المشكلة الجزائرية
ذكرنا آنفًا أن مصطفى رشيد باشا، سفير تركيا لدى باريس، قد تم تكليفه ببدء المفاوضات مع حكومة فرنسا حول سحب قواتها من الجزائر. وكان الباب العالي يُعلق آماله على وعد بذلته فرنسا، وهو الوعد الذي ورد قبل ذلك في المذكرة التي سلمها له السفير الفرنسي في إسطنبول جيليمينو في عام ١٨٣٠م على إثر احتلال فرنسا للجزائر.
من الملاحظ أن جميع التقارير الدبلوماسية ذكرت مصطفى رشيد باعتباره الشخصية الرسمية المكلفة بالاتصال بشأن الجزائر، (٤٥، العدد ٧، ص٤٩). وهو ما يعني أنه تسلم — بطبيعة الحال — تعليمات شبيهة بالتي أوردناها سابقًا.
ولما كانت سنوات أربع قد مضت منذ احتلال فرنسا للجزائر، فإن الباب العالي كان يخشى أن ترفض فرنسا الدخول معه في مفاوضات بشأن هذه القضية. وقد أكد هذه المخاوف ما أعلنه سفير فرنسا في إسطنبول روسين عن عدم ارتياحه تجاه عزم الأتراك البدء في المفاوضات بشأن الجزائر (٢١٥، ص٣٦).
لهذا السبب اتَّسمت مهمة السفير التركي بالسرية، وقام مصطفى رشيد بالتمهيد لهذه المهمة بشكل جاد، حتى يتسنى له أن يحصل على موافقة الحكومة الفرنسية على قبول مذكرة الحكومة التركية الرسمية بشأن المسألة الجزائرية. كان تسليم المذكرة يُمثل — من وجهة نظر الباب العالي وكما تدل على ذلك التقارير الدبلوماسية لمصطفى رشيد — الخطوة الأولى التي ينبغي أن تتلوها خطوات أخرى. لقد كان بنية حكومة السلطان أن تصر مستقبلًا على مطلبها بإعادة الجزائر إلى كيان الإمبراطورية، كما كانت تأمل أن تؤيدها كل من إنجلترا وروسيا والنمسا في هذا المطلب.
في مطلع عام ١٨٣٣م قدم اللورد جراي، رئيس وزراء إنجلترا، وعدًا للسفير التركي نامق باشا (الذي كان قد وصل لطلب المساعدة من إنجلترا في مسألة انتفاضة محمد علي)، مفاده أن إنجلترا سوف تضع المسألة الجزائرية على جدول أعمالها بمجرد أن تنتهي من حل مشكلاتها السياسية الخارجية التي لا تحتمل التأجيل مع البرتغال وبلجيكا، وفي الوقت نفسه يكون الباب العالي قد اتخذ خطوات نحو إنهاء مشكلته مع مصر. وقد صرَّح السفير التركي أن رئيس وزراء إنجلترا قد أعلن خلال مباحثاته معه: «أن المشكلة الجزائرية سوف تؤدي في المستقبل إلى نشوب الحرب ضد فرنسا» (١٩٩، ٢٤٧).
ويُشير المؤرخون الأتراك إلى أن مصطفى رشيد في الثلاثينيات قد بالغ بعض الشيء في تقديره لثقل إنجلترا في السياسة الدولية. فقد رأى أن جميع القضايا السياسية، بما فيها الخلافات التركية الفرنسية، لا تُحل إلا عن طريق هذه الدولة بشكل أساسي (٤٨، ص٨٣، ٢٠٢، ص٧). مع أنه لو تذكر أن لويس فيليب في بداية توليه الحكم رأى أن من الضروري وقف غزو الجزائر، الذي كان كارل العاشر قد بدأه لتوه، لتهدئة إنجلترا، وأن «الحكومة الفرنسية أعلنت صراحة في عام ١٨٣٤م، بعد تغلبها على التأثير الإنجليزي عليها، عن رغبتها في إخضاع الجزائر بأكملها لسلطانها» (٧١، المجلد ١، ص٣٦٦)، لكان من المحتمل أن تصبح حساباته بالنسبة لتلقي الدعم من إنجلترا في المسألة الجزائرية دون مبرر.
كان مصطفى رشيد يعوِّل أيضًا على التعاون الدبلوماسي مع النمسا، بعد أن تلقى وعدًا من البارون أوتينفيلس سكرتير مترنيخ، في مقابلة أجراها معه في فيينا في سبتمبر عام ١٨٣٤م، بأن يقوم سفير النمسا في باريس بمساعدته، على الرغم من أن أوتينفيلس أكد له على المصاعب التي ستواجه الباب العالي في حل المشكلة الجزائرية (٤٥، العدد ١، ص٣٥).
تُوفِّر لنا تقارير مصطفى رشيد الأساس لنؤكد أن سفير روسيا في باريس بوتسو دي بورجو قد قدم له المساعدة في صورة مشورة.
وكان لهذه العريضة أثر بالغ على محمود الثاني. فقد قرَّر السلطان الإسراع باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحرير الجزائر، لكنه رأى أن العمل بالطرق الدبلوماسية هو المتاح فقط في الوقت الحالي (٢٠١، ٢١٥، ص٤٤-٤٥). لم يكن السلطان راغبًا في قطع العلاقات الفرنسية التركية التي أصبحت ضرورية للوصول إلى حل ناجح لمشكلة أخرى أكثر أهمية بالنسبة له، ألا وهي الصراع التركي المصري. كان السلطان يُجهز قواته العسكرية بحمية بالغة للدخول في حرب ضد محمد علي. وكان يرى أنه ليس في مقدوره الدخول في حربين إحداهما ضد فرنسا والأخرى ضد الباشا المصري. وكان الباب العالي يأمل ألا تؤيد فرنسا محمد علي بأي قوات عسكرية في حالة دخول الأخير حربًا ضد السلطان.
فور وصوله إلى باريس؛ قام مصطفى رشيد بالاتصال بحمدان أفندي وشخص آخر من طرابلس يُدعى حسون الداغس؛ ليتسنى له الاستفادة من معرفتيهما بالوضع في الجزائر، وحتى يكون باستطاعته استخدام هذه المعرفة إبان مفاوضاته مع الحكومة الفرنسية (٢١٥، ص٣٩).
كان حمدان أفندي ينتمي إلى طائفة العلماء، وكان رجلًا طاعنًا في السن. وقد جاء إلى باريس في مطلع شهر أكتوبر عام ١٨٣٤م لعلمه بحضور السفير التركي كما اتضح. وفي باريس جرت اللقاءات بينه وبين مصطفى رشيد، لكنهما اتفقا على استمرار الاتصالات بينهما كتابة وألا يلتقيا إلا عند الضرورة القصوى تجنبًا لغضب السلطات الفرنسية (٤٥، العدد ٢، ص١٤٥–١٤٦).
بدأ مصطفى رشيد مفاوضاته مع الحكومة الفرنسية في ديسمبر عام ١٨٣٤م، أي بعد وصوله إلى باريس بثلاثة أشهر. وطوال هذه الفترة كان مصطفى رشيد يستعد لها، وهو ما يُمكن الاستدلال عليه من خلال تقاريره الدبلوماسية أثناء تلك الفترة. أجرى مصطفى رشيد عددًا من المشاورات مع سفيري روسيا والنمسا، وتبادل الرسائل مع نامق باشا سفير تركيا لدى لندن. وفي منتصف شهر نوفمبر عام ١٨٣٤م أبلغ مصطفى رشيد الباب العالي بالتحذير الذي تلقاه من نامق باشا، والذي يُفيد أن المباحثات بشأن الجزائر يُمكن أن تضر بالقضية المصرية، وأن لندن، كما أخبر بالمرستون السفير التركي لديها، لا يُمكنها أن تُقدم للباب العالي أي دعم في هذه المباحثات (٤٥، العدد ٦، ص٤٣٦). على أن هذه المعلومات التي قدمها نامق باشا لم تثبط من عزم مصطفى رشيد (٤٨، ص٦٦). وبعد شهر واحد تغير المزاج في العاصمة الإنجليزية، وأبلغ نامق باشا مصطفى رشيد في باريس بتجدد الأمل في أن تقوم وزارة الدوق ويلنجتون، التي كانت قد حلت لتوها محل الحكومة الإنجليزية السابقة بتأييد الجانب التركي في مباحثاته مع فرنسا بشأن الجزائر (٤٥، العدد ٦، ص٤٣٦). وحيث إنه قد سارت شائعات تقول إن ويلنجتون لن يستمر في السلطة أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر، فإن من الضروري عدم إضاعة الوقت (٤٥، العدد ٧، ص٤٤-٤٥).
وهناك سبب آخر يُفسر لنا عدم شروع مصطفى رشيد في الدخول في المفاوضات بشأن الجزائر فور وصوله إلى باريس. ففي ربيع عام ١٨٣٤م، أعلن محمد علي والي مصر قناصل الدول الأوروبية عن عزمه إعلان الاستقلال، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي حتمًا إلى دخول السلطان في حرب ضد محمد علي، وبالتالي تدخل الدول الأوروبية في الصراع التركي المصري. وقد طلبت حكومتا كل من إنجلترا وفرنسا من محمد علي التخلي عن عزمه، وتلقتا منه ردًّا في ديسمبر من العام المذكور. ولم تكن العلاقات مع مصر تسمح لمصطفى رشيد أن يبدأ مفاوضاته بشأن الجزائر قبل أن يعرف رد محمد علي.
تحاشى نامق باشا في خطابه المؤرخ ١٦ ديسمبر أي ذكر للتقلبات الأخيرة (٤٥، العدد ٧، ص٤٤-٤٥). لقد انتهت المشاورات التي أجراها السفير التركي مع سفيري روسيا والنمسا في باريس بأن أيد الأخيران في ديسمبر ١٨٣٤م رأي مصطفى رشيد في أن الوقت قد حان لعقد المفاوضات (٤٥، العدد ٧، ص٤٥-٤٦). وكان مصطفى رشيد قد كتب قبل ذلك في الخامس والعشرين من سبتمبر عام ١٨٣٤م إلى إسطنبول يخبرها بأن الصحف الفرنسية مليئة بالأخبار عن الإصلاحات التي تُجريها فرنسا في الجزائر، ولهذا فإن سكوت السفير التركي يُمكن أن يُفسَّر هنا بأنه موافقة ضمنية على الاحتلال وعلى ما تفعله الإدارة الفرنسية. وكان من رأي السفير أن من الضروري أن يعلن باسم حكومته عن القضية الجزائرية (٤٨، ص٦٦). وقد أشار سفيرا كل من روسيا والنمسا على مصطفى رشيد بأن يقوم بتسليم مذكرة رسمية إلى وزير خارجية فرنسا، فعندها ستضطر فرنسا إلى الرد عليها رسميًّا، وهو ما يُمكن أن يكون مفيدًا في المستقبل (٤٥، العدد ٧، ص٤٦). وفي ١٦ ديسمبر عام ١٨٣٤م كتب مصطفى رشيد يقول إن على صحيفة «تقويمي فيكاي» التي تصدر في إسطنبول أن تُعبِّر عن الاحتجاج الرسمي في حالة رفض فرنسا للمذكرة التركية (٤٥، العدد ٧، ص٤٦).
حدد مصطفى رشيد موعد تسليم المذكرة مع افتتاح جلسات البرلمان الفرنسي التي كان من المفترض أن تُفتَتَح في ديسمبر، وكان يرى أن المذكرة سوف تدرس خلال انعقادها (٤٥، العدد ١، ص٤١).
وخوفًا من رفض الجانب الفرنسي مناقشة مسألة إعادة الجزائر، أعد مصطفى رشيد مبكرًا احتجاجات مؤسسة على الأعراف الدبلوماسية التي تقضي بعدم جواز الرفض. إلى جانب ذلك أحضر مصطفى رشيد معه أدلة تؤكد أن فرنسا وعدت في عام ١٨٣٠م بإعادة الجزائر إلى السلطان، كما أعد أيضًا تفسيرات لعدم تطرق الباب العالي على مدى الأعوام الأربعة المنصرمة لمناقشة مسألة الجزائر خلال اتصالات بفرنسا.
في نهاية العقد الثاني دخل مصطفى رشيد في مفاوضات تم الإعداد لها على نحوٍ جيد (٤٨، ص٧٢).
دارت المفاوضات مع وزير خارجية فرنسا الأدميرال دي ريني. وقد بدأ السفير التركي كلمته بالتأكيد على أن الهدف الرئيسي لنشاطه الدبلوماسي يتمثل في دعم العلاقات الودية المخلصة مع فرنسا، ونبَّه إلى أن الجانبين دأبا على تجنب الأعمال العدوانية دائمًا. وتحدث السفير قائلًا إن فرنسا قامت باحتلال الجزائر بسبب ما أبداه بايلر باي الجزائر في حينه من أعمال اتسمت بالرعونة، على أن الحكومة الفرنسية وعدت بإعادة الجزائر إلى مالكها الحقيقي، وهو السلطان. وأعرب السفير عن أمله في أن تصل المفاوضات الودية إلى حلول مرضية للطرفين في هذه القضية. كان مصطفى رشيد قد اعتزم تسليم دي ريني مذكرة حكومته، لكن الأخير — بعد شيء من الرؤية — أجاب بأنه ليس باستطاعته قبول هذه المذكرة؛ إذ إن الفرنسيين لن يتركوا الجزائر، ولهذا فإنه يرى أن من غير الممكن الاستجابة للسفير التركي.
نظر مصطفى رشيد إلى الجانب القانوني للعلاقات الدبلوماسية، وقال إن معنى تسليم المذكرة يكمن في تفسير أهداف ونيات الدولة، وإن قبولها لا يعني الموافقة على ما ورد بها. فإذا ما كانت هناك نقاط فيها تخرج عن حدود صلاحيات السفير، فإن من الممكن تأجيل المفاوضات بشأنها حتى يتم تسلم توضيحات حكومة السلطان. وأعلن مصطفى رشيد أنه لا توجد دولة واحدة ترفض قبول مذكرات السفراء والاستماع إليها، وأن هناك علاقات سلمية بين فرنسا والإمبراطورية العثمانية، وأن ادعاءات الباب العالي في الجزائر تستند إلى وعد رسمي بذلته فرنسا قبل ذلك.
أشار الوزير الفرنسي إلى أن الثورة التي قامت في فرنسا بعد احتلال الجزائر قد ألغت كل مواد المعاهدات السابقة، وأنه إذا كان الجنرال جيليمينو قد تحدث عن إعادة الجزائر فهو قد تصرف على نحوٍ شخصي؛ إذ لم يكن على علم برأي الحكومة في هذا الصدد، وهنا اعترض مصطفى رشيد قائلًا إنه لا يوجد سفير واحد يجرؤ على التصرف من تلقاء نفسه ودون موافقة حكومته، وإن كلمة السفير في كل مكان تؤخذ بثقة كاملة وهي التزام رسمي في المقام الأول. علاوة على ذلك فقد سلمت الحكومة العثمانية — بعد الثورة أيضًا — مذكرةً رسمة بشأن الجزائر وتلقَّت ردًّا من السفارة الفرنسية يؤكد ثبات موقف فرنسا من هذه المسألة. وقال مصطفى رشيد إن بإمكانه على أي حال إبراز هذه المذكرات.
أنهى دي ريني مفاوضاته معلنًا أن فرنسا لا تستطيع في الوقت الحالي أن تعيد الجزائر، ولكنه سوف يبلغ حكومته بمضمون هذه المفاوضات ثم يُحدد موعدًا ليناقش فيه مع مصطفى رشيد نتائج مشاوراته (٤٨، ص٧٢–٧٧). كان مصطفى رشيد راضيًا عن المفاوضات؛ إذ تمكن من تسليم مذكرة تركيا (٢١٥، ص٤٠).
وفي التقارير التي رفعها مصطفى رشيد إلى الباب العالي أشار إلى السؤال الذي طرحه عليه الوزر الفرنسي، عما إذا كان السفير التركي لدى إنجلترا على علم ببدء المفاوضات بشأن الجزائر. كان مصطفى رشيد يرى أن هذا السؤال يؤكد مخاوف دي ريني من تدخل إنجلترا في المفاوضات الجارية بين تركيا وفرنسا، وأن السفير التركي في لندن سوف يسعى لتحقيق هذا التدخل (٤٨، ص٧٦).
لا يحتوي تقرير مصطفى رشيد أي تعليقات عن رأيه في الدافع وراء الأسئلة التي طرحها عليه دي ريني. من المحتمل الظن أن هذا النقاش كان رد فعل للمفاجأة غير السارة بالنسبة لدى ريني، وهي طلب الباب العالي إعادة الجزائر، كان دي ريني يريد أن يُظهِر أن التبرير الذي يُفسِّر رغبة الباب العالي في استعادة الجزائر بزعم أنه مطلب من مطالب الدين الإسلامي هو تبرير غير مقبول. فقد ذكر دي ريني أن رجال الدين الإسلامي كثيرًا ما يقعون في تناقضات في أحكامهم بشأن واقعة وأخرى، وضرب مثلًا بحكمهم على سلوك محمد علي المتمرد. وفي نفس الوقت فإن إبراهيم وهو ابن محمد علي، مسلم الديانة، كان مستعدًّا للذهاب بقواته حتى ولو إلى الإمبراطورية العثمانية، بينما كان المسيحيون هم الذين يقفون للدفاع عن السلطان.
وفي المباحثات غير الرسمية التي أجراها مصطفى رشيد مع بوتسو دي بوردو، السفير الروسي في باريس، والتي عرضها مصطفى رشيد في تقريره، ذكر السفير الروسي أنه لم يشكَّ لحظةً واحدة في عدم جدوى المفاوضات، ولكنه أشار عليه بتكرارها من حين إلى آخر حتى تُصبح مطالب الباب العالي المذكورة ذات فائدة في المستقبل. كان بوتسو يرى أن تحرير الجزائر ممكن إما بالقوة بوساطة إنجلترا أو بغيرها من الدول الأوروبية (مؤكدًا بذلك رأي جيليمينو)، وإما بإقناع الشعب الفرنسي بعدم جدوى امتلاك الجزائر لفرنسا وأنه قد كره تبذير أمواله. لكن الحل الأول كان يعني قيام حرب شاملة، ولهذا فإنه من غير الممكن السماح لهذا الحل، أما الحل الثاني فلم يحدث (٤٥، العدد ٩، ص٢١٠). فيما بعدُ كان دي ريني يتحاشى الدخول في مناقشات مع مصطفى رشيد بشأن الجزائر.
وعلى الرغم من أن لورد ويلنجتون رئيس الحكومة الإنجليزية اعترف بحق الإمبراطورية العثمانية في الجزائر، إلا أنه أشار إلى أن إعادتها سوف يكون أمرًا صعبًا (٢١٥، ص٤١).
لم تُسفر جهود مصطفى رشيد في عام ١٨٣٤م عن تحقيق النتائج المرجوة. ويعود السبب في ذلك إلى ضعف الدولة العثمانية التي رأت فرنسا أنه قد أصبح بإمكانها في الوقت الحالي ألا تعيرها اهتمامًا.
كانت إنجلترا والنمسا تستثيران، عن قصد، أمل الباب العالي في استعادة الجزائر. فالأولى — على حد قول نيكولاي الأول — تحسد فرنسا على هذا الكسب الرائع (٨٥، ص٥٤٦). وفي الثلاثينيات كان بالمرستون ومترنيخ يُشيران على مصطفى رشيد أن يُدلي من حينٍ لآخر بتصريحاتٍ مناسبة عن حقوقه في الجزائر، وأن يتجنب أي تصريحات يُمكن أن تُفسَّر على أنها تخلٍّ عن هذه الولاية. وقد أشار مصطفى رشيد في أحد تقاريره أنه في الفترة الأخيرة لإقامته في فرنسا بصفته سفيرًا (عام ١٨٣٦م) لم يُصدر أي تصريحات رسمية بشأن الجزائر. على أنه لم يتوقف عن الحديث بشكل غير رسمي عن هذه المشكلة وتوجيه الانتقاد للفرنسيين (٤٦، العدد ١٦، ص٤٤).
في يناير عام ١٨٣٦م بعث سكان مدينة قسنطينة الجزائرية وضواحيها برسالة إلى إسطنبول يذكرون فيها نضالهم ضد الفرنسيين ويطلبون الاعتراف بأحمد بك واليًا على قسنطينة. لم يكن الباب العالي يتوقع آنذاك نجاح المذكرات الدبلوماسية، لكن أعضاء حكومة السلطان لم يتحمسوا لإرسال دعوة مفتوحة لفرنسا لكي تعترف بأحمد بك واليًا تركيًّا، على الرغم من أنهم لم يتوقفوا عن تشجيعه على مواصلة النضال ضد الفرنسيين. وقد تم إرسال كمال بك سفير الباب العالي إلى الجزائر عبر تونس، وفي نفس الوقت خرج جزء من الأسطول العثماني إلى عرض البحر المتوسط ولم تتوانَ الحكومة الفرنسية عن اتخاذ الإجراءات التي ترد بها على هذا التصرف. ففي السابع من يونيو عام ١٨٣٦م بعثت فرنسا بمذكرة أعلنت فيها عن خروج الأسطول الفرنسي إلى عرض البحر للدفاع عن مصالحها السياسية والتجارية. وعلى الرغم من أن الباب العالي أجاب على هذه المذكرة بما يُفيد حقه الكامل في تصرفاته، إلا أنه أعاد الأسطول إلى قواعده. وقد وجَّه وزير الخارجية الفرنسي مولي تحذيرًا لنوري أفندي، السفير التركي لدى باريس، مفاده أنه في حالة إرسال الباب العالي أسلحة إلى أحمد بك فإن الحرب بين فرنسا والإمبراطورية العثمانية ستشتعل على الفور (٢١٥، ص٤٥-٤٦، ٥٤).
في يوليو عام ١٨٣٧م أبحر الأسطول التركي إلى طرابلس. وهنا أعلنت فرنسا عن إرسال أسطولها إلى تونس. وقد أشار بونسونبي، السفير الإنجليزي لدى إسطنبول بإعطاء باي تونس ضمانات من السلطان (ضمان أمن تونس في حالة هجوم الفرنسيين على أراضيه). عندما وصلت السفن التركية إلى طرابلس؛ توجَّه إلى تونس أحمد توفيق، الذي تسلم من مصطفى باشا بايلر باي تونس ٥٠٠ كيس لتوصيلها إلى الباب العالي هدية منه. وفي سبتمبر عام ١٨٣٧م تحوَّل الأسطول التركي متجهًا إلى إسطنبول، وقد رافقه الأسطول الفرنسي حتى تشنكالي (ميناء على مضيق الدردنيل)، وقد أبلغ الباب العالي احتجاجه إلى السفير الفرنسي روسين.
في الثالث عشر من أكتوبر عام ١٨٣٧م سقطت مدينة قسنطينة، ولم يُقدِّم باي تونس أي مساعدة لأحمد، على الرغم من أن الباب العالي طلب منه ذلك (٢١٥، ص٥٦-٥٧).
وقد أعلن بالمرستون مرارًا أن إنجلترا لا تُحبِّذ استيلاء فرنسا على الجزائر (٤٨، ص٨٤، ٨٧). وفي أغسطس عام ١٨٣٨م أوصى بونسونبي، سفير إنجلترا لدى إسطنبول، الباب العالي يُطالب لويس فيليب بالاعتراف بسيادة السلطان على الجزائر (٧١، المجلد ١، ص٣٨٠).