التغيرات التي طرأت على الدبلوماسية العثمانية
أتاح انسحاب قوات إبراهيم باشا من كوتاهية والتصالح الشكلي بين محمد علي والسلطان ثم عقد مُعاهدة أونكيار إيسكيليسي بين الأخير وروسيا عام ١٨٨٣م، أتاح للباب العالي مواصلة سياسة الإصلاحات (انظر ٥٣، ج٦، ص٥، ١٠٩، ص٢١٤) التي كانت قد بدأت منذ عام ١٨٢٦م بالإصلاحات في الجيش. وقد مسَّت الإصلاحات التي أجراها السلطان محمود الثاني الشئون الدبلوماسية أيضًا، وكان التجديد الأساسي في هذا المجال هو إقامة الباب العالي لسفارات دائمة في العواصم الأوروبية.
كانت تصرفات الباشا المصري، التي فشل السلطان في إخمادها بقواه الذاتية، هي البرهان الأخير الذي أقنع الحكومة السلطانية بضرورة إقامة علاقات دبلوماسية دائمة مع الدول الأوروبية. في العاشر من مارس عام ١٨٤١م كتب شتيورمر، سفير النمسا لدى الإمبراطورية العثمانية، رسالةً إلى مترنيخ، جاء فيها: «لقد أجبرت المشكلة المصرية الحكومة التركية على أن تمد بصرها صوب الدول الأوروبية» (الاستشهاد من المرجع رقم ١٥١، ص٢٨١، انظر أيضًا ٦٣، ص٦/ ١٦٩، ص٤٥٩).
لقد أدت معاهدة أونكيار إيسكيليسي، التي زادت من حدة الخلافات بين الدول الأوروبية، إلى اهتمام هذه الدول (من خلال علاقات ثابتة) بالإمبراطورية العثمانية بدرجة لا تقل عن اهتمام الإمبراطورية العثمانية بها. على أن من المحتمل أن يكون الباب العالي قد أحس بضرورة إقامة مثل هذه العلاقات الثابتة مع الحكومات الأوروبية قبل ذلك، أي بمجرد أن وضعت الحرب الروسية التركية (١٨٢٨-١٨٢٩م) أوزارها، وهي الحرب التي أدت إلى حصول اليونان على الاستقلال. وقد ساد الدوائر الدبلوماسية رأيٌ مفاده أنه لو أن الباب العالي قد استفاد من سلطة الدول الأوروبية وقَبِل بالشروط التي طرحتها هذه الدول لإقرار السلام في اليونان الثائرة عام ١٨٢٧م (١٢٤، ج١، ص٤٠-٤١/ ١٤٧، ص١٨-١٩)، لاستطاعت الإمبراطورية العثمانية الاحتفاظ باليونان ضمن كيانها بعد أن أعطتها الحكم الذاتي. من المعروف أن الساسة الإنجليز «لم يبحثوا، قبل توقيع معاهدة أدرنة (١٨٢٩م)، أمر إقامة مملكة مستقلة في اليونان، وإنما أرادوا فقط إنشاء دولة تابعة لسيادة الباب العالي، أي على غرار فالاخيا ومولدافيا» (٨، ص٢٩٨). وقد ظلت إنجلترا على موقفها من هذه المسألة ولم تغيره إلا بعد عام ١٨٢٩م، خشية أن تترك المبادرة في تحرير اليونان في يدي روسيا.
اقتصرت العلاقات الدولية للباب العالي مع الدول الأجنبية على وجود سفارات تركية لديها بشكلٍ عرضي وعلى فترات قصيرة، كانت مهمتها فيها إبلاغ الحكام الأوروبيين بالأحداث الهامة وبوصول سفراء من أوروبا إلى إسطنبول، وهؤلاء كانوا يقومون بالاتصال بمترجمي الباب العالي، حيث إن غالبيتهم لم يكونوا على دراية باللغة التركية.
- (١)
إبلاغ الحاكم الأوروبي باعتلاء سلطان تركي جديد للعرش.
- (٢)
تسليم نص التصديق على الاتفاقية التجارية.
- (٣)
التأكيد على العلاقات الودية والنيات السلمية.
- (٤)
تقديم المقترحات الخاصة بإقرار العلاقات السلمية في حالة وجود خلافات.
- (٥)
تقديم عروض إقرار السلام في زمن الحرب.
- (٦)
تقديم الهدايا وردود السلطان على رسائل الحكام الأوروبيين.
- (٧)
ترضية السفراء الأجانب الذين وجِّهت إليهم إهانات إبان وجودهم في إسطنبول.
- (٨)
رد الزيارات التي يقوم بها سفير أوروبي فوق العادة وغيره من الشخصيات (٢٢٨، ص١٧–١٩، انظر كذلك ١٦٠، ج٣، ص٤٦١-٤٦٢/ ١٦٨، ص١٥٨–١٦٧).
إن الجهل باللغات الأجنبية وغياب التعليم الأوروبي لدى سفراء السلطان وزياراتهم الخاطفة للبلاد الأجنبية عوامل أدت جميعها إلى امتلاء تقاريرهم عن رحلاتهم في البلدان الأوروبية بأوصاف مفصلة في معظمها للمراسم فضلًا عن «الملاحظات الصبيانية» (١٦٠، ج٣، ص٤٦٢، انظر أيضًا ٢٠٣، ص٣٤).
إن هذا الشكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية ما كان له ليظهر لولا جهل الحكومة التركية وساستها بالدول الأوروبية. كتب لودفيج الرابع عشر ملك فرنسا في تعليماته إلى ديزاليير، سفيره في إسطنبول يقول: «إن العالم كله يعرف أن الأتراك جاهلون بكل ما يهتم به الحكام المسيحيون» (الاستشهاد من المرجع ٢١٨، ص٢٧٢، انظر أيضًا ١١٧ أ، ص٢٣).
وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية كانت تولي اهتمامًا أكبر بالحصول على معلومات عن الإمبراطورية العثمانية (وكانت الأخيرة تُمثل في العصور الوسطى خصمًا عسكريًّا خطيرًا وشريكًا تجاريًّا مفيدًا)، فإنها لم تكن تمتلك هي الأخرى أي تصورات موضوعية عنها.
استمر عدم صلاحية الطرفين قائمًا طوال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد أشار ف. إنجلز إلى أن تركيا قبل الثورة اليونانية في عام ١٨٢١م، ظلت بصفة عامة «بلادًا مجهولة» بالنسبة للأوروبيين، الذين وضعوا تصوراتهم عنها استنادًا إلى حكايات «ألف ليلة وليلة» (انظر ١٢، ص٢٠). يرى أ. ف. ميلر أنه لهذا السبب فإن كثيرًا من رجال السياسة الأوروبيين في مطلع القرن التاسع عشر كانوا يعتبرون القسطنطينية (إسطنبول) هي الإمبراطورية بأسرها انطلاقًا من كون حياة وقوة تركيا تتركزان فيها (١٠٢، ص١٦٨). لم يكن سفراء الدول الأوروبية فوق ذلك يعرفون اللغة التركية حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد أشار مصطفى رشيد باشا في أحد تقاريره عام ١٨٣٧م أن السفير الفرنسي في إسطنبول، الأدميرال روسين لم يستطع قراءة خطاب كان مكتوبًا باللغة التركية، على الرغم من أن هذا السفير قضى أربع سنوات يخدم في إسطنبول (٤٦، العدد ١٦، ص٤٣). يذكر ف. إنجلز أن «كل تصرفات الدبلوماسية الغربية تجاه تركيا اعتمدت لزمن طويل على التصورات التقليدية والأحكام القائمة على معلومات فقيرة للغاية.»
لقد انعكست سياسة العزلة الدبلوماسية وأيديولوجية التفوق الذاتي التركيتان ظاهريًّا في عدد من العادات شديدة الخصوصية.
ولما كانت علاقة البلاط السلطاني بالسفراء قائمةً على الشعور بالتعالي تجاههم، فقد اتبعت بعض الإجراءات التي كانت تحط من قدرهم إبان استقبالهم، وعلى الرغم من أن ضرب السفراء لارتكابهم أخطاءً ما، بل والزج بهم أيضًا في السجون، كان يُمثل ظاهرةً اعتيادية. فقد كان أغلب السفراء يتحملون هذا بصبرٍ بالغ (٨١، ص٨٩، ١١٢)، وكان السبب في ذلك يرجع إلى الاهتمام الشديد من جانب الدول الأوروبية بإقامة علاقات ودية مع الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعطيهم فرصة كبيرة للتجارة المربحة معها، وتقدم لهم امتيازات متعددة. كان السلطان يعطي للسفراء أموالًا طائلةً من خزانة الدولة بالإضافة إلى المواد الغذائية ويمنحهم أماكن للسكنى، معتبرًا إياهم ممثلين لبلادٍ فقيرة. وقد أُلغيت هذه العادة بعد إرسال البعثات الدبلوماسية التركية إلى أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر. وفي حالة نشوب الحرب مع أي دولة، كانت الإمبراطورية العثمانية تتبع قاعدةً ثابتة في سجن سفراء الدول المتحاربة معها في قلعة سيميباش.
كان فرانسيسك الأول ملك فرنسا هو أول حاكم مسيحي يعقد، في عام ١٥٤٢م، تحالفًا عسكريًّا مع السلطان (الكافر)، ضد مملكة هابسبورج المجاورة والتي كانت مطمعًا أيضًا للسلطان التركي. أما سليمان الثاني القانوني فكان ينظر إلى التحالفات العسكرية مع المسيحيين دون أي حكم ديني مسبق، متوخيًا أهدافه التوسعية، معتبرًا أن من المفيد له إضعاف دولة مسيحية بواسطة دولة مسيحية أخرى. وبالطبع فقد كانت هناك أسباب نفسية تُفسر هذا التحالف؛ فقد كان سليمان يرى نفسه «سلطان السلاطين»، وكان يعتبر بلاطه ملاذًا «للأمراء اللاجئين»، كما اعتبر المساعدة التي يقدمها لفرنسا بمثابة «المكافأة لمن يتوجه لعظيم» (٢٢١، ص٣٩-٤٩، ١٨٤، ص١٨٥).
على أن علاقة الأتراك بالأوروبيين تغيرت نظرًا لما أصاب الإمبراطورية العثمانية من ضعف، وما لحق بها من هزائم في القرنين السابع عشر والثامن عشر (انظر المرجع ١١٧ ب)، لقد اضطر الأتراك بعد الهزيمة أن يقبلوا الذهاب إلى مؤتمرات عامة يتفاوضون فيها مع الأوروبيين حول شروط السلام (١٣٤، ١٦٩، ص٤٥٦).
في هذه الفترة تعاظم الدور السياسي للدبلوماسيين الأوروبيين، وأصبح السفراء الأجانب لدى الباب العالي يؤدون دورًا سياسيًّا أكبر (٢١٧، ص٣، ٦، ٩، ١٢). يذكر الفيلد مارشال البروسي «مولتكي» في معرض حديثه عن التغيرات التي حدثت في عادات بلاط الإمبراطورية العثمانية في عشرينيات القرن التاسع عشر وأسبابها «أن الجميع كانوا يعلمون أن ممثلي أكبر الدول كانوا يُرغمون فيما سبق على الانتظار عدة ساعات عند عتبة السراي … ثم يُغلق الباب الأول بعد دخول الضيف، أما الباب الثاني أو بوابة النعيم التي تُفضي إلى غرفة السلطان فلم تكن لتُفتح إلا بعد تسلم الموافقة السنية منه بالدخول. والمحظوظ يصحبه اثنان من البوابين الكبار ليدخلاه في كشك معتم حيث يتربع الباديشاه، يأمر الضيف بالسجود، وبعد هذه المراسم يُلقي السفير كلمته، التي يكتفي المترجم بنقل بضع كلمات منها، يلي ذلك تقديم الهدايا، وبعد أن يتلقى السلطان هذه الهدايا يُعطي إشارة إلى الوزير، الذي يُلقي بدوره كلمةً رسمية كيفما اتفق، وبهذا ينتهي الأمر. وعلى هذا النحو كانت مراسم الاستقبال تؤدى منذ سنوات عشر مضت، ولكن بعد تحطيم الانكشارية، وبالأحرى بعد أن أثبت الروس للأتراك أنهم لم يعودوا هؤلاء المنتصرين تغير شكل الاستقبال» (٣٧، العدد ٩، ص١٣٩-١٤٠).
لقد ظهرت عزلة الحكومة في الشئون الدبلوماسية والسياسية، فضلًا عن ظهورها في جميع مجالات الحياة في المجتمع العثماني. لم يكن لدى كبار رجال الدولة المحيطين بالسلطان «أي تصور عن الدول الأوروبية، عن الحياة الاقتصادية أو النظم الإدارية فيها أو عن جيوشها … إلخ» (١١١، ص٢١٨). وقد كان راتب أفندي، السفير فوق العادة، والذي أرسل بعد توقيع معاهدة الصلح المنفرد مع النمسا عام ١٧٩١م، إلى فيينا، وتعرَّف هناك بتكليف من السلطان سليم الثالث (١٧٨٩–١٨٠٧م) على المؤسسات السياسية والمالية والعسكرية في النمسا، وكذلك على جيوش بروسيا وفرنسا وروسيا، من أوائل الذين أشاروا إلى تفوق النظم الأوروبية على مثيلاتها التركية (١١١، ص٢١٩، ٢١١).
وقد سادت العزلة أيضًا مجالات الثقافة والتعليم. وفي تلك الفترة كانت الإمبراطورية العثمانية على ثقة تامة بتفوقها الذاتي، كان العلماء ورجال الدين يعتبرون إقامة علاقات ثقافية مع الغرب ضربًا من التجديف (٢٠٩، ص١٨٤). وفي ثلاثينيات القرن التاسع عشر بدأ في الإمبراطورية العثمانية افتتاح المدارس المدنية حيث يتعلم التلاميذ مبادئ المعارف الأوروبية، وكانت المعاهد العلمية العسكرية المتخصصة قد ظهرت قبل ذلك في القرن الثامن عشر نتيجة ضرورة إعادة تنظيم الجيش التركي الذي كان في حاجة ماسة لضباط متعلمين تعليمًا أوروبيًّا (٧٧، ص٣٥–٣٩، ٤٥، ٥٤، وكذلك ٧٨، ص١٣، ١٥، ٢٠٩، ص١٨١-١٨٢).
لقد أجبر ضعف الإمبراطورية العثمانية، مقارنة بالنمو المتصاعد لبلدان أوروبا، رجال الدولة الأتراك على اللجوء إلى الإصلاحات وإنشاء مؤسسة للعمل الدبلوماسي، على غرار تلك المؤسسات القائمة في أوروبا (٢٢٥، ٧٦، ص١٢٥-١٢٦).
لقد اعترف سليم الثالث بضرورة إقامة علاقات دبلوماسية دائمة مع الدول الأوروبية، على الرغم من أن الباب العالي إبان حكمه قد قام بمحاولة لم يُقدَّر لها النجاح تمامًا في هذا المجال. يذكر المؤرخ التركي إ. ز. كارال أنه «لم يكن بمقدور الإمبراطورية العثمانية التي أصابها الوهن أن تواجه بمفردها روسيا والنمسا اللتين ازدادت قوتهما في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لقد جعل التمسك بمبدأ العزلة الإمبراطورية العثمانية دخيلة على دبلوماسية الغرب» (٢٠٨، ص٨-٩)، وعندما احتل نابليون بونابرت مصر في عام ١٧٩٨م، خرج سليم الثالث عن مبدئه الثابت في ألا تقف الدول الأوروبية غير المسلمة معه على قدم المساواة في العلاقات السياسية، فأبرم معاهدةً مع إنجلترا وروسيا ضد فرنسا (٢١٧، ص١٣)، وفي عصر سليم أيضًا أقيمت أول سفارات تركية دائمة في فيينا وبرلين ولندن وباريس. لقد واجهت الباب العالي صعوباتٌ جمة عندما قرر إرسال بعثاتٍ دبلوماسية دائمة إلى العواصم الأوروبية؛ كان على رأسها البحث عن دبلوماسيين يرغبون في البقاء في أوروبا لفترة زمنية متصلة. وعلى الرغم من توفير ظروف مجزية للدبلوماسيين فإن كثيرًا منهم لم يستطع التغلب على نفوره من السفر إلى بلدٍ مسيحي، ومن ثم راح الباب العالي يعدهم بألا تمتد فترة بعثتهم أكثر من ثلاث سنوات (١٦٠، المجلد ٣، ص٤٦٣، ٢٢٨، ص٢٠).
لم يُحقق نشاط السفارات التي افتُتحت إبان سليم الثالث في نهاية القرن الثامن عشر نجاحًا يُذكر؛ وسرعان ما تم إغلاقها (١٦٩، ١٦٠، المجلد ٣، ص٤٦١، ٢٠٣، ص٢٢، ملحوظة ٢).
على أن إدراك ضرورة إقامة علاقات أكثر قوةً مع الدول الأوروبية، الأمر الذي لم يعد بمقدور الباب العالي تحاشيه، ثم البحث عن دعم للعلاقات الدولية له من جانب بعض الدول الأوروبية بهدف الاعتماد على هذا الدعم ضد دولٍ أخرى، أدى من جديد إلى إنشاء سفارات تركية في بلدان أوروبا في عام ١٨٣٤م.
مثَّلت ثلاثينيات القرن التاسع عشر حدًّا فاصلًا في تاريخ الدبلوماسية العثمانية. إن السعي لتحقيق قوة الدولة (بتطبيق مبدأ المساواة بين كل القوى في السياسة الأوروبية) كان تغييرًا جذريًّا في أساليب السياسة الخارجية للباب العالي (٢٠٨، ص١٠٧). وبدءًا من الثلاثينيات، وبعد إنشاء السفارات، أصبحت تصرفات الدبلوماسية العثمانية الجديدة تقوم على أساليب مختلفة، أكثر مرونةً مع الوضع المتغير للدولة العثمانية على الساحة الدولية.
وإذا كان نشاط السفارات التركية التي تأسست للمرة الأولى في فترة حكم سليمان الثالث في الفترة من عام ١٧٩٣ وحتى عام ١٧٩٧م. والذي جرى إلغاؤه بحلول عام ١٨٢١م، لم يُحقق أي نجاح، فإن الاهتمام المتبادل في إنشاء سفارات تركية، سواء من جانب الإمبراطورية العثمانية أو من جانب الدول الأوروبية، قد أدى في عام ١٨٣٤م إلى قيام علاقات دبلوماسية مشتركة وطيدة ودائمة. «وفي الوقت الذي ظلت فيه تركيا منعزلة، بشكل أو بآخر، على تخوم أوروبا … مؤكدةً وحدتها الإقليمية اعتمادًا على قوتها، متصديةً لخصومها، فإن دور الدول الكبرى اقتصر على مجرد الانتظار؛ كان التدخل من جانب هذه الدول في شئون تركيا الداخلية غير ذي جدوى، وخاصةً أنها لم تكن لتسمح به. على أن تمرد محمد علي في عام ١٨٣١م وانتصاراته في سوريا غيرا من الموقف. ها نحن نرى السلطان يوقع أولًا مع الإمبراطور نيكولاي معاهدة دفاع وهجوم … لتستمر وحدة الإمبراطورية العثمانية بمساعدة الدول الكبرى، ومن الآن يصبح من حق هذه الدول توجيه النصح للباب العالي، وتبدأ الإمبراطورية في الاستفادة منها» (١٣٢، ص١٠).
في عام ١٨٣٤م جرى تأسيس سفارتين في باريس ولندن (٥١، ص١٥-١٦، ٤٨، ص٦٣-٦٤)، وفي عام ١٨٣٥م في فيينا، وفي عام ١٨٣٧م في برلين، وفي عام ١٨٤٠م في أثينا، استمر توسع شبكة السفارات حتى بلغ عددها خمس عشرة سفارة مع نهاية القرن التاسع عشر (١٦٩، ص٤٦٠، ٢١٣، ص٤٣٣).
ونتيجةً لاستغناء الحكومة السلطانية، في فترة الانتفاضة اليونانية، عن خدمات اليونانيين الفناريين، الذين كانوا يُمسكون في أيديهم بخيوط العلاقات الدولية للباب العالي ظهرت الحاجة إلى دبلوماسيين أتراك (مسلمين). ووفقًا لتقديرات ج. ل. خوريفيتس، لم يزد عدد اليونانيين الفناريين وغيرهم من الموظفين غير المسلمين العاملين في البعثات الدبلوماسية على مدى العامين الأخيرين من الثلث الأول من القرن التاسع عشر، عن ثلث العدد الإجمالي للدبلوماسيين، زد على ذلك أنهم لم يعودوا يشغلون المناصب العليا، على الرغم مما أثبتوه من كفاءة وإخلاص (٢٠٨، ص٣٤، ٤٨، ص١٥٧).
أصبح الدبلوماسيون الأتراك يتعلمون اللغات الأجنبية، وهو ما يسَّر لهم إمكانية استيعاب الدبلوماسية الأوروبية، فضلًا عن الثقافة والعادات الأوروبية (٢٠٣، ص٣٤/ ٤٨، ص١٥٧).
تميزت الدبلوماسية التركية الشابة في القرن التاسع عشر بسمتين واضحتين. فعندما تعين على السفيرين التركيين في عام ١٨٣٥م (مصطفى رشيد في باريس، ونوري أفندي في لندن) اتخاذ مبادرة دبلوماسية بشأن محاولة استعادة الجزائر، فإنهما توجَّها لطلب المشورة من سفراء روسيا والنمسا المعتمدين (٢١٥، ص/٣٨–٤٣، ٤٨، ص٦٥، ٦٦، ٧٢). وحيث إن السفيرين التركيين كانا مزودين بتعليمات من حكومتهما بخصوص الجزائر، وكانا على علم بما يجب عليهما أن يُحققاه بشأنها، فقد كان من البديهي أن تكون نصائح السفراء الأجانب لهما غير صالحة لاعتبارها خططًا محددةً يُمكن العمل بها لإنجاز الأهداف المطروحة أمامهم، واستغلال الفرص التي تُتيحها الأوضاع الدولية والقواعد الدبلوماسية. كان السفيران التركيان يعتزمان الحصول على مساعدات في هذه المسألة من إنجلترا، معولين في حساباتهما على الخلافات بين إنجلترا وفرنسا، ساعيَين للحصول على مشورة سفراء دولتين أخريين، هما روسيا والنمسا.
في عام ١٨٣٥م طلب السفير التركي في لندن، نوري أفندي، من القائم بالأعمال الروسي ك. أ. بوتسو دي بورجو، أن يشرح له ما الذي ينبغي على تركيا أن تقوم به لاستعادة الجزائر، عندئذٍ أشار عليه الدبلوماسي الروسي بأن يُقدِّم مذكرةً رسمية إلى السفير الروسي وأن يسعى لدى الحكومة الإنجليزية لإقناعها بتقديم المساعدة لبلاده. وقد واصل نوري أفندي مشاوراته مع بوتسو دي بورجو، الذي علَّمه كيف يتصرف، وماذا يقول، وما هو الوقت المناسب للتحدث في مسألة الجزائر (٢١٥، ص٣٨-٣٩).
وهناك عدد من الأمثلة التي تثبت بطلان التقدير الأوروبي للدبلوماسية التركية باعتبارها دبلوماسية تابعة كلية، منها استغلال الباب العالي للتنافس المحتدم بين الدول الأوروبية بعضها ببعض.
يكتب مصطفى رشيد في أحد تقاريره في بدء توليه منصب السفير (سبتمبر ١٨٣٤م، مارس، أبريل ١٨٣٥م) أنه اتخذ موقف المدافع، إبان المباحثات التي جرت مع رجال الدولة الفرنسيين، عن منهج حكومته في الخلاف الذي ينشأ بينها وبين مصر منذ فترة قريبة، وأنه وجَّه اللوم إلى سفيرَي فرنسا وإنجلترا لموقفهما المتقاعس في اللحظة الحاسمة، عندما كانت الإمبراطورية مشغولةً بتسوية نزاعاتها مع مصر، جاء ذلك في معرض حديثه عن قبول تركيا للمساعدات الروسية ضد محمد علي.
- (١)
الدفاع عن الإمبراطورية العثمانية هو واحد من المهام المترتبة على تمرد محمد علي، الذي يُثير — وعلى نحوٍ مستمر — الاضطرابات في الدولة.
- (٢)
عدم توجيه النقد أو التدخل في الشئون التي تُقرر كل دولة مصالحها الذاتية بشأنها وتضع سياستها بناءً عليها.
على الرغم من أن الدول الكبرى تكلمت عن أهمية الاستقرار العام، إلا أن الأساطيل الفرنسية والإنجليزية تواصل ظهورها من وقت لآخر فوق مياه البحر المتوسط، الأمر الذي أدى إلى انتشار مختلف الشائعات وأثار المخاوف لدى جميع الأطراف، ولهذا فإن الشرط الأخير يتلخص في رفض هذه الإجراءات عديمة الجدوى والتي لا تُعطي الفرصة للإمبراطورية العثمانية لأن تعمل وفقًا لوجهة نظرها الشخصية لكي تُحقق وضعًا أفضل لكل قضاياها الداخلية والخارجية.
وقد وعد الجنرال جيليمينو بأن يبلغ البرلمان رأي السفير التركي (٤٨، ص٧٠).
ومن الأمور المثيرة للاهتمام، اعتراض السفير التركي في لندن، مصطفى رشيد، على بالمرستون في ٢٩ يناير ١٨٣٧م، وكان الأخير قد وجَّه اللوم للسفير التركي باعتبار أن الباب العالي مستسلم تمامًا لنصائح روسيا، وقد رد مصطفى رشيد بقوله: «إن الإمبراطورية العثمانية لا يُمكنها أن تعرف ما ينفعها وما يضرها، ومن هم أصدقاؤها المخلصون، وإذا كانت روسيا قد عبَّرت ضمنًا عن بعض آرائها بشأن بعض القضايا، فإن هذا لا يعني أن الباب العالي يستجيب لكل نصائحها، وإذا كان الباب العالي يتصرف ظاهريًّا بحذر بالغ تجاه روسيا، فكيف له أن يتقيد في هذه التصرفات بفن دبلوماسية الدولة في علاقته مع جيرانه، وهو المشغول تمامًا بمشكلات بلاده الداخلية وإجراء الإصلاحات الضرورية بها؟» (٤٦، العدد ١٥، ص١٣٦).
في مطلع عام ١٨٣٦م رأى الباب العالي ضرورة إنشاء وزارة للخارجية (٥٣، المجلد ٨، ص٣٨٩/ ١٤١، ص٧١)، فقبل عام ١٨٣٦م لم يكن لدى حكومة السلطان موظفون متخصصون في الشئون الخارجية. وقد تم تكليف ريس الكُتَّاب، وهو أحد ثلاثة مساعدين للوزير الأعظم بعد صلح كارلوفيتس سنة ١٦٩٩م، الذين تولوا مهام الشئون الخارجية إضافة إلى وظائفه الأساسية، ومنذ ذلك الحين تم اعتباره كبيرًا للمستشارين في القضايا الدولية (١٦٦، ص٣٣٦-٣٣٧).
يصف المؤرخ التركي أ. ز. كارال التغيرات التي طرأت على الدبلوماسية التركية بالكلمات التالية: «لقد أحدثت السياسة النشيطة تغييرًا في السياسة العثمانية السلبية التي كانت قائمة مع الدول الأوروبية» (٢٠٨، ص٢١٨، انظر كذلك ٢٠٣، ص٣٤). لقد سعى الباب العالي للتنبؤ بتطور الأحداث في أوروبا والتأثير فيها. وكانت إقامة علاقات دبلوماسية دائمة مع الدول الأوروبية وتولي الأتراك المسلمين مهام إنجازها واحدةً من أهم إصلاحات فترة التنظيمات. وقد سمحت العلاقات الدبلوماسية لممثلي تركيا أن يقتربوا من المؤسسات الاجتماعية والسياسية الأوروبية وأن يتعرفوا أيضًا على ثقافة أوروبا. وقد ساعد هذا على أن يكون للدبلوماسيين الأتراك مبادراتهم في استكمال الإصلاحات في فترة حكم محمود الثاني وفي فترة التنظيمات. كما نتج عن هذه العلاقات الدبلوماسية تغييرات جذرية في مبادئ السياسة الخارجية للباب العالي. كذلك سمح التخلي الاضطراري عن عدد من الأحكام الدينية المسبقة، لدولةٍ تدين بالإسلام، للباب العالي للانخراط في النظام الدبلوماسي الأوروبي والاستفادة من المشاركة فيه للاستمرار في النضال من أجل الحفاظ على وحدة الإمبراطورية العثمانية، وذلك من خلال استغلال التناقضات القائمة بين دول أوروبا.
يؤكد المؤرخ أحمد جودت باشا في «مذكراته» أن مصطفى رشيد هو مؤسس النظام الدبلوماسي الجديد في الإمبراطورية العثمانية (٤٧، العدد ١، ص٩-١٠).
كان طريق مصطفى رشيد بك (باشا بدءًا من عام ١٨٣٧م) نحو قمم العمل الوظيفي طريقًا تصاعديًّا تقليديًّا. ومثله كمثل كثيرٍ غيره من كبار رجال الدولة، فقد بدأ عمله موظفًا صغيرًا في إدارات الباب العالي، على أن مواهبه الفطرية وظروف عمله التي أحاطها التوفيق (وعلى رأس هذه الظروف وجوده لمدةٍ طويلة في عواصم الدول الأوروبية بصفته سفيرًا) قد هيأت له أن يقدِّر وعلى نحوٍ موضوعي مقدار التخلف الذي أصاب مؤسسة الدولة ومستوى النمو الاقتصادي للإمبراطورية العثمانية وأن يُشير إلى طرق تجاوزها. وقد ساعدت نجاحات مصطفى رشيد في مجال وظيفته، وشغله للمناصب الحكومية العليا (وزيرًا للخارجية ثم وزيرًا أعظم … وغيرها من مناصب) في تحقيقه لعدد من الإصلاحات كانت انعكاسًا لمطالب زمنه. لقد ذاع صيت مصطفى رشيد باعتباره إصلاحيًّا وواضعًا لبيان خطي شريف جولخانة عام ١٨٣٩م، فضلًا عن أنه كان أكثر الدبلوماسيين الأتراك في عصره موهبة وكفاءة.
وفي باريس قابل لويس فيليب ملك فرنسا مصطفى رشيد، وقد ولدت مراسم أول استقبال يلقاه لدى الملك مشاعر الرضا لديه. وقد وصف مصطفى رشيد تفصيلًا كل قواعد التشريفات الفرنسية التي أجريت لدى المقابلة وكلمات المجاملة التي ألقاها الملك والتي عبَّر فيها عن سعادة فرنسا لتأسيس سفارة تركية وعن ثقته في أن مصطفى رشيد سوف يتقن اللغة الفرنسية بسرعة (٤٨، ص٦٤).
سرعان ما تأقلم مصطفى رشيد مع واجباته وتعرف على مشكلات السياسة الدولية. ويشهد معاصروه أنه اشتهر بأنه أفضل الدبلوماسيين الأتراك ليس في وطنه فقط، وإنما في أوروبا بأسرها (١٢٤، ج١، ص٢٧١/ ١١٨، ص١٩/ ١٣٢، ص٤١١-٤١٢).
إن القراءة الواعية للتقارير التي كان يرفعها مصطفى رشيد للسلطان في نهاية عام ١٨٣٧م تدلنا على أن المناقشات والمشاورات مع رجال الدولة والسفراء الأوروبيين كانت مدرسة عظيمة لفنون الدبلوماسية التي استفاد منها السفير التركي. كان الدبلوماسيون الذين تحاور معهم مصطفى رشيد يدافعون عن مصالح بلادهم، التي كانت كل منها في تنافس مع بقية الدول الأوروبية الأخرى. وقد راح كل منهم في حواره مع مصطفى رشيد يصف، من وجهة نظره، الوضع الدولي آنذاك، مما أعطى مصطفى رشيد مادةً خصبة للمقارنة وساعده على التقييم الصحيح للمواقف السياسية للدول الأوروبية. كان المتحدثون يسعون، متوخين في ذلك مصالحهم الشخصية، للإشارة إلى المصاعب والمخاطر التي تُهدد الإمبراطورية العثمانية من جانب منافسيهم، متعمدين — في أحيان كثيرة — المبالغة في تصوير هذه التهديدات، مسهبين في إسداء النصح وشرح كيفية التصرف والردود التي ينبغي على الحكومة السلطانية استخدامها، في حالة إذا ما وجهت إليها اتهامات محددة من جانب الدول الأخرى (٤٨، ص٨٤–٩١).
استطاع مصطفى رشيد أن يُدرك مغزى وإمكانات وجود سفارات دائمة لتركيا في الدول الأوروبية. وقد كتب في تقرير له أن من الضروري فتح سفارات أخرى في بطرسبورج وبرلين إلى جانب السفارات الموجودة في باريس ولندن، ورأى أن هذه السفارات سوف تزود الباب العالي بالمعلومات الحديثة حول كل التقلبات والتغيرات في الأساليب السياسية للدول الأوروبية. وفي تقريره إلى السلطان المؤرخ في ٩ أكتوبر ١٨٣٤م أشار مصطفى رشيد إلى أنه حتى الدول الصغيرة مثل بافاريا وفورتمبيرج والحكومة اليونانية الجديدة لهم سفراؤهم، ونبَّه إلى أن غياب السفارات التركية قبل عهده قد ساعد محمد علي على النجاح في جذب انتباه الرأي العام في الدول الأوروبية إلى صفه ضد السلطان التركي (٤٨، ص٦٧).
كتب أ. أوبيتشين يقول: «أثار وصول مصطفى رشيد إلى باريس ضجةً كبيرة. كان أول سفير تركي يُشاهد في فرنسا، منذ بعثة محمد سعيد غالب أفندي في عام ١٨٠٢م، لقد أثار الإعجاب بمظهره كدبلوماسي شاب وبحيويته ومعارضته المهذبة في الحوار، وبعدم التكلف في سلوكه، الذي كان بعيدًا تمامًا عن التصورات المألوفة حول مفوض السلطان.» وبعد مرور عامين على وجوده، أصبح مصطفى رشيد «محطًّا للأنظار». كان يحضر كل الاجتماعات ويُقيم الحفلات التي يتحدث عنها الجميع، يواظب على الحضور إلى القصر مع الوزراء، ويُشارك في الحفلات التي يُقيمها السفراء، ولا يستخف مع ذلك باللقاءات ذات الطابع الودي؛ كان كثيرًا ما يتردد على المسارح ويتعرف على الأدباء والصحفيين ومشاهير النقَّاد، كما طلب من جول جانين أن يُعلمه اللغة الفرنسية. كان العام الذي وصل فيه مصطفى رشيد إلى لندن بصفته سفيرًا بمثابة إنهاء لتعليمه في أوروبا (١٩٠، ص١٥٦-١٥٧).
ترك معاصرو مصطفى رشيد وصفًا لمظهره وشخصيته. يذكر ستريتفورد كانينج، السفير الإنجليزي لدى الإمبراطورية العثمانية، والذي تعرَّف عليه من قبل في مطلع الثلاثينيات، أن مصطفى رشيد كان شابًّا وقورًا، يتمتع بالذكاء والحيوية، يُشبه في مظهره رجلًا شركسيًّا، متوسط الطول، يتمتع بجاذبية وروح مرحة (٤٨، ص١٦٤، انظر أيضًا ١٧٣، المجلد ٢، ص١٠٤-١٠٥).
يذكر أ. أوبيتشين أن مصطفى رشيد كان يتمتع بموهبة الإقناع بتفوق، إلى جانب ما كان يتحلى به من كياسة ولباقة ودماثة خلق. ويُضيف أنه كان على دراية جيدة بخطط ومصالح الحكومات الأوروبية ونفاذ بصيرة رائع بشأنها، إضافةً إلى موهبة بلاغية رائعة (١٩٠، ص١٦٠).
قبل أن يحل خريف عام ١٨٣٦م كان مصطفى رشيد قد أنجز المهام المكلف بها بصفته سفيرًا لدى باريس. وفي ١٣ سبتمبر ١٨٣٦م يتلقى أمرًا من الباب العالي بتبادل موقعه مع نوري أفندي، سفير تركيا لدى لندن (٢٠٧، ص٧٠١، انظر كذلك ٤٦، العدد ١٤، ص٦١). وفي نفس الوقت أنعم على مصطفى رشيد بلقب مستشار الشئون الخارجية (٤٨، ص٨٢). لقد تم تبادل مواقع السفراء على هذا النحو؛ لأن آمالًا كبارًا كانت معقودةً على مصطفى رشيد، باعتباره دبلوماسيًّا محنكًا، لتحقيق رغبة السلطان في الوصول إلى حلول حاسمة للمشكلات الدبلوماسية التي كانت تواجه الباب العالي (٥١، ص١٨، ٤٨، ص٨٣). وقد أعلنت الحكومة السلطانية عن تبادل السفيرين بحجة أن المناخ في إنجلترا غير ملائم لصحة نوري أفندي.
وفي يونيو عام ١٨٣٧م يتم تعيين مصطفى رشيد وزيرًا للخارجية.
تدلنا كل الوثائق التي في حوزتنا إلى فكرةٍ مؤداها أن الباب العالي قد أعطى سفراء تركيا صلاحيات كافية لاتخاذ مبادرات شخصية — في حدود معلومة — استفاد منها مصطفى رشيد بطريقةٍ عملية في عهد محمود الثاني (١٨٣٤–١٨٣٩م)، وفي عهد عبد المجيد الأول (١٨٤١–١٨٤٥م)، كان مصطفى رشيد سفيرًا مبدعًا، تدل على ذلك النصائح التي أدلى بها عامَي ١٨٣٤، ١٨٣٥م، وإعلانه عن ضرورة التوسع في فتح سفارات تركية. ويمتلأ التقرير الذي رفعه إلى السلطان في عام ١٨٣٧م بالعديد من المعلومات الخاصة بالعلاقات الدولية في تلك الفترة، والتي كانت — بالطبع — غير معروفة لغيره من ممثلي الحكومة السلطانية وللسلطان نفسه. وقد رفعته هذه الأهلية إلى مكانة رفيعة فوق رجال الدولة الآخرين، وكانت وراء نشاطه الذي جعله موضع استحسان من جانب الحكومة. من البديهي أن هذا الأمر الجديد — أمر إتاحة الفرصة أمام السفراء لعقد علاقات دبلوماسية مع أوروبا في عهدي كل من محمود الثاني وعبد المجيد الأول — قد لعب دورًا لا يُستهان به في اكتشاف موهبة مصطفى رشيد.
من الشائع أن عهد عبد المجيد الأول (١٨٣٩–١٨٦١م) كان عهدًا لملك ضعيف الشخصية، تنازل طواعية تحت تأثير مصطفى رشيد وشركائه في الرأي عن الاستبداد بالسلطة وتقييدها بالقانون المدني والمؤسسات المدنية. على أن الدور الحاسم في تغير طبيعة السلطة العليا في فترة حكم عبد المجيد يعود لا إلى صفاته الشخصية، وإنما لسعي حكومته، عن طريق التنظيمات الإصلاحية، لتقوية دور الدولة. لم تعطِ عملية إضفاء الصبغة الليبرالية على نظام الدولة، والتي ترجع بدايتها إلى عام ١٨٣٩م، النتائج المرجوة منها لأسباب عديدة، وقد أدى ذلك لإعطاء السلاطين، بدءًا من عبد العزيز الأول (١٨٦١–١٨٧٦م)، إمكانية العودة تدريجيًّا للشكل الاستبدادي للحكم. وهكذا نرى أن حرية الإبداع التي أُتيحت للسفراء، والتي أعطيت لهم بناءً على صفاتهم الشخصية، إلى جانب علاقتهم بالباب العالي، كانت، استنادًا إلى جميع الظواهر، مرتبطةً بالإصلاحات التي تم إنجازها. ونتيجةً لما سبق، فقد تركزت كل خيوط السلطة، وخاصة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (١٨٧٥–١٩٠٨م) في يد القصر، وأصبح «الحديث مع السفراء الأتراك في الموضوعات السياسية مضيعة للوقت.» على حد قول الدبلوماسي الإنجليزي ر. سولسبري (٢١٣، ص٤٢٢).