولقضايا السياسة الخارجية لكل من إنجلترا وروسيا والنمسا وفرنسا، ثم تركيا بدرجةٍ أقل. وقد عرض ماركس وإنجلز للمصالح الذاتية والتناقضات المشتركة للدول الأوروبية في تركيا، وقدما تقييمًا للإصلاحات التي تمت في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك للقضية القومية وكيف تدخَّلت الدول الأوروبية لحلها. في عام ١٨٣٥م أشار إنجلز إلى أن الحفاظ على الحالة الراهنة في الإمبراطورية العثمانية كان يعني استمرارًا لقهر تركيا للرعايا المسيحيين، وهو الوضع الذي دفع بعشرة ملايين مسيحي أرثوذكسي يعيشون في تركيا الأوروبية لطلب المُساعدة من روسيا (١٣، ص٣٢).

وكذلك أولى المؤرخون السوفييت في مؤلفاتهم اهتمامًا كبيرًا لسياسة الدول الأوروبية وعلاقتها بالمسألة الشرقية. وقد استفاد المؤلف من هذه الأعمال ومن بعض المصادر التي اشترك في وضعها عدد من المؤرخين مثل «تاريخ العالم» (٦١، المجلد ٦)، «المسألة الشرقية في السياسة الدولية الروسية، من نهاية القرن الثامن عشر وحتى مطلع القرن العشرين» (٦٠ «أ»)، «تاريخ الدبلوماسية» (٨٥)، «تاريخ بلدان آسيا وأفريقيا في العصر الحديث» (٨٧)، «التاريخ الحديث لبلدان آسيا وأفريقيا» (١٠٨)، «تاريخ النضال الوطني التحرري لشعوب أفريقيا في العصر الحديث» (٨٥ أ)، إلى جانب بحوث ف. أ. جيورجيف (٦٣)، ن. س. كينيا بينا (٩٠، ٩١)، ف. ب. لوتسكي (٩٧)، أ. ف. ميلر (١٠٠، ١٠٢)، س. ب. أوكون (١١٦)، أ. ف. فادييف (١٣٢)، وغيرهم. وقد قام المؤرخون السوفييت بتحليل أسباب التوسع السياسي والاقتصادي للدول الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية وقدموا عرضًا للتوجه العام لسياسة هذه الدول.

تناول كتاب ف. أ. جيورجيف «سياسة روسيا الخارجية في الشرق الأوسط في نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينيات من القرن التاسع عشر» «المرحلة الثانية» من النزاع التركي المصري (١٨٣٨–١٨٤١م). وقد وضع ف. أ. جيورجيف هذا المؤلف استنادًا إلى عددٍ كبيرٍ من الوثائق الموجودة في الأرشيف الروسي، كما وضع في اعتباره المواد المنشورة في الأرشيف الأوروبي ودائرةً كبيرةً من الباحثين الروس والسوفييت والأوروبيين. ويُعد كتاب جيورجيف من الكتب الهامة لاحتوائه على تفاصيل عديدةٍ لها علاقة مباشرة بالدبلوماسية التركية وبالسياسة الخارجية لتركيا، فضلًا عن الاستنتاجات العامة القيمة.

وتتناول مقالة ي. ن. كوشيفا واحدةً من المشكلات التي لم تتناولها الدراسات التاريخية الأوروبية بالبحث، ونعني بها مقدمات التحالف الروسي الفرنسي الذي لم يتحقق إبان حكم القيصر نيكولاي الأول (٩٥)، وهي القضية التي أرَّقت الدبلوماسية التركية، وأولاها السفير ووزير خارجية الإمبراطورية العثمانية فيما بعدُ مصطفى رشيد باشا ومعه حكومة السلطان اهتمامًا كبيرًا.

وقد قُمنا كذلك باستخدام بحوث المؤرخين الروس قبل ثورة ١٩١٧م لوصف السياسة الشرقية للدول الأوروبية، ومن أمثلة هذه البحوث ما قام به س. جوريانيوف (٦٥)، ب. أ. نولدي (١١٥)، س. س. تاتيشيف (١٣٢)، وغيرهم. وعلى الرغم من وجود بعض الخلل المنهجي فيها، فهي أعمالٌ غاية في الأهمية نظرًا لما تحويه من مادةٍ واقعية. ففي كتاب س. س. تاتيشيف، الذي يستند إلى مادةٍ تسجيلية وثائقية غزيرة، من بينها مواد من الأرشيف الروسي والنمساوي والإنجليزي والفرنسي، نقابل معلوماتٍ متناثرة من تاريخ الدبلوماسية العثمانية، وقد أورد تاتيشيف في كتابه معلوماتٍ هامةً بالنسبة لموضوع دراستنا من بينها تصريح نامق باشا، السفير التركي لدى لندن في الفترة من ١٨٣٢م وحتى ١٨٣٣م، والذي يُفيد أن السلطان لن يسمح بالتدخل المشترك للدول الأوروبية في شئونه، وهناك إشارة في تصريح السفير لإمكانية قيام تحالف روسي فرنسي، الأمر الذي أثار قلق إنجلترا والنمسا وغيرها من الدول، إلا أن الأحداث التي تمس الإمبراطورية العثمانية قد جرى عرضها في تسلسلٍ زمني يفتقد إلى الدقة.

أما أعمال مؤرخي أوروبا الغربية البورجوازيين، والمتعلقة بالسياسة الشرقية للدول الأوروبية، فعلى الرغم مما يميزها من بعض التحيز، إلا أنها تحتوي على مواد واقعيةٍ قيِّمة. وقد اعتمدنا من بينها على أعمال؛ سواء لممثلي التوجه الليبرالي في التاريخ مثل: أ. ديبيدور (٧١)، ف. بيدير (١٨٠)، ف. رودكي (١٨٢)، أو لممثلي الاتجاه الرجعي المحافظ مثل: ف. بايلي (١٥١)، ف. موصلي (١٧٨)، وغيرهم.

أولى أ. ديبيدور اهتمامًا كبيرًا للتنافس الإنجليزي الفرنسي في الشرق. بينما احتوت دراسة ف. بايلي على مادةٍ وثائقية كبيرة من الأرشيف الإنجليزي، من بينها مذكرة مباحثات بالمرستون مع مصطفى رشيد باشا وزير خارجية تركيا في الثاني عشر من أغسطس عام ١٨٣٩م، أوردها المؤلف في الملحق. عرض مصطفى رشيد في هذه المباحثات وجهات نظره حول طبيعة الإصلاحات التي كان قد اعتزم اتخاذها وموقفه من وضع المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية ودور تدخل الدول الأوروبية في الإصلاحات التركية.

استخدم ف. موصلي في كتابه بصورةٍ رئيسية مواد من الأرشيف الروسي تحتوي على وصفٍ تفصيلي للنشاط الدبلوماسي للسفير مصطفى رشيد إبان عمله في لندن في بداية عام ١٨٣٩م، من أجل عقد المعاهدة الإنجليزية التركية ضد محمد علي.

ومن البحوث اللافتة للاهتمام ما قام به المؤرخ الإنجليزي ل. ل. براون حول تاريخ تونس إبان ولاية أحمد بيه (١٨٣٧–١٨٥٥م) (١٥٤). قام براون بتحليل السياسة الخارجية لباي تونس، وهو من رعايا الإمبراطورية العثمانية، والذي كان يسعى — مع ذلك — لتوسيع حدود استقلاله عن الحكومة المركزية. كان أحمد بيه، الذي استخدم فرنسا من أجل تحقيق هذا الهدف، يرى أن من المفيد له ألا يقطع تبعيَّته السياسية بالباب العالي بشكلٍ نهائي حتى لا يُصبح لقمةً سائغةً لفرنسا. وقد سمح لنا الوصف الذي قدَّمه براون للسياسة الخارجية لأحمد بيه أن نضع تصورًا أكثر اكتمالًا لجوهر التنافس التركي الفرنسي في تونس. ويضم كتاب براون معلوماتٍ تُفيد سعي إنجلترا لإعاقة فرنسا عن القيام ببسط نفوذها على تونس.

تتناول مقالة الباحث الفرنسي ز. مانتزان (١٧٦) تحليلًا لحالة الجزائر وتونس وطرابلس في نطاق الإمبراطورية العثمانية، ولهذه المقالة أهمية مؤكدة في إلقاء الضوء على السياسة الخارجية للإمبراطورية العثمانية فيما يتعلق بالأقاليم المذكورة.

وتكتسب مقالة الباحث الإنجليزي ك. ف. فندل (١٦٦) أهميتها من المعلومات المفيدة التي تتناول بالتفصيل بنية عددٍ من المؤسسات العثمانية من بينها تلك المؤسسات التي تولت شئون السياسة الخارجية قبل ثلاثينيات القرن التاسع عشر وما تلاها في سنوات. على أن الباحث قد ركز كل اهتمامه على الحفاظ على التقاليد العثمانية فقط، لا على التغيرات المبدئية التي طرأت على الدبلوماسية العثمانية في تلك الفترة مما قلل من قيمة مقاله.

ويولي العالم الأمريكي ج. ك. هورفيتس في مقاله المعنون «أوربة الدبلوماسية العثمانية» (١٦٩) اهتمامه بالجوانب التي لم تُدرس على نحوٍ كافٍ من تاريخ هذه المشكلة، ويقترح تقسيم مراحل تطورها إلى فتراتٍ مُحددة.

تناولت أعمال المؤرخين الأتراك بالبحث عددًا من المشكلات المتعلقة بالدبلوماسية العثمانية مباشرة. وإن كان من الضروري أن نُشير هنا إلى قلة هذه الأعمال، فلم يصدر باللغة التركية سوى بحثٍ واحد مُكرس — على وجه الخصوص — للصراع التركي المصري في الفترة من ١٨٣١م وحتى ١٨٤١م. وهو كتاب شيناس ألتونداج عن انتفاضة محمد علي باشا (١٩٨). وللأسف فلم يُنشر سوى الجزء الأول من هذا العمل الذي يُلقي بالضوء على أحداث الأعوام من ١٨٣١ وحتى ١٨٣٣م. أي فترة بداية الصراع. استخدم ألتونداج مواد الأرشيف التركي، وعلى أساس هذه المواد قدم وصفًا تفصيليًّا لمهام ونتائج بعثة السفير التركي نامق باشا في العواصم الأوروبية عامَي ١٨٣٢، ١٨٣٣م، وقد أخبرنا ألتونداج بمحتوى التعليمات التي أُبلغت للسفير، والتي تضمنت شروط تسوية الصراع كما طرحها السلطان لإبلاغها للمسئولين في أوروبا.

بددت الدراسة التي قام بها ألتونداج الغموض حول مشكلة الأعمال الدبلوماسية التي تولاها نامق باشا، والتي تعرضت لتفسيراتٍ متضاربةٍ وغير كاملة. وقد تناول الباحث بالتحليل النتائج التي ترتبت على عقد معاهدة أونكيار إيسكيليسي، وكان منصفًا عندما أشار إلى أن هذه المعاهدة قد عملت على ازدياد حدة التنافس بين الدول الأوروبية، الأمر الذي كان مُفيدًا للسلطان التركي.

انصب اهتمام المؤرخ التركي الشهير أ. ز. كارال في كتابه الشامل «تاريخ تركيا» (المجلد الخامس) (٢٠٨) على بداية فترة الصراع ونهايتها. وقد أشار في هذا الكتاب إلى بعض النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها معاهدة أونكيار إيسكيليسي عام ١٨٣٣م، وتعرَّض لأسباب انتفاضة محمد علي، دون أن يتعرض للمقدمات الاجتماعية والاقتصادية لها. ويتعرض هذا العمل الجامع، الذي وضعه خبير التاريخ التركي، إلى قضايا أخرى ذات علاقةٍ بتاريخ الدبلوماسية العثمانية، من بينها أسباب سياسة العزلة التي انتهجتها الإمبراطورية العثمانية حتى نهاية القرن الثامن عشر، والظروف التي دفعتها لعقد علاقات وثيقة مع أوروبا.

يكرس أ. كوران بحثه المعنون «السياسة العثمانية (١٨٢٧–١٨٤٧م) الموجهة ضد احتلال الفرنسيين للجزائر» الصراع الذي خاضته الدبلوماسية العثمانية من أجل إعادة الجزائر التي احتلتها فرنسا عام ١٨٣٠م إلى كتاب الإمبراطورية العثمانية. ويعتمد البحث على مواد الأرشيف التركي، ويضم معلوماتٍ حول نشاط السفراء الأتراك في لندن (نور أفندي) وفي باريس (مصطفى رشيد) في الأعوام من ١٨٣٥ وحتى ١٨٣٧م.

كتب كوران أيضًا مقالًا تناول فيه العلاقات الفرنسية الجزائرية قبل عام ١٨٢٧م (٢١٦)، استخدم فيها عددًا كبيرًا من المراجع، كما استند إلى المصادر الفرنسية والتركية، ويضم المقال معلوماتٍ تفصيليةً عن الأحداث التي تذرعت بها فرنسا لاحتلال الجزائر، ويرى كوران أن سبب الاحتلال هو سبب جيوبوليتيكي: «الإمبراطورية العثمانية بعيدة، أما فرنسا فقريبة» (٢١٥، ص٦١).

تتناول مقالة ج. بيلسيل حول السياسات الخارجية للباب العالي في فترة التنظيمات الإصلاحية، بشكلٍ أساسي، مشكلات ضمانات تكامل الإمبراطورية العثمانية التي راحت الدول الأوروبية تتحدث عنها للمرة الأولى في مؤتمر فيينا عام ١٨١٥م (٢٠٣). وقد عرض الكاتب القيمة النسبية للضمانات الأوروبية.

أما الباحث ف. ر. أونات فقد نجح في جمع معلوماتٍ حول السفراء الأجانب الذين أُرسلوا إلى أوروبا فيما بين القرنين السادس عشر والقرن التاسع عشر، والتقارير التي أرسلوها لحكومة السلطان (٢٢٨).

كذلك كرَّس أن. ن. كورات بحثه المختصر لتاريخ العلاقات الدبلوماسية التركية الإنجليزية (٢١٧). كما وضع كورات أيضًا مقالًا هامًّا للغاية حول السياسة الخارجية للإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن الثامن عشر عندما كانت وما تزال تتبع مبدأ العزلة وقبل أن تضعفها الحرب مع «الحلف المقدس»٨ دون أن تتدخل في الحروب الأوروبية التركية، على الرغم من كل الجهود التي بذلتها السويد وفرنسا (٢١٨).

وللأسف فإننا لم نستطع الحصول على عددٍ من أعمال المؤلفين الأتراك.

مثلت اتفاقية التجارة الإنجليزية التركية عام ١٨٣٨م واحدةً من القضايا المركزية للسياسة الخارجية للإمبراطورية العثمانية في الفترة محل الدراسة. وقد تطلَّب تحليل شروط الاتفاقية من مؤلف هذا العمل كشف اتجاهات التطور الاقتصادي للإمبراطورية العثمانية قبل عام ١٨٣٨م وتأثير شروط الاتفاقية على هذا التطور.

إن تقييم النتائج الاقتصادية المترتبة على الاتفاقية (وفي الوقت نفسه أسباب التخلف الاقتصادي للإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر) ما يزال يثير جدلًا حتى الآن. إن أغلبية المصادر الأوروبية الغربية تحاول أن تُظهر السياسة الخارجية لإنجلترا باعتبارها سياسةً خاليةً تمامًا من الغرض، ولا تؤكد إلا على الجوانب الإيجابية لنتائج الاتفاقية. وعلى النقيض من ذلك نجد الكثير من المؤرخين وعلماء الاقتصاد الأتراك يلفتون الانتباه إلى الجوانب السلبية فقط لهذه الاتفاقية.

وهناك تقييم عام لهذه الاتفاقية عند ماركس (٥، ص٤٠٤). ويستند مؤلف هذا العمل — عند تحليله هذه الاتفاقية — على البحوث السوفييتية التي تنعكس فيها المعلومات الخاصة بتطور اقتصاد الإمبراطورية العثمانية منذ ثلاثينيات وحتى خمسينيات القرن التاسع عشر (انظر ٥٦، ص٦، ١٤–١٧، ٢٦–٢٨/ ٦٩، ص٥٠، ٩٠، ١٤٨، ٢٦٣–٣٢٠، ٣٣٨، ٣٤١، ٣٥٠–٣٥٦/ ٧٠، ص٤٥/ ٨٢، ص٣٥، ٤٣، ٤٨، ٥٥/ ٨٣، ص٤٧/ ٨٨، ص٤١٥/ ٩٦، ص٥٩/ ٩٧، ص٩٩/ ١٠٠، ص٦٦-٦٧، ٨٢/ ١١٠، ص١٥١–١٦٢، ١٩٢/ ١١٣، ص٧٣، ١٠١، ١١٤/ ١٢٠، ص١٧٨/ ١٢١، ص١٤٥، ٢٥٩، ٢٦٢/ ١٢٥، ص١٢٧-١٢٨/ ١٢٦، ص٤٧/ ١٢٨، ص٢٨١–٢٩٦، ٣٠١–٣١٣/ ١٢٩، ص٧٠).

وقد استعنَّا أيضًا بأعمال المؤرخين البلغار الذين يدرسون ماضي بلادهم بشكلٍ مكثفٍ ومثمر، هذه البلاد التي كانت في الفترة محل بحثنا ضمن كيان الإمبراطورية العثمانية (انظر ٥٨، ص٩٨/ ٩٤/ ١٠٥، ص١٢٥–١٢٨، ١٧٤، ١٩٧–٢٠٦/ ١٣٧، ص٣٩-٤٠، ٤٥، ٤٨-٤٩، ٥٢/ ١٣٨، ص٤٦، ٥٢، ١٨٥-١٨٦، ١٩٥-١٩٦، ٢٦٧/ ١٨٨، ص٨٣–٨٥).

وهناك معلومات قيِّمة حول مستوى اقتصاد مختلف مناطق الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر (تتناول نظام الاحتكار والبيع الجبري حتى عام ١٨٣٩م، والطابع المعوق لسياسة جباية الضرائب التي انتهجها الباب العالي قبل وبعد عام ١٨٣٩م، والإنتاج الزراعي والإصلاحات التي جرت في الشئون المالية ونمو الرواج التجاري بعد عام ١٨٣٩م)، وهذه نجدها في مؤلفات الأوروبيين الذين عاشوا في هذه المناطق وأتيحت لهم فرصة دراستها (انظر ٢٧، ص٢٤٣-٢٤٤/ ٣١، ج١، ص٢٨٥/ ج٢، ص٢٨٣–٢٨٦، ٢٨٧/ ٣٣، ص٢٥٨، ٢٨٣–٢٩٥/ ٣٥، ص٦٧-٦٨/ ٢٣٧ العدد ٩، ص١٢٤/ ١٤١، ص١٢٩/ ١٦٣، ص١٠٢-١٠٣/ ١٨٩، ص٣١٩، ٣٢٥، ٣٧٦–٣٧٩، ٣٩٠).

وقد استعنا بالمقالات المتخصصة وبعددٍ من المعلومات وردت في مؤلفات الكُتَّاب الأتراك المكرسة لدراسة مختلف جوانب النمو الاقتصادي للإمبراطورية العثمانية (انظر ٢٠٠، ص٥٤، ٦٩–١٧٧/ ١٥٣، ص١٣٩-١٤٠/ ٥٠٧، ص٢٨/ ٢٠٤، ص٦٨، ٩١–٩٣/ ١٦٤، ص٧٩-٨٠/ ٢٠٦، ص١١٠-١١١/ ٢٠٨، ص١٧٧/ ٢٠٩، ص١٢١، ٢٠٥، ٢٠٧، ٢٤٢–٢٥٠، ٢٥٦–٢٥٩، ٢٨٥-٢٨٦/ ٢١٢، ص١٧، ١١٩–١٢٢/ ١٧٠، ص٩٩-١٠٠/ ٢٤٨، ص١٩١–٣١٦، ٣٦١، ٣٦٨، ٣٧٦/ ٩٢، ص٥–١٧/ ١٧٢، ص٤٧، ٥١، ٥٣/ ٢٢٠، ص٤–١٢، ١٥/ ٢٢٤، ص١-٢، ٢٤/ ٢٢٦، ص٦٦، ٦٩–٢٧٢، ٨١–٨٧).

ومن المواد الموضوعية المفيدة التي استندنا إليها أيضًا بحوث المؤرخين الروس قبل الثورة، والأوروبيين الغربيين التي كُتبت في القرن العشرين حول مستوى نمو التجارة والاقتصاد بالإمبراطورية العثمانية (انظر ٨٠، ص١٥٦/ ١٠٦، ص٧٦–٨٥، ١٥٠، ١٨٨، ٢٢٤/ ١٢٤ ج١، ص٣٠٦-٣٠٧/ ١٦٢، ص٧-٨/ ١٧٧، ص٣٩٥/ ١٨٠، ص١١٨، ١٢٤-١٢٤، ١٢٧، ١٨٧).

ومن أجل أن نصل إلى تقييمٍ كامل للمشكلات الخارجية للإمبراطورية العثمانية فقد قمنا في هذا العمل ببحث الأنشطة الإصلاحية التي قام بها مصطفى رشيد باشا. وقد كانت الإصلاحات الداخلية ذات صلة مباشرة بالسياسة الخارجية؛ إذ إن الحفاظ على وحدة الدولة وخاصةً أقاليمها الأوروبية كان مرتبطًا بتحسين الوضع الداخلي للبلاد. بالإضافة إلى ذلك فإن مصطفى رشيد وضع في حسبانه أن القيام بالإصلاحات سوف تظهر آثاره على نحوٍ إيجابي على الرأي العام للدول الأوروبية، ومن ثم فإنها سوف تُساعد بذلك على حل مشكلات السياسة الخارجية بشكلٍ مناسب.

وقد أشار فردريك إنجلز إلى الطابع البورجوازي للإصلاحات التي تمت في الإمبراطورية العثمانية (انظر ١٠، ص٤٦٨)، وهذه الخاصية الرئيسية للتنظيمات الإصلاحية قد أكدها أيضًا المؤرخون السوفييت.

وهناك ثلاث وثائق وضعها مصطفى رشيد، ويُمكن من خلالها التعرف على برنامجه الإصلاحي٩ وعلى التحولات التي كان مصطفى رشيد هو صاحب المبادرة فيها.

يضم كتاب د. كاينار الذي ذكرناه آنفًا مادةً وثائقيةً قيمةً (٤٨، ص٨٦، ١٦٤–٣١٦)، وخاصةً تلك الوثائق الخاصة بالإجراءات التي اتخذها الباب العالي الذي سعى لأن يوصل لكل قطاعات المواطنين مغزى الإصلاحات، وكذلك الوثائق المتعلقة بعلاقة الدوائر الحاكمة بالموظفين تجاه الإصلاحات وعن الإصلاحات نفسها وموقف الدول الأجنبية منها، ثم ما يتعلق منها بالدور الذي قام به مصطفى رشيد في هذه الإصلاحات.

وتحتوي مؤلفات الكُتَّاب الذين عاصروا التنظيمات الإصلاحية (انظر ٢٧، ص٢٤٧-٢٤٨/ ٢٨، ص٤٦، ٤٩/ ٥٣، المجلد ٥، ص١٠٦، المجلد ٨، ص٣٩٠) معلوماتٍ قيمةً عن التنظيمات، ومنها ما جاء في المؤلف الشهير الذي وضعه إ. إنجلجارد، قنصل فرنسا في بلجراد، والذي خصصه للتنظيمات الإصلاحية (١٦٣).

كذلك أولى علماء الدراسات التركية السوفييت أهميةً كبيرةً للإصلاحات التي جرت في الإمبراطورية العثمانية (انظر ٨٢، ٩٩/ ٧٧، ص٦٨، ١١٠، ص١٠٩–١٢٦، ١٣٦–١٩٨/ ١٠٠، ص٦٨–٧٠/ ١٢١، ص٣٩–٤٢، ٥٠–٥٥، ١٢٥، ١٢٨–١٢٩، ١٤٦). وقد أصبح تاريخ الإمبراطورية العثمانية في العقدين الأخيرين هدفًا لاهتمامٍ بالغٍ من جانب عددٍ من العلماء الأجانب الذين كتبوا مقالاتٍ وكتبًا في الموضوع المذكور (انظر ١٥٦، ١٥٨، ص٧٨، ١٨٥، ص٥٧، ٦٢، ٦٣).١٠ وقد أخذنا في اعتبارنا أن نعرض في كتابنا هذا للمواد الحديثة والاستنتاجات التي تناولت العمليات الداخلية والتغيرات، بما فيها الأيديولوجيا التقليدية.

كما أولينا في كتابنا اهتمامًا كبيرًا لأكثر مشكلات العلاقات الدولية حدةً في تلك الفترة، وهي الصراع التركي المصري، سعي السلطات العثمانية لإعادة الجزائر التي استعمرتها فرنسا، تفريغ خطط اليونان، التي كانت تطمح في توسيع أراضيها، من قوتها، ثم التنافس التركي الفرنسي في تونس. وبطبيعة الحال فإن البحث الذي قمنا به لا يزعم الإحاطة التامة بمشكلات العلاقات الدولية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر للإمبراطورية العثمانية من جميع جوانبها. غير أننا التزمنا فقط بتلك الموضوعات التي عملت الإمبراطورية العثمانية في تلك الفترة على حلها بفاعليةٍ تامة. لقد بحثت الإمبراطورية — في ظروف وجود المشكلة والتطور اللاحق لعملية دخولها في عجلة الاقتصاد الرأسمالي العالمي — إمكانية التكيف مع هذه الظروف، مستغلةً التناقضات الموجودة بين الدول الكبرى مطبقةً إصلاحاتٍ داخليةً جزئيةً تتلاءم والتغيرات العالمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وإبان سنوات الثورة (١٨٤٨-١٨٤٩م) وما تلاها من أحداثٍ تفاقمت المسألة الشرقية التي تركت بدورها أثرًا كبيرًا في بداية مرحلتها الجديدة التي انتهت بحرب القرم، مما أدى إلى ظهور مشكلاتٍ جديدةٍ للإمبراطورية العثمانية.

جدير بالذكر أن جميع التواريخ في هذا الكتاب موافقة للتقويم الجريجورياني الأوروبي. وفي حالة استخدام التاريخ الهجري فقد استخدمنا الجداول التي وضعها د. أوناط، إ. أ. أوربيلي وف. ف. تسيبولسكي (انظر ٢٢٧، ١١٧، ١٤٥).

١  انظر قاموس المصطلحات.
٢  من المحتمل أن يكون تاريخ الورود إلى إدارة الباب العالي مكتوبًا على الوثائق ولكنه لم يُذكر في الكتاب.
٣  على سبيل المثال، ورد اسم الكوماندور الإنجليزي نيبير على أنه تامبير (٤٨، ص٣٦٣)، كما تحول اسم القائم بالأعمال الروسي في باريس أ. ب. كيسليف إلى دوكسيليف (ص٥١٤)، وكذلك اسم السفير الروسي لدى إسطنبول أ. ب. بوتينيف أصبح مرة بونتيف (ص٤٦٢) ومرة أخرى بوتنييف (ص٤٦٦) إلى آخره.
٤  على سبيل المثال، لم يولِ المؤلِّف الاهتمام اللازم لاسم قاني بك، الأمر الذي ترتب عليه أنه أخطأ في صفحة ٣١، فذكر أن اسم المتحدث مع السفير الإنجليزي هو مصطفى رشيد باشا بدلًا من قاني بك (٤٨، ص١٣٠، قارن ٥٣، المجلد ٦، ص٦–٩).
٥  استخدم كل من أ. د. نوفيتشيف (١١٠)، ف. ش. شعبانوف (١٤٦)، س. شو (١٩٨٥) في بحوثهم مواد مقتطفة من كتاب رشيد كاينار.
٦  يرجع تاريخ أحد هذه المصادر إلى خريف ١٨٣٧م، عندما جرى تعيين مصطفى رشيد باشا وزيرًا للخارجية للمرة الأولى. وتتناول المذكرة الثانية (مطلع عام ١٨٤١م) الاختلافَ في وجهات النظر بين سفراء الدول الأوروبية لدى إسطنبول بخصوص الشروط التي جرت مناقشتها بشأن إخضاع والي مصر المتمرِّد محمد علي. وقد جرى عرض مضمون هذا الاختلاف بالتفصيل في كتابنا.
٧  من الأمور غير المؤكدة حتى الآن ما إذا كان مصطفى رشيد قد تلقَّى تعليماتٍ عند أول تعيين له باعتباره سفيرًا لدى باريس عام ١٨٣٤م، وكذلك عند انتقاله للعمل في كل من باريس ولندن عام ١٨٣٦م.
٨  حلف رجعي قام بين النمسا وبروسيا وروسيا، وُقِّع في باريس في ٢٦/ ٩/ ١٨١٥م بعد سقوط إمبراطورية نابوليون الأول، وتتلخص أهدافه في ضمان قرارات مؤتمر فيينا ١٨١٤-١٨١٥م وإخماد الثورات وحركات التحرر القومي. وقد انضمت فرنسا إلى هذا الحلف عام ١٨١٥م ومعها بعض الدول الأوروبية الأخرى، وقد سقط هذا التحالف فعليًّا في نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين بسبب التناقضات بين الدول الأوروبية ونمو الحركات الثورية. (المترجم)
٩  نص خطي جولخانة ١٨٣٩م تُرجم إلى اللغات الروسية والإنجليزية والفرنسية، وقد صدرت طبعاته باللغات المذكورة، إلى جانب الطبعة التركية عدة مراتٍ (انظر ٢٠٨، ص٢٥٥–٢٥٨/ ٤٨، ص١٧٦–١٨٠/ ٣٩، ص١٧١–١٧٥/ ٤٢، ص٢٨٨–٢٩٠). للاطلاع على محضر مباحثات مصطفى رشيد مع بالمرستون التي جرت في الثاني عشر من أغسطس ١٨٣٩م، (انظر ١٥١، ص٢٧١–٢٧٦)، وعلى مذكرة مصطفى رشيد باشا التي أرسلها إلى مترنيخ في مارس ١٨٤١م، (انظر ١٧٧، ص٣٨٢–٣٩٨).
١٠  لمزيد من الاطلاع على تفاصيل الكتابات التاريخية الغربية والتركية المعاصرة حول موضوع هذا الكتاب، انظر أيضًا المرجع (١٤٠) والمرجع (١٥٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤