الإمبراطورية العثمانية
وعلاقاتها بالدول الأوروبية
ارتبط ظهور البواكير الأولى للعلاقات الرأسمالية في الإمبراطورية العثمانية، وخاصةً في الأقاليم الغربية منها، بالسوق الأوروبية، وقد أسهمت هذه العلاقات في تشكل ونمو الوعي القومي في هذه الأقاليم. ونتيجةً للتطور الاجتماعي والاقتصادي غير المتوازن في مختلف أقاليم الإمبراطورية، فقد نضجت هذه العمليات في أوقاتٍ متباينةٍ وأصبح من الجلي أن الأتراك أنفسهم قد تخلفوا عن عددٍ من الشعوب الخاضعة لسلطانهم. وقد أدت هذه الظروف إلى خلق تناقضاتٍ داخليةٍ راحت تُهدد وجود الإمبراطورية العثمانية ذاتها باعتبارها دولةً واحدة.
لقد استغلت الدبلوماسية الأوروبية على نحوٍ فعَّال المشكلات الداخلية للإمبراطورية العثمانية في تحقيق أهدافها. وما لبثت حدة التناقضات بين الدول الأوروبية وتركيا أن اشتدت في عشرينيات القرن التاسع عشر، أي في فترة الكفاح القومي التحرري للشعب اليوناني من أجل حصوله على الاستقلال.
لقد تمخض ضعف الإمبراطورية العثمانية والذي تمثل في تخلفها الاقتصادي عن الدول الأوروبية وتأزم الأوضاع الداخلية فيها عن عدد من الأحداث. ففي عام ١٨٣٠م توَّج الشعب اليوناني نجاحه ضد النير العثماني (١٨٢١–١٨٢٧م) بإعلان الاستقلال. وفي العام نفسه احتلت فرنسا الجزائر، وفي عام ١٨٣١م خرج والي مصر محمد علي عن طوع السلطان، واستولى على سوريا وأخذ يُطالب بالاعتراف بالسلطة الموروثة في مصر وسوريا، ثم بعد ذلك بالاستقلال. وفي عام ١٨٣١م حصلت صربيا بمساعدة روسيا على استقلالها الذاتي، وبناءً على صلح أدرنة ساهمت روسيا في إدخال تغيراتٍ جذريةٍ في بنية ممالك الدون تبعًا لما كان يُعرف بالترتيبات العضوية (انظر ٦٩، ص٢٦٣–٣٢٢) وهو ما زاد من حقوق هذه الممالك في الاستقلال الذاتي. وفي الثلاثينيات أيضًا بدأت فرنسا صراعها ضد الباب العالي من أجل السيطرة على تونس.
لقد أدت كل هذه الأحداث إلى أن الحكومة السلطانية أصبحت تدرك ضرورة إجراء تغييراتٍ في نظام إدارة الدولة. وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر كانت السياستان الداخلية والخارجية للباب العالي موجهتين لتحقيق هدفٍ واحد: تقوية الدولة والحفاظ على وحدتها، فمن أجل تقوية الوضع الداخلي والقضاء على تذمر الشعوب الخاضعة اتخذت الإجراءات الإصلاحية، بينما تركز هدف السياسة الخارجية والدبلوماسية في الحفاظ على وحدة الدولة. وقد تنامى دور الأخيرة بشكلٍ خاص بعد عام ١٨٤٣م عندما أقيمت علاقات دبلوماسية دائمة مع الدول الأوروبية.
ومن المعروف أن اليونانيين، شأنهم في ذلك شأن الشعوب السلافية في شبه جزيرة البلقان، كانوا يعلِّقون آمالهم منذ أمدٍ بعيدٍ على تلقي المساعدة من روسيا في تحريرهم من الهيمنة التركية. وقد أشار كل من ماركس وإنجلز مرارًا إلى أن اليونانيين والسلاف كانوا يرون في روسيا نصيرهم الطبيعي (انظر على سبيل المثال ١٢، ص٢٢).
غير أن سياسة روسيا تجاه حركات التحرر القومي في ذلك الوقت اتسمت وبشكلٍ واضحٍ بالازدواجية. فمن ناحيةٍ سعت روسيا لاستغلال هذه الحركات للحصول على مكاسب شخصيةٍ تحت ستار أهدافٍ نبيلة، مثل مساعدة إخوة الدين المضطهدين. ومن ناحيةٍ أخرى أدت السياسة العامة للحلف المقدس والذي كان من أهدافه مقاومة الحركات الثورية وحركات التحرر القومي، وسعت دول الحلف للتعاون الناجح مع الحكومة المركزية للإمبراطورية العثمانية إلى تذبذب السياسة الروسية وعدم الثبات على مواقفها.
بعد عام ١٨٣٠م انفجرت الخلافات التركية اليونانية، وعلى الأخص الخلافات الإقليمية، وهذه اشتدت حدتها في العقود التي تلت ذلك.
سعت الدول الكبرى للحفاظ على الوضع الراهن فيما يتعلق بالعلاقات اليونانية التركية والحيلولة دون وقوع أي صدامٍ عسكري بينهما؛ إذ إن مثل هذا الصدام كان من الممكن أن يكون سببًا لنشوب حربٍ بين الدول الكبرى ذاتها.
ظلت اليونان لسنواتٍ طويلةٍ بعد حصولها على الاستقلال عاجزةً عن بلوغ الاستقرار، سواء داخل الدولة، وذلك بسبب الصراعات داخل الأحزاب أو الصراعات الطبقية، أو خارجها، أي في علاقاتها من الإمبراطورية العثمانية، وبطبيعة الحال فإن كل محاولات اليونان التي بُذلت في هذه الظروف من أجل استعادة وحدتها باءت بالفشل. على أن الدول الأوروبية استغلت الطموحات القومية لليونانيين باعتبارها وسيلةً لتقوية تأثيرها في اليونان. كانت الأحزاب اليونانية تُناصر إما التوجه الإنجليزي أو الفرنسي أو الروسي. وقد دفع ذلك الباب العالي لأن يتخوف من أن تؤدي حماية الدول الأوروبية إلى مساعدة اليونان في توسيع حدودها (٢٠٢، ص١٤). وقد أعطت كل من فرنسا والنمسا وروسيا المبررات، المرة تلو الأخرى، لمثل هذه المخاوف (١٣٢، ص٣٩٠، ٣٩٤-٣٩٥، ٤٧٣، ٦١٤، ١٢٤، ج٢، ص١١٥، ١١٨–١٢٠).
أما المشكلة الثانية والهامة التي واجهت الباب العالي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر فكانت انتفاضة محمد علي باشا والي مصر الذي عينه الباب العالي في هذا المنصب عام ١٨٠٥م.
أصبح محمد علي الحاكم المطلق السلطة لمصر بعد أن تخلص في عام ١٨١١م من المماليك (مع استحسانٍ صامتٍ من جانب الباب العالي). وارتبطت به كلية الصفوة التي دفعها للأمام بعد أن أنعم عليها بالأراضي. كان محمد علي ينظر إلى مصر كضيعةٍ يمتلكها وتُمثل له مصدرًا للثراء. إن التبعية الهشة بالسلطة المركزية (وهو ما كان يميز إلى حدٍّ كبيرٍ علاقة الحكام بالأقاليم الأخرى بفضل النظام الإداري الذي كان قائمًا في الإمبراطورية العثمانية) والسلطة غير المحدودة في البلاد سمحت لمحمد علي بإقامة احتكاراتٍ حكوميةٍ تُقدر ﺑ ٩٥٪ من البضائع المصدرة للخارج (٤٨، ص٣٦١، ٣٦٨، ٣٧٦، انظر أيضًا ٢٧، ص٢٤٤، ٥٦، ص١٤–١٩، ٢٥، ٨٢، ص٤٣، ٤٨، ٥٥، ١٢٠، ١٧٨، ٢٤، ص٢٤). إن هذا المدخل الجديد لم يكن بمقدور أي حاكمٍ آخر أن يسمح به لنفسه. لقد ساعد قرب محمد علي من الأسواق الأوروبية ودعم فرنسا له إلى جانب العائدات الضخمة التي حصل عليها أن يُقيم جيشًا جديدًا منظمًا وأسطولًا جبارًا. قام محمد علي، بموافقة الباب العالي، بإقامة علاقاتٍ تجارية ودبلوماسية وثقافية باسمه مع الدول الأوروبية، كان أغلبها مع فرنسا. وكان جيشه مدربًا على الطريقة الأوروبية مزودًا بضباطٍ فرنسيين. وقد تأسست في مصر معاهد تعليمية عمل بها مدرسون أوروبيون. كما تجاوز نجاح الإصلاحات وتحديث الجيش والتعليم فيها قدرًا أكبر بكثيرٍ من إصلاحات السلطان التركي سليم الثالث (١٧٨٩–١٨٠٧م) حيث لم يعد في مصر بعد القضاء على المماليك أي معارضةٍ داخليةٍ قوية.
بدأ تمرد محمد علي بالنسبة للإمبراطورية العثمانية تقليديًّا، وبدا وكأنه لا يُمثل تهديدًا لوحدة الدولة. لم يكن تمرد حكام الأقاليم ضد السلطة المركزية في الإمبراطورية العثمانية يحمل في أغلب الأحوال طابع الوقوف في وجه السلطان، ولم يكن يستهدف الانفصال عن الإمبراطورية. وعلى العكس من ذلك كان الإقطاعيون المتمردون يرون أنفسهم أكثر خدم السلطان إخلاصًا. عن مثل هذه المواقف كتب بازيلي قائلًا: «كان هذا الشكل الخاص من التمرد معروفًا منذ القدم وممكنًا في الشرق فقط، لم يكن الباشاوات يعلنون تمردهم على السلطان، الذي ظلت حقوقه الروحية والسياسية مصونةً بصفته خليفة رسول الله، وإنما كان التمرد موجهًا ضد الحكومة التي عينها هذا السلطان، وحيث إن التناقضات كثيرًا ما تتجاوز وتتشابه، فإن الاستبداد الشرقي يقف هنا جنبًا إلى جنبٍ مع راديكالية الغرب» (٢٧، ص١٠٤).
كانت الحكومة المركزية تلجأ أحيانًا لاستغلال التمردات لإقصاء الموظفين الذين لم تعد لهم حاجة إليهم، وذلك على أيدي أعدائها من المتمردين (٢٧، ص١٠٠)، وقد طبَّق هذه الوسيلة نفسها الباشاوات (الولاة) على من يتبعونهم من إقطاعيين. كتب الدبلوماسي البروسي والمراقب الحصيف للأحداث ج. روزين يقول إن ولاة الأقاليم كانوا «تارةً ما يستغلون النزاعات القديمة بين القبائل، وتارةً ما يغرون بالوعود إقطاعيًّا ضد إقطاعي بالرضاء الدائم للديوان عليه، وتارة ما يضربون الأضعف بالأقوى، وعندما يُطالب المنتصر الذي أنفق على الصراع أفضل جزءٍ من أملاكه وضياعه أملًا في مكافأةٍ تعوضه عما قدمه من خدماتٍ للباشا كان الولاة يتعاملون معه بلا رحمةٍ باعتباره متمردًا أو — في نهاية الأمر — يعزلونه على نحوٍ غادرٍ.» (١٢٤، ج١، ص١٣٨).
أخذت الخلافات بين محمد علي والسلطان في التراكم بالتدريج. كان السلطان قد وعد محمد علي بتوليته كريت وسوريا جزاء ما قدمه من عونٍ في قمع الانتفاضة في اليونان. ولكن بعد تحطيم الأسطول المصري على يد الأسطول الأوروبي الموحد في نافارين في ٢٠ أكتوبر ١٨٢٧م، غادر الجيش المصري المورة دون إذن السلطان. كما لم تقدم مصر للسلطان أي مساعدة أثناء الحرب الروسية التركية عامَي ١٨٢٨م و١٨٢٩م، حيث لم يستجب محمود الثاني لرغبات محمد علي في تعيين قائد للجيوش في الأناضول وتعيين ابنه إبراهيم قائدًا لروميلية. وبعد توقيع صلح أدرنة عام ١٨٢٩م بين روسيا والإمبراطورية العثمانية حدد محمد علي طلبه بالحصول على الأقاليم التي وُعِد بها من قَبل (كريت وسوريا)، لكن محمودًا اكتفى بإعطائه كريت فقط جزاء ما أظهره محمد علي من عصيان.
لم يمضِ وقتٌ طويل إلا وقد قرَّرت الحكومة السلطانية معاقبة محمد علي، وهو ما علم به من جواسيسه المندسين في بلاط السلطان. وقد اتخذ محمد علي من هذا الأمر ذريعةً للقيام بمحاولةٍ مستقلةٍ للاستيلاء على سوريا. ففي ديسمبر عام ١٨٣١م استغل محمد علي الخلافات التي تفجَّرت بينه وبين عبد الله باشا، والي عكا، فوجَّه إليه جيشًا قوامه ٢٤ ألف رجل. وطبقًا لمرسوم السلطان اعتبر محمد علي بفتوى أصدرها شيخ الإسلام في ٢٣ أبريل ١٨٢٣م عاصيًا (٢٠٨، ص١٢٨-١٢٩، انظر أيضًا ٧٤، ص٤٨٨-٤٨٩، ٩٧، ص٩٢).
بعد أن استولى محمد علي على سوريا أمر جيشه بالتحرك تجاه الأناضول ليُرغم السلطان على الاعتراف بحقوقه في الأراضي التي احتلها. وقد هددت هزيمة قوات السلطان عند قونية عام ١٨٣٢م وتقدُّم جيوش الباشا المصري نحو إسطنبول وجود الأسرة الحاكمة.
ربما لم تكن إنجلترا — في الفترة الأخيرة التي عمل فيها نامق باشا سفيرًا لبلاده — ترى في ثورة محمد علي اعتداءً على وحدة الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم فإنها تعاملت مع هذه الثورة باعتبارها تمردًا عاديًّا (٢٠٨، ص١٣٣، ١٥١، ١٣٥، ١٩٨، ص٢٤٦). بالإضافة إلى ذلك فقد كانت إنجلترا في النصف الأول من ثلاثينيات القرن التاسع عشر عاقدةً العزم على إقامة علاقاتٍ وديةٍ مع باشا مصر، وفتح طريقٍ أكثر قربًا إلى الهند عبر أراضي ما بين النهرين ومصر.
على أية حال فإنجلترا لم تخمن أن محمود الثاني الذي اضطرته الظروف لقبول مساعدةٍ عسكريةٍ من روسيا سوف يعقد معها وبعد عدة أشهر (في يونيو ١٨٣٣م) معاهدة أونكيار إيسكيليسي للدفاع المشترك، وهي المعاهدة التي استقبلتها إنجلترا باعتبارها انتصارًا دبلوماسيًّا كبيرًا لروسيا.
في فبراير ١٨٣٣م وصلت قوات محمد علي إلى مدينة كوتاهية في آسيا الصغرى. وقد أثار ذلك اضطرابًا شديدًا في إسطنبول. قدرت الحكومة القيصرية خطورة الموقف وهي تُشاهد إمكانية الانهيار السريع للإمبراطورية العثمانية، وهي المعنية بالاحتفاظ «بجارٍ ضعيف» هو سلطان تركيا، لا جار قوي ممثلًا في شخص محمد علي (٢٣٤، مجلد ٤، ص٤٣٨، انظر ١٤٢، ص٣٢٧–٣٢٩)، وعلى الفور تقدمت باقتراح لمساعدة السلطان فأرسلت الجنرال ن. ن. مورافيوف إلى إسطنبول ومعه هذا الاقتراح، وذلك في مطلع شهر ديسمبر عام ١٨٣٢م (٦٣، ج٢، ص٢٠٧) وفي الثاني من ديسمبر عرض ممثل روسيا في إسطنبول بصورةٍ رسميةٍ تقديم مساعدةٍ عسكريةٍ إلى الباب العالي، ولما كان محمود الثاني في مأزقٍ فقد وافق على الاقتراح على الفور.
وصل الأسطول الروسي الأول إلى البوسفور يوم ٢٠ فبراير ١٨٣٣م، أما أول إنزالٍ (ما يزيد على خمسة آلاف جندي روسي) فقد قام به الأسطول الروسي الثاني على الشاطئ الآسيوي للبوسفور في وادي أونكيار إيسكيليسي في ٤ أبريل. وفي الثالث والعشرين من أبريل وصل الأسطول الثالث، وكان مكونًا من ٤٥٠٠ جندي آخر تقريبًا (١٣٢، ص٣٦٧).
استقبلت دول أوروبا الغربية وجود الأسطول الحربي الروسي في البوسفور بانزعاجٍ بالغ، عندئذٍ راحت تلح في النصح على محمود الثاني بأن يُسارع بالتصالح مع هذا التابع العنيد، وأثارت لديه المخاوف من جراء النيات العدوانية لروسيا، نتيجةً لذلك أصدر محمود الثاني فرمانًا يؤكد فيه حق محمد علي في إدارة سوريا وكريت وجدة (في الجزيرة العربية). وعلاوةً على ذلك فقد أنعم عليه محمود الثاني بالإيالات والصناجق في سوريا وفلسطين: صيدا، طرابلس، القدس، نابلس.
وعندما أحس محمد علي بما آلت إليه السلطة المركزية من ضعف، لم يكتفِ بما قدمه له السلطان من تنازلات، فراح يُطالب بأراضٍ إضافية: إيالات الشام (دمشق) وحلب في سوريا، وصناجق إيتشل وآلاي في آسيا الصغرى الواقعة على سواحل البحر الأسود. وقد هدد محمد علي بإرسال حملةٍ إلى إسطنبول إذا لم يُجب إلى طلبه. وهنا صرح له السفيران بأنهما لا يملكان الشجاعة على إبلاغ السلطان بهذه الشروط، على أن محمد علي أصر على أن يكتبا إلى السلطان برغباته أو يقوم هو بنفسه بإبلاغه.
وفي إحدى المباحثات التي دارت مع خليل رفعت باشا وشارك فيها مصطفى رشيد بك تناول محمد علي السلطان بكلمات مقذعة. كان هذا الأمر مفاجئًا لموظف السلطان كما جعله يدرك أن الباشا المصري ليس خادمًا مخلصًا للسلطان وأن تمرده يُهدد وحدة الإمبراطورية العثمانية بأسرها.
لم تُحقق المباحثات التي دارت بين ممثلي تركيا ومحمد علي يناير ١٨٣٣م نجاحًا يُذكر. واضطر السفيران أن يبعثا بمذكرةٍ تفسيريةٍ للباب العالي، الذي رد بضرورة بقاء خليل رفعت باشا في الإسكندرية وعودة مصطفى رشيد بك إلى إسطنبول. وصل خليل رفعت باشا إلى العاصمة في ٢١ مارس ١٨٣٣م على متن سفينةٍ فرنسيةٍ كانت في طريقها إليها (١٩٨، ص١١١). وسرعان ما بعث به الباب العالي إلى كوتاهية لإجراء مباحثات مع إبراهيم باشا قائد الجيش المصري وابن محمد علي.
أدار المباحثات مع إبراهيم باشا الدبلوماسي الفرنسي فارين ممثلًا للباب العالي، وقد بذل فارين جل جهوده لمنع الدبلوماسية الروسية من استغلال الموقف المتردي للسلطان وزيادة تأثير روسيا على الإمبراطورية العثمانية. ولما كان السلطان يرغب كذلك في تجنب مشاركة القوات الروسية مباشرةً في المعارك ضد محمد علي وعدم السماح لها بدخول الأناضول، فقد وافق على الوساطة الفرنسية. أتاح الباب العالي لفارين بعضًا من حرية الحركة، وخاصةً فيما يتعلق بالتنازل لمحمد علي عن بعض الأقاليم (١٢٤، ج١، ص١٨٠، ١٩١). كان على مصطفى رشيد، الذي صاحب فارين، ممثل الباب العالي، أن يُبلغ إبراهيم أن السلطان سوف يمنح أباه، إضافةً إلى ما أنعم به عليه من قبل، إيالات (دمشق). أما محمد علي فقد طالب، كما ذكرنا من قبل، بإيالات الشام (دمشق) وحلب وصناجق إيتشل وآلاي. وعلاوةً على هذا الطلب أُضيفت — كما علمنا من تقرير مصطفى رشيد — كل من أوفا والرقة وأدنة (٤٨، ص٥٦، ١٢٤، ج١، ص١٩٢).
في الثلاثين من مارس عام ١٨٣٣م غادر إسطنبول ممثلو تركيا: مصطفى رشيد وشكيب أفندي والقائم بالأعمال الفرنسي فارين (١٩٨، ص١١١).
ويتضح لنا من تقارير مصطفى رشيد أن الباب العالي كان يُدرك الدور النشط الذي اضطلع به القائم بالأعمال الفرنسي في المباحثات وكيف أنه سعى للمصالحة بين المتنافسين بعد أن أرغمهما على السير في طريق التنازلات المتبادلة، ومن المحتمل أن يكون قد اقترح على إبراهيم أن يتخلى عن صناجق إيتشل وآلاي وأن يكتفي بالتنازل عن أدنة، وأن يحصل من الصناجق المذكورة على أخشاب البناء بعد موافقة السلطان. نصح فارين إبراهيم أن يُقرر هذا الأمر بنفسه دون أن ينتظر موافقة محمد علي. وقد أبلغ مصطفى رشيد الباب العالي بأن فارين كان يتصرف إبان إجراء المباحثات باعتباره «موظفًا مخلصًا لدى السلطان التركي» (٤٨، ص٥٥).
أظهرت الجولة الأولى من المباحثات مع إبراهيم في كوتاهية لمصطفى رشيد أن الابن عنيد مثل أبيه. لقد رفض إبراهيم الاكتفاء بدمشق وكرر مطالب محمد علي وهدد بالزحف نحو إسطنبول في حالة رفض هذه المطالب. باءت محاولات مصطفى رشيد مداعبة المشاعر الوطنية لإبراهيم بالفشل، ولم تترك مسألة تذكيره بأن أوروبا باتت تعرف بأمر إنزال القوات الروسية وأن هذا أمر «غير لائق وغير مقبول» أي انطباعٍ لديه. لم يخشَ إبراهيم أي شيء، حتى التهديد بحتمية القبض عليه في حالة إنزال قوات روسيةٍ حددها مصطفى رشيد بحوالي من ٣٠ إلى ٤٠ ألف جندي (٤٨، ص٥٤).
يلاحَظ من تقارير رشيد بك أنه كان يقف إلى جانب تسوية الصراع عن طريق التفاوض المباشر مع إبراهيم، وأنه لم يكن معارضًا لتنازلات إقليمية. على أن الباب العالي لم يوافق على إعطاء أدنة لمحمد علي وأصدر أمرًا إلى رشيد بك بأن ينتظر توجيهاته التالية.
في الرابع عشر من أبريل عام ١٨٣٣م قدم فارين شروط الصلح إلى الباب العالي الذي أسرع بالإعلان عن النهاية السلمية للصراع، على أن أدنة لم تكن ضمن الأقاليم التي أعطيت لمحمد علي. وردًّا على ذلك لم تُغادر القوات المصرية كوتاهية واتهمت السفارة الفرنسية الباب العالي بالخيانة.
وقع محمود الثاني في حيرةٍ من أمره، ولم يعد يعرف أي المصيبتين أكبر: أن يستجيب لمطالب محمد علي كلها وأن يُطأطئ رأسه إذلالًا للباشا المتمرد، أم يسمح للقوات الروسية بالدخول إلى أراضي آسيا الصغرى. لقد أخافت الدبلوماسية الأوروبية الباب العالي من عزم الروس الاستيلاء على إسطنبول (١٢٤، ج١، ص١٨٩). كانت غالبية أعضاء الحكومة التركية تقف ضد قبول المساعدة الروسية؛ إذ كانوا يدركون أنه ما إن يقبل الباب العالي هذه المساعدة حتى يقوم الروس بعزله عن بقية الدول الأوروبية (١٢٤، ج١، ص١٨٠).
اعتبر السلطان أن اتفاقية أونكيار إيسكيليسي تحميه من أي تمردٍ جديدٍ من قِبل والي مصر، كما عقد آماله أيضًا على مساعدة روسيا له في المستقبل على قمع محمد علي وإعادة ولو حتى سوريا على الأقل.
عملت المساعدة التي قدمتها روسيا إلى السلطان آنذاك إلى جانب اتفاقية أونكيار إيسكيليسي، التي رأى فيها محمود الثاني عاملًا هامًّا في قمع الباشا المصري وربما أيضًا إلى دحره إلى الأبد، على تقوية النفوذ الروسي. لم يكن من الممكن أن تقف دول أوروبا الغربية مكتوفة الأيدي أمام هذا النجاح السياسي الذي أحرزته روسيا والذي جاء مُفاجئًا لهذه الدول جميعًا.
لقد أوجست الدول الأوروبية خيفةً من شروط هذه الاتفاقية؛ تحسبًا لاندلاع حدة الصراع التركي المصري وقيام روسيا عندئذ بدفع قواتها بحيث لا تغادر بعدها أبدًا لا إسطنبول ولا المضايق.
منذ ذلك الوقت اتخذ الصراع الدبلوماسي للدول الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية طابعًا خاصًّا حادًّا. وعلى مدى سنواتٍ طويلةٍ بذلت الدول الغربية جهودًا كبيرةً لتجعل من اتفاقية أونكيار إيسكيليسي حبرًا على ورق، ومن أجل هذا راحت تسعى للحصول على موافقة الباب العالي على عقد اتفاقيةٍ مماثلةٍ مع جميع الدول الكبرى. فلو أن مثل هذه الاتفاقية قد عُقدت لفقدت روسيا حرية الحركة في حالة تجدُّد الصدامات العسكرية بين السلطان ومحمد علي (٨٥، ص٥٥٩، ٩١، ص٣٠، ٤٩، ٧٤، ص٨٤٧، ١٣٢، ص٤٢٨).
لقد وقع الصدام العسكري الثاني بين جيشي الباشا المصري والسلطان في يونيو ١٨٣٩م، فلم تكن الفترة ما بين ١٨٣٣م و١٨٣٩م في الواقع سوى فترة سلامٍ شكلي؛ إذ واصل الجانبان خلالها سعيهما لتحقيق أغراضهما: فمحمد علي يسعى للحصول على استقلالٍ رسمي (كان محمد علي يملك استقلالًا واقعيًّا لكنه استقلال غير راسخ)، أما السلطان فكان يهدف، استنادًا إلى سلطته العليا، إلى قمع الوالي المتمرد وإعادة مصر إلى حكمه، فإن لم يتيسر له ذلك فسوريا على الأقل.
تميز تمرد محمد علي عن بقية الصراعات المعتادة باستمراريته، إلى جانب تدخل الدول الأوروبية فيه بفضل الضعف النسبي لسلطان تركيا الذي أُرغم في النهاية على التوجه إلى الدول الأوروبية طلبًا للعون.
شاركت كل من روسيا وإنجلترا وفرنسا والنمسا وبروسيا، فضلًا عن تركيا ومصر، في النزاع الدبلوماسي الطويل (١٨٣٣–١٨٤١م) بسبب الصراع التركي المصري.
لقد بدا أن الصراع الدبلوماسي في تلك الفترة كما لو كان اتخذ له مسارين. فالدول الأوروبية جميعها كانت تُحارب، أولًا وقبل كل شيء، ضد الزيادة المحتملة لقوة منافسيها على حساب الإمبراطورية العثمانية، وخاصةً في منطقة المضايق، على الرغم من أنها كانت تؤكد للباب العالي أن كلًّا منها لا تسعى إلا للدفاع عن مصالحها. وفي خضم صراع الدول الأوروبية على المضايق (وخاصةً صراع الدول الأوروبية ضد روسيا) اكتفت الدبلوماسية التركية بدورٍ ثانوي. فالحقيقة أن الإمبراطورية العثمانية في هذه الفترة أصبحت هدفًا للمصالح الأخرى. على الرغم من أن مبادرتها في هذا الصدد اتضحت بشكلٍ ملحوظ. وهذه المبادرة من جانب الباب العالي والدبلوماسية التركية جاءت في سياق الصراع من أجل الحفاظ على مصر ضمن كيان الإمبراطورية العثمانية. كان سعي السلطان لقمع محمد علي صادرًا عن إحساسه بما تُمليه عليه سلطته العليا. بينما ظل اهتمام جميع الدول الأوروبية في النصف الأول من ثلاثينيات القرن التاسع عشر بخصوص إعادة الأقاليم المغتصبة اهتمامًا محدودًا في واقع الأمر. فقد أظهرت هذه الدول ولسنوات طويلة لامبالاتها نحو مسألة التسوية الإقليمية بين السلطان ومحمد علي، ساعية في الوقت نفسه لبقاء الأوضاع الإقليمية والقانونية بينهما على ما هي عليه (٦٣، ص٥٤). وقد لوحظت هذه اللامبالاة من جانب روسيا طوال فترة الصراع بعد عام ١٨٣٣م (٢٣/ ٣٦، ج٢، ص٢٠٦-٢٠٧/ ٢٥، ص٦٢/ ٦٥، ص٤٤، ٥٥-٥٦/ ١٢٤، ج١، ص٢٥١/ ١٣٢، ص٥١٠/ ١٩٨، ص٩٩)، ومن جانب إنجلترا في النصف الأول من الثلاثينيات. وظلت فرنسا حتى عام ١٨٣٩م تؤيد بقاء الوضع على ما هو عليه (٦٣، ص٧٣-٧٤). ولهذا فإن مهمة الدبلوماسية السلطانية تلخَّصت في الحصول على موافقة الدول الأوروبية وإدخال تعديلات على شروط معاهدة كوتاهية عام ١٨٣٣م. وحيث إن دول أوروبا الغربية كانت تخشى أن يؤدي التجدد المحتمل للعمليات العسكرية بين محمد علي والسلطان، وفقًا لشروط اتفاقية أونكيار إيسكيليسي، إلى تدخلٍ عسكري جديد من جانب روسيا، فقد راحت هذه الدول تضع العراقيل أمام عزم السلطان تجدد الصراع العسكري بهدف استعادة سوريا، ومن ناحيةٍ أخرى حاولت منع محمد علي من إعلان استقلاله بمصر؛ إذ إن محاولة هذا أو ذاك تحقيق رغبته كانت ستؤدي حتمًا إلى اشتعال الحرب بين الجهات المتنازعة.
وعلى الرغم من أن التعاون بين إنجلترا وفرنسا فيما يتعلق بالسياسة الشرقية في فترة الصراع التركي المصري كان يُعاني من تناقضاتٍ داخلية ومن التضارب بين مصالحهما المشتركة في منطقة البحر المتوسط (بما فيها الجزائر ومصر) فإنهما تراجعتا إلى خلفية الصورة في اللحظة التي ظهر فيها شبح الطموحات الروسية في الإمبراطورية العثمانية يُخيم على الموقف.
وحول عدوانية السياسة الشرقية لروسيا تكرَّرت تصريحات رجال الدولة في إنجلترا وفي فرنسا. وفي الوقت نفسه راح بالمرستون يستغل درجة المبالغة في هذه التأكيدات لأغراضه السياسية. وفي السادس والعشرين من فبراير عام ١٨٣٥م كتب بالمرستون خطابًا إلى السير ويليام تمبل جاء فيه: «ليست روسيا سوى وهمٍ كبير، ولو أرادت إنجلترا أن تتخلص منها حقيقةً لتخلصت منها في حملةٍ واحدة منذ نصف قرنٍ مضى» (الاقتباس من المرجع ١٣٢، ص٣٣٩).
يؤكد المؤرخ السوفييتي ي. ف. تارلي، في معرض حديثه عن أسباب التوجه العام للسياسة الشرقية لنيكولاي الأول أن القيصر بالغ في تقديره لضعف الإمبراطورية العثمانية وكان على ثقةٍ تامة من انهيارها الحتمي السريع، ولهذا فإنه لم يشأ أن يُفرِّط في نصيبه في «التركة العثمانية» ومن ثم راح يبحث عن حلفاء وهو يدرك أن روسيا بمفردها ليست في حالةٍ تسمح لها بمواجهة أطماع بقية أوروبا إذا ما حانت لحظة وفاة (الرجل المريض) الإمبراطورية العثمانية (انظر ٨٥، ص٥٦١–٥٦٤).
على أن إنجلترا استغلت بذكاءٍ مخاوف فرنسا من جراء السياسة الشرقية لروسيا، التي دعمت موقفها في الإمبراطورية العثمانية بعقدها اتفاقية أونكيار إيسكيليسي. وكانت إنجلترا على حقٍّ عندما اعتمدت على أن فرنسا لن تجرؤ على قطع «الاتفاق الودي» الإنجليزي الفرنسي بحثًا عن حل للخلاف التركي المصري. فهذا الاتفاق ما يزال يغل يدها ولن يسمح لها أن تتحمس لدعم مطامع محمد علي. وقد ظلت إنجلترا طوال فترة الصراع التركي المصري تؤكد للباب العالي أن التعاون الفرنسي الإنجليزي بخصوص المسألة المصرية هو تعاون لا ينقض، وأن فرنسا سوف تسلك نفس النهج الذي تسلكه إنجلترا؛ إذ إن سياستهما موجهة بالدرجة الأولى ضد روسيا. يصف المؤرخ الفرنسي أ. ديبيدور الموقف الصعب لفرنسا تجاه الصراع التركي المصري بقوله: «كان مجلس الوزراء منعقدًا في قصر التويلري وقد تملكته الحيرة … كان عليه أن يختار حلًّا من ثلاثة: إما أن تعقد فرنسا اتفاقًا وثيقًا مع القيصر على غرار اتفاق كارل العاشر، أو أن تُخاطر بالدفاع عن قضية محمود الثاني، أو أن تقف صراحةً في صف محمد علي. كان الخيار الأول يعني قطع العلاقات مع إنجلترا، وهو ما كان يرفضه مجلس الوزراء، كما كان الخيار الأخير يعني أن تكتسب لها عدوًّا هو إنجلترا، التي كانت تُحافظ بكل غيرة على تأثيرها في الشرق، ومن ثم تغامر بدخول الحرب ضد روسيا. لم يتبقَّ إذن سوى قبول الخيار الثاني: دعم السلطان لصالح البلاط الإنجليزي في لندن، وبهذا تفوت عليه فرصة بقاء السلطان تحت حماية القيصر. على أنه، من ناحيةٍ أخرى، لم يكن البلاط في قصر التويلري يرغب إطلاقًا في أن يفقد محمد علي كل ثمار انتصاراته. كان لدى الباشا المصري الكثير من الفرنسيين الذين يعملون منذ زمنٍ بعيد في الإدارة وفي الجيش. وكانت فرنسا تعتبره موجودًا تحت حمايتها، فضلًا عن أنه كان يتمتع بشعبيةٍ كبيرة في باريس. ولو أن فرنسا لم تقدم العون للباشا لما غفر البرلمان ولا الصحافة ولا المجتمع لحكومتها هذا الموقف. من ذلك يتضح لنا أي وضع عسير كانت تواجهه حكومة ١١ أكتوبر ١٨٣٢م. ليس من المستغرب إذن أنها لم توفَّق في الخروج من هذا المأزق دون أن يمس شرفها» (٧١، المجلد ١، ص٣٤٠).
ظهر اهتمام إنجلترا باستغلال أراضي الإمبراطورية العثمانية باعتبارها طريقًا للعبور إلى الهند عبر البحر المتوسط أو الخليج الفارسي منذ نهاية القرن الثامن عشر. كانت إنجلترا تُولي الإمبراطورية العثمانية أهميةً كبرى من الناحية التجارية، فضلًا عن أهميتها الاستراتيجية، وقد سعت إنجلترا لاستغلالها ضد السياسات الروسية والفرنسية في الشرق (٧٤، ص٤٨٢–٤٨٥، ص١٧٣-١٧٤). وكانت فرنسا قد وضعت نصب أعينها ومنذ نهاية القرن الثامن عشر تحويل البحر المتوسط إلى بحيرةٍ داخلية خاصة بها (١٦١، ص١٤٧).
عندما اشتد أوار الصراع التركي المصري، أخذ نيكولاي الأول عن طيب خاطر جانب السلطان حتى يجعل منه تابعًا لروسيا ولا يُعطي لمحمد علي، الأكثر قوة من السلطان، فرصة الاستيلاء على عرش آل عثمان. وقد أدى تدخل نيكولاي الأول إلى جانب تركيا إلى إعاقة انتشار تأثير فرنسا المؤيدة لمحمد علي والتي كان القيصر بعد عام ١٨٣٠م يعتبرها مصدرًا للثورة.
يقول المؤرخ السوفييتي م. ن. بوكروفسكي: «كان التحالف مع النمسا من الأمور التقليدية بالنسبة للدبلوماسية الروسية حتى منذ النصف الأول من القرن الثامن عشر. وكان للإمبراطوريتين عدو مشترك يقف لهما بالمرصاد على نهر الدون، وفي الوقت نفسه كانا يتنافسان فيما بينهما على شبه جزيرة البلقان، آنذاك لم تكن إحداهما لتخطو خطوةً واحدة دون أن تبلغ بها الأخرى. كلتا الإمبراطوريتين سعتا للسير جنبًا إلى جنب، لا لتؤازرا بعضهما البعض، وإنما لتقتفي كل منهما أثر الأخرى. كان تعاظم قوة روسيا يعني ضعف النمسا، والعكس، كانت الحليفتان تخشيان لو أن إحداهما نجحت في استغلال الأخرى لتحقيق مطامعها من جانبٍ واحد» (١٢٢، ص٦، انظر أيضًا ٨٥، ص٥٥٧).
وبعد توقيع معاهدة أونكيار إيسكيليسي؛ قرَّر نيكولاي الأول أن يدعم علاقاته بالنمسا؛ حتى يتمكن من مواجهة الائتلاف الإنجليزي الفرنسي، معتمدًا في سياسته الشرقية على تحالفه معها. وفي اللقاء الذي جمع عواهل الدول الثلاث (روسيا والنمسا وبروسيا) في سبتمبر عام ١٨٣٣م في ميونخنجريتس (حاليًّا منيخوفو جراديشت) أكد قيصر روسيا للنمسا أنه لو حدث وسارت الأمور في الإمبراطورية العثمانية على نحوٍ يتطلب تدخل روسيا فإنه لن يتخذ أي خطوة دون أن يُشرك فيها النمسا، وصرَّح بأنه ليس لديه أي نية للتوسع في أراضيه على حساب تركيا (٣٤، المجلد ٤، ص٤٤٦–٤٤٨، ٠٩، ص٢٠٦–٢١٠، ١٣٢، ص٣٩٦، ١٣٣، ص٣٣) وقد طمأنت تأكيدات القيصر الحكومة النمساوية.
في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع جرى دعم «توازن القوى» في أوروبا عن طريق مجموعتين: إنجلترا وفرنسا في جانب، وروسيا والنمسا وبروسيا في الجانب الآخر. على أن هاتين المجموعتين لم تصمدا طويلًا نتيجةً للتناقضات التي كانت قائمةً بداخلهما.
وفوق هذا وذاك، جاء احتلال فرنسا للجزائر عام ١٨٣٠م ليُضاف إلى مشكلات السياسة الخارجية التي أرَّقت الباب العالي ولتظهر على السطح التناقضات بين الدول الأوروبية، على أن الحكومة السلطانية في الثلاثينيات والأربعينيات لم تفقد الأمل في أن يتسنى لها إعادة الجزائر إلى كيان الإمبراطورية العثمانية عن طريق استغلال هذه التناقضات.
جاء فقد الأتراك للجزائر نتيجة خطأ في التقديرات الدبلوماسية للحكومة السلطانية التي أعطت لفرنسا مبررًا مناسبًا لاحتلالها. ووفقًا للتقاليد التي ترسَّخت بدءًا من زمن خير الدين بارباروسا، عندما راح دايات الجزائر يشجعون نشاط القرصنة، فقد وجدت حكومات دول البحر المتوسط نفسها مضطرة لعقد اتفاقات مع الداي تكفل لهم أمن تجارتهم البحرية. الأمر الذي عاد على الجزائر بأرباح طائلة (٩٨، ص٦٧–٩٣). بيد أن الدول الأوروبية المتفوقة على بلدان الشرق عسكريًّا واقتصاديًّا قرَّرت أن تضع حدًّا لأعمال النهب البحري. ففي عام ١٨١٦م قام الأسطول الإنجليزي بضرب الجزائر وأغرق أسطول الداي. استغلَّت فرنسا ما آلت إليه الجزائر من ضعف وانشغال الباب العالي في الحرب الروسية (١٨٢٨-١٨٢٩م) لتُحقق طموحها — الذي بدأ منذ نابليون — في فرض سيطرتها على البحر المتوسط. وكانت الحجة التي استندت إليها فرنسا في غزو الجزائر هي الإهانة التي وجهها والي الجزائر إزميرلي حسن باشا إلى قنصل فرنسا بأن قذفه على وجهه بمروحة كانت في يده وهو يُطالبه بأن تُعيد الحكومة الفرنسية دينًا كانت أخذته من شخص ما. وكان الوالي قبل هذه الواقعة قد استولى على بعض سفن فرنسية متعللًا بعدم سداد فرنسا للدين المذكور.
أرسل الفرنسيون إلى الجزائر مائة سفينة حربية وخمسمائة سفينة نقل. وفي الرابع عشر من يونيو عام ١٨٣٠م نزل إلى السواحل الجزائرية ٣٧ ألف جندي فرنسي. وبعد معركةٍ قصيرة تم أسر الداي. وكانت الإمبراطورية العثمانية قد خرجت آنذاك لتوها من حربها ضد روسيا ولم ترد على احتلال الجزائر سوى بمذكرة احتجاج (٢١٦، ص٥٣–٦٢).
يذكر الباحث الفرنسي ر. مانتران أنه على الرغم من أن السيطرة العثمانية على الجزائر وتونس وطرابلس (منذ نهاية القرن السابع عشر وحتى مطلع القرن الثامن عشر) كانت سيطرةً اسمية، إلا أنها خلقت وضعًا سياسيًّا ظلت الدول الأوروبية تناضل من أجل تغييره على مدى قرونٍ ثلاثة. وقد تمثَّل الوجود العثماني في هذه الولايات عمليًّا في النمط التركي للإدارة: ولاة، جيش، موظفون كبار من أصل تركي، مراسيم رسمية كُتبت باللغة التركية إضافةً إلى الألقاب التركية السائدة. وحتى عندما كانت هذه الولايات تتعرض للتهديد من جانب الأوروبيين فإنها لم تكن تتوانى عن طلب العون من السلطان. كما أنها كانت في الغالب تُقدِّم لتركيا المساعدة العسكرية بناءً على طلب السلطان. خذ مثلًا ما أرسله دايات تونس إلى السلطان من عونٍ عسكري إبان الحملة إلى طرابلس عام ١٧٩٥م، وإلى كريت عام ١٨١٠م، وإلى اليونان من عام ١٨٢٢ وحتى عام ١٨٢٧م. وقد غرق الأسطول التونسي، الذي كان جزءًا من الأسطول العثماني في معركة نافارين (عام ١٨٢٧م).
ارتبط ضعف الروابط بين إسطنبول والولايات الغربية بسقوط قوة آل عثمان وانعدام المصالح الاقتصادية للدولة المستعمرة (المتروبول) في هذه الولايات البعيدة ذات العوائد المحدودة. كانت الجزائر وتونس تتمتعان باستقلالٍ اقتصادي ذي توجه غربي أكثر من جميع الولايات العثمانية الأخرى (١٧٦، ص٢٠٥، ٢١٤-٢١٥). وتؤكد التعليمات (الموجهة لروح الدين أفندي، القائم بالأعمال التركي في فرنسا عام ١٨٣٤م) الاهتمام الاقتصادي المتدني للإمبراطورية العثمانية في الجزائر؛ إذ وصفت هذه التعليمات الجزائر بأنها «مكان لا قيمة له» (٤٨، ص٧٨).
وعن المفاوضات الدبلوماسية التركية الفرنسية بشأن الجزائر والتي سبقت الاحتلال، يكتب ج. روزين قائلًا إن فرنسا حاولت مرارًا وتكرارًا أن تُنحي خلافاتها مع داي الجزائر جانبًا من خلال وساطة الديوان.
كانت إنجلترا غاضبةً تمامًا من غزو الجزائر، وهو ما أعلنته رسميًّا؛ إذ رأت في هذا العمل محاولةً من جانب فرنسا لإزاحتها عن البحر المتوسط.
وقد سعت فرنسا بعد غزوها للجزائر لإضعاف علاقة تونس بالإمبراطورية العثمانية وإخضاعها لتأثيرها. كما حاولت الحكومة الفرنسية القضاء على محاولات الباب العالي تقديم مساعداتٍ عسكرية إلى الجزائر في نضالها وذلك من الأراضي التونسية، وقد أدى هذا إلى زيادة حدة التنافس بين تركيا وفرنسا في تونس، وقد ظهر هذا التنافس في أشكال متعددة.
وفي أربعينيات القرن التاسع عشر أُضيفت إلى المشكلات السابقة مشكلة أخرى، وهي تدخل الدول الأوروبية في تسوية نظام الإدارة في سوريا؛ نظرًا لانتفاضات السكان المحليين التي لم تنقطع، وكذلك للصدامات العسكرية التي كانت تقع بين الدروز والمارونيين.
وهكذا وجدت الحكومة السلطانية نفسها — في مطلع الثلاثينيات من القرن التاسع عشر — أمام عدد من المشكلات وثيقة الصلة بمصالح السياسة الخارجية للدول الأوروبية في الإمبراطورية العثمانية، وفي التنافس بينها، وفي تعاظم حدة المسألة الشرقية.
أدى تفاقم مشكلات السياسة الخارجية بحكومة السلطان إلى التفكير في ضرورة إجراء إصلاحات في مجال الدبلوماسية.
لقد أدرك رجال الدولة الأتراك أن باستطاعتهم استغلال التنافس القائم بين الدول العظمى لتحقيق أهداف سياسية بالطرق الدبلوماسية، وهي الأهداف التي أصبح تحقيقها بالجهود العسكرية أمرًا صعبًا بسبب ما آلت إليه الإمبراطورية العثمانية من ضعف ووهن.
تعرضت الدول الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر لعدد من الهزات الثورية؛ ومن بينها الثورة الفرنسية العظمى (١٧٨٩–١٧٩٤م)، ثورات العشرينيات من القرن التاسع عشر في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ثورة التحرر القومي في عام ١٨٢١م في اليونان، ثم في بولندا في عام ١٨٣٠م، وثورات الثلاثينيات في فرنسا وبلجيكا.