العلاقات التركية اليونانية
ما إن انتهت الأزمة التركية المصرية، حتى ظهرت أمام الحكومة العثمانية مشكلات جديدة تتعلق بعلاقاتها الدولية.
في الواحد والثلاثين من مارس عام ١٨٤١م تم عزل مصطفى رشيد باشا من السلطة، وهو الذي كان بمثابة «روح الإدارة» إبان فترة تسوية الأزمة (١٢٤، ج٢، ص٣٢). وتعد المصادر التي ذكرناها آنفًا أسبابًا مختلفة لعزله. لكن الذي لا شك فيه أن السبب الرئيسي يتلخص في أن السلطان والمقربين منه رأوا، بعد حل المشكلة المصرية، أن من الممكن السير قدمًا دون الاستناد إلى شخصية لها كل هذا الثقل في الدوائر الدبلوماسية، شخصية مصطفى رشيد، المبادر والقائد الأعلى لسياسة الإصلاحات، التي بدأ بها منذ عام ١٨٣٩م عصر جديد، والذي جعل الدخول الفعَّال للبلاد في النظام الرأسمالي الدولي الهدف الموضوعي لهذه الإصلاحات.
ومن الجائز أن يكون عدم ترحيب مترنيخ بالمباحثات الطويلة التي امتدت بين مصطفى رشيد وسفراء الدول الأوروبية في إسطنبول، بشأن شروط التسوية التركية المصرية، واحدًا من مبررات تقاعد رشيد، كما أشارت إلى ذلك كثير من المراجع التاريخية (٧١، المجلد ١، ص٤١٣/ ٢٠٢، ص١٣/ ٢٠٣، ص١٦/ ٢٠٧، ص٧٠٢/ ٤٨، ص٢، ٢٣٨–٣٨٣). وقد يرجع الأمر إلى الخلاف الذي وقع عند مناقشة القانون التجاري الجديد، والذي رأى فيه بعض أعضاء المجلس ما يخالف الشريعة الإسلامية (١١٠، ص١٢٨/ ١٥١، ص٢٠١).
وفي يوليو عام ١٨٤١م يعود مصطفى رشيد إلى نشاطه الدبلوماسي بعد أن تم تعيينه سفيرًا في باريس. وقد ظل يشغل هذا المنصب (باستثناء فترةٍ قصيرة من عام ١٨٤٣م) حتى نهاية عام ١٨٤٥م. ويتبين لنا بالرجوع إلى التعليمات الدبلوماسية التي أصدرتها إليه حكومة السلطان (٤٨، ص٣٩٢-٣٩٣، ٤٩٢) إلى أي حد كان مصطفى رشيد مطَّلعًا على المشكلات الداخلية والخارجية للإمبراطورية العثمانية، وكذلك على كل ما يخص الشئون الأوروبية، حتى إنه لم يكن بحاجة إطلاقًا لأي تعليمات مفصلة. وكان التوجه الرئيسي لنشاطه مجددًا ببذل جهده، باعتباره سفيرًا، لبعث وتقوية التحالف الإنجليزي الفرنسي، بعدما لوحظ أن بعض الخلافات قد دبَّت بين إنجلترا وفرنسا منذ فترة حول عدد من قضايا السياسة الدولية (تمت الإشارة إلى هذه الخلافات في التعليمات)، وأن هذه الخلافات شديدة الضرر على الإمبراطورية العثمانية.
ويلي الحديث عن مضمون هذا الجانب من التعليمات في سياق الخلافات التي وقعت منذ فترة غير بعيدة بين إنجلترا وفرنسا بسبب الصراع التركي المصري، والمخاوف التي انتابت الباب العالي من جراء حدوث تقارب سواء بين إنجلترا وروسيا، أو بين روسيا وفرنسا.
ويتعلق الجانب الآخر من التعليمات بالتيارات المتحمسة التي سادت فرنسا آنذاك، ويتناول هذا الجانب كيف أن بعض الفرنسيين رأوا ضرورة تخليص الرعايا المسيحيين من سلطات الإمبراطورية العثمانية، وكيف أُنشئت في باريس جمعية خاصة لتحقيق هذا الغرض، وأن بعض أعضاء هذه الجمعية يشغلون مقاعد في البرلمان الفرنسي. بل إن جمعية أخرى قد أُنشئت في لندن على غرارها. وقد صدرت الأوامر إلى السفير أن يتولى متابعة نشاط هاتين الجمعيتين، وأن يعمل جاهدًا على الحيلولة دون امتداد أثرها الضار على الإمبراطورية العثمانية إذا ما نجحتا في استعداء الرأي العام الأوروبي على الإمبراطورية العثمانية.
وهكذا نرى أن مضمون هذه الوثيقة (التعليمات) يُشير إلى أن هناك قضيتين كانتا تثيران قلق الباب العالي بعد تسوية الصراع التركي المصري؛ وهما: الحفاظ على متانة الرابطة بين إنجلترا وفرنسا باعتبارهما عنصر توازن في مواجهة التحالف القائم بين النمسا وروسيا وبروسيا، ثم الخلافات التركية اليونانية (٢٠٢، ص١٤١) إضافة إلى موقف فرنسا من القضيتين.
في عام ١٨٣٤م فرضت قضية العلاقات الدبلوماسية بين الإمبراطورية العثمانية واليونان نفسها على سياسة الدول الكبرى قريبة الصلة بالخلافات التركية اليونانية (١٢٤، ج١، ص٢١٧–٢٢٣). وفي فترة النشاط الدبلوماسي لمصطفى رشيد في باريس من عام ١٨٤١ وحتى ١٨٤٥م، لوحظت نفس الاتجاهات التي شاهدنا مثلها إبان الصراع التركي المصري، فقد قامت الدول الأوروبية بدور كبير لفرض سياسة مناوئة لروسيا في اليونان، وقد تجاوز هذا الدور التنافس بين هذه الدول بعضها ضد بعض.
لقد كانت التناقضات القائمة بين الدول الكبرى تُتيح للدبلوماسية التركية أن تُمارس ضغوطًا على محاولات الدولة اليونانية الفتية ضم الأراضي المأهولة بالسكان اليونانيين والتي ظلت ضمن نطاق الإمبراطورية العثمانية.
وقد سارعت الحكومة التركية أيضًا إلى إجراء مناورات سياسية محدودة؛ فعلى سبيل المثال، تحاشى الباب العالي الصراعات التي من شأنها أن تؤدي إلى خلافات حادة بينه وبين فرنسا (على الرغم من اعتراضه على سياسة فرنسا في تونس)، وذلك بهدف المحافظة على تأييد فرنسا له في صراعه ضد اليونان في أربعينيات القرن التاسع عشر (٤٨، ص٥٢٨–٥٣٣، ٥٣٧، ٥٤٠-٥٤١، ٥٤٣).
نجحت الدبلوماسية التركية أثناء صراعها مع اليونان في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر في الحفاظ على الحدود الإقليمية الفاصلة بين البلاد آنذاك.
تُشير التقارير الدبلوماسية التي رفعها مصطفى رشيد من باريس في الفترة من ١٨٤١م وحتى ١٨٤٥م إلى أن الحكومة الفرنسية سعت إلى إجراء مصالحة بين الأتراك واليونانيين، عن طريق إقناع الأتراك بأن الجمعيات ذات التوجه القومي في اليونان لا تلقى تأييدًا من جانب الحكومة اليونانية. وفي الأيام الأولى من وصوله إلى باريس في نوفمبر عام ١٨٤١م، أجرى مصطفى رشيد مباحثات مع وزير الخارجية الفرنسي ف. جيزو حول مشكلات العلاقات التركية اليونانية. طلبت تركيا من اليونان تعويضات مقابل بقاء الأوقاف التي ظلت باقيةً فوق الأراضي اليونانية، وتتمثل في العقارات التي كان يمتلكها مواطنون أتراك انتقلوا للعيش في مناطق أخرى من الإمبراطورية. وقد أبلغ جيزو نظيره التركي أن فرنسا سوف تعترف في هذه الحالة بالحقوق التركية. ومن الأمور التي أثارت الخلافات أيضًا، شروط اتفاقية التجارة التركية اليونانية التي كانت المباحثات بشأن عقدها تدور آنذاك، وقيام اليونان بإثارة انتفاضة سكان جزيرة كريت من اليونانيين وغيرهم في الأقاليم الأخرى للإمبراطورية العثمانية، وهو ما كان يُسبب قلقًا للإمبراطورية.
ترجع الخلافات حول الاتفاقية التجارية إلى أن اليونان طالبت الحكومة التركية بإعطاء اليونانيين الذين يعيشون في الإمبراطورية العثمانية نفس المزايا التي يتمتع بها رعايا الدول الأوروبية الأخرى. وفي الوقت نفسه طالبت اليونان باحتفاظ عمالها من أصحاب الحرف العاملين في الإمبراطورية العثمانية بإمكانية استخدام الورش الموجودة. لكن الباب العالي لم يوافق على ذلك. كان حجم اليونانيين الذين يعيشون في الإمبراطورية ويُعدون رعايا يونانيين كبيرًا للغاية، وكانت الموافقة على الشروط المذكورة تعني إمكانية خلق مستوطناتٍ يونانية مستقلة على أراضي الإمبراطورية، وهو ما كان يُشكِّل مصدرًا لقلق حكومة السلطان. من ناحية أخرى فإن موافقة السلطان، كان من الممكن أن تقنع اليونانيين «الخونة» (من وجهة نظر الباب العالي) في وضع أفضل مقارنة باليونانيين الذين احتفظوا بجنسيتهم العثمانية (١٢٤، ج١، ص٢٢١–٢٢٣، ج٢، ص١١٢–١٢٠/ ٤٨، ص٤٩٨–٥٠٠).
على أن الدولتين لم ينجحا في تجاوز الخلافات بينهما في هذا الشأن، ومن ثم لم تُعقَد الاتفاقية التجارية بين اليونان وتركيا.
وفي ديسمبر عام ١٨٤١م أكد جيزو لمصطفى رشيد أن الدول الكبرى لا تؤيد مساعي اليونان في توسيع حدودها (٤٨، ص٤٩٢-٤٩٣). على أن مصطفى رشيد، الذي كان على دراية بالمنافسة المحتدمة بين هذه الدول على اليونان، ظل على مخاوفه في ألا يدوم هذا الاتفاق. ولهذا فقد استمر يتابع باهتمامٍ سياسة فرنسا تجاه هذه القضية.
يذكر مصطفى رشيد في التقرير الذي رفعه إلى الباب العالي والمؤرخ يناير ١٨٤٢م، أن أيًّا من الدول الكبرى، التي تسعى للتوصل إلى تسوية سلمية للصراعات الدولية، لا تُفكر في الوقت الراهن في عقد تحالف مع اليونان؛ فالأخيرة تقع الآن تحت وصايةٍ مشتركة لثلاث دول (روسيا وفرنسا وإنجلترا)، وأن أي علاقة أكثر قربًا يُمكن أن تنشأ بين إحدى هذه الدول وبين اليونان، ربما تُشعل المنافسة لدى الدول الأخرى، وهو ما قد يُشكل سببًا لمزيد من الخلافات السياسية (٤٨، ص٤٩٥).
أولى مصطفى رشيد، بتكليفٍ من حكومة السلطان، اهتمامًا أكبر لنشاط الجمعيات ذات النزعة الهلينية في فرنسا وإنجلترا، وسعى لاستيضاح علاقات الحكومات الأوروبية بها. لقد أتاح الحديث الذي دار بين السفير التركي وبين جيزو في هذا الصدد (٤٨، ص٥١٣) والقلق الذي أبدته روسيا من جراء إنشاء هذه الجمعيات تهدئة مخاوف الحكومة التركية، حيث أكد جيزو أن هذه الجمعيات لا تُشكل في الوقت الحالي أي خطر حقيقي على الإمبراطورية (٤٨، ص٥١٣-٥١٤).
وفي عام ١٨٤٤م ترأَّس كوليتيس الحكومة اليونانية، وكان معروفًا بتأييده للتوجهات الفرنسية، مما دفع الباب العالي لمخاطبة فرنسا تحديدًا بطلب توفير ضمانات لحصانة أراضي الإمبراطورية العثمانية. وفي تقريره المؤرخ ١٧ سبتمبر ١٨٤٤م يعود مصطفى رشيد مرة أخرى لينبه أن الحكومة الفرنسية، شأنها في ذلك شأن الدول الكبرى الأخرى، وعدت بألا تسمح بالتوسع في حدود اليونان، لا عن طريق الحرب، ولا عن طريق الانتفاضات، وأنها أحاطت الحكومة اليونانية علمًا بذلك (٤٨، ص٥١٥-٥١٦).
كان مترنيخ قد اقترح ضم النمسا وبروسيا إلى تحالف الدول الثلاث الضامنة، وتوقيع معاهدة تجمع بين الدول الخمس الكبرى بهدف الحفاظ على حدود ثابتة لليونان (٤٨، ص٥١٦). استحسنت روسيا هذه الفكرة، بينما وقفت منها إنجلترا وفرنسا موقفًا سلبيًّا. رفضت فرنسا الاقتراح النمساوي؛ إذ رأت أن مثل هذه الضمانات (وهو ما أوضحه سفير النمسا لدى فرنسا لمصطفى رشيد في يناير ١٨٤٥م) يُمكن أن تُقلل من شأن التأثير الفرنسي في اليونان. وقد أعطى مصطفى رشيد أهمية فائقة لتصريحات الدول الكبرى فيما يتعلق بضمانات الحفاظ على الإمبراطورية العثمانية؛ إذ كان من شأن هذه التصريحات، من وجهة نظره، أن تُساهم في فرض طاعة السلطان على اليونانيين الذين يعيشون على أراضي الإمبراطورية.
وفي مايو ١٨٤٥م أوجز الباب العالي محصلة تقارير السفراء الأتراك لدى إنجلترا وفرنسا عن اليونان، وتوصَّل إلى استنتاج مفاده أن ثلاث دول تؤيد الإمبراطورية العثمانية في نزاعها مع اليونان. وقد تعرض التقرير الذي رُفع إلى السلطان إلى أن وزارة خارجية الإمبراطورية العثمانية والسفراء الأتراك لدى العواصم الأوروبية طالبوا بحظر نشاط الجمعيات اليونانية في لندن وباريس، وأن سفارات الدول الراعية تؤيد هذه المطالب (٤٨، ص٥٢٢–٥٢٤).
وأشارت التقارير أيضًا إلى أن كانينج، السفير الإنجليزي لدى إسطنبول «يحدوه الأمل في إبلاغ الباب العالي بأفضل النيات وتصرفات حكومته تجاه الإمبراطورية العثمانية»، عرض على وزارة خارجية الإمبراطورية العثمانية سرًّا تعليمات لورد أبردين، التي قدِّمت للسفير الإنجليزي لدى أثينا. وتؤكد هذه الوثيقة الموقف الإنجليزي الرافض للمشروعات اليونانية الخاصة بالتوسع في أراضيها. وأكد كانينج أن الدول الأوروبية الأخرى اتَّفقت بالإجماع على هذه المسألة مع إنجلترا (٤٨، ص٥٢٦).
وفي يناير عام ١٨٤٧م، وكان مصطفى رشيد ما يزال يشغل منصب رئيس الحكومة التركية، وقع صدام حاد بين الإمبراطورية العثمانية واليونان، كان من نتيجته قطع العلاقات الدبلوماسية، وكان السبب وراء هذا الصدام هو الإهانة التي تعرض لها موسوروس السفير التركي لدى أثينا (١٢٤، ج٢، ص١١٧، ١٣٢، ص٦١٣، ٢١٣، ص٤٢٨-٤٢٩). وقد تدخَّلت الدول الأوروبية أيضًا في هذا الصدام (١٢٤، ج٢، ص١١٨–١٢٠)، وكانت هذه الدول «متفقة فيما بينها على أمر واحد، وهو بالتحديد رغبتها في منع وقوع حرب تركية يونانية، كانت، في رأيهم، مقدمة لوقوع حرب بين إنجلترا وفرنسا» (١٢٤، ج٢، ص١١٩).
اتخذ الباب العالي بقيادة مصطفى رشيد باشا موقفًا متشددًا أثناء هذا الصدام، وأحرز فيه انتصارًا دبلوماسيًّا واضحًا. وقد تحقَّق للباب العالي ما أراد؛ فتم الاعتذار للسفير. ويؤكد د. ج. روزين أن هذا الانتصار الدبلوماسي الذي حقَّقته حكومة السلطان قد زاد من احترام الدوائر الدبلوماسية الأوروبية لها (١٢٤، ج٢، ص١٢١).
لقد أتاح التنافس الدائر بين الدول الكبرى، وخاصةً التوجه السياسي للدول الغربية المناهض لروسيا، أتاح للإمبراطورية العثمانية أن تستغل هذه العوامل لحل خلافاتها مع اليونان، ورأت فيها ركائز للتأثير الدبلوماسي ولتحقيق النتائج المرجوة.
لقد كان طموح الشعب اليوناني لإعادة وحدته ظاهرةً تقدمية من الناحية التاريخية، على الرغم من النزعات الهلينية القومية التي شاركته فيها البورجوازية اليونانية. ولهذا فإن من الضروري النظر إلى سياسة الباب العالي والدول الأوروبية المؤيدة له في هذه القضية باعتبارها محاولة لوقف مسيرة التطور التاريخي.