الدبلوماسية العثمانية والصراع التركي المصري (١٨٣٣–١٨٣٨م)
كانت علاقة الباب العالي بسياسة روسيا في فترة الصراع، علاقةً ملؤها التناقض والازدواجية. لقد تردد السلطان وحكومته طويلًا وهما يهمان بقبول المساعدة الروسية لهما في عام ١٨٣٣م. غير أن أسباب الخوف من روسيا كانت تتضاءل لدى الباب العالي بمرور الوقت. لم تكن لدى روسيا أية نوايا عدوانية تجاه الإمبراطورية العثمانية، وقد أدرك الباب العالي ذلك (١٢٤، ج١، ص١٦٥). لقد عادت معاهدة أونكيار إيسكيليسي مع روسيا، والتي كانت تسعى للحفاظ على تأثير المعاهدة على الإمبراطورية العثمانية ضد التأثير العكسي للإنجليز، بفائدة ملموسة على الباب العالي، فقد خفضت روسيا بشكل كبير من قيمة التعويضات التي كان على الإمبراطورية العثمانية سدادها بناءً على معاهدة أدرنة عام ١٨٢٩م، واختصرت مدة احتلالها لممالك الدانوب. لقد حمت معاهدة أونكيار إيسكيليسي الإمبراطورية من مخاطر تهديدات محمد علي بالهجوم عليها (٢٠٨، ص١٣٦)، وأتاحت للسلطان محمود الثاني إمكانية إجراء الإصلاحات الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، فقد زادت معاهدة أونكيار إيسكيليسي من حدة المنافسة بين دول أوروبا الغربية وروسيا، وشجَّعت على زيادة نشاط هذه الدول، بهدف التأثير في إسطنبول، وقد استغل الباب العالي هذه الظروف لتحقيق مآربه الدبلوماسية الشخصية. ليس من قبيل الصدفة — كما لاحظ د. ج. روزين — «أن كثيرًا من رجال الدولة الأتراك، بل وربما غالبيتهم، كانت لديهم رغبة شديدة، بعد حرب القرم، في أن تقوم روسيا بإحداث توازن دبلوماسي» (١٢٤، ج٢، ص٢٥٨). يُمكننا أن نتفق مع رأي المؤرخ التركي ش. ألتونداج في أن معاهدة أونكيار إيسكيليسي قد ساعدت الدبلوماسية التركية على إعادة النظر عام ١٨٤٠م في معاهدة كوتاهية والاحتفاظ بمصر ضمن كيان الإمبراطورية العثمانية (١٩٨، ص٩٠).
على أنه وبالرغم من الفوائد الواضحة التي عادت على الإمبراطورية العثمانية من جراء التحالف مع روسيا، فقد ظلت الإمبراطورية غير راضية تمامًا عن هذا التحالف. وهو ما تدلنا عليه مساعي الباب العالي منذ عام ١٨٣٤م لعقد تحالف عسكري مع إنجلترا ضد محمد علي ومن وراء ظهر روسيا. ومن المثير للاهتمام هنا أن بالمرستون ومترنيخ أكدا في مباحثتهما مع مصطفى رشيد في الفترة من ١٨٣٤م إلى ١٨٣٧م على ضرورة دعم العلاقات الودية التي تربط بين روسيا والإمبراطورية العثمانية (٤٨، ص٨٤، ٨٦).
من الممكن أن نجد تفسيرًا لأسباب عدم رضا الباب العالي عن تحالفه مع روسيا إذا ما قمنا بتحليل الأحداث المترتبة على عقد معاهدة أونكيار إيسكيليسي.
لقد جاءت معاهدة كوتاهية بين ممثلي السلطان ومحمد علي تحت ضغط دول أوروبا الغربية، التي كانت تسعى لإبعاد القوات الروسية الموجودة في البوسفور، بعد أن نجح الدبلوماسيون الأوروبيون الغربيون في إقناع السلطان بخطورة وجودها هناك. كان الاحتفاظ بالوضع الراهن بين السلطان ومحمد علي والذي تنص عليه شروط هذه المعاهدة أمرًا غير مرضٍ لكلا الطرفين. كان محمود الثاني متعطشًا للانتقام ولو باستعادة سوريا، بينما كان محمد علي يُناضل لتوطيد سلطانه واستقلاله، وقد أصبح من المستحيل على السلطان أن ينال منهما بإزاحته عن منصبه كوالٍ بعد أن أصبح هذا المنصب حقًّا لمحمد علي ولآله من بعده (١١٢، ص٦٠/ ١٠٩، ص١٨٣–١٨٩/ ١١٠، ص٧–١٣/ ٢٠٨، ص١٢٨-١٢٩، ١٤٠).
وبعد أن قامت الدول الأوروبية في عام ١٨٣٤م بالوقوف ضد نية السلطان استعادة سوريا (وكذلك ضد محاولة محمد علي إعلان الاستقلال)، اقتنع الباب العالي، بصورةٍ نهائية، بأنه لن يستطيع أن يتجنب تدخل الدول الأوروبية، أو يُحاول بدونها حل الصراع التركي المصري، بالإضافة إلى ذاك، لم يحاول الباب العالي إبان هذا الصراع عقد معاهدة جماعية مع الدول الأوروبية، معاهدة تكون بديلًا لمعاهدة أونكيار إيسكيليسي (انظر ٣، ص٢١٠-٢١١، انظر أيضًا ٦٣، ص١٠٩). من الواضح أن الباب العالي أدرك أن الدول الأوروبية وحدها هي التي كانت بحاجة إلى مثل هذه المعاهدة، وأنها سوف تُمثل خطرًا على الإمبراطورية العثمانية، فهذه المعاهدة لن تكون موجهة ضد محمد علي (الذي كانت معاهدة أونكيار إيسكيليسي كافية لكبح نواياه العدوانية)، وإنما ضد سياسة روسيا الشرقية. ولو أن الحكومة السلطانية وافقت على التوقيع على مثل هذه المعاهدة، لأصبحت مبادرتها في حل الصراع التركي المصري، رهنًا للإدارة المشتركة للدول الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت كل الظواهر تُشير إلى أن الباب العالي رأى في قيام تحالف مع الدول الأوروبية المتحدة نوعًا من الانتقاص لاستقلاله. ومما يؤكد هذا الاستنتاج، المباحثات التركية الإنجليزية التي جرت قبل ذلك في لندن عامَي ١٨٣٢-١٨٣٣م، عندما طلب السفير التركي نامق باشا أن تُقدم إنجلترا المساعدة للسلطان ضد محمد علي. آنذاك رفض السفير التركي تمامًا اقتراح بالمرستون عقد معاهدة جماعية مع الدول الكبرى. وأعلن نامق باشا: «أن السلطان لم يسمح مطلقًا بالتدخل الجماعي لهذه الدول في شئونه» (١٣٢، ص٣٥٨).
على هذا النحو يُمكننا أن نُحدد أن الخطوط الرئيسية لسياسة الباب العالي في الفترة من ١٨٣٤م وحتى ١٨٣٩م تلخصت في: سعي الباب العالي للحفاظ على العلاقات الطيبة مع روسيا واستغلال المكاسب المترتبة على الاتفاقية الثنائية بينه وبينها، رفض قيام معاهدة جماعية مع الدول الأوروبية، البحث عن حليف يُمكنه أن يُقدم للباب العالي مساعدة من شأنها إخضاع محمد علي.
لم تُنشر حتى الآن الوثائق التركية التي تؤكد عزم الباب العالي الحصول على دعم دبلوماسي (وربما عسكري أيضًا) من إنجلترا في عام ١٨٣٤م، ويؤكد أحد التقارير التي أرسلها مصطفى رشيد إلى الباب العالي على نحوٍ غير مباشر أن نامق باشا قد أجرى في لندن مباحثات بخصوص مصر. يقول مصطفى رشيد في تقريره: «بما أن القنصل الإنجليزي موجود في الإسكندرية لدى محمد علي، فإن هذا يعني أن مباحثات نامق باشا في لندن جاءت في وقتها» (٤٥، العدد ٢، ص١٤٥).
وهناك شهادات موثقة حول عدم اتخاذ إنجلترا جانب السلطان على نحوٍ مباشر في البداية، أي في النصف الأول من الثلاثينيات، وإعلانها للعلاقات الطيبة مع محمد علي، وهو ما أكدته بحوث عديدة. فعلى سبيل المثال، كتب المؤرخ الأمريكي ف. س. رودكي: «أن بعض الإنجليز، الذين كانوا على ثقة من أن الباشا (محمد علي) سوف يتحد مع إنجلترا بهدف دعم مصالحها في الهند، واتفق هؤلاء على أن على بلادهم أن تتحد معه، مثلما تفعل فرنسا، لا مع تركيا» (١٨٢، ص٦٣). وفي تقرير كتبه مصطفى رشيد للسلطان في نهاية عام ١٨٣٧م، أشار إلى أن إنجلترا لم تكن مهيأة، في وقت ما، للوقوف ضد محمد علي؛ إذ إنها كانت تعول على أنه «يمثل حصنًا ما ضد روسيا» (٤٨، ص٨٩/ انظر أيضًا ٣٤، المجلد ١٢، ص٥٠، ٤١/ ١١٦، ص٢٠٥–٢٠٧/ ١٢٤، ج١، ص٢٤٠، ٢٥٢-٢٥٣/ ١٥١، ص٦٦، ١٢٤–١٢٦/ ١٨٢، ص٣٨–٤١، ٤٩، ٥٨–٦٠/ ١٩٨، ص١٤١).
طرحت المناقشات التي دارت في برلمان لندن سؤالًا حول عدم قيام إنجلترا بتقديم المساعدة للسلطان عامَي ١٨٣٢م و١٨٣٣م، آنذاك أجاب السيد جراي، الذي كان يترأس مجلس الوزراء الإنجليزي بقوله: «إن إنجلترا … لها علاقات تجارية واسعة مع محمد علي، وإن قطع هذه العلاقات ليس في صالحها» (الاستشهاد من المصدر ٥، ص٣٩١).
نكاد نجد في معظم المراجع والمؤلفات موقفًا عامًّا، فحواه أن إنجلترا كانت تعتبر استمرار تحالفها مع السلطان التركي واحدًا من أهم المبادئ التي تقوم عليها سياستها، التي تستهدف إعاقة السياسة الشرقية لروسيا وفرنسا. على أن هذا الموقف الصحيح لم يضع في الاعتبار علاقة إنجلترا بمحمد علي وبالسلطان في النصف الأول من ثلاثينيات القرن التاسع عشر (انظر على سبيل المثال ٢٠٨، ص٢٠٨/ ٧٤، ص٤٨٥/ ٨٥، ص٥٥٨-٥٥٩/ ٨٦، ص٤٩٦/ ٩٠، ص١٧٢، ١٧٩-١٨٠/ ٩٧، ص٩٣/ ١٣٢، ص٤٨٢).
لقد اعتبر محمد علي، بعد محاولته الأولى إعلان استقلال مصر في عام ١٨٣٤م، والتي قوبلت بالرفض من جميع الدول الأوروبية، أن إنجلترا هي المسئولة عن ذلك، ورأى فيها منذ ذلك الحين عدوًّا له (١٢٤، ج١، ص٢٥٠-٢٥١/ ١٨٢، ص٤٩). وانطلاقًا من ذلك فقد أعلن محمد علي في عام ١٨٣٥م رفضه لنشاط البعثة الإنجليزية في منطقة شمال سوريا، التي كانت تقع تحت إمرته آنذاك، وكانت إنجلترا قد نجحت بعد مساعٍ طويلة في الحصول من الباب العالي على السماح بقيام بعثة تحت قيادة الفريق تشيسن تستهدف إنشاء خط ملاحي عبر نهر الفرات. عن ذلك كتب روزين يقول: «الآن أدركت الحكومة البريطانية … أي مكافأة عليها أن تدفع مقابل سياسة الإذلال التي انتهجتها والتي وصلت إلى حد الاحتقار» (١٢٤، ج١، ص٢٥٣). وقد أشار ش. ألتونداج، الذي كرَّس أبحاثه لتاريخ الصراع التركي المصري إلى أن «محمد علي اكتسب عداوة أوروبا بأسرها وخاصةً إنجلترا، ولم يستثنِ من هذه العداوة سوى فرنسا» (١٩٩، ص٢٣).
في النصف الثاني من الثلاثينيات، أخذت علاقات الحكومة السلطانية مع إنجلترا تزداد قوةً تدريجيًّا. آنذاك، كانت إنجلترا قد قررت نهائيًّا الوقوف في صف السلطان ضد محمد علي. لم يكن بالمرستون سعيدًا بالوضع في الشرق، ليس فقط بسبب معاهدة أونكيار إيسكيليسي، ولكن لأن محمد علي أصبح يقض مضاجع إنجلترا، بعد أن نجح في استخدام سوريا كرأس جسر لغزو شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين، وهما اللتان كانتا تُمثلان مدخلًا إلى الهند من جهة الغرب (٤٦، العددان: ١٧، ١٨، ص١٨٠-١٨١/ ٦٢، ص١٧٦-١٧٧/ ١٥١، ص١٦٨/ ١٨٢، ص٥٧).
كان الباب العالي يرغب في أن يكون تحالفه مع إنجلترا تحالفًا ثنائيًّا هجوميًّا، لا تحالفًا دفاعيًّا جماعيًّا، وهو ما كانت تريده الدول الأوروبية، التي كانت تسعى إلى أن تستبدل تركيا بهذا التحالف تحالفها مع روسيا. ولما كانت تركيا غير واثقة تمامًا أن إنجلترا سوف توافق على عقد مثل هذا التحالف معها، فقد فضَّلت أن تبقي على علاقتها الودية المضمونة مع روسيا، حتى يتسنى لها تهديد محمد علي بمعاهدة أونكيار إيسكيليسي.
منذ عام ١٨٣٤م راح السفير الإنجليزي بونسونبي (سفير إنجلترا لدى الباب العالي بدءًا من فبراير عام ١٨٣٣م) في تأييد الطموحات العدوانية للسلطان ضد محمد علي ويوقظ لديه الأمل في أن إنجلترا سوف تُقدم الدعم العسكري البحري لتركيا السلطانية إذا ما دعت الضرورة (١٢٤، ج١، ص٢٣٩-٢٤٠/ ١٨٢، ص٦٧/ ١٥١، ص١٦٧/ ٥٣، المجلد ٦، ص٦/ ٤٨، ص١٣٢). كان هذا الموقف وسيلة فعَّالة لإضعاف التحالف الروسي التركي ولتوطيد العلاقات التركية الإنجليزية. وكان بالمرستون على علم بهذا التوجه الذي يتبناه بونسونبي، وإن كان من الواضح أنه لا يؤيده في رأيه (٤٣، المجلد ٢، ص٤٤٢/ ١٨٢، ص٥٣)، غير أن بالمرستون لم يفصح صراحة عن رغبته في تغيير الأمر الواقع. يُشير روزين إلى أن «الحكومة الإنجليزية … على الرغم من أنها لم تكن تفكر آنذاك (في مارس ١٨٣٨م، المؤلف) في تعكير صفو السلام في أوروبا، إلا أنها راحت تؤكد علنًا وجهة نظر اللورد بونسونبي، أي إنها تؤيد الحرب في الشرق، تلك الحرب التي لو قُدِّر لها أن تنشب لوقفت فيها إنجلترا بكل وضوح إلى جانب الباب العالي؛ إذ إن ذلك كان سيقضي على الأفضلية التي حصل عليها الفرنسيون المحيطون بمحمد علي، فضلًا عن أنها كانت ستؤدي إلى إلغاء التحالف الذي تستند عليه روسيا في سيطرتها على القسطنطينية؛ ولهذا لم تكن هناك من وسيلة، كما افترض الجميع، لتجنب نشوب الحرب» (١٢٤، ج١، ص٣٠١).
في عام ١٨٣٦م أعلن بونسونبي باسم حكومته احتجاجه على احتكار الباب العالي للحرير وبعض السلع الأخرى في سوريا. كان الاحتكار في مصر وسوريا (بعد أن غزا محمد علي الأخيرة) يُمثل مصدرًا لعوائد هائلة لمحمد علي. ولهذا فقد رد الباب العالي على احتجاج إنجلترا بالموافقة عن طيب خاطر، وأصدر فرمانًا يحظر فيه سريان هذا النظام في سوريا، بشرط أن تتعهد إنجلترا بإرغام محمد علي بتنفيذه. وهكذا جرى القضاء على الاحتكار في سوريا. كان الباب العالي يأمل أن يؤدي هذا التنازل الذي قدمه للمصالح التجارية الإنجليزية، إلى أن توافق إنجلترا على مساعدته عسكريًّا ضد محمد علي. «وقد ساعد هذا الأمر إلى حدٍّ كبير السفير الإنجليزي في محاولاته للتقرب من وزراء الباب العالي، وكان بنية السلطان ومن حوله أن يضعوا ثقتهم في استعداد إنجلترا لإمدادهم بالمساعدة» (١٢٤، ج١، ص٢٦٤).
استمرَّت الحرب الدبلوماسية بين إنجلترا وروسيا، طوال فترة الصراع التركي المصري من أجل الاستئثار بالسيادة في التأثير على الباب العالي، وكانت كفة النجاح تميل تارة لصالح الأولى وتارة أخرى لصالح الثانية.
وقد سجَّل مصطفى رشيد في تقاريره أن كلًّا من إنجلترا وفرنسا لم تتوقفا عن إخافة الباب العالي من التهديد الروسي (٤٦، العدد ١٤، ص٦٨، ٦٩/ ٤٨، ص٨٤) وتقديم النصح له بألا يقبل في المستقبل المساعدة من روسيا؛ إذ إن قبول المساعدة منها سوف يؤدي إلى حرب شاملة سوف تعاني منها تركيا (٤٨، ص٧٠، ١٣٠-١٣١/ ٥٣، المجلد ٦، ص٦).
وعلى امتداد الصراع التركي المصري، كانت فرنسا تمد يد العون لمحمد علي، ولكنها كانت مضطرةً لمعارضة محاولته إعلان الاستقلال؛ حتى لا تُعطي لروسيا مبررًا للتدخل العسكري وللاحتفاظ بتركيا السلطانية باعتبارها عازلًا، وحتى لا تستفز إنجلترا ضدها.
لقد استغلت الدبلوماسية السلطانية الوضع المعقد لفرنسا، محاولةً أن توطد علاقاتها الودية معها، وأن تكسب إلى صفها الرأي العام فيها ضد محمد علي.
النشاط الدبلوماسي لمصطفى رشيد بك
يذكر صلاح الدين بك، أول من وضع سيرةً لحياة مصطفى رشيد بك سفير تركيا في باريس عام ١٨٣٤م، أن السفير التركي كانت أمامه مهمتان رئيسيتان: الأولى «تغيير الصورة الخاطئة التي تكوَّنت عن تركيا» لدى رجال السياسة في أوروبا، والثانية محاولة التوصل لحل للمشكلة المصرية يتناسب وحقوق الدولة ومصالحها (٥١، ص١٥-١٦/ ٤٨، ص٦٣). وفي الوقت نفسه كان مصطفى رشيد مكلفًا بمهمةٍ ثالثة غير رسمية، وهي القيام بمباحثات سرية مع الحكومة الفرنسية بهدف استعادة الجزائر (٢١٥، ص٣٥).
في تلك الفترة، كان رجال السياسة والرأي العام في الدول الأوروبية يبالغون في الإنجازات الاقتصادية والثقافية التي حققتها مصر تحت سلطة محمد علي، ولكنهم في الوقت نفسه، كانوا لا يعرفون سوى القليل عن الأوضاع في الإمبراطورية العثمانية، بما في ذلك الإصلاحات التي قام بها محمود الثاني، ولهذا فإن مهمته (تغيير الصورة الخاطئة التي تكوَّنت عن تركيا)، والتي كلف الباب العالي سفيره بالقيام بها، كانت مهمةً حيوية للغاية، وكانت علاقة الرأي العام، بل وجميع مجالس الوزراء في الدول الأوروبية بكل الأطراف المتنازعة (الحكومة السلطانية ومحمد علي) متوقفةً على نجاح مصطفى رشيد في إنجاز هذه المهمة.
تناولنا قبل ذلك كيف أن محمد علي قام في عام ١٨٣٤م بمحاولة الحصول على الاستقلال بالطرق الدبلوماسية، وهي المحاولة التي قوبلت بالرفض من جانب الدول الكبرى. وكان رأي مصطفى رشيد أن محمد علي لو حاول تحقيق هذا الهدف بالطرق العسكرية لجعل من قضية الباب العالي استعادة الجزائر، أمرًا ثانويًّا للغاية أمام السفير التركي مقارنة بالتكليف الذي تلقاه من الحكومة بشأن التوصل لأفضل حل للمشكلة المصرية. وقد كتب مصطفى رشيد في أحد تقاريره المؤرخ ١٨٣٤م من باريس يقول: «إن الوقت والوضع الحالي يجعلان من المشكلة المصرية أمرًا عويصًا للغاية، بحيث تُصبح المشكلة الجزائرية تافهة بالمقارنة بها» (٤٨، ص٦٥). وقد وضع مصطفى رشيد هذا الظرف نصب عينيه إبان قيامه بواجباته الدبلوماسية في باريس. ومن الملاحظ أن الإمبراطورية العثمانية كانت تولي اهتمامًا كبيرًا الاحتفاظ بمصر يفوق كثيرًا اهتمامها بالجزائر، فالأخيرة كانت تدخل في نطاق الإمبراطورية العثمانية اسميًّا فقط؛ كانت مصر تدفع جزيةً كبيرة، وكانت مُلزمةً أن تضع تحت تصرف الباب العالي قواتها العسكرية، وقد كانت قوات لا يُستهان بها، بمقياس ذلك الزمن.
وقد بلغت قيمة الجزية التي كان على مصر أن تدفعها في عام ١٨٣٤م «٣٢ ألف كيس»، أي ما يُعادل ٦ ملايين فرنك (١١٢، ص٦٠/ ١٩٨، ص١٤٠). وقد دفعت ممالك الدانوب للباب العالي في نفس العام (نورد ذلك للمقارنة) ٣ ملايين قرش، وهو ما يُعادل ٦٨٠ ألف فرنك تقريبًا (١٢٤، ج١، ص٢٢٨).
وقد كلف الباب العالي أيضًا مصطفى رشيد أن يستوضح موقف فرنسا إذا ما اشتعلت الحرب، التي كان الباب العالي يستعد لدخولها ضد محمد علي إبان الانتفاضة السورية واللبنانية عام ١٨٣٤م.
وقد علمنا مما سبق أن مصطفى رشيد توقف في فيينا وهو في طريقه إلى باريس في سبتمبر عام ١٨٣٤م للتباحث مع مترنيخ، وقد أكد له الأخير أن الدول الكبرى لا ترغب في تصعيد الصراع التركي المصري، وأنها لن تسمح به. وأعرب السفير التركي عن أمله ألا تُبدي روسيا وحدها مشاعرها الطيبة نحو السلطان، بمناسبة انتفاضة السكان في سوريا، بل وأن تحذو الدول الكبرى أيضًا حذوها (٤٥، العدد ١، ص٣١-٣٢). ويدل هذا التصريح على الأمل الذي راود الحكومة السلطانية في تلقي الدعم من الدول الأوروبية لقمع تمرد محمد علي.
وفي باريس أجرى مصطفى رشيد مباحثات مع جاك ديزاج رئيس إدارة البروتوكول بوزارة الخارجية الفرنسية، متمنيًا أن يتوصل من خلالها إلى التعرف على موقف فرنسا من الوضع المتأزم. وقد حذره ديزاج من أنه في حالة قيام أي دولة أوروبية بالمبادرة بالحرب (أي لو ساندت أيًّا من الطرفين المتنازعين سواء السلطان أو محمد علي) فإن الدول الأخرى لن تسمح بذلك «دفاعًا عن مبادئ الحضارة»، وأشار ديزاج «ولهذا فإن نية السلطان التصالح مع محمد علي أمر يتفق والسياسة الراهنة» (٤٥، العدد ٦، ص٤٣١).
عندئذ بدأت المباحثات بين ممثلي كل من السلطان ومحمد علي، بعدما اقتنع الجانبان باستحالة تحقيق مخططاتهما بسبب تضارب مصالح الدول الأوروبية، كان السلطان يُطالب محمد علي بإعادة آلاي الرقة الذي استولى عليه وأن يدفع الجزية (٤٥، العدد ٦، ص٤٣٠)، والتي كان والي مصر قد امتنع عن دفعها، متعللًا بأعذار كثيرة، قاطعًا بذلك التزامه بتنفيذ شروط معاهدة كوتاهية. وقد انتهت المباحثات بتقديم تنازلات من الجانبين (١٢٤، ج١، ص٢٥٠).
وقد أفرد مصطفى رشيد مساحةً كبيرة من تقاريره الدبلوماسية التي أرسلها من باريس خلال العامين ١٨٣٤م و١٨٣٥م للمعلومات التي نشرتها الصحافة الفرنسية عن تركيا. كان مصطفى رشيد يسعى دائمًا لاستمالة العاملين في الصحافة المحلية وكذلك الرأي العام الفرنسي نحو تركيا السلطانية.
يدل الاهتمام الذي أولاه السفير التركي للصحافة الفرنسية، على الأهمية التي كان يُعلِّقها على الرأي العام الفرنسي وعلى ما بذله من مساعٍ للتأثير فيه. كان مصطفى رشيد يعلم أن الرأي العام له أثرٌ معلوم في علاقة الدبلوماسية الفرنسية وحكومة فرنسا بالصراع التركي المصري.
في ١٣ سبتمبر عام ١٨٣٦م تلقَّى مصطفى رشيد أمرًا من الباب العالي بأن يتبادل موقعه مع سفير تركيا في لندن نوري أفندي (٢٠٧، ص٧٠، انظر أيضًا ٢٤٥، العدد ١٤، ص٦١). كان الباب العالي يعوِّل على مصطفى رشيد، الذي برهن على أنه أكثر الدبلوماسيين حنكة، في تحقيق أقصى ما يُمكن من نجاح في لندن، بما في ذلك الوصول إلى حل الصراع التركي المصري.
لم يكن هناك أي تحسن قد طرأ على العلاقات المتوترة بين تركيا ومصر. وفي ١٤ من أكتوبر عام ١٨٣٦م، أي في الأسابيع الأولى لوجوده في لندن بصفته سفيرًا، أبلغ مصطفى رشيد إسطنبول أن الصحف الفرنسية عاودت مرةً أخرى الكتابة حول نية محمد علي إعلان منصب والي مصر منصبًا وراثيًّا، كما أفادت هذه الصحف، علاوةً على ذلك، أن محمد علي أعلن رسميًّا في حضور قناصل أوروبا في القاهرة ولدَه إبراهيم خليفة له على سوريا، وحفيده عباس باشا خليفة له على مصر (٤٦، العدد ١٤، ص٦٥–٨٨).
كان لهذه الأنباء وقعٌ شديد على مصطفى رشيد، الذي سارع فور وصوله إلى لندن في أكتوبر ١٨٣٦م بالتوجه لمقابلة بالمرستون، حتى يستوضح منه مدى صحة هذه الشائعات ويتعرف على الموقف الذي سوف تتخذه إنجلترا حياله. آنذاك كانت الحكومة الفرنسية قد استدعت سفيرها في إسطنبول، الأدميرال روسين، إلى باريس. وفسَّر مصطفى رشيد هذا الاستدعاء بأن له علاقة بما يجري من أحداث في مصر. هدَّأ بالمرستون من روع السفير التركي بخصوص عزم فرنسا، بعد أن أخبره أن المسألة الجزائرية تُعد استثناءً، وأن فرنسا فيما يتعلق بالقضايا الأخرى سوف تقف إلى جانب الإمبراطورية العثمانية. وفي الوقت نفسه حاول بالمرستون أن يستوضح موقف السفير التركي والحكومة السلطانية في سياسات كل من فرنسا وروسيا. اكتفى مصطفى رشيد بالتعبير عن موافقته على رأي بالمرستون بشأن علاقة فرنسا بالسلطان، وأضاف متوخيًا إلقاء الضوء على هدفه الرئيسي، وهو تلقِّي مساعدة إنجلترا، أن الهدف الرئيسي للإمبراطورية العثمانية هو صداقة إنجلترا. وأكد بالمرستون في رده أن إنجلترا على استعداد دائمًا لإظهار تعاطفها مع كل مشكلات الباب العالي. اعتبر مصطفى رشيد أن من الضروري جذب انتباه محدثه إلى أن رغبة السلطان تتلخص في إخراج المصريين من سوريا وفي الالتزام الكامل لمحمد علي بواجباته كتابع للسلطان، وأشار السفير التركي إلى أن محمد علي يتحدث منذ الآن عن خلفائه؛ ولهذا فإن مثل هذه الظروف سوف تدفع بالباب العالي لإعلان الحرب عليه بدلًا من الدخول في مفاوضات معه.
أجاب بالمرستون بلهجةٍ ودية، مؤكدًا أن إبعاد محمد علي عن سوريا لا يتم بإلقاء المواعظ، وفي الوقت نفسه فإن محمد علي يمتلك هناك قوات جديرة بالاعتبار، ولذلك فإنه يقترح عدم إثارة هذا الموضوع ما بقي محمد علي على قيد الحياة، فهو عجوز يشكو من المرض ولن يعيش طويلًا، فإذا وعد السلطان بذلك، أضاف بالمرستون، فإن إنجلترا من جانبها سوف تُخبر محمد علي أنه لا يملك الحق في استبقاء قواته في سوريا وإظهاره للعصيان، وسوف يسمح هذا للباب العالي بأن ينتبه لمشكلاته الداخلية ويعمل على رفع مستوى الحياة ورفاهية السكان. وأشار بالمرستون أن إنجلترا كانت تنظر دائمًا إلى محمد علي باعتباره مجرد والٍ لا أكثر وأنه واحد من رعايا السلطان، وهو ما نبهته إليه إنجلترا مرارًا، وأن ما يدعيه من انتقال السلطة إليه بالوراثة يبدو — في رأي بالمرستون — أمرًا غريبًا.
ومع هذا فلم يتجاهل وزير خارجية بريطانيا علاقة روسيا بتركيا السلطانية ووجه إليها انتقادًا حادًّا.
وقد رد السفير التركي على بالمرستون — متجاهلًا اقتراحه بشأن الحفاظ على السلام، وإبقاء الوضع بين السلطان ومحمد علي على ما هو عليه — معلنًا أن مشكلة سوريا تتطلب مباحثاتٍ دقيقة مستقبلًا. وقد أعرب وزير خارجية إنجلترا عن موافقته على هذا الرأي.
- (١)
لا تُحبذ إنجلترا نية محمد علي في الحصول على سلطةٍ وراثية في مصر، وترى أن من الضروري القضاء على تمرده دون ضجيج (أي بطريقة دبلوماسية وليس باللجوء إلى الحرب)، وتعتزم حل الصراع لصالح السلطان.
- (٢)
ينبغي تقوية الحدود مع روسيا مع عدم الاستناد إلى معاهدة أونكيار إيسكيليسي ودون إعطاء روسيا حجة للتدخل في الصراع التركي المصري.
- (٣)
لن تسمح فرنسا — على الرغم من أنها تؤيد الوالي المصري — بتصاعد حدة الصراع؛ إذ إن إنجلترا تُظهر اهتمامًا بما يقوم به محمد علي من أعمال، وهو اهتمام يتناقض ومصالح فرنسا، كما أن الاهتمام الذي تُظهره فرنسا من حين إلى آخر تجاه روسيا لم يعد متينًا كما كان، فضلًا عن أنه لا يلقى تأييدًا من الفرنسيين.
غير أن التأييد الواضح من جانب روسيا لكارل العاشر المخلوع يبدو أنه قد ضعف الآن، ولعل روسيا الآن تميل أكثر لسياسة الملك لويس فيليب. وإن كان الأمر لم يصل إلى حد تبادل الثقة بين الدولتين، بحيث يعرض السفير الفرنسي آراءه على السفير الروسي، وبخاصة أن نيات فرنسا تجاه مصر تتعارض والمصالح الروسية (٤٦، العدد ١٤، ص٦٥–٧٠).
على هذا النحو نجد أن مصطفى رشيد في أول تقرير له من لندن حول وضع الصراع التركي المصري وموقف الدول الأوروبية منه، يقترح عددًا من النقاط للقضاء على النزاع التركي المصري، وتتلخص في:
-
(١)
التوجه إلى إنجلترا؛ إذ إنها تعتزم مساعدة السلطان في تحقيق أهدافه.
-
(٢)
عدم طلب أي مساعدة من روسيا بموجب معاهدة أونكيار إيسكيليسي.
-
(٣)
عدم التخوف من فرنسا؛ حيث إنها — كما يبدو — لا ترغب في تأييد محمد علي، وهي لن تفعل هذا تضامنًا مع إنجلترا، التي تتعارض مصالحها مع مصالح روسيا.
ويرى السفير التركي أن محاولات التقارب الروسي الفرنسي لا تقوم على أساسٍ متين.
تتيح لنا التقارير الدبلوماسية التي بعث بها مصطفى رشيد من لندن عامَي ١٨٣٦م و١٨٣٧م التعرف على نقطة البدء في التقارب الإنجليزي التركي. ونظرًا لأنه، حتى الآن، ما تزال المؤلفات تتناول قضية ما إذا كانت إنجلترا متورطةً في إشعال فتيل الصدام العسكري الثاني بين السلطان ومحمد علي (انظر ٦٣، ص٧٥)، فإن هذه التقارير تُمثل وثائق تركية ذات أهمية بالغة، وترجع هذه الأهمية لأنها تُلقي بالضوء على مراحل تكوِّن الموقف الدبلوماسي للباب العالي عامَي ١٨٣٦م و١٨٣٧م، أي في تلك الفترة التي حوَّلت فيها الدبلوماسية السلطانية توجهاتها الدولية بشكلٍ واضح، وراهنت خلالها على التحالف مع إنجلترا.
وفي أكتوبر عام ١٨٣٦م، وبعد أن فشلت محاولة محمد علي فرض سلطاته بسبب رفض الدول الأوروبية، بدأت من جديد المفاوضات المباشرة بين ممثلي الدولتين المتنازعتين. واستمرت هذه المفاوضات بدءًا من الربع الأخير لعام ١٨٣٦م وحتى النصف الأول من عام ١٨٣٧م.
ويُمكن أن نستنتج من تقارير مصطفى رشيد أن فرنسا في مبادرتها (التي لم تلقَ قبولًا من إنجلترا) أخذت على عاتقها مسئولية الوساطة في المفاوضات. ففي يناير عام ١٨٣٧م اقترح السفير الفرنسي في إسطنبول، الأدميرال روسين، على محمد علي أن يحصل من السلطان على اعتراف بأحقيته في حكم مصر بالوراثة وبحقه في حكم سوريا مدى حياته (٤٦، العدد ١٥، ص١٣٧-١٣٨). وفي يونيو عام ١٨٣٧م استجاب السلطان لهذا الطلب، على أنه وعد بإعطاء محمد علي السلطة في حكم جزء من سوريا حتى عكا مدى حياته، على أن تبقى صيدا تحت حكم السلطان (٤٦، العدد ١٦، ص٥٨-٥٩)، وفي مصادر أخرى نعرف أن محمد علي رفض رفضًا قاطعًا التخلي عن فكرة وراثة أسرته للحكم في سوريا، وهكذا وصلت المفاوضات التي أدارها ساري أفندي نيابةً عن الباب العالي (٤٦، العدد ١٥، ص١٣٠-١٣١) إلى طريقٍ مسدود (٢٧، ص١٥٢-١٥٣/ ٤٨، المجلد ٤، ص٢٤٣/ ٩٧، ص٩٩/ ١٢٤، ج١، ص٢٩٢–٢٩٤، انظر أيضًا ٤٦، العددين ١٧، ١٨، ص١٨٧).
في تلك الفترة، لفت بالمرستون، مرةً أخرى، انتباه مصطفى رشيد إلى أن محمد علي لن يترك سوريا بمحض إرادته، وأشار عليه بألا يُحاول أن يتخذ أي خطوة بالقوة لخطورة الأمر، على الرغم من أنه أكد أن إنجلترا ترغب في تحرير سوريا من نير محمد علي، على أن السفير التركي اعتبر أن الأمر لا يستدعي استخدام القوة، وأنه يكفي أن توجه كل من فرنسا وإنجلترا تهديدات حاسمة لمحمد علي. لكن بالمرستون لم يقتنع بجدوى استخدام مثل هذا الحل السهل. ومع ذلك فقد ألمح إلى أنه في حالة موافقة السلطان على حل هذه المشكلة بالشروط التي اقترحها السفير الفرنسي روسين، فسوف توافق إنجلترا عليها، ولو عُرضت عليها الوساطة فستقبلها.
بدا لمصطفى رشيد أن موافقة السلطان على ترك سوريا خاضعةً لمحمد علي أمر غير واقعي، ولهذا فقد اعتبر أنه قد أصبح من غير الممكن التدخل في المفاوضات الجارية وهو ما أعلنه للوزير الإنجليزي (٤٦، العدد ١٥، ١٣٨).
وهكذا وفي يناير عام ١٨٣٧م عاد بالمرستون إلى موقفه السابق، بل إنه أشار إلى خطورة وقوع الحرب بين السلطان ومحمد علي. وقد نبه مصطفى رشيد بالمرستون إلى أنه في حالة استمرار الباب العالي في محاولاته لعقد اتفاق مع محمد علي وعامله «معاملة حسنة»، فإن هذا الموقف يُمكن أن يطول؛ فالوصول إلى اتفاق ثابت في ظل بقاء سوريا تحت حكم محمد علي أمر مستحيل، كما أنه ليس من المعروف من سيستغل وقوع أي أحداث مفاجئة (٤٦، العدد ١٥، ص١٣٧).
كان السفير التركي يقصد بهذا التصريح حفز الوزير الإنجليزي على اتخاذ موقفٍ أكثر حسمًا نحو تأييد السلطان، موقف من شأنه أن يُغيِّر من الوضع القائم. لقد ألمح مصطفى رشيد مباشرةً ودون مواربة إلى أن وقوع «أحداث مفاجئة» يعني تحديدًا نشوب الحرب بين محمد علي والسلطان، وهو ما يُمكن أن تستغله روسيا لصالحها. كما أبلغ مصطفى رشيد بالمرستون أيضًا أنه في حالة الوصول إلى تسوية الصراع التركي المصري، فإن الإمبراطورية العثمانية سوف تُنسق سياستها مع سياسة إنجلترا وفرنسا، حتى ولو جرى مد العمل بمعاهدة أونكيار إيسكيليسي. كان مصطفى رشيد يرى أن إمكانية مد المعاهدة يتوقف على السعي للحصول على تسويةٍ ملائمة للصراع التركي المصري، وبحيث لا تتعارض هذه التسوية مع مبادئ سياستَي كل من إنجلترا وفرنسا (٤٦، العدد ١٥، ص١٣٧).
كان الوعد الذي بذله السفير التركي بشأن عزم الباب العالي التوجه مستقبلًا ناحية الدول الغربية، بغض النظر عن العلاقات الشكلية بروسيا، يستهدف أيضًا الحصول على تأييدٍ أكثر فعاليةً من جانب إنجلترا.
أعرب مصطفى رشيد عن امتنانه لبالمرستون، وأعلن أنه سيبلغ حكومته على الفور بمضمون هذه المباحثات، وعقَّب قائلًا: «لا شك أن جلالة السلطان سوف يُسر لهذه الأخبار» (٤٦، العددان: ١٧، ١٨، ص١٨٠-١٨١).
وهكذا، وبعد تسعة أشهر من وصول مصطفى رشيد إلى لندن تغيرت وبصورة جادة علاقة بالمرستون من قضية تحرير سوريا ومن حكم محمد علي. وإذا به يتحدث في أغسطس عام ١٨٣٧م لا عن مخاطر نشوب الحرب بين السلطان ومحمد علي، كما حدث في أكتوبر ١٨٣٦م، وإنما عن التحرير الوشيك لسوريا. كانت هذه الكلمات موجهة في حقيقة الأمر إلى الوالي المتمرد، ولكن بالمرستون رأى أن من الضروري أن يبلغ بها السفير التركي لعلمه بأن السلطان كان متعطشًا للحرب.
وخلال المباحثات التي تمت بعد ذلك ببضعة أيام، لفت بالمرستون انتباه وزير خارجية الإمبراطورية العثمانية إلى أن محمد علي يستخدم الفرنسيين بأعداد كبيرة في الجيش والأسطول. فعلى سبيل المثال، فإن قائد ترسانة طولون يقوم للسنة السادسة بمتابعة تطور شئون البحرية في مصر، وأن فرنسا لم تكتفِ بإعطائه راتبًا مساويًا لما كان يتقاضاه من قبل، وإنما أنعمت عليه بوسامٍ لقاء ما قدمه من خدمات للوالي المصري، كما أن الضباط الفرنسيين يعملون على متن سفن محمد علي وفي المدارس والمطابع التي افتُتحت في مصر وفي إدارات الجيش.
لقد بلغ تعاطف فرنسا مع محمد علي ورعايتها له إلى حد أن قنصلها في مصر لم يعرب من جانبه، بناءً على تعليمات من حكومته، عن أي اعتراضات على نظام الاحتكار الذي كان محمد علي يُطبقه، على الرغم من مخالفته للاتفاقات الدولية، حتى إن الرعايا والتجار الفرنسيين كانوا يضحون أحيانًا بمصالحهم إرضاءً لمحمد علي.
وقد ذكر بالمرستون فيما بعد أنه في الوقت الذي كان فيه محمد علي مجرد والٍ وخادم للسلطان، فقد كان يسعى لتقوية مصر بدعم من الفرنسيين، وكانت الإمبراطورية العثمانية، للأسف الشديد، تُمانع في دعم قواها الذاتية، قاصرةً اهتمامها على سماع وشايات بعض أعدائها. ولو أن السلطان قام بالارتفاع بمستوى الجيش والبحرية جنبًا إلى جنب مع الإصلاحات التي حقَّقت نجاحًا حتى الآن، واستنادًا إلى موقع الإمبراطورية العثمانية وكفاءات السكان فيها، لنجح في تنظيم شئونها المالية ولاستطاع بالمرستون أن يقسم أنه بالإمكان بعد فترة قصيرة القضاء على محمد علي، ولأصبح للإمبراطورية العثمانية، فضلًا عن ذلك، شأن عظيم يُضارع الدول الأخرى.
رفض مصطفى رشيد تأكيد بالمرستون على وجود تدخل أجنبي (يعني الدبلوماسية الروسية)، ولكنه أعرب عن رضائه عن الثقة التي يوليها له محدثه، وقال إن السلطان ينظر بعين الاهتمام دائمًا للإصلاحات التي من شأنها أن تعود على البلاد بالفائدة، وإن كان الأمر يتطلب إنجازها بالتدريج، وهو ما وافقه عليه بالمرستون (٤٦، العددان: ١٧، ١٨، ص١٨٣–١٨٥).
إن هذا التقرير الأخير (المؤرخ ١٠ أغسطس ١٨٣٧م)، والذي كتبه مصطفى رشيد عشية رحيله إلى الوطن قادمًا من لندن، يتضمن الحديث عن أوضاع كثيرة جديدة، كما يتعرض أيضًا لموقف إنجلترا من الصراع التركي المصري.
لقد تغير موقف إنجلترا من قضية إشعال الحرب بين السلطان ومحمد علي. لم يعد بالمرستون يُطالب الباب العالي بعدم الدخول في حرب ضد محمد علي، ولم يعد يُذكره بخطورتها على تركيا السلطانية، وإنما راح على العكس من موقفه السابق، يدعوه لرفع قوته العسكرية ودعم أوضاعه الداخلية، وأعرب له عن ثقته في إحراز النصر على الوالي المتمرد بعد أن يُعد لكل شيء عدته اللازمة. ومن الملاحظ أيضًا أن تقديرات بالمرستون لسياسة فرنسا في مصر قد تغيرت هي الأخرى. لقد أدان بالمرستون هذه السياسة صراحة، وأوضح لمصطفى رشيد أنه يعتبر ما تقوم به فرنسا من أعمال موجهة ضد مصالح السلطان. كما تحدث بالمرستون عن محمد علي حديثًا يُشبه التهديد، وذلك بعد أن شعر بالقلق من جراء مخططات محمد علي بغزو اليمن وخروجه إلى المحيط الهندي.
واستنادًا إلى التقارير الدبلوماسية التي أرسلها مصطفى رشيد من لندن في الفترة من أكتوبر ١٨٣٦ وحتى أغسطس ١٨٣٧م (٤٦، الأعداد: ١٤–١٨)، يُمكن أن نصل إلى استنتاجٍ مفاده أن الباب العالي كان يتبع سياسةً مزدوجة تجاه روسيا، فعلى الرغم من عدم ثقته الكاملة تجاهها، وهو ما انعكس بشكلٍ واضح في تقارير مصطفى رشيد، حاول الباب العالي ألا يتسبب أي شيء في إفساد علاقته الطيبة معها. ومن بين الأمثلة الدالة على ذلك أن الباب العالي فضَّل تبرم إنجلترا على فقدان رضا روسيا، فقد رفض الباب العالي، لهذا السبب، دعوة الخبراء العسكريين الإنجليز إلى الإمبراطورية العثمانية خشية اعتراض روسيا على هذه الخطوة (٤٦، العدد ١٥، ص١٣٣–١٣٦، قارن ما جاء في المرجع ١٢٤، ج١، ص٢٦٦، ٢٧٠–٢٧٣).
ويدلنا الحرص البالغ، وعدم التدخل التام من جانب الإمبراطورية العثمانية في الصراع الإنجليزي الروسي، والذي انفجر على إثر استيلاء الروس على السفينة الشراعية الإنجليزية «ويكسن» في نهاية عام ١٨٣٦م، على أن الباب العالي نجح في الحفاظ على موقفٍ حيادي صارم، فضلًا عن نجاحه في إخفاء تعاطفه مع الإنجليز في هذه الحادثة عن الروس (انظر ٤٦، العدد ١٦، ص٤٩–٥٣، العددين: ١٧، ١٨، ص١٧٦–١٧٨).
لقد أظهر الباب العالي هذا الحذر، عندما أعلن بالمرستون عن اهتمامه بتأييد الإمبراطورية العثمانية لبلجيكا المستقلة ولملكة إسبانيا، التي كانت قد دخلت في صراع ضد أنصار الملك كارل. فقد حاول مصطفى رشيد أن يجد حجةً يؤجل بمقتضاها اتخاذ الحلول الملائمة للباب العالي، وخاصةً وهو يعلم أن روسيا لا تقف في صف ملكة إسبانيا، كما أنها لا تؤيد العلاقات السياسية مع بلجيكا (٤٦، العددان: ١٧، ١٨، ص١٨١–١٨٣). على أي حال، فقد عقد مصطفى رشيد معاهدةً تجارية ودية مع بلجيكا بعد مرور عام، وفي الوقت نفسه اعترف الباب العالي بملكة إسبانيا، وهو أمر لم يجد ترحيبًا في بطرسبورج (انظر ١٢٤، ج١، ص٣٠٦).
وعلى الرغم من أن الباب العالي كان يوافق في أحيان كثيرة على رغبات روسيا باعتبارها حليفةً له ويستمع إلى مشورتها، إذا لم تتعارض هذه المشورة مع مصالحه، فإن هذا لم يمنع الباب العالي من أن يتحرى تحقيق أهدافه السياسية في القضايا الأكثر أهميةً والتي تمس مصالح الدولة العليا، وقد تُوِّجت سياسة تركيا السلطانية بالنجاح؛ لقد استطاعت هذه السياسة، ودون أن تفسد العلاقات الودية مع روسيا مستغلةً إياها لصالحها، أن تحصل في الوقت نفسه على مساعدة إنجلترا في حل الصراع التركي المصري، وهو ما لم تكن تريده روسيا، التي لم تكن ترغب في أن يكون لإنجلترا دور رئيسي في التدخل في شئون الإمبراطورية العثمانية.