الفصل الرابع

التقارب مع إنجلترا

وتوقيع اتفاقية التجارة الإنجليزية التركية عام ١٨٣٨م

تحتوي المراجع الأوروبية على معلومات تُفيد أن الحكومة التركية تقدمت في عام ١٨٣٦م (١٨٢، ص٦٧)، أو في عام ١٨٣٧م (١٥١، ص١٦٧)، إلى إنجلترا باقتراح عقد تحالف عسكري ضد محمد علي. ويُشير ف. أ. بايلي إلى أن الباب العالي اقترح هذا التحالف وهو يعي الضعف الذي آلت إليه العلاقات بين روسيا والنمسا وبروسيا، كما كان على علم بالخلافات التي دبَّت بين إنجلترا وفرنسا في تلك الفترة (١٥١، ص١٦٧). والواقع أن الدبلوماسية العثمانية كانت ترقب باهتمامٍ فتور العلاقات بين إنجلترا وفرنسا عامَي ١٨٣٦م و١٨٣٧م (٤٦، ١٧-١٨، ص١٨٤/ ٤٨، ص٨٥–٨٧، انظر أيضًا ١٨٢، ص٦٦). وعن أسباب سخط إنجلترا انظر ٥، ص٥٦٠/ ٧١، ص٣٥٩–٣٦١، ٣٨٠-٣٨١. وقد كان لدى إنجلترا أيضًا مخططاتها لعقد تحالف مع النمسا، ومن الممكن دراسة ظهور هذه المخططات والمحاولات التي تمت من أجل تحقيقها استنادًا إلى الوثائق العثمانية لتلك الفترة. لقد كان الباب العالي يضع في حسبانه آنذاك تفاقم التناقضات الروسية الإنجليزية بسبب استيلاء الروس على السفينة الشراعية الإنجليزية «ويكسن» (١٣٢، ص٤٠٠–٤٠٢، ٤١١–٤١٣، ٨٩، ص١١٤–١١٦، ٤٦، العدد ١٦، ص٥٣).

وبعد عودة مصطفى رشيد إلى الوطن في سبتمبر عام ١٨٣٧م وتعيينه وزيرًا لخارجية الإمبراطورية العثمانية، قام بتسليم السلطان محمود الثاني مذكرة (انظر ٤٨، ص٨٤–٩٣)،١ أورد فيها، استنادًا إلى ما تجمع لديه من ملاحظات شخصية إبان نشاطه الدبلوماسي في باريس ولندن، في الفترة من ١٨٣٤م وحتى ١٨٣٧م، الحلول الممكنة للقضاء على مشكلتين من أهم مشكلات العلاقات الخارجية للدولة: الصراع التركي المصري، وعودة الجزائر إلى الإمبراطورية العثمانية. وتدل المذكرة على أن هاتين المشكلتين كانتا من أكثر المشكلات التي أرَّقت حكومة السلطان في عام ١٨٣٧م. وتحتوي المذكرة على مقترحات الوزير حول أهم الاتجاهات في السياستين الخارجية والداخلية للإمبراطورية العثمانية. وقد قدم مصطفى رشيد رؤيته للوضع الدولي وللسياسات الخارجية لكل من إنجلترا وروسيا وفرنسا والنمسا وبروسيا، وعلاقة هؤلاء بالصراع التركي المصري وبالاحتلال الفرنسي للجزائر. وتورد الوثيقة كذلك استشهادات جاءت على لسان رجال دولة مثل بالمرستون ومترنيخ والأمير إسترجازي، سفير النمسا لدى إنجلترا، والسيد ديزاج، رئيس إدارة البروتوكول في وزارة الخارجية الفرنسية، كما تورد آراء مصطفى رشيد الشخصية.

لقد لفت مصطفى رشيد انتباه السلطان إلى وجود جماعتين سياسيتين متنافستين داخل أوروبا؛ وهما فرنسا وإنجلترا من جانب، وروسيا والنمسا وبروسيا من جانبٍ آخر.

إن التقرير — الوثيقة — مليء بالحقائق التي تؤكد على التنافس الواضح بين الدول الأوروبية، وخاصةً بين إنجلترا وروسيا، على الإمبراطورية العثمانية. ويُشير مصطفى رشيد إلى كلمات بالمرستون، التي نستدل منها على أن أكثر ما كان يؤرق إنجلترا آنذاك هو وجود معاهدة أونكيار إيسكيليسي الموقعة عام ١٨٣٣م. وكان السفير التركي يُعرب دائمًا عن ثقته في أن إنجلترا سوف تؤيد السلطان عسكريًّا ضد محمد علي، وكثيرًا ما لفت انتباه السلطان إلى أن هذا التأييد يُلبي مصالح السياسة الخارجية الخاصة لإنجلترا، وهي المصالح التي كانت تصطدم مع مصالح روسيا في الشرق (٤٨، ص٩٠)،٢ كما أن مصطفى رشيد كان دائم التأكيد على أن روسيا تدعم محمد علي، وهو دعم يُمكن أن يؤدي إلى انفصال مصر عن الإمبراطورية العثمانية ووقوعها تحت سلطة روسيا، كما كان يرى أن إمكانية وقوع هذا الأمر هو واحد من أسباب الكراهية الشديدة التي تكنها إنجلترا لروسيا؛ إذ كانت الأولى ترى أنه في حالة استيلاء روسيا على مصر، فربما يُصبح بإمكانها عندئذٍ غزو إيران والهند.٣ وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعرب مصطفى رشيد بشيء من الارتياح أن محمد علي لا يولي ثقته لإنجلترا وروسيا وإنما يوليها لفرنسا (٤٨، ص٨٩).

كان مصطفى رشيد يشك في متانة التحالف بين فرنسا وإنجلترا، وهو ما حاول بالمرستون إقناعه به، وأكد رشيد أن الاستخفاف الذي شاب بعض عبارات بالمرستون عن فرنسا، وكذلك المعلومات التي استقاها من أعضاء البرلمان الفرنسي حول وجود بعض المؤيدين لروسيا داخله، تدل على إمكانية حدوث تقارب بين فرنسا وروسيا، وقد أكد هذا الاستقراء للأمور، في رأي مصطفى رشيد، الآراء الهجومية التي صرَّح بها الوزراء الإنجليز بشأن فرنسا ونظرائهم الفرنسيين بشأن إنجلترا. في الوقت نفسه صرَّح الوزير التركي أن ملك فرنسا كان يخبره بمَيله ومشاعره الودية تجاه السلطان، كما أعرب له عن أمله ألا تُلقي الخلافات القائمة بينهما بسبب الجزائر، بظلها على العلاقات بين بلديهما.

اهتم التقرير اهتمامًا كبيرًا بالشائعات التي انتشرت في تلك السنوات حول التقارب الملحوظ بين روسيا وفرنسا، ولهذا فقد كتب مصطفى رشيد يقول: «إن العمل الدائم على تحقيق الإجراءات الهامة والسرية بهدف إعاقة التقارب بين فرنسا ورسيا يُمثل إحدى المهام القديمة للسفارة التركية في باريس» (٤٨، ص٨٩). وعلى امتداد التقرير نجد أن مصطفى رشيد جاء على ذكر إمكانية التقارب بين روسيا وفرنسا ست مرات، معتبرًا إياه، إلى جانب الصراع مع مصر، من أخطر الأمور التي تُشكل تهديدًا للإمبراطورية العثمانية.

وفي معرض تحليله لسياسة الدول الأوروبية (إنجلترا، فرنسا، روسيا، النمسا، بروسيا)، قام وزير الخارجية التركي بدراستها في ضوء سياسة دولته. لقد رأى مصطفى رشيد أن من واجبه تعريف السلطان والباب العالي بالوضع العالمي الراهن، فضلًا عن تعريفه بصورةٍ ما بتاريخ العلاقات السياسية الدولية الأوروبية. كما قام أيضًا بوصف كل التدابير والخطط المتوقع اتخاذها من جانب الدول الأوروبية، وذلك حتى يتسنى له تحاشي الوقوع في الخطأ عند اختياره لتوجهه السياسي، وليتمكن من امتلاك القدرة على متابعة التغيرات والتقلبات المنتظرة في المخططات السياسية، ومن ثم إعادة حساباته تجاهها في الوقت المناسب. وقد أكد مصطفى رشيد وجود تحالفين سياسيين في أوروبا (إنجلترا وفرنسا من ناحية، وروسيا والنمسا وبروسيا من ناحيةٍ أخرى)، وأشار إلى الأسباب التي جعلت منهما تحالفات ضعيفة. كان مصطفى رشيد يرى أن من أهم ما يعوق التحالف بين إنجلترا وفرنسا هو التنافس بينهما فيما يتعلق بالسياسة الشرقية، بما فيها مصر، والعلاقة الحميمة التي تربط بين محمد علي وفرنسا. كما نبَّه صاحب التقرير أيضًا لخطورة التقارب بين فرنسا وروسيا من جهة، وبين إنجلترا والنمسا من جهة أخرى، وأشار إلى إمكانية انضمام النمسا وبروسيا وجميع الدول الجرمانية الأخرى إلى التحالف الفرنسي الروسي المزمع.

وبناءً على ما ذكره مصطفى رشيد، فإن الخطوات السرية التي قامت بها النمسا بهدف زيادة قوة روسيا وفرنسا، بالإضافة إلى غياب علاقات سياسية متينة بين بروسيا وروسيا، وتوجه رجال الدولة البروسيين إلى الدول الغربية لا إلى روسيا، كانت جميعها عوامل مهددة للتحالف الروسي النمساوي البروسي.

وفيما يخص النمسا، كتب مصطفى رشيد منبهًا أن التوجه الرئيسي لسياسة الأمير مترنيخ لا يخدم على نحوٍ جاد المصالح الحقيقية لروسيا: «إن موقف الأمير مترنيخ يتلخص فيما يلي: التظاهر بمظهر الصديق الوفي لروسيا، والإفصاح لها عن رغباته الدفينة، في الوقت الذي يقوم فيه بشكل غير ملحوظ بمواءمة تصرفاته بحيث تتوافق وتصرفات الدول المعادية لروسيا، والتي تستهدف في واقع الأمر إعاقة روسيا عن تحقيق آمالها من خلال وساطة هذه الدول» (٤٨، ص٨٦).

بمقتضى العرض الذي قدمه مصطفى رشيد لتصريحات مترنيخ، نجد أن الأخير لم يكشف (ظاهريًّا) أمام السفير التركي عن موقفه العدواني تجاه روسيا، على أن مصطفى رشيد كان على علم بهذا الموقف، كما لاحظ رشيد بحق أنه في حالة وقوع حرب شاملة فإن النمسا لن تكون حليفًا لروسيا، على الرغم من احتمال بقائها مؤيدةً لها.٤ وأشار إلى أن «نمو ثروة وقوة روسيا من شأنه الإضرار بالنمسا وأنه لا يوافق رغبة النمساويين». وقد افترض الوزير التركي، استنادًا إلى تحليله للعلاقات الروسية النمساوية وعلى ملاحظاته الشخصية، وجود تحالفٍ إنجليزي نمساوي سري، جرى عقده كنوع من خلق توازن في مواجهة التقارب المفروض بين روسيا وفرنسا (٤٨، ص٨٧-٨٨، قارن مع المرجع ٩٠، ١٩٦).

استشرف مصطفى رشيد أيضًا إمكانية قيام تحالف بين روسيا وفرنسا، يُمكن أن ينضم إليه بعد ذلك النمسا وبروسيا وجميع الدول الجرمانية، بينما من المحتمل أن تبقى إنجلترا معزولةً عنه. وقد لاحظ مصطفى رشيد أن مثل هذا الموقف يُمكن أن ينعكس على نحوٍ سلبي على الإمبراطورية العثمانية، وعدَّد وزير الخارجية، مُحللًا هذا الاحتمال، العوامل التي يُمكنها، بناءً على جميع الظواهر، أن تعوق قيام التحالف الروسي الفرنسي وهي: التزام الدول الأوروبية تجاه أسرة البوربون الملكية المخلوعة؛ ومن ثم الموقف السلبي لنيكولاي الأول تجاه حكم لويس فيليب في فرنسا، كراهية الفرنسيين لروسيا، العلاقات الطبيعية والحميمة بين الإنجليز والفرنسيين والقائمة على التجارة والتقارب الإقليمي.

يتعرَّض صاحب التقرير (المذكرة) بعد ذلك لموقف الدول الأوروبية من محمد علي، مشيرًا إلى التعاطف الخاص نحوه من قِبل الفرنسيين، ويؤكد مصطفى رشيد، في سياق حديثه عن موقف إنجلترا تجاه هذا الأمر، أن من المتوقع في الوقت الراهن أن تُبدي إنجلترا موافقتها الكاملة على تغيير العلاقات القائمة بين السلطان ووالي مصر؛ إذ إنها قد أُصيبت بالإحباط من جراء السياسة الخارجية لمحمد علي، وأنها باتت تخشى علاقاته مع روسيا (٤٨، ص٨٩).

وفي ختام تقريره يُشير مصطفى رشيد إلى ضرورة القيام بعدد من الإصلاحات الداخلية، نتيجةً للوضع الدولي المتدهور، بهدف رفع هيبة الدولة واستمالة الرأي العام الأوروبي، تمامًا مثلما فعل محمد علي.

نستطيع أن نلحظ في هذا التقرير برنامج الإصلاحات الذي شمل توسيع الإدارة العسكرية، إنشاء المدارس العسكرية، زيادة حجم الجيش وتحديث سلاحه وتحسين نظام الالتزام (فرض الضرائب وتحصيلها من سكان الإمبراطورية)، إنشاء الحجر الصحي، بناء المصانع ودعوة المتخصصين لها من أوروبا، زيادة إنتاج السلع المحلية، بما في ذلك السلع المعدَّة للبيع خارج البلاد مع خفض الاستيراد من أوروبا.

ومن أجل أن يستحث مصطفى رشيد السلطان والباب العالي على تطبيق الإصلاحات، استند في تقريره على الرأي العام الأوروبي، وكتب يقول إن الإصلاحات الجارية الآن في الإمبراطورية العثمانية «تلقى استحسانًا واعترافًا من أوروبا بأسرها» وأن «أوروبا كلها تُعارض» نظام الالتزام المطبق في الإمبراطورية العثمانية. كان مصطفى رشيد يعلم أن محمود الثاني في تلك الفترة تتملكه الرغبة في أن يضع واليه المتمرد موضع الاتهام، ولهذا فإن الرأي العام الأوروبي، الذي كان مصير المشكلة المصرية يتوقف عليه بدرجة معلومة، كان يُمثل أهميةً فائقة بالنسبة للسلطان، كما كان يُمثل مبررًا قويًّا يُمكن استخدامه كأداة للضغط عليه لدفعه لاتخاذ خطوات إصلاحية أكثر إيجابية. وفي معرض حديثه عن ضرورة إقامة نقاط للحجر الصحي في مختلف مناطق الإمبراطورية العثمانية، أكد مصطفى رشيد أن وجود نقاط للحجر الصحي في إقليمين فقط من أقاليم الإمبراطورية العثمانية هما فلاخيا وصربيا أمر لا طائل من ورائه من الناحية السياسية.٥

ويدل التقرير الدبلوماسي إلى أن مصطفى رشيد كان مؤيدًا للتوجه الإنجليزي وخصمًا صريحًا لروسيا.

ولعل قواعد الرسميات السائدة آنذاك في البلاط التركي، والوضع الذي لم يستقر بعد للوزير الجديد، والذي كان على علم بأن هناك مؤيدين أقوياء لروسيا داخل البلاط،٦ أمور لم تسمح لمصطفى رشيد أن يُصرِّح على نحوٍ أكثر تحديدًا لموقفه السابق، علمًا بأن توجهات سياسته الخارجية في هذه الوثيقة واضحة تمام الوضوح بحيث لا يصعب رصدها. كما أنه من الواضح أيضًا أن السلطان محمود الثاني كان ما يزال في تلك الفترة مترددًا بشأن قضية علاقته بروسيا، كما أنه لم يكن واثقًا من أن إنجلترا ستقف إلى جانبه. ويترك هذا التقرير لدينا انطباعًا أن مصطفى رشيد كان يسعى لاستمالة السلطان إلى جانبه؛ حتى يُشاركه اقتناعه وخططه.

لم يكن لدى إنجلترا، كما اتضح في أربعينيات القرن التاسع عشر، أي موانع لضم مصر إلى ممتلكاتها (٨٥، ص٥٦٣)، لكنها كانت تعتزم القيام بذلك مستقبلًا. آنذاك لم تكن إنجلترا تطمح في الاستيلاء على مناطق أخرى من الإمبراطورية العثمانية، وكانت حكومتها تطبق سياسةً معادية لروسيا ولفرنسا في الشرق، معلنةً عن عزمها الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية العثمانية، ربما بقصد التخفيف من وضوح التأثير الإنجليزي في كل مجالات الإمبراطورية، وقد اقترح مصطفى رشيد استغلال هذا الظرف.

كان تأكيد مصطفى رشيد على أن روسيا تؤيد محمد علي مبالغةً واضحة، فبعد صلح أدرنة (عام ١٨٢٩م) رأت روسيا أن من صالحها أن يكون لها جارة ضعيفة وهي تركيا (٣٤، المجلد ٤، ج١، ص٤٣٨، انظر أيضًا ٤١، ص٣٢٧–٣٢٩). ولهذا فقد أظهرت روسيا بعد عام ١٨٣٣م، وعلى امتداد فترة الصراع كله، لامبالاة تجاه التسوية الإقليمية السلمية بين السلطان ومحمد علي (٢٣، ٣٦، ج٢، ص٢٠٦-٢٠٧/ ٦٥، ص٤٤، ٥٥-٥٦/ ١٢٤، ج١، ص٢٥١/ ١٣٢، ص٥١٠). كانت روسيا مهتمةً بأن يبقى الوضع على ما هو عليه، ومن ثم لم تُقدِّم للسلطان أي دعم عسكري لاستعادة سوريا من يدي محمد علي. ويرجع هذا الموقف أيضًا لتخوف روسيا من تدهور موقفها مع إنجلترا وفرنسا اللتين دأبتا على التصريح بأنهما لن تسمحا لروسيا بأي تدخل عسكري جديد في الصراع التركي المصري.

ومن الحقائق المثيرة للانتباه أن مصطفى رشيد لا يُعبِّر في تقاريره أو مذكراته عن عدم ترحيبه بسياسة فرنسا تجاه محمد علي في تقديم الدعم، وهذا الموقف يُمكن تفسيره بأن تحالف محمد علي مع دول أكثر قوة من فرنسا آنذاك، كان يُمكن أن يُشكل خطورةً أكبر على وحدة الإمبراطورية العثمانية، وهو ما يُمكن أن نفسره كذلك بطموحات إنجلترا في تقوية الخلافات بين فرنسا وروسيا بسبب معاهدة أونكيار إيسكيليسي، مع السعي لدعم علاقاتها مع فرنسا في مواجهة السياسة الروسية في الشرق. فالحكومة الفرنسية لم تستطع، بدافع الخوف من «الخطر الروسي»، أن تستمر في زيادة حدة توتر علاقاتها مع إنجلترا (٦٣، ص٧٤)، وقد عملت إنجلترا على تهويل، عن وعي، من حجم هذا «الخطر الروسي» سواء في عيون فرنسا أو لدى الباب العالي (انظر ١٣٢، ص٣٣٩، ١٨٢، ص٥٦). ومن الحقائق المثيرة للانتباه، استنادًا إلى الوثائق التركية، أن رجال الدولة في إنجلترا لم يتحدثوا إطلاقًا مع ممثلي الباب العالي إلا عن موقف إنجلترا من المسألة الشرقية وإن كانوا قد تحدثوا عن تضامن فرنسا معها.٧ وكانوا بذلك يوحون إلى الباب العالي أن تأييد فرنسا لمحمد علي لا يُمثل أي خطورة على تركيا؛ إذ إن الخلاف بين فرنسا وروسيا خلاف كبير للغاية بحيث لن يسمح لفرنسا أن تضعف الإمبراطورية العثمانية. وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت فرنسا بالنسبة للباب العالي حليفًا أكثر منها خصمًا. ومن البديهي أن إنجلترا لم تكن ترى أن سياسة فرنسا في مصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر تُشكل خطورةً كبيرة على وحدة الإمبراطورية العثمانية طالما ظلت فرنسا خصمًا لروسيا.

ومن واقع الحال نرى أن الباب العالي، في فترة الصراع التركي المصري، كان يُفضل أن يُساهم في دعم العلاقات الفرنسية الإنجليزية على حساب العلاقات الفرنسية الروسية. وهذا الاستنتاج يقودنا إليه مضمون مذكرة مصطفى رشيد وتعليماته التي أرسلها إلى السفير التركي في فرنسا في سبتمبر عام ١٨٤١م، مكلفًا إياه بضرورة المساهمة في دعم روابط الصداقة بين إنجلترا وفرنسا؛ إذ إن قيام مثل هذه الصداقة أمر يعود بالفائدة على الإمبراطورية العثمانية (٤٨، ص٣٩٢-٣٩٣).

لقد أولى مصطفى رشيد اهتمامًا كبيرًا لاحتمال قيام تحالف بين فرنسا وروسيا، فمثل هذا التحالف، لو تم، لكان من الممكن أن يحمل في طياته خطرًا كبيرًا على الإمبراطورية العثمانية. ويعود السبب في عدم قيام هذا التحالف للتحذير الشخصي الذي وجَّهه نيكولاي الأول للملك لويس فيليب، ملك فرنسا، (ملك المتاريس)، وكذلك بسبب المخاوف التي أثارتها الثورة الفرنسية (انظر ١٣٢، ص٤٧٥). على أن المخاوف التي راودت مصطفى رشيد بشأن احتمال قيام تقاربٍ بين روسيا وفرنسا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر كان لها ما يُبررها. «إن هذا العمل المشترك والمستحيل في الوقت الراهن قد أثار الفزع والرعب لديهما (إنجلترا وفرنسا، المؤلف) فيما يُمكن أن يُسفر عنه في المستقبل، فالنتيجة التي لا مناص عنها، لو أنه تم، كما يرى اللورد بالمرستون، هي انقسام الإمبراطورية العثمانية إلى دولتين منفصلتين، إحداهما مصر وسوريا والجزيرة العربية، وهذه ربما تخضع لفرنسا، والأخرى، أي تركيا الأوروبية وآسيا الصغرى، فسوف تدور في فلك روسيا» (١٣٢، ٤٧٥). وسوف نرى فيما بعد أن مصطفى رشيد سيُضمن أحد تقاريره من باريس عام ١٨٣٩م ملحوظةً مفادها أن عددًا من بين نواب الجمعية الوطنية في فرنسا قد تناقشوا طويلًا حول المسألة الشرقية، وأن مؤيدي روسيا ذكروا أن غزو الإمبراطورية العثمانية من جانب روسيا أمر يتعارض ومصالح إنجلترا فقط لا مصالح فرنسا، وأنه في حالة قيام تحالف بين روسيا وفرنسا، فإن ذلك سوف يؤدي إلى اتساع حدود فرنسا لتصل إلى نهر الراين، وإلى الحدود مع بلجيكا (٤٨، ص١٥٨).

وقد أشارت الباحثة السوفييتية ي. ن. كوشيفا إلى التقارب الفرنسي الروسي الذي حدث في أربعينيات القرن التاسع عشر بقولها: «على الرغم من الفارق الكبير بين بنية الدولة في فرنسا بعد الثورة وروسيا القيصرية، فقد لوحظ في الكتابات الاجتماعية الفرنسية في الأربعينيات وجود تيار يُثبت ضرورة قيام تحالف بين روسيا وفرنسا ضد إنجلترا» (٩٥، ص١٣٩). وقد احتوت بعض المؤلفات الفرنسية التي ظهرت في تلك الفترة على مبرراتٍ تقف في صف قيام هذا التحالف، وهي تتفق والمبررات التي أوردها مصطفى رشيد في تقريره.

إن نفس هذه التيارات الموجهة ضد إنجلترا، لوحظت أيضًا في الفكر الاجتماعي الروسي في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، الأمر الذي انعكس في المراجع الروسية (٩٥، ص١٣٩–١٤١). فعلى سبيل المثال نجد أن بوتسو دي بورجو، سفير روسيا لدى فرنسا في الفترة من ١٨١٥م وحتى ١٨٣٤م، يؤيد قيام تحالفٍ روسي فرنسي. وقد ظل يعمل بحماس على دعم التفاهم المشترك بين فرنسا وروسيا في القضايا الشرقية حتى انتهاء خدمته في باريس (انظر ٣٤، المجلد ١٥، ص١٥٨-١٥٩/ ١٧٨، ص٦١–٦٦).

وعلى الرغم من أن مصطفى رشيد لم يكن يولي ثقته روسيا القيصرية، فإنه سعى مع ذلك لتقديم بعض التنازلات لها كما سعى ألا يُفسد علاقاته معها.

كان تقدير مصطفى رشيد باشا للعلاقات النمساوية الروسية ينم عن درايةٍ واسعة بها. كانت النمسا في تلك الفترة لا تثق بالفعل في السياسة الشرقية التي تنتهجها روسيا، على الرغم من أن مخاوف مترنيخ بدت هادئةً بفضل اتفاقية ميونخ (١٨ سبتمبر عام ١٨٣٣م) والوعود التي بذلها نيكولاي الأول في مؤتمر ميونخ، وخلاصتها أنه في حال تفاقم الأوضاع في الإمبراطورية العثمانية، مما يتطلب معه تدخل روسيا وفقًا لشروط معاهدة أونكيار إيسكيليسي، فإن أي إجراء لن يُتخذ إلا بوساطة النمسا أدبيًّا.

ومن الحقائق اللافتة للنظر هنا أن القائم بالأعمال الروسي في فيينا عام ١٨٤٠م، أ. م. جورتشاكوف قيَّم متانة التحالف النمساوي الروسي بنفس الكلمات تقريبًا التي استخدمها مصطفى رشيد عام ١٨٣٧م. كتب جورتشاكوف يقول إنه يشك في متانة التحالف مع النمسا، وأنه في حالة وقوع الحرب فإن «كل ما نتوقعه منها (النمسا، المؤلف) هو الحفاظ على حيادها» (الاستشهاد من المرجع ١٣٢، ص٤٠٤).

وكما هو واضح، فقد أكد مصطفى رشيد على وجود تناقضات بين النمسا وروسيا تهدف إلى دفع السلطان نحو اتخاذ موقفٍ معادٍ للتحالف مع روسيا وإثبات أن مواقف روسيا ليست إلى هذا الحد من القوة، حيث إنها لا تعتبر أن النمسا حليف مخلص لها.

ويقترح مصطفى رشيد في مذكراته القيام بعدد من الإصلاحات، ولكنه لا يُسمي مجمل الإصلاحات التي أشار إليها. بطبيعة الحال فإن من الضروري التعرض بالشرح لطابع هذه المذكرة (التقرير) والتي تتناول أساسًا مشكلات السياسة الدولية. إن ورود ذكر الإصلاحات الداخلية في هذه الوثيقة يُمكن تفسيره، في المقام الأول، إلى أن الوزير الجديد أراد أن يؤكد على مغزى هذه الإصلاحات بهدف رفع هيبة الدولة في المجال الدولي.

وهكذا نجد أن تقرير وزير الخارجية يحتوي على عرضٍ شامل لقضايا السياسة الخارجية للإمبراطورية العثمانية، التي كان قد طرحها من قبلُ في تقاريره الدبلوماسية من موقعه كسفيرٍ لبلاده. إن محتوى التقرير يقودنا إلى الاستنتاجات التالية:
  • (١)

    ضرورة التوجه نحو إنجلترا لحل الصراع التركي المصري؛ لأنها مهتمة بتأييد السلطان وتقديم العون له.

  • (٢)

    يرى مصطفى رشيد عدم الاعتماد على روسيا لأنها تؤيد محمد علي، كما أنه لا يرى أي خطورة من جانب روسيا أو من غضبتها التي يُمكن أن تأتي نتيجةً لتغيير الباب العالي سياسته، فروسيا لا تملك حلفاء مخلصين يؤازرونها في سياستها الشرقية.

  • (٣)

    بذل الجهود لمنع التقارب بين فرنسا وروسيا؛ إذ إن قيام تحالف بينهما يُمكن أن يمثل خطرًا حقيقيًّا على الإمبراطورية العثمانية، فإذا ما حافظت فرنسا على تحالفها مع إنجلترا ولم تدخل حليفًا لروسيا فإن الدعم الذي تقدمه فرنسا إلى محمد علي لن يُشكل أي تهديدٍ لوحدة الإمبراطورية العثمانية.

وعلى الرغم من أن التحالف الإنجليزي الروسي الذي دافع عنه مصطفى رشيد مفيد لكلا الجانبين، فإن تحقيقه لم يكن أمرًا هينًا. وقد حالت عوامل السياسة الخارجية والداخلية دون قيامه.

ولعل النتائج المباشرة لهذا التحالف على إنجلترا كانت ستتمثل فيما يلي: زيادة تأثير إنجلترا على تركيا، فقدان روسيا لإمكانية تقدم قواتها نحو الأراضي التركية (وهو ما كانت تخشاه دول أوروبا الغربية)، فبعدما تراجعت الحاجة لدعوتها من قبل السلطان، ضعف التأثير الروسي على الإمبراطورية، وكذلك قيام تحالف عسكري مع إنجلترا من شأنه أن يؤدي إلى خضوع محمد علي للسلطان ومن ثم عودة سوريا ومصر إلى حكم السلطان.

وفي الوقت نفسه فإن الاتفاق الثنائي بين إنجلترا وتركيا لم يكن ليوقف سريان اتفاقية أونكيار إيسكيليسي، وبالتالي يظل التهديد بالتدخل العسكري من جانب روسيا قائمًا في حالة تجدد الصراع العسكري بين السلطان ومحمد علي، ثم إن تدخل إنجلترا من جانبٍ واحد كان من الممكن أن يُفسد «الاتفاق الودي» بين إنجلترا وفرنسا، أو قد يخلق حالةً من الاستياء لدى دول أوروبا الغربية الأخرى.

نتيجةً لذلك فإن المعاهدة الإنجليزية التركية المزمعة لن تؤدي إلى تحقيق الهدف الرئيسي لبالمرستون وهو التقييد المحكم للمبادرة الروسية، بل ربما أدى الأمر إلى نتائج غير مرغوب فيها بالنسبة لعلاقات إنجلترا الخارجية.

بطبيعة الحال فقد كان السلطان والباب العالي يدركان مدى صعوبة عقد اتفاقٍ عسكري ثنائي مع إنجلترا ضد محمد علي. ولهذا فقد كان لمؤيدي التوجه الروسي داخل تركيا نفسها، على امتداد فترة الصراع، مكانة راسخة (١٧٨، ص١٢١).

في هذه الظروف اضطرت الحاجة كلًّا من إنجلترا والباب العالي لأن يعملا تدريجيًّا، فإنجلترا، بهدف إبعاد الباب العالي عن الدخول في تحالف مع روسيا، أعلنت أنه باستطاعتها مد يد العون إلى الإمبراطورية العثمانية، ورأت أن أفضل مبرر لها للتدخل في خضم التناقضات في الشرق هو نشوب الحرب بين السلطان ومحمد علي، على أنها راحت تتخذ كافة الإجراءات بحيث لا تصبح معاهدة أونكيار إيسكيليسي سارية المفعول عند وقوع الحرب. وكما ذكرنا آنفًا، فقد تم تحذير الباب العالي أنه في حالة استدعاء السلطان للقوات الروسية، فإن دول أوروبا الغربية سوف تتحد في جبهةٍ واحدة ضد روسيا وتركيا. لقد تعجَّل بالمرستون في اتخاذ موقفه من مجمل الأحداث، وراح يُعِد تدخلًا جماعيًّا يوقف به أي مبادرة من جانب روسيا، بل إنه وجَّه اللوم لكونها تشعل نيران الصراع عمدًا لكي تتمكن من التدخل بقواتها العسكرية استنادًا إلى الصراع التركي المصري المسلح.

لقد كانت هناك مصاعب جمة أخرى أمام الباب العالي. كان الباب العالي يخشى نقض تحالفه صراحة مع روسيا مع فقدانه الثقة في استعداد إنجلترا تقديم مساعدة عسكرية له ضد محمد علي. فإذا ما ألغى هذا التحالف، فربما يجد نفسه وحيدًا أمام قوة محمد علي والدول الأوروبية الأخرى بما فيها روسيا وفرنسا والنمسا، وكانت كل واحدة منها، وهو ما كانت حكومة الباب العالي تعرفه تمامًا، تطمع في أراضيها. لقد دفع الحادث الذي وقع عام ١٨٣٣م، عندما رفضت الدول الأوروبية مساعدة السلطان، بالحكومة التركية للتراجع عن اتخاذ أي خطوة تتسم بالمخاطرة.

كان مصطفى رشيد على علمٍ بكل هذه الظروف، إلا أنه كان ما يزال على ثقة في إمكانية قيام تحالف بين إنجلترا وتركيا.

•••

مع نهاية عام ١٨٣٧م هبَّت من جديد في سوريا انتفاضة الدروز المسلمين ضد نظام قرعة التجنيد وزيادة الضرائب اللتين فرضتهما إدارة محمد علي (٢٧، ص١٣٢–١٣٦). ومن الواضح أن الباب العالي كانت له يد في هذه الانتفاضة (٤٨، المجلد ٤، ص٢٤٣/ ١١٠، ص١١). وقد نجح إبراهيم بن محمد علي في إخماد هذه الانتفاضة بعد معركةٍ دامية استمرت ثمانية أشهر.

وبعد انقضاء هذه الأحداث مباشرة أعلن والي مصر من جديد في مايو عام ١٨٣٨م قناصل إنجلترا وفرنسا وروسيا عن عزمه إعلان الاستقلال ودعمه بالسلاح، وقد حاول محمد علي الحصول على حق انتقال الحكم إلى أولاده بالميراث في المناطق الخاضعة له، وذلك بعد أن تلقى ردًّا سلبيًّا حادًّا من الدول الأوروبية (٢٧، ص١٥٣-١٥٤). وفي تلك الفترة ازداد استعداد كل من السلطان ومحمد علي للدخول في الحرب (١٣٢، ص٤٢١-٤٢٢).

وقد قدم مصطفى رشيد، بعد أن تولى منصب وزير الخارجية، مبادرة لإجراء عدد من الإصلاحات التي كان يرى، من وجهة نظره، أنها ضرورية لتقوية الأوضاع الداخلية.

وفي مارس عام ١٨٣٨م، وبناءً على مبادرة مصطفى رشيد الخاصة بإعداد مشروعات الإصلاح، تم إنشاء مجلسين حكوميين عاليين.

كان تطوير الاقتصاد يشغل أهمية كبرى وقد أُنشئت لذلك لجنة خاصة أُطلق عليها مجلس الأعمال الاجتماعية، دأبت على دراسة وبحث مشكلات استخدام المصادر الطبيعية وتنمية الزراعة والحرف والتجارة والصناعة إلى جانب التعليم المدني (١٠٩، ص٢٤٤، ٢٤٦، ٢٥٧/ ٢٠٨، ص١٦٢–١٦٤، ١٧٧/ ٨٤، ص٩٩/ ١٨٥، ص٥٤–٥٧).

في صيف عام ١٨٣٨م وإبان المباحثات التي دارت بين محمد علي والقناصل الأجانب بشأن إعلان استقلال مصر، اعتزمت تركيا بفضل المشاركة الفعَّالة لمصطفى رشيد باشا تقديم تنازلات حقيقية للمصالح التجارية الإنجليزية تمثلت في موافقة الحكومة التركية على عقد اتفاقية تجارية تعود بأرباح طائلة على إنجلترا.٨

تقضي الاتفاقية التجارية التي سعت إنجلترا إلى عقدها مع الإمبراطورية العثمانية على مدى عدة سنوات (٢٢٤، ص١١–٢٢) بإنشاء نظام للتجارة الحرة في الإمبراطورية، أي إمكانية بيع وشراء جميع السلع، مهما بلغت كمياتها، تبعًا لأسعار السوق، سواء في الموانئ أو في جميع أنحاء الإمبراطورية، فضلًا عن وضع نظام لتحصيل الجمارك (وعلى رأسها السلع التي لم يتم تحصيل رسوم جمركية داخلية عليها من التجار الإنجليز).

وعلى الرغم من رغبة الباب العالي في الحصول على دعم عسكري في إنجلترا يُساعده في حربه ضد محمد علي، إلا أنه ظل لسنوات طويلة يرفض اقتراح إنجلترا توقيع مثل هذه الاتفاقية.

في عام ١٨٣٨م فقط كان مشروع الاتفاقية معدًّا من قِبل لجنة عادية واشترك في إعداده عن الجانب التركي نوري أفندي وزير المالية، وبوجوديديس محافظ جزيرة ساموس، وعن الجانب الإنجليزي القائمون بالأعمال ج. ل. بولفار، وج. كارترايت. وقد لقيت المعاهدة استحسان السلطان محمود الثاني. ووقعها في السادس عشر من أغسطس عام ١٨٣٨م مصطفى رشيد باشا وزير خارجية الإمبراطورية العثمانية وبونسونبي سفير إنجلترا (٢٢٤، ص٢١/ ١٨٠، ص١٢٣-١٢٤). وقد حدثت بعض الخلافات في وجهات النظر أثناء مناقشة مشروع الاتفاقية التي شارك فيها مصطفى رشيد باشا وقاني بك نائب الصدر الأعظم (٤٩، المجلد ١، ص٢٧٢)، لكن الوثائق التي كان من الممكن أن تكشف لنا عن مغزى هذه الخلافات لم يتم العثور عليها (٢٢٤، ص١٧). من المحتمل أن يكون لمشروع الاتفاقية الإنجليزية التركية التي وضعها سكرتير السفارة الإنجليزية د. وركفارت علاقة بجوهر الخلافات المذكورة. يفترض وركفارت، على سبيل المثال، أن يكون فرض ضرائب جمركية على دخول وخروج البضائع قيمتها ٣٪ إلى جانب بعض الشروط الأخرى كانت ستعود بفائدة أقل كثيرًا على تركيا مما كانت تعود به عليها شروط الاتفاقية التي عُقدت عام ١٨٣٨م (ص١٩١، ص٤٠٨-٤٠٩).

كان مصطفى رشيد في صيف عام ١٨٣٨م قد وعد السفير الإنجليزي بونسونبي أن يؤيد المفاوضات المناسبة. واعتبر بالمرستون أن نجاح المفاوضات توقَّف بشكل كبير على موافقة مصطفى رشيد (١٨٠، ص١٢٤).

في الأول من مارس عام ١٨٣٩م أصبحت الاتفاقية سارية المفعول. ويتفق المعاصرون والباحثون في أن ظروف السياسة الخارجية المتعلقة بالصراع التركي المصري هي التي فرضت على الباب العالي توقيع هذه الاتفاقية. كان محمود الثاني يعتبر أن القضاء على نظام الاحتكار في الإمبراطورية العثمانية، الذي كان محمد علي يُطبقه بصورة واسعة في مصر، سوف يقضي على القوة الاقتصادية لهذا الوالي المتمرد. كان السلطان يأمل أيضًا أن تقوم إنجلترا بالموافقة على إنشاء تحالف عسكري ضد محمد علي مقابل هذا التنازل من جانبه (٢٧، ص٢٢٤/ ١١٠، ص٢٣–٢٥/ ١٣٢، ص٤١/ ٤١، ص١١٠/ ٢٠٨، ص١٤٠/ ٥٣، المجلد ٥، ص١١١-١١٢/ ٢٢٤، ص٢٢).

كانت المعاهدة مفيدة في المقام الأول لإنجلترا، التي كانت بحاجة ماسة — وقد راحت الرأسمالية تنمو وتتطور فيها — إلى فتح أسوق جديدة (انظر ١٢٥، ص٤١-٤٢، ٤٥). لم تكن المعاهدة متكافئة؛ إذ تعرَّضت للتجارة فوق أراضي الإمبراطورية العثمانية فقط ورسَّخت نظام الامتيازات الذي أفقد الباب العالي إمكانية الدفاع عن صناعته الخاصة بفرض رسوم الحماية الجمركية (٨٠، ص١٥٦). وتقضي المعاهدة بحرية التجارة في جميع السلع، سواء للأجانب أو لرعايا الإمبراطورية العثمانية (بما في ذلك المنتجات المحلية) فوق جميع أراضي الإمبراطورية، وحددت حجم رسوم الاستيراد ﺑ ٥٪ و١٢٪ بالنسبة للتصدير (٤٩، المجلد ١، ص٢٧٢). لقد كانت القوى الاقتصادية لإنجلترا وللإمبراطورية العثمانية مختلفة تمام الاختلاف بعضهما عن بعض، وكان مفترضًا مقدمًا تبادل السلع الجاهزة بالمواد الخام.

في الفترة ما بين عام ١٨٣٩م و١٨٤١م انضمت إلى المعاهدة فرنسا وعدد من المدن الألمانية، وكذلك بروسيا وسردينيا وهولندا والسويد وإسبانيا وبلجيكا والدنمارك وتوسكانا، وفي عام ١٨٤٦م انضمت إليها روسيا (٢٢٤، ص١-٢).

لقد بشَّرت المعاهدة بتحقيق مكاسب محددة للإمبراطورية العثمانية، وقد ساهمت بالفعل في زيادة الرواج التجاري وأدت إلى إلغاء نظم احتكار الدولة والتنظيمات الحكومية والبيع الجبري المميز للدول الإقطاعية والذي كان الباب العالي يطبقه على نحو كبير. من هذا المنطلق فقد ساعدت معاهدة ١٨٣٨م على تطور قوى الإنتاج في الإمبراطورية العثمانية (انظر ٥، ص٤٠٤).

في الوقت الحالي يُعاني الباحثون من نقص الوثائق التي تسمح لهم بالإجابة على سؤال حول ما إذا كان لدى مصطفى رشيد أو لدى أي من معاصريه برنامج اقتصادي كامل.٩ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب معرفة إلى أي حد كانت معاهدة ١٨٣٨م التجارية وليدة الظروف القهرية للسياسة الخارجية، وإلى أي حد كانت عملًا واعيًا إداريًّا، على الأقل من جانب الأشخاص الذين شاركوا في إعدادها وعقدها.
على أن هناك معلومات تسمح لنا بالتصريح بعدد من الافتراضات المحددة.١٠
لقد شكلت الضرائب الباهظة ونظام الالتزام عند جمعها والإجراءات الحكومية (انظر ٩٢، ص٥–١٠/ ١٣٧، ص٣٩-٤٠/ ٤٤/ ٥٠/ ٢٢٦، ص٦٩-٧٠)، وكذلك احتكار الدولة والبيع الجبري حجر عثرة أمام تطور الإنتاج الزراعي (١٠٤، انظر كذلك ٢٧، ص٢٤٤/ ١٤٨/ ٦٩، ص٩٠/ ٥٢، المجلد ٦، ص٧٢).١١ لقد تسنى للدولة حتى عام ١٨٣٨م التدخل الكامل في الإنتاج والتجارة وتحديد الأسعار بفضل الإجراءات الحكومية. إن هذه الإجراءات الموازنة نفسها هي التي أعاقت تمايز الطبقات الاجتماعية بين أصحاب الحرب وصعَّبت عملية تراكم رأس المال ووصلت بأجور الحرفيين إلى حد الكفاف (١٣٧، ص٤١، ٤٨-٤٩).
وقد أشار المؤرخ السوفييتي أ. ج. إندجيكيان إلى أن «هناك أمثلة محددة مأخوذة من مجالات الزراعة والإنتاج الصناعي والتجارة تؤكد أن العامل الرئيسي في كبح التقدم هو نظام الدولة وتطفل الصفوة الإقطاعية وعسفها وتمزق الطبقات المالكة للشعوب المسيحية» (٨٢، ص٤٧).١٢
وقد أعرب مصطفى رشيد في إحدى وثائقه عن موقفه الرافض لنظام احتكار الدولة الذي كان سائدًا في البلاد.١٣ وقد لاحظ المؤرخ التركي لطفي أنه في عام ١٢٥٣ هجرية (الموافق ١٨٣٧/ ١٨٣٨ ميلادية) تقرر القضاء على نظام الاحتكارات الضار. وكتب يقول إن الضرر الذي تحدثه الاحتكارات وتقييد التجارة في الإمبراطورية العثمانية أصبح أمرًا واضحًا وإن ضرورة حرية التجارة لن تمنع من رخاء البلاد ونمو ثروتها (٥٣، المجلد ٥، ص١١١-١١٢). كانت معاهدة ١٨٣٨م تُلبِّي هذه الطموحات بالتحديد. وقد ورد في نص المعاهدة ما يلي: «تعلن الإمبراطورية العثمانية رسميًّا إلغاءها التام لنظام الاحتكارات الذي كان مطبقًا سواء على السلع الزراعية والحرفية أو على السلع الأخرى، وقد استبدل به نظام آخر سمح به الباب العالي، ويقضي بالتجارة أو جلب السلع من مكان إلى آخر بناءً على طلب البلديات والموظفين» (٤٩، المجلد ١، ص٢٧٢).

وبعد أن أصبحت المعاهدة سارية المفعول ازداد حجم التجارة، ومن ثم حصيلة الجمارك، وارتفع حجم المعاملات المالية (انظر ٢٧، ص٢٤٣/ ٥٦، ص٢٦–٢٨/ ٦٩، ص٣٥٠–٣٥٦/ ٩٦، ص٦١/ ١٠٥، ص١٥٣–١٥٥/ ١٠٦، ج١، ص١٥٠/ ١٠٩، ص٢٦٥/ ١١٠، ص١٥٨/ ١١٤، ص١٩/ ١٢٤، ج١، ص٣٠٦-٣٠٧/ ١٢٨، ص٢٨٣–٢٨٨، ٢٩٠، ٣٠٤/ ١٥٣، ص١٣٩-١٤٠/ ١٨٨، ص٨٣–٨٥/ ٢٠٩، ص٢٥٦–٢٥٩).

وقد أشار الباحثون إلى أن عملية نشوء النمط الرأسمالي بدأ منذ القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر في أماكن متعددة من الإمبراطورية العثمانية، على الرغم من بطء إيقاعها (٥٦، ص٦/ ٨٨، ص٤١٥/ ٨٢، ص٣٥/ ١١٤، ص١٥–١٨/ ١٢٨، ص٢٨١-٢٨٢، ٣٠٨–٣١٣/ ١٣٧، ص٤٩/ ١٣٨، ص١٨٥). واستمر نمو الأشكال الرأسمالية للاقتصاد بعد توقيع المعاهدة. بل إنه ازداد قوة. على أن الإصلاحات، التي أدخلتها حرية التجارة مع الدول الرأسمالية، قيدت النمو الرأسمالي بأطر مختلفة أدت إلى تكيف الاقتصاد العثماني مع حاجات السوق الرأسمالي العالمي.

وبعد عام ١٨٣٨م لوحظ بعض النهوض في الإنتاج الزراعي (١١٠، ص١٥٣/ ٦٩، ص٣٣٨–٣٤١/، ١٨٩، ص٣٧٧-٣٧٨)، كما ازداد استغلال الفلاحين وبدأت عملية تمييزهم اجتماعيًّا (١٢٨، ص٢٩١–٢٩٦). كما حدث نمو أيضًا في أوساط الحرفيين (١٣٧، ص٤٥). وازدادت أعداد المصانع والورش في عدد من ولايات الإمبراطورية العثمانية (١٠٥، ص١٧٤/ ٩٣، ص٣١-٣٢/ ١٢٨، ص٢٨٧، ٣٠١، ٣٠٤–٣٠٨/ ٢٢٠، ص٤، ٦-٧)، وأُنشئت الشركات المساهمة (١٠٨، ص١٧٤–١٧٩)، وازداد الطلب على العمال الأجراء (١٢٨، ص٢٩٧-٢٩٨، ٣٠٥–٣٠٨، ٣١١/ ١٣٧، ص٥٣)، وارتفع معدل سكان المدن (١٣٧، ص٥٢)، وازداد دور البورجوازية التجارية والصناعية (١٢٨، ص٣١١). وبناءً على ذلك يُمكن القول إن النتائج الاقتصادية للمعاهدة كانت مزدوجة. فمن ناحية لوحظ تسارع نمو النمط الرأسمالي وزيادة الرواج التجاري، ومن ناحية أخرى فقد كان لتنافس السلع الأوروبية الرخيصة أثره في إعاقة نمو عدد من الصناعات المحلية.

إن معاهدة عام ١٨٣٨م التي أبرمتها الحكومة التركية تحت ضغوط ظروف السياسة الخارجية تُعد بناءً على ذلك، بداية مرحلة جديدة لوقوع الإمبراطورية العثمانية تحت الضغط الاقتصادي للرأسمالية الأوروبية. وفي الوقت نفسه كانت المعاهدة تُمثل أول خطوة في الإصلاحات المتتابعة التي دخلت التاريخ تحت اسم «التنظيمات» والتي كان لها طابع بورجوازي إيجابي.

إن إلغاء نظم الاحتكارات والبيع الإجباري واللوائح الحكومية كان مطلبًا من مطالب المرحلة، وقد ساعد ذلك على خلق ظروف موضوعية لتطوير النمط الرأسمالي، على الرغم من أنها جاءت بشروط خضوع البلاد اقتصاديًّا لرأس المال الغربي.

١  المذكرة غير مؤرخة، ويشتمل نصها على عبارةٍ (٨٤، ص٢٩) تؤكد أنها قد كُتبت قبل بدء الانتفاضة السورية ضد محمد علي. فالانتفاضة بدأت مع نهاية عام ١٨٣٧م (انظر ٨٤، المجلد ٤، ص٣٤٢)، ومن ثم يُمكن اعتبار تاريخها هو الربع الأخير من عام ١٨٣٧م، في الفترة الواقعة بين وصول مصطفى رشيد إلى إسطنبول في سبتمبر عام ١٨٣٧م وبدء الانتفاضة في سوريا.
٢  كانت لدى إنجلترا مخاوف من نيات عدوانية روسية مزعومة نحو الهند (انظر ٨٥، ص٥٥٨-٥٥٩).
٣  حول انتفاء أي نية لدى روسيا لغزو الهند، انظر أعمال المؤرخين الروس والسوفييت (٧٩/ ٣٤، المجلد ١٢، ص٧٤–٧٦/ ١٣٠،١٥٠)، وعن العلاقات الروسية الإيرانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، انظر ٨٧، ص٢٠٥–٢٠٩/ ١٠٨، ص١٤٠–١٤٦.
٤  تأكد ذلك إبان حرب القرم. وعن موقف النمسا انظر ١٣١، المجلد ١، ص٩، ٢٥١.
٥  أُقيمت مراكز الحجر الصحي في هذه الأقاليم بواسطة الإدارة الروسية إبان الحرب الروسية التركية (١٨٢٨-١٨٢٩م).
٦  كان السرعسكر خسرو باشا والقبودان دار أحمد فخري باشا ووزير الداخلية عاكف باشا من المناصرين لروسيا.
٧  هناك استثناءٌ واحد مشهور وهو مباحثات بالمرستون مع مصطفى رشيد في لندن في العاشر من أغسطس ١٨٣٧م.
٨  للاطلاع على نص معاهدة التجارة التركية الإنجليزية عام ١٨٣٨م انظر ٤١، ص١١٠-١١١/ ٤٢، ص٢٤٩–٢٥٣/ ٤٩، المجلد ١، ص٢٧٢.
٩  يرى المؤرخ التركي المعاصر نيازي بيركس أن السلطان محمود الثاني أدرك إبان فترة حكمه، التي عُقدت فيها المعاهدة، أن الحكومة يُمكن أن تكون عاملًا مساعدًا في إدخال نظام اقتصادي جديد. إن غالبية إصلاحات محمود كانت، في رأي بيركس، مقدمة لتطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة، التي بدأت منذ عام ١٨٣٨م، أي بعد إبرام معاهدة التجارة الإنجليزية التركية (انظر ١٥٣، ص١٣٣-١٣٤). ويعتبر المؤرخ التركي أن المعاهدة قامت على الإيمان بأن إلغاء كافة القيود وإنشاء التجارة الحرة سيزيد أيضًا من حجم التجارة التركية ويُساهم في رخاء الشعب التركي (١٥٣، ص١٣٩).
١٠  لمزيد من التفاصيل حول النتائج التي ترتبت على معاهدة التجارة الإنجليزية التركية عام ١٨٣٨م (انظر المرجع ٧٣ ب).
١١  يصف الباحث الإنجليزي ف. ج. بريير هذا النظام بأنه «حق الامتياز في الشراء» (١٨٠، ص١١٨، ١٢٥، ١٨٧). أما العالم البلغاري ج. ناتان فيرى فيه نظامًا للاحتكار.
١٢  حول أسباب التخلف الاقتصادي للإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، انظر أيضًا ١٠٥، ص١٢٧-١٢٨/ ٩٣، ص٤٥/ ٩٤، ص٣٤–٥٧.
١٣  لا يحمل رد مصطفى رشيد على كتاب م. ديستريل (انظر ١٥٩) أي تاريخ، وقد قام ر. كاينار بنشره (٤٨، ص١٢٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤