الصراع الدبلوماسي في المراحل الختامية للصراع التركي المصري (١٨٣٨–١٨٤١م)
وقد أعلن الباب العالي رسميًّا — بعد عقد اتفاقية التجارة بين إنجلترا وتركيا — أن الأسطول التركي سوف ينضم إلى نظيره الإنجليزي تحت قيادة اللورد ستوبفورد للقيام برحلة بحرية مشتركة في اتجاه غير معلوم (١٧٨، ص٩٧). كان الجانب الإنجليزي يسعى من وراء هذه الرحلة لأن يبث الأمل لدى السلطان في إمكانية استخدام هذين الأسطولين في ضرب الباشا المصري (١٧٨، ص٩٤). ولقد تم بالفعل جمع الأسطولين لكن الإعلان عن وحدة إنجلترا وتركيا لم يثمر عن شيء؛ إذ لم يؤدِّ بالفعل للقيام بأية أعمال ملموسة.
- (١)
يقوم السلطان، باعتباره السلطة العليا لمصر، بتكليف السفن الحربية الإنجليزية والسماح لها باحتجاز السفن الحربية والتجارية المصرية.
- (٢)
حيث إن محمد علي استطاع أن ينقل قواته وإمداداته العسكرية إلى سوريا على سفن بعض الدول المحايدة فإن بإمكان الأسطول العثماني، استنادًا إلى الحقوق العليا للسلطان، احتجاز هذه السفن وتفتيشها.
- (٣)
يقوم الأسطول العثماني بالاشتراك مع أسطولي إنجلترا وفرنسا بعملياتهم قبالة السواحل المصرية والسورية.
- (٤)
تصبح هذه الشروط مؤكدة بموجب اتفاقية تتراوح مدتها من ست إلى ثماني سنوات (٥٣، المجلد ٦، ص٧-٨، ٤٨، ص١٣١).
أبلغ قاني بك السفير الإنجليزي أن الباب العالي يعتزم أن يرسل إلى إنجلترا بمشروع الاتفاقية، إلى جانب دفاتر تحوي معلومات عن أعداد القوات التركية في الأناضول. كانت هذه الدفاتر ضرورية لإثبات أن الباب العالي قد استعد تمامًا لأن يخوض الحرب ضد محمد علي. وفي محاولة منه للتأثير في السفير الإنجليزي وإقناعه بضرورة تأييد إنجلترا للباب العالي على نحوٍ حيوي، أكد قاني بك أن محمد علي ربما يتخلى في الوقت الحالي عن عزمه الحصول على حق الحكم الوراثي في مصر وسوريا بعد أن بلغه نبأ الأعمال المشتركة للدول البحرية والباب العالي، علاوة على خوفه من قيام انتفاضة سورية، وعلى أي الأحوال، فإنه (قاني بك) سوف ينتظر دائمًا الوقت المناسب للشروع في تحقيق الهدف. وأشار قاني بك بعد ذلك إلى المبادرة التي أعلنها نيكولاي الأول لتقويض الاتفاق الإنجليزي الفرنسي وإقامة تحالف روسي فرنسي. وعلى الرغم من أن فرنسا قد رفضت هذا الاقتراح، على حد قول قاني بك، فإن روسيا لم تتوقف عن الاستمرار في محاولة إقامة هذا التحالف. ورأى أنه إذا ما ظهرت في المستقبل أي مصاعب داخلية أو خارجية لدى إنجلترا وفرنسا تستحوذ على اهتمامها، فإن ذلك سوف يُعد، دون أدنى شك، فرصة مناسبة، سواء لروسيا أو لمحمد علي، لتنفيذ مخططاتهما.
لقد حاول قاني بك، عندما جاء على ذكر إمكانية قيام تحالف بين فرنسا وروسيا ووجود نيات عدوانية لدى محمد علي وربما لدى روسيا، أن يُثير مشاعر القلق لدى إنجلترا وأن يحثها على إزالة الصراع التركي المصري.
وافق بونسونبي قاني بك، إلا أنه أشار إلى أنه لا يملك الحق، بتقديمه المشورة، في تجاوز ما لديه من تعليمات. واستطرد قائلًا إن نتائج المفاوضات التركية في إنجلترا سوف تتوقف على السفير الذي يجب أن يُحسن اختيار الوقت وعلى قيامه بالتنفيذ المتقن للإجراءات، وأنه مهما فعلت إنجلترا بخصوص مصر، فإنه مما لا شك فيه أن فرنسا سوف يكون لها دورها، وأن المعاهدة التجارية الموقعة من الممكن أن تُسهل في حل المشكلة.
واستمرارًا لمحاولته استيضاح موقف إنجلترا، على نحوٍ أكثر تحديدًا، من مسألة إمكانية إشعال فتيل الحرب بين السلطان ومحمد علي وآفاق تقديم إنجلترا لدعم عسكري في مثل هذه الظروف، سأل قاني بك محدثه عن رأيه في الكيفية التي ينبغي على تركيا أن تتصرف بمقتضاها إذا ما جرى توقيع معاهدة بينها وبين إنجلترا.
وعندما لفت قاني بك نظر بونسونبي إلى الظروف المواتية المتمثلة في: الانتفاضة السورية ضد محمد علي، والخسائر الفادحة في صفوف الجيش المصري، ثم الأعداد الهائلة لقوات الباب العالي. رد بونسونبي على هذه الملاحظة بحرص شديد، مشيرًا إلى أن الحروب تتم الغلبة فيها لا لأصحاب الأعداد الغفيرة أو الشجاعة الشخصية، وإنما لمن يملكون المعرفة والمهارة. وأشار بونسونبي إلى أن محمد علي يمتلك قادة عسكريين أوروبيين، ولهذا فإن هناك مخاوف من أن يضطر الباب العالي للجوء إلى طلب المساعدة من روسيا. وأكد بونسونبي أن لدى الفرنسيين نفس المخاوف (٥٣، المجلد ٦، ص٦–٩).
وفي مباحثاته التالية مع وزير الخارجية مصطفى رشيد باشا، أشار بونسونبي عليه تحديدًا، باعتباره أكثر الدبلوماسيين الأتراك حنكة، بالذهاب إلى إنجلترا والإعراب عن أمله في أن المعاهدة التجارية السابقة بين إنجلترا وتركيا سوف تُساعد بشكل كبير على تحقيق الهدف المطروح.
وكرر بونسونبي على مصطفى رشيد أن دول أوروبا الغربية تشعر بالقلق إزاء إمكانية الباب العالي طلب المساعدة من روسيا. وهذا ما جعل كلًّا من فرنسا وإنجلترا يتوصلان — بعد حوالي خمس سنوات — إلى استنتاج حول ضرورة بقاء الوضع على ما هو عليه بالنسبة للعلاقات التركية المصرية طالما أن الباب العالي لم يصبح بعد قويًّا بشكل كاف. ووعد بونسونبي بأن يبذل كل جهوده ليصل إلى حلٍّ نهائي للمشكلة المصرية (دون أن يُحدد بدقة خططه في هذا الشأن). وأكد بونسونبي أن المصاعب التي يُمكن أن تواجه مصطفى رشيد في لندن يُمكن أن يكون مرجعها الرأي السائد هناك حول ميل الباب العالي نحو روسيا، ولهذا فإن مصطفى رشيد، باعتباره وزيرًا لخارجية تركيا، سوف يتمكن من تهدئة المخاوف الموجودة لدى حكومة إنجلترا. قال بونسونبي لمصطفى رشيد باشا: «آمل أن تُكلل مهمتك بالنجاح، ولست أرى شيئًا من شأنه أن يعوق تنفيذ رغبتك.» وألمح بونسونبي إلى أن إنجلترا لا تريد أن تدفع الباب العالي لاتخاذ خطوات من شأنها إثارة حفيظة روسيا، إلا أنه صرَّح أن روسيا لا تجرؤ بمفردها على مهاجمة الإمبراطورية العثمانية، وأضاف قائلًا إن النمسا لن تتصرف ضد سياسة إنجلترا وفرنسا، وهو ما يُمكن اعتباره إثباتًا مناسبًا (٤٨، ص١٣٤–١٣٦).
على هذا النحو اعتبر الباب العالي ومعه السفير الإنجليزي بونسونبي أن عقد اتفاقية عسكرية بين إنجلترا وتركيا سوف يؤدي إلى عزل سوريا عن مصر، عن طريق فرض حصار بحري عسكري، وهو ما سوف يوفر بدوره ظرفًا مواتيًا تمامًا لتنفيذ مخططات السلطان في سلخ سوريا عن مصر محمد علي بالقوة. وفي الوقت نفسه فإن هذا التحالف الإنجليزي التركي ربما يجعل السلطان التركي في غير حاجة لطلب المساعدة من روسيا، ومن ثم، يتم دفن معاهدة أونكيار إيسكيليسي نهائيًّا (انظر ٦٣، ص٧٤-٧٥، ١٧٨، ص٩٣).
يذكر المؤرخ الإنجليزي ﻫ. تمبرلي، استنادًا إلى أرشيف بالمرستون الخاص، والموجود في برودلين، أن بونسونبي في فبراير ١٨٣٩م «قدم اقتراحًا مباشرًا للسلطان بأن يُهاجم محمد علي، واعدًا إياه بتأييد إنجلترا له بحريًّا» (١٨٦، ص٤٤١-٤٤٢، انظر أيضًا ٦٣، ص٧٥).
لقد أدى التأكيد الذي أبداه بونسونبي لنجاح مهمة مصطفى رشيد باشا إلى أن أصبح جيش السلطان في حالة تأهب تام، لا ينقصه سوى تلقي الأوامر لبدء العمليات العسكرية (١٧٨، ص١٣٤). وفي الوقت نفسه أبدت حكومة السلطان رفضها، بناءً على نصيحة روسيا، المشاركة في الاستعدادات التي كان يُجريها بالمرستون لعقد مؤتمر أوروبي شامل لبحث المسألة الشرقية. كان الوزراء الأتراك يخشون أن يتوصل هذا المؤتمر إلى قرارات لصالح محمد علي لا لصالح تركيا، على غرار تلك المؤتمرات التي عُقدت من قبل لبحث مصير اليونان وبلجيكا وأسفرت عن إعلان استقلال الدولتين (١٧٨، ص١١٧-١١٨). كان السلطان مفعمًا بالعزم على إخضاع الوالي المتمرد بالقوة العسكرية، سواء بمساعدة إنجلترا أو بدون مساعدتها. وبعد أن أعلن الباب العالي رفضه الاشتراك في المؤتمر الذي كان على وشك الانعقاد، قرَّر إرسال سفيره إلى لندن، وكان على السفير أن يمر في طريقه بفيينا وبرلين وباريس، ليستوضح مرة أخرى موقف الدول الكبرى قبيل قيامها بتنفيذ الخطط المرسومة.
كان مصطفى رشيد قد قام في أوائل أغسطس عام ١٨٣٨م بإطلاع السفير الروسي لدى إسطنبول أ. ب. بوتينيف أن السلطان يشعر بالضيق للتأييد الذي طال أمره لبقاء الأوضاع على ما هي عليه، وأن السلطان قد أرسله إلى لندن وباريس لطلب دعم حاسم من حكومتي إنجلترا وفرنسا (١٧٨، ص٩٧).
وفي أكتوبر عام ١٨٣٨م بدأ مصطفى رشيد باشا رحلته (١١٨، ص٥/ ١٧٨، ص١٢٠/ ١٩٠، ص١٥٤). في فيينا أجرى وزير خارجية تركيا مباحثات مع مترنيخ. وقد صرَّح مستشار النمسا أن محمد علي لن يتنازل عن سلطته طواعية، وأشار بالانتظار حتى توافيه المنية. وفي سياق مباحثاته مع مصطفى رشيد في برلين، أشار وزير خارجية بروسيا فيرتر أيضًا عليه بتأجيل النظر في المشكلة المصرية، معربًا عن رضائه بالوضع الحالي والفوائد الناجمة عن التحالف مع روسيا (١٧٨، ص١٢٠-١٢١). وفي مارس ١٨٣٩م قام مصطفى رشيد بزيارة فينيسيا في طريقه إلى لندن (٤٨، ص١٤٧).
وفي لندن بدأ مصطفى رشيد باشا مباحثاته مع بالمرستون. وعلى الرغم من أن بالمرستون كانت لديه الرغبة في تقديم المساعدة للسلطان، إلا أنه كان يرى أن من المستحيل أن تتخذ إنجلترا موقفًا منفردًا في المؤتمر. كانت الحكومة الإنجليزية مرتبطة بعدد من الالتزامات الدبلوماسية استهدفت جميعها الحيلولة دون وقوع صراعات مسلحة في الشرق. كان بالمرستون يخشى أن يواجه باحتجاج شديد من جانب روسيا وفرنسا (١٧٨، ص١٢٢، ١٢٦). وفي الوقت نفسه كانت روسيا مرتبطة بالباب العالي بمعاهدة ثنائية، إلى جانب امتلاكها جيشًا قويًّا، الأمر الذي كان من الممكن أن يجعل باستطاعتها المشاركة في رسم الخرائط إذا ما تدخَّلت في الصراع. كانت فرنسا نصيرًا واضحًا لمحمد علي، وكان من المستبعد تمامًا أن توافق على سلخ سوريا عن مصر، وهو ما أكدته أحداث عامَي ١٨٣٩م و١٨٤٠م فيما بعد. كل هذه الملابسات دفعت إنجلترا لاستبعاد المشروع التركي للمعاهدة، والذي كان يقضي بسرعة فرض الحصار على السواحل السورية. على أن وصول مصطفى رشيد إلى لندن، كان مقدرًا له، وفقًا لحسابات بالمرستون، أن يعمل على تدهور العلاقات التركية الفرنسية (١٧٨، ص٩٤) وهو ما كان يُلبي أهداف حكومة إنجلترا. وقد تم اقتراح المشروع الإنجليزي لصياغة المعاهدة الإنجليزية التركية بدلًا من المشروع التركي.
- (١)
يكلف السلطان الأسطول الإنجليزي بإيقاف السفن العسكرية والتجارية للباشا. وحيث إن الباشا يُرسل شحناته من المؤن والعلف والقوات إلى سوريا على متن سفن محايدة فإن من حق أسطول السلطان تفتيش هذه السفن ومصادرة ما تحمله من شحنات.
- (٢) يعمل الأسطول الإنجليزي بالاشتراك مع الأسطول التركي، ويقومان بالدوريات في المياه المصرية والسورية.٢
وفي الفترة من العاشر وحتى السادس عشر من أبريل عام ١٨٣٩م ناقش الباب العالي والسلطان المشروع الإنجليزي، وتوصلا إلى استنتاج مفاده أن المشروع لا يُلبي مصالح الدولة العثمانية (١٧٨، ص١٢٨)، وإن كان لا يُشجع محمد علي على إعلان الاستقلال (٤٨، ص١٤٨). وقد أعلن نوري أفندي، نائب وزير الخارجية: «أن المعاهدة التي يقترحها بالمرستون سوف ترغم تركيا على الانتظار إلى أجل غير مسمى … كما أنها تمنعها من استغلال الظروف المواتية التي يُمكن أن تتشكل لصالحها مستقبلًا» (٦٣، ص٨٠)، وفي هذا الصدد أيضًا كتب ف. موصلي يقول: «إن الفشل في توقيع معاهدة هجومية مع إنجلترا، لم يزد عن أن دفع السلطان لوضع مصير جيوشه على الخريطة فقط» (١٧٨، ص١٣٤).
بداهة فإن إنجلترا كانت راضيةً تمامًا عن الأوضاع التي تشكلت، والتي كانت ستؤدي حتمًا إلى نشوب الحرب بين السلطان ومحمد علي؛ إذ إن كليهما قد أعطى بذلك المبرر للتدخل الدبلوماسي من جانب الدول الأخرى والتي كانت تسعى إليه في تلك الفترة. وعلى الرغم من رفض إنجلترا عقد معاهدة إنجليزية تركية تتفق والمشروع التركي، إلا أنها لم تتخلَّ عن عزمها تقديم مساعدة فعلية للباب العالي من أجل إخضاع محمد علي للسلطان. وهو ما تؤكده جميع الأحداث التي وقعت فيما بعد.
لقد أدى الصدام المسلح الذي وقع في ربيع عام ١٨٣٩م بين جيشي السلطان ومحمد علي دوره، وساعد إنجلترا في حصولها على النتيجة التي كانت تطمح إليها دون أن تسوء علاقاتها بالدول الأوروبية الأخرى (٦٣، ص٧٥-٧٦). «كانت القطيعة بين الباب العالي والباشا المصري بمثابة نقطة انطلاق نحو مفاوضات متصلة ومعقدة بين الدول الكبرى، أدت إلى ما عُرف باسم الاتفاق الأوروبي بشأن الشرق» (١٣٢، ص٤٣٠).
إبان المفاوضات التي أجراها مصطفى رشيد في لندن، كانت الحكومة التركية تقوم بإحاطة السفير الروسي لدى إسطنبول أ. ب. بوتينيف علمًا بمسار هذه المفاوضات، وكانت تنبه دائمًا إلى أنها سوف ترفض المعاهدة إذا ما أبدت روسيا تأييدًا أكثر فعاليةً للسلطان. وبعد فشل المفاوضات تظاهَر الباب العالي بأنه هو الذي رفض التحالف الإنجليزي التركي، وذلك حتى يتمكن من دعم علاقات تركيا بروسيا. ومما يؤكد اهتمام تركيا باحتفاظها بتحالفها مع روسيا هذه العبارات التي وردت في مرسوم السلطان، الذي صدر قبيل سفر مصطفى رشيد إلى لندن.
في هذه الوثيقة يأمر السلطان بإحاطة السفارة الروسية لدى إسطنبول علمًا ببعثة رشيد باشا، وذلك قبل سفره بأسبوع، كما يُصدر السلطان كذلك أمرًا بإحاطة الإمبراطور نيكولاي الأول شخصيًّا نيابة عنه بذلك سرًّا، حتى لا يُزعج روسيا بأخبار مفاجئة ولتجنب حدوث أي فجوة معها (٤٨، ص١٤٣-١٤٤). لكن هذه الوثيقة للأسف لا تحتوي على أي معلومات تصف الطريقة التي كانت تُرسل بها أنباء المفاوضات إلى كل من السفير الروسي وإلى نيكولاي الأول.
لقد دفعت خطورة التقارب الإنجليزي التركي روسيا لأن ترسل في العاشر من أبريل عام ١٨٣٩م بمذكرة إلى محمد علي تطلب منه فيها وقف تركيز قواته العسكرية في سوريا وسحب جيش إبراهيم إلى دمشق (٦٣، ص٨٠، ٨٢-٨٣). آنذاك كان الجيش التركي يقف عند الحدود السورية مستعدًّا لعبورها. «كان بوتينيف يلح على الديوان، محذرًا إياه من نقض السلام القائم بكل طريقة، حتى يؤكد بذلك أن صمت مجلس الوزراء الروسي لا يعني تأييد الاستعدادات العسكرية للباب العالي» (١٢٤، الجزء الأول، ص٣١١، ٢٠، انظر أيضًا ٦٢، ص١٧٥، ٦٣، ص٧٧، ١٧٨، ص١٢٩). لكن التحذيرات لم يكن بمقدورها أن تُغير من الأمر شيئًا؛ ففي الواحد والعشرين من أبريل عام ١٨٣٩م اجتازت القوات التركية نهر الفرات، وبعد مرور شهرين تمامًا على بدء العمليات الحربية، وفي الواحد والعشرين من يونيو عام ١٨٣٩م انهزم جيش السلطان على يد قوات محمد علي عند نصيبين.
وصلت أنباء بداية الأعمال العسكرية إلى مصطفى رشيد وهو في باريس بعد وصوله من لندن إليها، بهدف التعرف على موقف فرنسا منها. وسرعان ما رجع مرة أخرى إلى لندن.
وإبان المفاوضات التي أجراها مصطفى رشيد في كل من لندن وباريس، تلقى في الرابع من يونيو عام ١٨٣٩م وعدًا من بالمرستون بأن يتلقى مساعدة عسكرية من أساطيل فرنسا وإنجلترا في حالة تعرض جيش السلطان للهزيمة، وبعدم التدخل في حالة الانتصار. وقد جاء في التقرير الذي بعث به مصطفى رشيد يوم الرابع من يونيو عام ١٨٣٩م (٤٨، ص١٥٤) «أن الحكومة الإنجليزية تعتزم اتخاذ إجراءاتٍ حذرة أخرى سوف تحيط بها فرنسا والنمسا علمًا». وفي إسطنبول أبلغ بونسونبي الباب العالي أمر اعتزام إنجلترا تقديم مساعدة للأسطول التركي الذي كان يتحرك تجاه السواحل السورية (٦٣، ص٣٦).
كان مصطفى رشيد يرى أن رفض إنجلترا بدء الحرب ضد محمد علي لا يعني خيانةً لسياستها الشرقية. ولهذا فقد اقترح في تقاريره، كما فعل سابقًا، التوجه نحو إنجلترا لا نحو روسيا. وفي أحد هذه التقارير كتب مصطفى رشيد يقول إنه سمع بنشوب الحرب بين محمد علي وجيش السلطان، وإنه دعا الله أن ينصر جيش السلطان وألا يضطر السلطان لطلب المساعدة من الجيش الروسي مرة أخرى. وصف مصطفى رشيد طلب المساعدة من روسيا بأنه مشكلة عويصة وشديدة الحساسية. واستطرد قائلًا إن وصول القوات الروسية سوف يُغضب الدول الأخرى التي لن تكتفي في سياق الأحداث بالوقوف في مواجهة روسيا وإنما سيمتد الأمر لدخولها في حرب ضد بعضها البعض وضد الإمبراطورية العثمانية أيضًا. ودعا رشيد إلى التنبؤ ببدء هذه الأحداث (٤٨، ص١٥٨). إن هذا الخوف الذي أعرب عنه مصطفى رشيد يُشير إلى النظرة الواقعية في الموقف السياسي للإمبراطورية العثمانية وسياسة الدول الأوروبية. وهو موقف يدعونا لأن نفكر كيف أن التوجه نحو إنجلترا، والذي جاء اختيارًا ومبادرة من جانب مصطفى رشيد، كان موقفًا أكثر فائدة للإمبراطورية العثمانية لحل الصراع التركي المصري، فضلًا عن أنه كان تقديرًا صحيحًا لأهمية هذا التوجه. بعبارة أخرى، لو أن الإمبراطورية العثمانية أرادت استدعاء القوات الروسية، استنادًا إلى شروط معاهدة أونكيار إيسكيليسي، فإن دول أوروبا الغربية لم تكن لتسمح بذلك ولدخلت في حرب ضد روسيا، التي يُمكن أن تسقط فيها، وهي الحليفة، ضحية للتنافس بين دول أوروبا وبين الإمبراطورية العثمانية.
نفس هذا الرأي حول آفاق التحالف الثنائي بين تركيا وروسيا طرحه في حينه أيضًا ك. ف. نيسيليرودي الذي كتب إلى نيكولاي الأول يخبره أنه لا أمل في مد العمل بمعاهدة أونكيار إيسكيليسي، وكان يعني ليس فقط مغزاها بالنسبة للباب العالي، وإنما أيضًا وبصورة أساسية علاقة دول أوروبا الغربية بها. كتب نيسيليرودي يقول: «ليس باستطاعتنا مد يد العون للسلطان دون أن نكون مستعدين لدخول الحرب ضد الإنجليز» (٢١، انظر أيضًا ١١٥، ص٨٠، ٣٤، المجلد ١٢، ص٧٣، ٦٣، ص٨٩–٩٠). لقد جاء رفض روسيا تقديم مساعدة عسكرية لتركيا بعد هزيمة قوات السلطان في نصيبين انطلاقًا من هذه الأفكار تحديدًا.
وترى المراجع التاريخية أن بعثة مصطفى رشيد إلى لندن أمر جانبه التوفيق كلية (١٦٩، ص٤٥٨) وتُرجِع السبب في ذلك إلى رفض إنجلترا التوقيع على المشروع التركي للمعاهدة. على أن جميع الأحداث التي وقعت بعد هزيمة الجيوش التركية عند نصيبين تدفعنا للشك في هذا الرأي، فعلى الرغم من أن إنجلترا رفضت توقيع معاهدة عسكرية هجومية مع الباب العالي، إلا أنها واصلت الدفاع عن مصالح تركيا فيما يتعلق بالصراع التركي المصري (انظر ٦٣، ص٩٥–٩٧، ١٠٩، ١٤٦–١٤٨، ١٦٠، ١٦٣، ١٦٥–١٧٣، وغيرها، ١٣٢، ص٤٤٣، ٤٨، ص٣٢٣-٣٢٤). وقد لعب هذا دورًا حاسمًا في نتائج تصعيد الصراع، عندما تترك هزيمة القوات العسكرية التركيبة عند نصيبين أي أثر سلبي على علاقتهما. لقد تم إعداد شروط إخضاع محمد علي للسلطان نتيجة المفاوضات الدبلوماسية بين ممثلي الدول الكبرى والباب العالي في كل من لندن وإسطنبول في الفترة من عام ١٨٣٩ وحتى عام ١٨٤١م، والتي كان موقف إنجلترا فيها مرتبطًا، بشكل خاص، بنشاط الدبلوماسية التركية في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وكذلك بموقف محمد علي الذي أثار كل الدول الأوروبية عليه باستثناء فرنسا.
المباحثات التي دارت بشأن المسألة الشرقية
توفي السلطان محمود الثاني في الأول من يوليو عام ١٨٣٩م، أي بعد بضعة أيام من الهزيمة التي لحقت بالجيوش التركية عند نصيبين، وفي الرابع من يوليو قام القبودان باشا أحمد فوزي بخيانة الإمبراطورية وتسليم أسطول السلطان إلى محمد علي. لقد أدت سلسلة الخسائر التركية إلى إثارة الاضطراب لا في تركيا فحسب، وإنما في أوروبا أيضًا. كانت دول أوروبا الغربية في هذا الوقت تخشى من قيام روسيا بالتدخل العسكري. على أن الجهود الدبلوماسية التي بُذلت في وقت سابق لم تذهب هباء. لقد دفعت انتصارات محمد علي بالدول الأوروبية للتدخل على نحوٍ أكثر حماسًا لتسوية الصراع.
ما إن وصلت أنباء هزيمة القوات التركية إلى مسامع مترنيخ مستشار النمسا، حتى سارع في نهاية يوليو ١٨٣٩م بتقديم اقتراح إلى السلطان عبد المجيد الأول بأن تقوم الدول الأوروبية بمعالجة هذا الصراع. كان مترنيخ يأمل أن يتم حل هذا الصراع في إطار دبلوماسي حتى يحرم روسيا من فرصة تطبيق معاهدة أونكيار إيسكيليسي وأن يمنع محمد علي من أن يواصل تطوير نجاحاته (٤٣، المجلد ٢، ص٤١٧، انظر أيضًا ٦٥، ص٤٥). وقد وافق السلطان على الاقتراح. وكان قد لجأ، قبل ذلك بفترة قصيرة، إلى أسلوب الصلح الذي كانت حكومة السلطان قد وافقت عليه أكثر من مرة: «العفو» عن محمد علي. وقد أبلغ السلطان نبأ العفو إلى القبودان باشا أحمد فهمي أيضًا، الذي وقع في أسر المصريين هو والأسطول التركي وأمر بإعادة الأسطول. وقد صرَّح عاكف أفندي، سفير السلطان بأن محمد علي يطلب أن يضم إليه كل الأراضي التي تمكن من الاستيلاء عليها. وقد وصل الأمر بحكومة السلطان، التي فقدت روحها المعنوية أمام سيل الأحداث المتلاحق؛ مثل وفاة السلطان محمود الثاني وهزيمة الجيش وتسليم الأسطول، إلى إعلان استعدادها تلبية مطالب محمد علي، معتبرة أن الحل الوحيد لإنقاذ البلاد هو عقد الصلح معه (٤٨، ص١٦٠). في تلك الفترة كان نيكولاي الأول قد ترك تركيا دون أن يقدم لها أي مساندة، بعد أن نصح السلطان بالقيام بإجراء مفاوضات مباشرة مع محمد علي واعدًا إياه بتقديم «خدمات قيمة» له في الإسكندرية (٦٣، ص٩١، ٦٥، ص٤٤، ١١٠، ص٥٠).
على امتداد الصراع التركي المصري (١٨٣١–١٨٤١م) بذل كل من السلطان ومحمد علي محاولات أربعًا للاتفاق فيما بينهما متجاوزين الوساطة الأوروبية، مدركين أن كليهما بحاجة للتسوية السلمية للصراع. كان السلطان قد وافق على إعطاء محمد علي حق الحكم الوراثي لمصر باعتباره نائبًا له فيها، وكذلك حق إدارة سوريا مدى الحياة، بشرط رفع قيمة الجزية السنوية التي تُدفع للباب العالي. لكن محمد علي ظل رافضًا التخلي عن سوريا، مُصممًا على أن يحكمها هو وأسرته من بعده. وقد دارت المفاوضات المباشرة في فبراير عام ١٨٣٣م بمبادرة من السلطان محمود الثاني، وفي عامي ١٨٣٦م و١٨٣٧م بمبادرة من محمد علي (١٢٤، ج١، ص٢٩٢-٢٩٣/ ٢٧، ص١٥٢-١٥٣)، وفي يوليو عام ١٨٣٩م بمبادرة من السلطان عبد المجيد (١٩ مدونة ٣٧٠–٣٨٠)، ثم في نهاية عام ١٨٣٩م بمبادرة من محمد علي (٢٢).
في يوليو عام ١٨٣٩م كان محمد علي ينتظر هو والسلطان في آنٍ واحد قرار الدول الأوروبية. وكان محمد علي يُعوِّل على أن الانتصار الذي أحرزه على جيش السلطان سوف يُساعده من جديد في الاحتفاظ بسوريا.
كان بالمرستون قد اقترح قبل ذلك في خريف عام ١٨٣٨م أن تقوم الدول الخمس الكبرى بافتتاح المؤتمر في لندن لمناقشة شئون الشرق. وقد أجابت روسيا في البداية بالرفض القاطع، لكنها عادت بعد ذلك فأبدت موافقتها. وهذا يعني أن روسيا كانت قد قرَّرت، تحت تأثير دول أوروبا الغربية، رفض إجراء أي اتفاق ثنائي مع الإمبراطورية العثمانية (٦٣، ص٩٤).
كان الهدف الرئيسي لدول أوروبا الغربية هو استبدال معاهدة أونكيار إيسكيليسي باتفاقية أوروبية مشتركة، تمكنها من حل مشكلة نظام المضايق وحرمان روسيا من إمكانية تنفيذ سياسة من جانب واحد في الإمبراطورية العثمانية. في الوقت نفسه كان على هذه الدول أن تصل إلى رأي موحَّد بخصوص الإجراءات التي ينبغي اتخاذها لمساعدة السلطان في معركته مع محمد علي. أما المشكلة الثانية والأكثر حدة بالنسبة لتركيا فقد تضمنت، بعد الهزيمة الثانية لجيش السلطان في عام ١٨٣٩م، مسألة الشروط الخاصة بإخضاع محمد علي للسلطان.
وإبان المفاوضات التي جرت في لندن عام ١٨٤٠م (٦٣، ص٩٥–١٢٨) أثارت الخلافات الإقليمية بين السلطان ومحمد علي خلافات أخرى بين الدول الأوروبية، التي راحت تماطل في إصدار قرار نهائي. كانت سوريا محل جدل بين إنجلترا وفرنسا، فبينما راحت إنجلترا تسعى لإعادة سوريا إلى السلطان، ظلت فرنسا تسعى لإبقائها ضمن ممتلكات محمد علي.
وقد اقترح بالمرستون على فرنسا، أثناء سير المفاوضات معها، على الرغم من الاختلاف في وجهات النظر بينهما، أن يعملا معًا ضد روسيا. وقد وافقت فرنسا؛ إذ إن ذلك كان يُعطيها الفرصة لعرقلة خطط روسيا، ويوفر في الوقت نفسه مناخًا ملائمًا لمحمد علي لحل مشكلاته. وبدورها فقد سعت الحكومة القيصرية لاستغلال الخلافات بين إنجلترا وفرنسا لعزل فرنسا وعقد اتفاقية ثنائية بينها وبين إنجلترا، وذلك بعد أن تبين لها أنه من غير الممكن أن تعمل بمفردها، وإلا أدى ذلك بها إلى الدخول في حرب ضد دول أوروبا الغربية المتحالفة.
والآن وقد أصبح حل الصراع عن طريق الاتفاق المشترك في أيدي الدبلوماسيين، راحت إنجلترا تبذل كل ما في وسعها لتصبح أكثر الدول تشجيعًا للسلطان. أما فرنسا، التي بالغت في تقديرها لقوة محمد علي العسكرية، فقد أظهرت صلابة في آرائها إبان المفاوضات، واستندت إلى أن الباشا المصري سوف يستطيع بقوته العسكرية أن يُحقق مطالبه الإقليمية.
في هذا الوقت أعلن مصطفى رشيد باشا من إسطنبول اعتراضه الشديد على مقترحات فرنسا إعطاء سوريا وجزيرة كريت ليصبحا تحت إدارة ورثة محمد علي، وكان معتمدًا في اعتراضه على تأييد إنجلترا له. وقد فسَّر دي بونتوا، سفير فرنسا لدى إسطنبول رغبة حكومته في التخلي عن الباب العالي لصالح محمد علي بزعم وجود تهديد عسكري روسي بالتدخل واحتمال قيام حرب شاملة. وقد أشار مصطفى رشيد بحصافة إلى أن القوات الروسية لا يُمكنها أن تأتي إلى تركيا على أساس معاهدة أونكيار إيسكيليسي دون دعوة من السلطان، وأن روسيا، في الوقت الراهن، لن تقوم بأي عمل منفرد دون اتفاق مع الدول الأوروبية. وأعرب مصطفى رشيد عن عدم ثقته في محمد علي، طالما أنه لم يعد الأسطول التركي حتى الآن (٤٨، ص٣١٧–٣٢٠) والذي سلمه إليه أحمد فوزي بعد وفاة محمود الثاني. أما ما حدث في عام ١٨٣٩م فيُعد تكرارًا لما حدث عام ١٨٣٨م؛ إذ حاول مصطفى رشيد، عند توقيع المعاهدة التجارية بين إنجلترا وتركيا، استغلال الأوضاع السياسية المعقدة المحيطة بالإمبراطورية العثمانية ليحصل على موافقة الباب العالي في القيام بعدد من الإصلاحات. ومما ساعده على ذلك صغر سن السلطان عبد المجيد، إضافة إلى تأثير مصطفى رشيد القوي عليه. لقد استهدفت الإصلاحات، وفقًا لمخططات مصطفى رشيد، القضاء على أسباب السخط لدى الشعوب الخاضعة للإمبراطورية والعمل على وحدة وقوة الدولة. وفي الوقت نفسه توقع رشيد أن يكون لهذه الإصلاحات صدًى إيجابي في أوروبا، الأمر الذي رأى أنه قد يُساعد في إيجاد حل ملائم للمشكلات السياسية الخارجية بما فيها الصراع التركي المصري.
في الثالث من نوفمبر عام ١٨٣٩م وفي احتفال مهيب في حضور ممثلين عن كل الطبقات والسفراء الأجانب أُعلن عن خطي شريف جولخانة (انظر ٢٠٨، ص٢٥٥–٢٥٨/ ٤٨، ص٢٨٨–٢٩٠/ ٣٩، ص١٧١–١٧٥/ ٤٢، ص١٧٦–١٨٠/ ١٥١، ص٢٧٧–٢٧٩).
وفي عام ١٨٤٨م علق فريدريك إنجلز على الطابع البورجوازي للتنظيمات الإصلاحية بقوله: «وهذه النجاحات الباهرة «للحضارة» في تركيا ومصر وتونس وفارس وفي غيرها من البلاد الهمجية لم تتمثل سوى في تهيئة الظروف من أجل ازدهار البورجوازية القادمة» (١٠، ص٤٦٨). وقد لاقت هذه الآراء الخاصة بالإصلاحات تأييدًا من جانب المؤرخين السوفييت أيضًا (انظر على سبيل المثال ١٠٠، ص٧٠/ ١١٠، ص١٩٨/ ١٢١، ص٤٠/ ١٤٦، ص٣١). وقد تحدث أ. ف. ميلر عن الخطط الإصلاحية لمصطفى رشيد بقوله: «فكر مصطفى رشيد في إجراء إصلاحات جذرية حتى يضع بلاده على قدم المساواة مع أوروبا … وعلى الرغم من أن الأمر كان يكتنفه الغموض والتشويش، فقد تشكل هناك وعي بأن تركيا يجب أن تتخلى عن أسلوب الاستبداد الشرقي للعصور الوسطى وأن تنتقل إلى نظام جديد يضمن لها الحياة وحقوق الملكية.»
بالإضافة إلى ذلك فإن أصحاب المبادرة للتغيير والإصلاحات ذات الطابع البورجوازي رأوا أن من الضروري الاحتفاظ بالمؤسسات التقليدية الأساسية للمجتمع الإسلامي: تعايش قوانين الشريعة مع القوانين الجنائية الجديدة، الحفاظ على تفوق المسلمين على غير المسلمين في الإدارة الحكومية (إدارة الدولة) وفي الوقت نفسه تحرير نظام الدولة وإكسابه طابعًا ليبراليًّا، استمرار نظام التعليم في المدارس في أداء وظيفته عن طريق التدريس بالطريقة التقليدية التي وضعها المفكرون الإسلاميون، وفي الوقت نفسه يُنشأ في البلاد نظام للتعليم المدني وتتم الاستفادة من منجزات العلوم الغربية، إقامة المؤسسات الرأسمالية مع الاحتفاظ بمبادئ السياسة الضريبية للدولة الإقطاعية … إلخ.
لقد أعاقت هذه الازدواجية من قيام مؤسسات بورجوازية جديدة، على أن هذه الازدواجية نفسها كانت حتمية؛ إذ إن المصلحين لم يكن باستطاعتهم (حتى ولو أرادوا) أن يصبحوا منطقيين تمامًا في إنجاز الإصلاحات البورجوازية. وفي هذا الصدد كتب كارل ماركس عام ١٨٤٥م يقول: «هل من الممكن المساواة أمام القرآن في الحقوق بين المسلمين والكفار، بين المسلمين وباقي الرعية؟ إن هذا قد يعني حتمًا في الواقع استبدال القرآن بقانون مدني جديد، بعبارة أخرى: تحطيم بنية المجتمع التركي وإقامة نظام جديد للأشياء على أنقاضه» (٧، ص١٣٠). وقد ذكر الباحث الأمريكي الشهير ر. ﻫ. دافيون المتخصص في فترة الإصلاحات أنه كان من الضروري هدم المجتمع كله من أجل إجراء إصلاحات أكثر نجاحًا وحسمًا (١٥٨، ص٧٨). وقد عبَّر عن هذه الفكرة نفسها إ. ن. بيريزين عام ١٨٥٨م (٢٨، ص٥١).
على أي حال فقد قوَّضت التنظيمات الإصلاحية النظام القائم، سواء من الناحية الاقتصادية أو الأيديولوجية. ويومًا بعد الآخر أدى اندماج الإمبراطورية العثمانية في السوق الرأسمالية العالمية إلى تراكم الثروات لدى التجار ورجال الصناعة، وكان ثراؤهم هذا مصدر قلق فضلًا عن الاضطهاد من جانب الدوائر الحاكمة التي كانت الفئات الطفيلية والخاملة تشكل الجزء الأكبر منها والتي كانت تخشى — في الوقت نفسه — التيارات الانفصالية في أوساط الشعوب الخاضعة. وقد انعكست التناقضات القومية، سواء الطبقية أو الدينية، أو تلك التناقضات التي جرى استيعابها على نحوٍ مشوش لدى السكان المسلمين، في الصراع الداخلي الذي دار في فترة الإصلاحات.
لقد أحدثت المبادئ التي أعلنها خطي جولخانة طفرة أيديولوجية (ثورة أيديولوجية) في المجتمع. إن هذا البيان وما تلاه من إصلاحات حدثت إبان حياة مصطفى رشيد باشا قد ألقت ببذور أيديولوجية بورجوازية جديدة، كما خلقت مؤسسات اجتماعية بورجوازية لم تكن موجودة من قبل، لكنها مع ذلك لم تضع أساسًا لنمو البلاد في المستقبل. وفي الوقت نفسه فقد استخدم مصطفى رشيد باشا خطي جولخانة باعتباره «سلامًا دبلوماسيًّا» (١٥٧، ص٣٨) يُمكن أن يساعده في جذب انتباه الرأي العام في الدول الأوروبية إلى جانب السلطان وضد محمد علي.
الصراع الدبلوماسي في إسطنبول
أثارت المفاوضات المطولة التي أجرتها الدول الأوروبية في لندن شكوك غالبية الوزراء الأتراك في أن تُسفر هذه المفاوضات عن نتائج مبشرة، بينما ازداد الصراع لدى الباب العالي، الذي اعتبر بعض ممثليه، ومن بينهم الصدر الأعظم خسرو باشا، أن المفاوضات المباشرة مع محمد علي أجدى وأكرم (١٢٤، ج٢، ص٣٠–٣٢/ ٤٨، ص٣٢٧، ٣٢٨-٣٢٩).
وحتى يتفادى تدخل إنجلترا، التي كانت تقف ضد انضمام سوريا إلى مصر، قام السيد تير رئيس حكومة فرنسا بمحاولة من وراء ظهر الدول الأخرى أيضًا استهدفت التوصل إلى اتفاق مباشر بين السلطان ومحمد علي.
وقد أجرى خسرو باشا، وكان معروفًا بمناصرته لروسيا، مراسلات سرية مع محمد علي. ولما علمت النمسا بالخطابات السرية التي أرسلها خسرو باشا إلى محمد علي أبلغت بونسونبي، الذي قام بدوره بإبلاغ مصطفى رشيد باشا (٤٨، ص٣٢٨–٣٣١، انظر أيضًا ٢٧، ص١٧٩–١٨١). كانت إنجلترا تأمل ألا يُقدم محمد علي أي تنازلات هو وراعيته فرنسا، وراحت تبذل كل مساعيها من أجل عرقلة قيام مفاوضات مباشرة؛ إذ كانت تخشى أن تؤدي هذه المفاوضات إلى انقسام الإمبراطورية العثمانية إلى دولتين، إحداهما تابعة لفرنسا، والأخرى تدور في فلك روسيا (٣١٢، ص٥١٦، ٤٨، ص٣٢٩). وفي هذا الوقت بالتحديد قرَّرت إنجلترا أن تعمل بالتعاون مع روسيا ضد فرنسا.
كان بونسونبي يخشى أن يُعطي مصطفى رشيد أفضلية للمفاوضات المباشرة على انتظاره لقرارات المجتمعين في لندن. فكتب إلى مصطفى رشيد يخبره أن التأخير الذي كان سببًا لقلق الباب العالي يعود إلى ضرورة التوصل لحل النزاع التركي المصري لصالح السلطان، وأن الباب العالي سوف يصطدم بمؤامرات ومضايقات جديدة من جانب محمد علي لو أنه استجاب لمطالبه، كما أن وساطة جارته (روسيا) سوف تؤدي إلى تقسيم الإمبراطورية العثمانية. وأن العداوة والحرب سينتج عنهما استيلاء شخص آخر على السلطة العليا (يعني محمد علي)، وأن توقيع معاهدة صلح سوف يؤدي إلى وجود حاكمين (محمد علي والسلطان). واستطرد بونسونبي قائلًا إن فرنسا تأمل في تأييد محمد علي، وحيث إنه لن يستطيع تحقيق أي نجاح إلا بمساعدتها، فإن من البديهي أن يسعى السفير الفرنسي لحل مشكلات الإمبراطورية العثمانية دون وسطاء. وأكد بونسونبي على أن ترك الجزء الأصغر أو الأكبر من سوريا لمحمد علي يُمثل خسارة، بل وخطرًا على الإمبراطورية العثمانية، وأن روسيا أعلنت أيضًا أنه ليس باستطاعة أحد أن يُجبر السلطان على إعطاء محمد علي أي أقاليم أخرى غير مصر.
يدل محتوى الخطابين اللذين قدمهما بونسونبي إلى وزير الخارجية التركي أن صاحبهما قد بحث عن كل الحجج الممكنة التي يُمكن بواسطتها منع مصطفى رشيد من الدخول في مفاوضات مع محمد علي؛ إذ كان يخشى أن تؤدي المفاوضات المباشرة إلى استمرار تأثير روسيا على الإمبراطورية العثمانية وتأثير فرنسا على مصر. وقد تؤدي التنازلات الإقليمية لصالح محمد علي إلى إضعاف الإمبراطورية العثمانية وهو ما لم تكن تريده إنجلترا.
ولما كانت فرنسا هي صاحبة المبادرة في إجراء المفاوضات المباشرة، وهو ما قامت به على نحو سري، انطلاقًا من رغبتها في مساعدة مصر، فقد توصَّلت الدول الأخرى إلى القرار التالي: الإسراع بإعلان الحرب على محمد علي إذا رفض قبول شروط الصلح؛ وذلك منعًا لإمكانية قيام المفاوضات الثنائية المباشرة، العمل بشكل جماعي مع استبعاد فرنسا. وقد تم تسجيل هذه القرارات في اتفاقية لندن التي وقَّع عليها في ١٥ يوليو ١٨٤٠م كل من إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا (انظر ٣٤، المجلد ١٢، ص١٣٠–١٤١/ ٤٠، ج١، ص٦٨٩–٦٩٧، ٤٣، ص٣٠٥–٣١٤، ٤٣، ج٢، ص٤١٧، ٤٨، ص٣٣١–٣٣٥، وللاطلاع على تحليل الاتفاقية والوثائق الخاصة بها انظر ٦٣، ص١٢٦).
كان بالمرستون على يقين أن فرنسا لن تُشعل نيران الحرب ضد الدول الأوروبية المتحالفة وأنها ستكتفي بإطلاق صيحات الإنذار.
إخماد انتفاضة محمد علي
بعد الاتفاق الخاص بوسائل إخضاع محمد علي، تم توقيع معاهدة (وضعها السلطان) طرح فيها شروط إخضاع محمد علي له. اتفق السلطان على إعطاء محمد علي وأحفاده إدارة مصر بصفته واليًا، وحق حكم عكا وجنوب سوريا مدى الحياة. فإذا لم يوافق محمد علي على قبول هذه الشروط خلال عشرة أيام من إبلاغه بقرار المؤتمر، يمتنع السلطان عن إعطائه حكم عكا مدى الحياة، فإذا تأخر محمد علي عشرة أيام أخرى فإن السلطان لا يترك له عندئذ سوى مصر ليحكمها هو وورثته. وعلى محمد علي، خلال المهلة المُحددة (٢٠ يومًا)، أن يُعيد أسطول السلطان، وأن يصدر هو والمفوض التركي أمرًا إلى قواته البرية والبحرية للانسحاب من الأراضي التي احتلها محمد علي.
كان من المفترض أن تُحدد الجزية السنوية تبعًا للمناطق التي سيئول حكمها إلى محمد علي، كما كان من الضروري أن تُطبق المعاهدات وقوانين الإمبراطورية العثمانية على هذه المناطق، وأن يُمارس محمد علي سلطاته باسم السلطان بشرط دفع الجزية، وأن تُصبح القوات البرية والبحرية التي يمتلكها محمد علي جزءًا من القوات المسلحة للإمبراطورية العثمانية (انظر ٣٤، المجلد ١٢، ص١٣٠–١٤١/ ٤٠، ج١، ص٦٨٩–٦٩٧/ ٤٢، ص٣٠٥–٣١٤/ ٤٣، المجلد ٢، ص٤١٧/ ٤٨، ص٣٣١، ٣٣٥/ ٦٣، ص٢٦).
يتضح لنا من مقارنة شروط إخضاع محمد علي للسلطان والتي تم إقرارها في مؤتمر لندن عام ١٨٤٠م بشروط الإخضاع، التي طرحها الباب العالي في الفترة من ١٨٣٢م وحتى ١٨٣٣م أنها متطابقة تقريبًا. ومن البديهي أن مبادرة طرح هذه الشروط في عام ١٨٤٠م قد جاءت على يد الباب العالي، الذي سعى عام ١٨٣٢م و١٨٣٣م لنقل حرية التصرف في الأسطول والجيش والمهمات الحربية لمصر إلى إسطنبول، ولكي لا تتجاوز صلاحية محمد علي حدود الأراضي التابعة له، وحتى تظل مصر خاضعة للوائح وقوانين الباب العالي. بالإضافة إلى ذلك فقد أراد الباب العالي أن يُدير قلاع مصر؛ الإسكندرية وغيرها، قادة معينون من قِبل الباب العالي، كما كان متبعًا من قبل. جدير بالذكر أن السفير التركي نامق باشا كان مفوضًا عامَي ١٨٣٢م و١٨٣٣م بالاعتراض بشكل حاسم على إعلان محمد علي السلطة على مصر له ولأحفاده من بعده (١٩٩، ص٢٤٤-٢٤٥).
وخلافًا للأعراف الدبلوماسية المتبعة؛ فقد شرعت الدول في تنفيذ الاتفاقية دون انتظار لاعتمادها (٨٤، المجلد ٤، ص٢٤٦)، ومما دفع بها لاتخاذ إجراءات حاسمة في هذا الصدد، التهديد القائم بدخول الباب العالي ومحمد علي في مفاوضات مباشرة.
لقد كان توقيع معاهدة لندن عام ١٨٤٠م دون مشاركة فرنسا بمثابة «واترلو دبلوماسية» لها، حتى إن الصحف الفرنسية راحت تُهدد إنجلترا بالحرب (١٠٠، ص٧١).
في الخامس من أغسطس عام ١٨٤٠م أعلن مصطفى رشيد موافقة الباب العالي الكاملة لقرارات معاهدة لندن. وفي نفس الشهر توجَّه صادق رفعت أفندي مستشار وزارة الخارجية إلى مصر لإعلان واليها باسم السلطان، بالقرارات التي تم اتخاذها في لندن. وفي محاولة منه لكسب أفضل الشروط، لم يتقدم محمد علي بالرد في الموعد المحدد (٥٣، المجلد ٦، ص١١٥–١١٧، ٦٣، ص١٤٦)، معتقدًا أن فرنسا سوف تدخل الحرب إلى جانبه وما لبث أن أُعلن حالة الحصار على الساحل السوري. وفي منتصف أغسطس أعلن شيخ الإسلام في اجتماع موسع لمجلس الدولة أن محمد علي يستحق أشد العقاب. لقد تقرَّر «ضرورة تنفيذ المعاهدة الموقعة مع الحلفاء، وأنه لا بديل عن ذلك. وأن كل من يطعن أو يُعارض ذلك سوف يُعاقب على الفور» (٥٣، المجلد ٦، ص١١٦-١١٧، انظر أيضًا ٤٨، ص٣٣٥، ٢٢٩).
إن هذه الصياغة المتمثلة في ضرورة البدء في الأعمال العسكرية ضد محمد علي في اتحاد يضم قوات الدول الأوروبية المتحالفة، إنما يُشير إلى أن الباب العالي اعتبر قبول مساعدة الدول المتحالفة بالذات أمرًا غير مرغوب فيه، بعد أن تحقق التحالف الثنائي بين إنجلترا وتركيا. على أي الأحوال فقد اضطرت حكومة السلطان للاستسلام لهذا الأمر وقبول السير في هذا الطريق. وكما ذكرنا من قبل، فإن الباب العالي لم يعد باستطاعته أن يدخل في صراع ضد محمد علي معتمدًا على قواه الذاتية بعد الخسائر التي تكبَّدها في الجيش والأسطول، وبعد موت السلطان الدءوب محمود الثاني. كانت إنجلترا تتهرب من الحرب إلى جانب السلطان؛ وهو ما أفقد الباب العالي أيضًا إمكانية العمل استنادًا إلى الاتفاق الثنائي بين إنجلترا وتركيا الذي نجح في التوصل إليه بعد عدة سنوات.
من المحتمل أن يكون للقرار الذي ذكرناه آنفًا، والذي اتخذته حكومة السلطان بشأن ضرورة تنفيذ المعاهدة مع الحلفاء ظلال أخرى. إن الطعن في هذا القرار ومقاومته كان من الممكن أن يأتيا، سواء من جانب المؤيدين للمفاوضات المباشرة بين محمد علي، أو من جانب المسلمين المتعصبين عمومًا. لقد قابل بعض المسلمين هذا التعاون من جانب «الكفار» بالسخرية، بل إنهم سخروا أيضًا من الاتجاه المعادي لمحمد علي «المؤمن» (انظر على سبيل المثال ٢٧، ص١١١–٥١١، ١٢٤، ج١، ص١٥٠، ١٧٣، ١٣٢، ص٤٢٨).
وفي إسطنبول ناقش مصطفى رشيد الوضع الذي تخلف عن هذا القرار مع سفراء الدول المتحالفة وفي المجلس الاستشاري للباب العالي المجتمِع في مقر إقامة شيخ الإسلام. وقد اعترف المشاركون في الاجتماع أن محمد علي لم يلتزم بموعد الامتثال وأقروا عزله. أصدرت حكومة السلطان قرارًا بنقل حاكم مصر مؤقتًا، على نحوٍ رمزي، لعزت باشا حاكم عكا، وكان من المفترض، بناءً على قرارات اجتماع لندن، ضرب الحصار على الشواطئ المصرية بعد شهر من تسلم محمد علي شروط المعاهدة، وذلك في حالة رفضه لهذه الشروط (٥٣، المجلد ٦، ص١١٥–١١٧، ٦٣، ص١٤٦)، وذلك بالجهود المشتركة لأساطيل إنجلترا والنمسا. وقد أبلغ مصطفى رشيد سفارات الدول المعنية علمًا باقتراح بدء الحصار (٤٨، ص٣٣٥–٣٣٨).
وسرعان ما ضرب الأسطولان الإنجليزي والفرنسي المتحدان الحصار على الشاطئ السوري. أما فرنسا التي كانت راغبة عن الدخول في حرب ضد الدول المتحالفة فقد سحبت أسطولها من البحر المتوسط.
وفي أكتوبر لقي جيش محمد علي هزيمة منكرة قرب بيروت. وفي هذا الوقت تقدم مترنيخ تقدم باقتراح إعادة حقوق محمد علي في حكم مصر. وأيدته في هذا الاقتراح روسيا، التي كانت تخشى من تصاعد قوة إنجلترا في الشرق الأوسط. وفي الخامس عشر من أكتوبر عام ١٨٤٠م وجَّه بالمرستون، أمام ضغط الحلفاء، تعليمات جديدة إلى بونسونبي يقترح عليه فيها أن يوصي الباب العالي بإعادة محمد علي للسلطة بشرط إعلانه الطاعة وإعادته أسطول السلطان وسحب قواته من سوريا وعدن وكريت والمدن «المقدسة».
وقد أرسلت قيادة الحلفاء الكومودور نيبير إلى الإسكندرية لإبلاغ محمد علي بالقرار الجديد (٦٣، ص١٥٤-١٥٥). وفي منتصف نوفمبر توجَّه نيبير إلى الإسكندرية لإجبار محمد علي على الخضوع لقرارات مؤتمر لندن ١٨٤٠م، بعد أن يُقدِّم له وعدًا لحكم مصر حكمًا وراثيًّا. وفي السابع والعشرين من نوفمبر وقع محمد علي الاتفاق الذي اقتُرح عليه وأرسل خطابًا إلى السلطان يُعرب فيه عن ولائه له.
لم يكن الباب العالي راضيًا عن القرار المستقل الذي اتخذه نيبير، فبدلًا من أن يقوم هذا بإبلاغ محمد علي؛ إذ به يأخذ على عاتقه مسئولية توقيع محمد علي على الاتفاق (٤٨، ص٣٦٣)، فقد كان الباب العالي يأمل في إقصاء محمد علي نهائيًّا لأنه تجاوز الموعد الذي حددته قرارات اتفاقية لندن ١٨٤٠م. وفي الثامن من ديسمبر أرسل شكيب أفندي إلى سفراء الدول المتحالفة في لندن مذكرة السلطان بشأن رفض السلطان تقديم حق حكم محمد علي لمصر وراثيًّا. وعندما كان الساحل السوري في ديسمبر من عام ١٨٤٠م مليئًا بقوات الحلفاء، واصل جيش السلطان هجومه، بينما ظل الباب العالي على رفضه توقيع معاهدة صلح مع محمد علي.
كان بالمرستون غير راضٍ تمامًا أيضًا عن التصرفات التي قام بها نيبير دون إذن، واتَّخذ قرارًا بعدم التسرع في إعطاء محمد علي الحكم الوراثي؛ نظرًا للنجاحات التي كان الحلفاء يحرزونها في سوريا. وقد قام بالمرستون بإرسال خطاب إلى بونسونبي جاء فيه: «ليس هناك أحد على وجه العموم، باستثناء السلطان، بإمكانه إعطاء مثل هذه الضمانات» (الاستشهاد من المرجع ٦٣، ص١٥٥). وقد طرح الباب العالي على سفراء الدول المتحالفة القرار النهائي لمناقشته. لم تكن حكومة السلطان تثق في إخلاص محمد علي، ولهذا راحت تعوِّل على مساعدة الحلفاء في صياغة شروط لإخضاع محمد علي وحرمانه من الاستقلال الحقيقي، وقد تعزله حتى من منصبه.
اجتماعات إسطنبول
في ديسمبر من عام ١٨٤٠م بدأت في إسطنبول اجتماعات ممثلي الحكومة العثمانية مع سفراء أوروبا تحت رئاسة مصطفى رشيد لدراسة شروط إخضاع محمد علي للسلطان (٤٨، ص٣٤٣).
تؤكد محاضر الاجتماعات وغيرها من الوثائق التي نشرها د. كاينار أن الثقة التامة قد سادت العلاقات بين وزير خارجية تركيا والسفير الإنجليزي (٤٨، ص٣٢٣). كان موقف بونسونبي أثناء المباحثات متشددًا للغاية تجاه محمد علي، حتى إن مصطفى رشيد والباب العالي اضطُرَّا للبحث عن حلول معتدلة تجنبًا لإثارة سخط باقي المشاركين في هذه الاجتماعات، وهم سفراء النمسا وبروسيا وروسيا (٤٨، ص٣٥٠–٣٦٣).
كان أهم سؤال ناقشه السفراء في اجتماعهم هو ما إذا كان من الممكن أن يصبح محمد علي أهلًا للثقة. في البداية كان مصطفى رشيد ومعه السفير الإنجليزي يتخذان من هذا الأمر موقفًا سلبيًّا، أي إنهما كانا يعتزمان عزل محمد علي من منصب والي مصر. على أن الضغط الذي مارسه المشاركون الآخرون في الاجتماع إلى جانب المناخ الدولي بصورة أساسية قد «اضطرهما إلى تغيير عزمهما». وقد أعرب السفير النمساوي عن خوفه من أن يؤدي اتخاذ موقف متشدد تجاه محمد علي إلى تجدد الاشتباكات العسكرية. ونتيجة لذلك فقد قرَّر السفير أن يؤيد رأي السفير الإنجليزي — أيًّا ما كان هذا الرأي — فيما يتعلق بأهم قضية، ألا وهي السماح بالحكم الوراثي لمحمد علي (٤٨، ص٣٤٥–٣٤٩). وكان سفراء كل من روسيا والنمسا قد أعربا عن عدم رغبتهما في تصعيد الموقف.
تمت مناقشة محضر اجتماع السفراء الأوروبيين الأربعة في اجتماع مجلس وزراء الإمبراطورية العثمانية حيث تقرر طرح الثقة في محمد علي وذلك حتى لا يحدث خلاف على الموافقة الجماعية وإهدار ما تم التوصل إليه من نتائج. وقد تمت الإشارة في محضر الاجتماع إلى أن لورد بالمرستون يرى أن تكون هناك ثقة في محمد علي وإعلان ولائه، على أن إعطاء محمد علي حكم مصر وراثيًّا ينبغي أن تُصاحبه بعض الشروط المفيدة للإمبراطورية العثمانية (٤٨، ص٣٥٢-٣٥٣).
وقد تم إرسال مفوضين أتراك إلى مصر يحملون إلى محمد علي إخطارًا بشأن القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء. وعلى الفور قام محمد علي في ١١ يناير ١٨٤١م (١٢٤، ج٢، ص٤٩) بإعادة أسطول السلطان الذي كان موجودًا في مصر منذ الرابع من يوليو ١٨٣٩م، كما أرسل خطابًا جديدًا يُعرب فيه عن إخلاصه لحكومة السلطان. وقد أبلغ محمد علي الموظفين الموجودين في الأراضي التي أُعيدت إلى السلطان (في سوريا وكيليكيا والجزيرة العربية وكريت) كتابةً ولاءه لحكومة السلطان. وكان من نتائج ذلك تحرير المناطق بناءً على طلب السلطان (٤٨، ص٣٥٧-٣٥٨). وفي الثلاثين من يناير عام ١٨٤١م تقدمت الدول المتحالفة مرة أخرى إلى السلطان باقتراح إعادة محمد علي إلى منصب والي مصر (٥٣، المجلد ٦، ص١٢٠، ٦٣، ص١٧٠-١٧١)، في محاولة لتفادي اندلاع الحرب مع فرنسا.
أما المسألة الثانية والتي جرت مناقشتها في اجتماع السفراء الأوروبيين والتي طُرحت بعد تسليم محمد علي الأسطول للسلطان، فقد كانت تتعلق بشروط إعطاء محمد علي الحق في حكم مصر وراثيًّا. وقد أصر بونسونبي على أن تكون هناك شروط صارمة مصاحبة لحق الحكم الوراثي من شأنها أن تُخضع محمد علي خضوعًا كاملًا للباب العالي. وذكر بونسونبي أن المال قد أتاح لمحمد علي أن يعلو علوًّا كبيرًا لدرجة أن إخضاعه تطلب جهدًا عظيمًا وأريقت من أجله دماء كثيرة. ولهذا فإن من المستحيل أن توضع في حوزته مرة أخرى ثروات ليس له حق فيها. وأكد السفير الإنجليزي أن معاهدة الدول المتحالفة قد أجبرت محمد علي على حل النزاع سلميًّا وإن كان يُفضل عليه الحرب. وقد اضطر الآن بعد هزيمته أن يخضع للسلطان دون أي شروط. كان بونسونبي يأمل أن تُكبل هذه الشروط الصارمة من سلطة محمد علي، فإذا ما رفض الانصياع لها فإن من الضروري عندئذ حرمانه من السلطة نهائيًّا.
حظيت قيمة الجزية التي كان على مصر دفعها للباب العالي وكذلك وسيلة جبايتها باهتمام كبير إبان المفاوضات. وقد أشار بونسونبي إلى أن محمد علي كان يحصل سنويًّا على ١٢٨٢٧٢٥٠ فرنكًا سنويًّا (ما يعادل ١٠٠ ألف كيس) من جراء ابتزازه غير الشرعي لأموال المصريين، وحتى يتم حرمانه من هذه العائدات اقترح بونسونبي إجبار محمد علي على تنفيذ بنود اتفاقية ١٨٣٨م التجارية، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إلغاء نظام الاحتكار في مصر، وهو المصدر الرئيسي لثروة محمد علي. وأوصى بونسونبي بأن يتم تحصيل الضرائب عن طريق الدفتردار وموظفي حكومة الباب العالي (٤٨، ص٣٥٨، ٣٦٢، ٢٧٨). واقترح أيضًا تخفيض عدد القوات المصرية وحرمان محمد علي من حق تعيين كبار الضباط في الجيش، ليجعل من المستحيل عليه مستقبلًا تجديد أعماله العدوانية ضد السلطان (٤٨، ص٣٦٤). في فبراير عام ١٨٤١م وصلت المفاوضات إلى ذروتها، وأشار السفراء خلالها إلى ضرورة تحديد مبلغ معين للجزية (٤٨، ص٣٧٢)، وقد كان من المقرر مناقشة هذا القرار في مجلس وزراء الإمبراطورية العثمانية واعتماده من السلطان.
تردد مصطفى رشيد في اتخاذ قرار نهائي في هذا الشأن؛ إذ تنبأ بأن محمد علي لن يقبل بحرمانه من حق التصرف في أموال مصر، وعندئذ لن تكون لدى الباب العالي أي إمكانية على إجباره على الدفع دون مساعدة من الدول الأوروبية، الأمر الذي يتوقف برمته على تنفيذ بنود معاهدة لندن ١٨٤٠م.
وقد لخَّص مصطفى رشيد شكوكه في التقرير الذي رفعه للسلطان في فبراير ١٨٤١م (٤٨، ص٣٧٤–٣٧٩) حيث كتب يقول: إن رأي بونسونبي بشأن إرسال دفتردار الباب العالي إلى مصر، أمر قد لا يوافق عليه السفراء الآخرون، وإن تنفيذ هذا البند سوف يواجه بصعوبات جمة. ولما كان مصطفى رشيد يرى أن رفض اقتراح بونسونبي قد يبدو مجافيًا للذوق، فقد اقترح أن ترفق وزارة الخارجية في ردها تفسيرًا مفاده أن «اقتراح السفير الإنجليزي مفيد، ولكنه يستند بلا شك على حسن النية فقط»، أما نص المعاهدة التي عُقدت في لندن، فقد اشتمل بوضوح على أن إدارة الشئون المالية لمصر أمر من اختصاص محمد علي، وبطبيعة الحال لم يكن هناك مجال للإصرار على القرار الآخر للباب العالي. على أنه إذا اكتشف السفير الإنجليزي بنفسه مع مرور الوقت أمورًا مواتية لاقتراحه، منها أن يرفض محمد علي الإقرار بالمعاهدة المعقودة، أو إذا ما نجح هو في إقناع السفراء الثلاثة الآخرين باقتراحه، أو لو ظهرت لدى الباب العالي ادعاءات ما ضد مصر في هذا الصدد، فإن الباب العالي عندئذ سوف يستغل اقتراح بونسونبي. وأشار مصطفى رشيد إلى أن توقف حل المسألة عند شكل جباية الجزية من مصر من شأنه أن يعرقل قضية التسوية بأكملها.
وفي وقت لاحق أعلن مصطفى رشيد وجهة نظر السفير النمساوي شتيورمر. وكان الأخير قد أكد أن السلام الذي جاء الآن على أسنة الرماح يُهدد الجميع، وأن فرنسا لن تضع سلاحها ما دامت شروط تسوية الأزمة لم تعلن بالكامل، إن البطء في التوصل إلى حل لبعض الشروط لا يعني — في رأي شتيورمر — الإسراع في حل المشكلة بأسرها، فهناك احتمال ألا ترضى فرنسا عن القرارات التي ستتَّخذ مستقبلًا، وأشار شتيورمر أيضًا إلى أنه ما لم تعلن الشروط الناقصة رسميًّا باسم السلطان، وما لم تنسحب قوات الدول المتحالفة، البرية والبحرية، من سوريا، فإن من المتوقع أن تظهر بعض الصعوبات في إجبار باشا مصر على قبول الشروط التي تم إعدادها.
وقد أعلن مصطفى رشيد أيضًا أن السفارة الروسية تؤكد أن البطء في قضية التسوية أمر خطير. وأكد السفير التركي أن هناك في النهاية رأيان: السفير الإنجليزي بونسونبي ويقف إلى جانب البطء والتروي، وسفراء النمسا وروسيا وبروسيا وهؤلاء يُناصرون اتخاذ قرار سريع. إن مسئولية إجبار محمد علي على قبول دفتردار الباب العالي تقع على كاهل إنجلترا وحدها؛ إذ إن الدول الأخرى قد تنحَّت عنها. أما فرنسا فما تزال شاكية السلاح، مستعدة لدخول الحرب، وما تزال تسعى لإرغام إنجلترا على وضع هذا الأمر في اعتبارها. كما أن استعراض القوى أمام محمد علي لم يعد أمرًا مقبولًا.
وفي الختام يقترح مصطفى رشيد البقاء على الشكل القديم لجباية الجزية طوال حياة محمد علي. كما يقترح كذلك تحديد مبلغ معلوم للجزية يتم دفعه لمدة خمسة أعوام، بانتهائها يتقرر من جديد النظر في الأمر وتحديد قيمة الجزية التي تتناسب عندئذ والقدرة المالية لمصر. افترض مصطفى رشيد أن تكون القيمة السنوية للجزية طبقًا للدخل ١٠٠ ألف كيس. ولما كان مصطفى رشيد يُدرك أن المبلغ يُمكن أن يكون مُبالغًا فيه ومن ثم يتعرض للتخفيض، فقد رأى ألا يتم ذكره في الفرمان السلطاني. أما إذا تمت الموافقة فيُكتب في التعليمات. وكما توقع مصطفى رشيد فقد طالب محمد علي بتخفيض الجزية التي تحددت في البداية بثمانين ألف كيس (٤٨، ص٣٨٠).
وقد حدد مصطفى رشيد العدد الضروري للقوات في مصر بثمانية عشر ألف فرد. وكتب مصطفى رشيد يقول إن هذه الوحدات سوف تخدم في مصر، ويُمكن للباب العالي استدعاؤها إذا ما دعت الحاجة، ويتولى السرعسكر مراقبة هذه الوحدات.
انتهت المفاوضات في التاسع والعشرين من مارس ١٨٤١م. وبمقتضى خطي شريف السلطان قدم محمد علي عددًا من التنازلات: تحدد انتقال السلطة بالوراثة لأكبر الذكور، يحق لمحمد علي تعيين الضباط حتى رتبة العقيد، تحددت قيمة مبلغ الجزية بالاتفاق الثنائي. وتبعًا لشهادة د. ج. روزين بلغت الجزية ٣٠ مليون قرش، أي ما يُعادل ٤٠ ألف كيس (١٢٤، ج٢، ص٥٠). وهو نفس المبلغ الذي ذكره إ. ب. شابوليو (١٢٣، ص٨٩). بينما أورد إ. كارامورسال رقمًا آخر هو ٦٠ ألف كيس، وهو ما يُمثل ربع إجمالي عائدات مصر (٢١٢، ص١٧٣).
أعلن محمد علي نفسه واليًا عن السلطان وأصبح حاكمًا على مصر فقط، وقام بإعادة المناطق الأخرى. تقلص جيشه إلى ١٨ ألف جندي يخضعون للسلطة العليا للباب العالي. أصبح للسلطان حق تعيين الرتب العسكرية العليا. ولم يعد محمد علي يملك حق بناء السفن الحربية.
نتائج نشاط الدبلوماسية العثمانية في فترة الصراع
على هذا النحو، ونتيجة للصراع الدبلوماسي الممتد (الذي كانت الحرب التي خاضها جيش الحلفاء ضد محمد علي من ١٨٤٠ إلى ١٨٤١م امتدادًا لها) انتهى الصراع التركي المصري بانتصار السلطان. لم يكن لهزيمة جيش السلطان على يد قوات محمد علي (في يونيو ١٨٣٩م) أي انعكاس على نتائج القرارات الدبلوماسية. لقد حصل محمد علي على حق الوراثة لأسرته في حكم مصر، ولكن بالشروط التي عرضها عليه السلطان عدة مرات من قبل ورفضها محمد علي في حينه. بقيت مصر في نطاق الإمبراطورية العثمانية، لكن حدود سلطة الحكم الذاتي لها تقلصت بشكل ملحوظ.
كان دور الدبلوماسية التركية في فترة الصراع الذي امتد عدة سنوات من أجل الوصول إلى هذا الحل دورًا بارزًا. كان هناك اتجاهان داخل الحكومة، الأول وهو لم يُدرس بعد دراسة كافية، وكان يميل إلى التحالف مع روسيا ويرتبط بمعاهدة أونكيار إيسكيليسي. وكان أشهر ممثليه خسرو باشا وأحمد فوزي باشا وعاكف باشا.
لقد أتاح التحالف الروسي التركي دعم الوضع الراهن في العلاقات مع محمد علي، وهيأ الفرصة للمفاوضات المباشرة معه. من المحتمل أن يكون أنصار التوجه الروسي قد عوَّلوا على مساعدة أكثر فعالية من جانب روسيا، وحيث إن روسيا لم تقدم هذه المساعدة، سواء بسبب معارضة دول أوروبا الغربية، أو بسبب عدم اهتمامها بتقوية الإمبراطورية العثمانية، فقد نجح خصوم التوجه الروسي في الانتصار على أنصار هذا التوجه.
كان مصطفى رشيد هو الروح الملهمة للاتجاه الثاني داخل حكومة السلطان، وهذا الاتجاه هو الذي اختار التوجه الإنجليزي، ونجح أنصاره في عقد التحالف الإنجليزي التركي الذي أخذ منحى هجوميًّا ضد محمد علي، كما نجح في تحييد فرنسا (أو أضعف من تأييدها لمحمد علي)، ثم رفض التوجه الروسي بداية من النصف الثاني للثلاثينيات. لقد وقفت الالتزامات الدبلوماسية لإنجلترا، إلى جانب معارضة كل من فرنسا وروسيا، حائلًا في طريق قيام التحالف الإنجليزي التركي، ولهذا لم يكن من السهل على الدبلوماسية التركية أن تنجز المهام التي وضعتها أمامها.
إن كون الباب العالي على امتداد الثلاثينيات لم يستجب لرغبة دول أوروبا الغربية، ولم يعقد معها معاهدة جماعية على غرار معاهدة أونكيار إيسكيليسي، قد شدد من المنافسة بين هذه الدول وبين روسيا، مما أدى في النهاية إلى إعادة النظر في معاهدة كوتاهية.
لقد كان من نتائج العلاقات الودية القائمة بين الباب العالي وروسيا، وهي العلاقات التي كانت تُثير قلق أوروبا الغربية، أن دفعت إنجلترا إلى تأييد السلطان ضد محمد علي بشكل أكثر فعالية مما قامت به روسيا. أما موقف فرنسا السلبي من معاهدة أونكيار إيسكيليسي فلم يسمح لها بمساعدة مساعي محمد علي في الحصول على الاستقلال.
وعلى الرغم من أن إنجلترا بدءًا من النصف الثاني من الثلاثينيات كانت قد حزمت أمرها على تأييد السلطان، لا محمد علي، فقد كان على الدبلوماسية التركية أن تبذل جهودًا جبارة لإنشاء علاقة ثقة بين الدولتين وأن توعز لإنجلترا أن مساعدتها للسلطان سوف تُحقق لها ما ترجوه من فائدة. وكان سبيل تركيا لتحقيق ذلك هو التنازل لصالح التجارة الإنجليزية عام ١٨٣٨م، ورفض طلب المساعدة من روسيا.
لقد نجحت الدبلوماسية التركية في تحييد فرنسا في الصراع التركي المصري مستغلة في ذلك التناقضات الفرنسية الروسية والفرنسية الإنجليزية. فقد استطاع الدبلوماسيون الأتراك إبان المباحثات التي جرت في كل من لندن وإسطنبول في الفترة من ١٨٣٩م وحتى ١٨٤١م وعن طريق علاقاتهم بإنجلترا الوقوف ضد المطالب الفرنسية المؤيدة لمزاعم محمد علي. وفي اللحظة الحاسمة التي قمع التحالف الأوروبي فيها قوات محمد علي عام ١٨٤٠م، اضطرت فرنسا للتخلي عن دعم مصر عسكريًّا. وقد أسهمت سياسات محمد علي الداخلية والخارجية أيضًا في هزيمته. كان محمد علي ينتهج سياسة إصلاحية تعسفية لصالح الطبقة الاجتماعية الجديدة. وفي السياسة الخارجية اقترن الصراع ضد السيادة التركية والسياسة الاستعمارية للدول الأوروبية مع النزعات التوسعية. «لم ينجح محمد علي في إقامة علاقات ودية مع السكان المحليين» سواء في الجزيرة العربية أو في السودان أو في سوريا (١٠٨، ص١٨٦).
على أن انتصار السلطان على محمد علي لم يكن انتصارًا كاملًا، ويرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى أنه تحقق بمساعدة حلفاء، وهو ما يؤكد الضعف الداخلي للدولة.
وبعد أن أقرَّت الدول الأوروبية بأسرها معاهدة لندن عام ١٨٤٠م، قامت كل من إنجلترا وبروسيا وروسيا وفرنسا والإمبراطورية العثمانية بتوقيع معاهدة لندن بشأن المضايق وذلك في ١٣ يوليو عام ١٨٤١م. وفي هذه المعاهدة «قرَّرت دول أوروبا بالإجماع، بناء على دعم السلطان، الاعتراف بالقانون القديم للإمبراطورية العثمانية الذي يقضي بإغلاق مضيقي الدردنيل والبوسفور أمام السفن الحربية الأجنبية، ما دام الباب العالي في حالة سلام».
على الرغم من أن وجود ضمانات للوحدة، يُعد في حد ذاته دليلًا على ضعف الدولة التي وُضِعت من أجلها الضمانات، وهي ضمانات لم تكن معلنة صراحة، لكنها نالت اعترافًا رسميًّا واعتُبرت قاعدة تسترشد بها الدول الأوروبية (١١٦، ص٢٤٢، انظر أيضًا ١٦٩، ص٤٥٩).
لم يكن وضع الإمبراطورية العثمانية بعد توقيع معاهدة لندن بشأن المضايق وضعًا متينًا، فالإمبراطورية لم يكن بمقدورها، اعتمادًا على قواها الذاتية وحدها، حماية أراضيها.
إضافة إلى ذلك فإن نشاط الدبلوماسية التركية في فترة الصراع التركي المصري يُمكن اعتباره نشاطًا حالفه النجاح، إذا ما وضعنا في اعتبارنا أن نتائجه تناسبت والإمكانات الحقيقية للدولة.