الفصل الثامن

التنافس التركي الفرنسي في تونس

كانت مقاومة السياسة الفرنسية في تونس إحدى المهام التي تطلبت اهتمامًا دائمًا من جانب الدبلوماسية العثمانية في الفترة من عام ١٨٤١ وحتى عام ١٨٤٥م.

شجَّعت الحكومة الفرنسية التوجهات الانفصالية لباي تونس، وسعت لأن يقوم بتوسيع حدود بلاده، آملة أن يؤدي ذلك إلى تقوية موقف فرنسا في حوض البحر المتوسط.

لقد حاول الباب العالي في أربعينيات القرن التاسع عشر تفادي الأخطاء التي ارتكبها في حينه بالنسبة للجزائر، وكان دائم التأكيد على الحق الأعلى للسلطان في هذا الإقليم، وفي الوقت نفسه استمر في محاولاته لتجنب تفاقم علاقاته في فرنسا.١

كانت تبعية تونس لفرنسا ضعيفة، وكان البايات حتى ١٨٤٥م يدفعون للباب العالي الجزية، وفي عام ١٨٤٥م أعفت حكومة السلطان، ظاهريًّا، تونس من دفع الجزية كما ظلت تبعيتها له أمرًا شكليًّا (١٢٤، ج٢، ص١١٠).

وبعد احتلالها للجزائر عام ١٨٣٠م، ظلت فرنسا متخوفة من استخدام الحكومة التركية لتونس كقاعدة لتقديم المعونات العسكرية للمناضلين الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي (٤٨، ص٥٢٨–٥٣٠). ولهذا كانت فرنسا تُعرب عن احتجاجها المستمر كلما ظهر أسطول السلطان عند سواحل شمال أفريقيا بنفس الحجة التي ترى أن هذا الأمر يُعد تحريضًا للجزائريين على القيام بانتفاضات جديدة (١٢٤، ج٢، ص٩٠).

وفي أربعينيات القرن التاسع عشر استمر نضال الشعب الجزائري ضد المحتلين الفرنسيين تحت قيادة عبد القادر الجزائري (انظر المرجع ١٤٤)، أما الباب العالي فلم يفقد الأمل، كما ذكرنا من قبل، في الحل الدبلوماسي لإعادة الجزائر إلى الإمبراطورية العثمانية. لقد قرَّر الباب العالي في الفترة من ١٨٣٥ إلى ١٨٣٧م تحويل تونس إلى ولاية عادية من ولايات الإمبراطورية العثمانية يحكمها والٍ يُمكن تعيينه من قِبل إسطنبول. وقد اعترضت فرنسا على ذلك وانتهى الأمر بأن تخلى الباب العالي عن مخططاته (١٢٤، ج١، ص٢٨٢–٢٨٤/ ٧١، المجلد ١، ص٤٢٥/ ١٧٦، ص٢١٠-٢١١). آنذاك أكد تيسير أن فرنسا لا تعتزم فرض رقابتها على تونس وطرابلس، ولكنه رفض في الوقت نفسه الاعتراف بسيادة السلطان على هذه المناطق، وأرسل الأسطول الفرنسي إلى تونس تحسبًا لظهور الأسطول التركي هناك (١٨٢، ص٦٤-٦٥). وقد أيدت فرنسا محاولة الباي للحصول على استقلال أكبر عن الباب العالي؛ إذ ربما كانت تعرف أن معارضته للباب العالي يُمكن أن تدفعه للاستسلام للسياسة الفرنسية (١٢٤، ج٢، ص١١٠، انظر أيضًا ٢٧١، المجلد ١، ص٤٢٥).

وفي ربيع عام ١٨٣٥م وبعد الرفض المستمر لفرنسا إعادة الجزائر، أرسل الباب العالي أسطولًا إلى الحدود الواقعة بين الجزائر وطرابلس بقيادة الفريق نجيب باشا، الذي أعاد تنظيم قيادة طرابلس بعد أن حوَّلها إلى ولاية. وقد أعلن الباب العالي وريث عائلة كارامنيلي، الذي كان يحكم طرابلس، واليًا معيَّنًا من قِبل السلطان عليها، لكي يُقلص بشكل كبير من استقلاليته في إدارة هذا الجزء من الإمبراطورية العثمانية. من هنا كان الباب العالي قد عزم على تقديم المساعدة العسكرية للجزائر سرًّا. وفي أبريل عام ١٨٣٦م أرسل الباب العالي مبعوثه الخاص إلى تونس، وكان على هذا المبعوث أن ينقُل إلى أحمد بك باي مدينة قسنطينة (الجزائر) خطابًا يشجعه فيه على مواصلة النضال من أجل تحرير الجزائر. وفي ربيع عام ١٨٣٦م كان الأسطولان التركي والفرنسي يشقان عباب البحر المتوسط (٢١٥، ص٤٤–٦٠/ ٢٠٧، ص٣١١–٣١٦).

وفي تقارير مصطفى رشيد، السفير السابق لتركيا لدى باريس في الفترة من عام ١٨٤١ وحتى عام ١٨٤٥م، يتكرَّر ذكر الاحتجاجات التي أعربت عنها الشخصيات الرسمية الفرنسية ضد نيات الباب العالي إجراء تغييرات ما في الوضع الحكومي لتونس، أي في حدود استقلالها (٤٨، ص٥٢٩، ٥٣٠، ٥٣٧، ٥٤١). بينما وعد الباب العالي بأنه لن يقوم بأي تغيير. وفي الأربعينيات أولى الباب اهتمامه للحفاظ على وضع تونس، وحتى لا تنقطع تلك التبعية الواهية التي تربط باي تونس أحمد بك (١٨٣٧–١٨٥٥م) بالإمبراطورية العثمانية (١٢٤، ج٢، ص١١٠).

كان بايات (دايات) تونس يدركون فائدة وضرورة تأييد الباب العالي لهم فيما يتعلق بالادعاءات الأوروبية في تونس، ولهذا رأوا أن من الضروري ألا يقطعوا تبعيتهم للإمبراطورية العثمانية على الرغم من أنهم دافعوا عن حكمهم الذاتي الداخلي.

حصل أحمد بك باي تونس على حماية فرنسا، وفي الوقت نفسه أراد الاحتفاظ بعلاقاته مع الإمبراطورية العثمانية. ويؤكد الباحث الإنجليزي ل. براون: «أن الباي أحمد كان يعي أن هناك خطرًا يتهدده؛ وهو ابتلاع فرنسا له بعد أن تنتهي من الجزائر. وكان سلاحه في الدفاع عن بلاده يتمثل في تأييد التوازن الواهن بين الجارتين العظميين (الإمبراطورية العثمانية وفرنسا) والمثال الدال على ذلك هو تسوية الحدود عام ١٨٣٨م. فعندما رفض أحمد باشا الموافقة على اقتراح القنصل الفرنسي قال له إن عليه أن يتشاور مع إسطنبول، فعلى الرغم من أنه يملك السلطة التامة في إدارة تونس، إلا أنه لا يملك الحق في تغيير الحدود التونسية القائمة» (١٥٤، ص٢٣٩-٢٤٠).

اغتنم بايات تونس أيضًا فرصة الخلافات القائمة بين الدول الأوروبية، وقد كفل لهم ذلك حمايتهم من التدخل المباشر (١٥٤، ص١٣٧). فقد أبدت إنجلترا، على سبيل المثال، مقاومةً جادة لسياسة فرنسا في تونس (٩٧، ص١٦١–١٦٥). وفي الوقت نفسه فإن أي مبادرة من جانب العثمانيين (طلب الجزية، مشكلة العلم التونسي، الأمر بتطبيق التنظيمات الإصلاحية … إلخ) كانت تؤخذ من جانب باي تونس باعتبارها محاولةً لإرساء حكمٍ عثماني مباشر (١٥٤، ص٢٥٩).

بعث هذا الموقف من جانب باي تونس، إلى جانب ضعف الإمبراطورية العثمانية، الذي ظهر على وجه الخصوص في فترة الصراع التركي المصري، الأمل لدى فرنسا في إمكانية احتلالها لتونس.

في أول تقرير له من باريس، والمؤرَّخ ديسمبر عام ١٨٤١م، ذكر مصطفى رشيد أن ملك فرنسا قد ساوره القلق من جراء الشائعات التي سارت بشأن قيام إسطنبول بإعداد أسطول لإرساله إلى تونس، وأنهم في باريس يتوقعون وصول باي تونس الذي ينوي حل عدد من المشكلات إبان وجوده في العاصمة الفرنسية. هذا ما رواه أحد المسيحيين ويُدعى رافو٢ للسفارة الفرنسية. وفي الوقت نفسه أكد لويس فيليب، إبان مراسم الاحتفال المقام بمناسبة وصول السفير التركي إلى باريس، لمصطفى رشيد أن فرنسا تُعد صديقًا مخلصًا للإمبراطورية العثمانية، وأنها تعمل على الحفاظ على وحدة الإمبراطورية واستقلالها. ولهذا فإن على الإمبراطورية ألا تشرع في تدبير المؤامرات في تونس ضد فرنسا. وكذلك أكد جيزو وزير خارجية فرنسا، والذي واصل مباحثاته مع مصطفى رشيد بشأن هذا الموضوع، أن فرنسا لا تسعى للقضاء على السلطة العثمانية في تونس، ولكنها لن تسمح بتغيير وضع الدولة فيها كما فعلت الإمبراطورية العثمانية في طرابلس. وأضاف جيزو أن ما فعله الباب العالي في طرابلس — في رأيه — لم يعد بأي فائدة على الإمبراطورية، ناهيك عن النفقات الباهظة والعناء الكبير وإن كانت تونس هي المقصودة هنا بهذا التلميح.

أحاط جيزو مصطفى رشيد علمًا بعزم الأسطول الفرنسي مراقبة تحركات السفن التركية إذا ما ظهرت في البحر المتوسط، وصرَّح له بأنه سيتم منعها من الوصول إلى تونس بل واستخدام القوة معها إذا دعت الحاجة لذلك. وأضاف جيزو أنه أبلغ بذلك كلًّا من إنجلترا والنمسا. أجاب مصطفى رشيد بأنه لا يعلم عن مخططات حكومته في هذا الصدد أي شيء، ولكنه افترض إمكانية إرسال الأسطول التركي إلى المنطقة في حالة قيام باي تونس بارتكاب مخالفات ضد الإمبراطورية. وأضاف قائلًا إن من غير اللائق أن تقوم فرنسا بحماية أعداء الحكومة الشرعية (٤٨، ص٥٢٨–٥٣٠)، وكان عليها أن تستخدم نفوذها على الوالي (باي تونس) لإرغامه على الوفاء بالتزاماته باعتباره من رعايا السلطان وألا يتوقف عن دفع الجزية. وطالب مصطفى رشيد بإبعاد الأسطول الفرنسي من المياه التركية. وأجاب جيزو على السفير التركي بقوله إن فرنسا سوف تنصح باي تونس بالاستجابة لمطلب السلطان بدفع الجزية، لكنه عاد مرة أخرى ليؤكد أن الحكومة الفرنسية لا تُحبذ بأي شكل من الأشكال إجراء أي تغييرات على الوضع الحالي لتونس. وبخصوص طلب مصطفى رشيد سحب الأسطول الفرنسي أجاب جيزو أن الأسطول سوف يتم استدعاؤه بعدما ينتفي السبب من وجوده. وقد أوضح مصطفى رشيد في تقريره أن التحقيق الذي أجراه أسفر عن أن باي تونس كان يلقى تأييدًا من جانب فرنسا في ألا يدفع الجزية، على أنه أصبح بالإمكان الحصول عليها من جديد. علاوة على ذلك أشار السفير إلى أنه على الرغم من أن الباب العالي يحصل على الجزية من تونس، فإن أوروبا كانت تنظر إلى السيادة العثمانية في تونس باعتبارها حمايةً عادية، ولهذا فإن من الضروري تغيير هذا التصور الكاذب حول طبيعة السلطة العليا (٤٨، ص٣٥٠–٥٣١).

لقد قام باي تونس بإجراء مباحثات مع الحكومة الفرنسية باعتباره حاكمًا مستقلًّا من خلال مبعوثه رافو، مخالفًا بذلك وضعه كأحد رعايا الباب العالي. هذا ما أخبر به مصطفى رشيد الباب العالي في السابع من نوفمبر عام ١٨٤٢م (٤٨، ص٥٣٢)، لكنه رأى أن من غير المجدي الاحتجاج على استقبال الحكومة الفرنسية للسفير التونسي؛ إذ إن تونس والجزائر وطرابلس عقدوا آنذاك معاهدات صداقة مع عدد من الدول الأوروبية بما فيها فرنسا، ولم يولِ الباب العالي أي اهتمام بهذا الأمر. بالإضافة إلى ذلك فإن رافو كان مسيحي الديانة ولم يكن يُعد من رعايا باي تونس — على أن مصطفى رشيد لم يكن يساوره الشك في أن رافو وصل إلى فرنسا باعتباره شخصية رسمية — وكان مصطفى رشيد قد علم بوصوله من الصحف الفرنسية بشأن دفع تونس للجزية. وفي مباحثاته مع ديزاج، مدير الإدارة بوزارة الخارجية الفرنسية، رأى مصطفى رشيد أن من الملائم توجيه اللوم للحكومة الفرنسية على استقبالها لرافو باعتباره ممثلًا لحاكمٍ مستقل، وقال إن هذا الأمر يتعارض والقانون الدولي، واستند ديزاج في رده بأن رافو وصل إلى فرنسا لإنجاز شئون شخصية (٤٨، ص٢٣٢-٢٣٣).

وفي تقريره الذي رفعه للسلطان في التاسع من فبراير عام ١٨٤٤م، وصف الباب العالي نيات فرنسا إعاقة زيارة الأسطول التركي لتونس بأنها ظالمة وغير لائقة، لكن الباب العالي اعترف في الوقت نفسه بضرورة أخذ هذه التصرفات بعين الاعتبار، نظرًا للظروف الدولية المعقدة. لقد وجَّه السفير التركي في فرنسا نظر الباب العالي إلى أن الدول البحرية أجرت في الأربعينيات مباحثات لاتخاذ قرارات ضد التجار.٣ وقد قامت الدول المتفقة بإنشاء أسطول مراقبة، له الحق في مراقبة واحتجاز السفن المشتبه فيها (٤٨، ص٢٣٤–٥٣٥)، وقد استغلت فرنسا هذا الوضع الجديد لكي تعرقل تحرك الأسطول التركي نحو تونس.

عندما دبَّت الخلافات بين تونس وسردينيا بشكل يُنذر بوقوع حرب بينهما، تدخل الباب العالي بوصفه وسيطًا عن طيب خاطر، مظهرًا حقوقه العليا على تونس. وترجع الخلافات بين تونس وسردينيا إلى شروط الاتفاقية التجارية التي كانت معقودة بينهما، وقد انفجرت هذه الخلافات بسبب احتجاج سردينيا على الحظر الذي فرضه باي تونس في أكتوبر ١٨٣٤م على تصدير القمح. وقد رأى قنصل سردينيا في هذا العمل خرقًا لشروط الاتفاقية، وأعلن أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ينبغي أن تُقطع، وأن أسطول سردينيا سوف يقوم بالتجمع في مظاهرة. وفي مارس ١٨٤٤م ظهرت بوادر الحرب، وأصدر أحمد باي تونس أمرًا بتعبئة الجيش. وقد استثمر السلطان هذا الصراع ليؤكد حقوقه في تونس (انظر ١٥٤، ص١٦-١٧، ٢٤٣–٢٤٥، انظر أيضًا ١٢٤، ج١، ص٩٠، ١١٠-١١١، ٤٨، ص٥٣٦-٥٣٧).

في السابع عشر من أغسطس عام ١٨٤٤م يقوم مصطفى رشيد مرة أخرى بإبلاغ الباب العالي بأن ملك فرنسا ووزير خارجيتها أعربا عن قلقهما تجاه الشائعات التي انتشرت بشأن نية الباب العالي إرسال أسطوله إلى تونس، وأنهما حذرا مصطفى رشيد من أن تحقيق ما عزم عليه الباب العالي قد يؤدي إلى وقوع صدام عسكري بين أسطولي تركيا وفرنسا (٤٨، ص٥٣٧-٥٣٨). بالإضافة إلى ذلك، فقد صرَّح جيزو أن عدد السفن الحربية التركية عند سواحل لبنان يبدو له كبيرًا للغاية (٤٨، ص٥٣٨). وعلى الرغم من أن رد الباب العالي أكد أن تونس هي أراضٍ عثمانية، وعليه فإن اعتراض دولة أجنبية على زيارة الأسطول التركي لها اعتراض في غير محله (٤٨، ص٥٣٨)، فإن هذا الرد تضمن تأكيدًا مهدئًا لفرنسا بأن الأسطول التركي لا يعتزم الذهاب إلى تونس، وقد أحاط جيزو بدوره السفير التركي أن السفن الحربية الفرنسية التي أُرسلت إلى تونس سوف يتم إعادتها (٤٨، ص٥٣٩)، وقد أكد مصطفى رشيد مرة أخرى في مباحثاته في أكتوبر عام ١٨٤٤م مع ملك فرنسا، أن الحكومة التركية لا تعتزم إرسال أسطولها إلى تونس (٤٨، ص٥٣٩–٣٤٠).

لم تتوقَّف فرنسا عن متابعة الأسطول التركي طوال وجوده بالقرب من سواحل بيروت (على إثر الانتفاضات التي وقعت في لبنان)، بسبب خشيتها أن يتوجَّه الأسطول التركي إلى تونس، وقد ظل عدد من السفن الحربية الفرنسية يقوم بمناوراته على مقربة منه. وقد نبَّه السفير التركي جيزو إلى أن مثل هذه المناورات من شأنها أن تخلق شائعات غير مرغوب فيها، وأن غياب الثقة يعوق قيام علاقات ودية متبادلة بين البلدين. وكرَّر جيزو في رده أن مرافقة أسطول دولة لسفن دولة أخرى هو من تقاليد الدول الأوروبية (وكان جيزو يُشير هنا إلى قيام السفن الإنجليزية بمراقبة السفن الفرنسية)، وأن هذا الأمر لا يجب أن يُثير قلق الباب العالي. وأشار أيضًا إلى أن فرنسا تفرض حمايتها على باي تونس، وأنها تهتم ببقاء وضع تونس دون تغيير، ولهذا فإن فرنسا سوف تُدافع عن تونس إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، سواء بقواتها البحرية أو البرية. وقد أجاب مصطفى رشيد أن هذا التصريح ليس له ما يبرره، وأنه غير ملائم؛ إذ إن الباب العالي لا يعتزم تغيير الوضع الداخلي لإيالة تونس (٤٨، ص٥٤٠).

وفي التعليمات التي أرسلها إلى الباب العالي في صيف عام ١٨٤٥م، يوجِّه مصطفى رشيد الانتباه إلى أن ملكة إنجلترا استقبلت رافو، وأنه قد سلمها — إبان المقابلة — أوراق اعتماد باي تونس، مما يؤكد، كما ورد في التعليمات، أن إنجلترا كانت حريصةً على رؤية باي تونس مستقلًّا.

وفي الثامن عشر من أغسطس عام ١٨٤٥م أبلغ مصطفى رشيد الباب العالي أن شائعات ذاعت في باريس، قبل وصول رافو بفترةٍ قليلة، مفادها أن حكومة السلطان، كما يبدو، تُجري استعدادات على أراضي لبنان (طرابلس) لدخول الحرب ضد تونس، وأن رافو سوف يطلب مساعدة فرنسا. وفي إطار ذلك أشار مصطفى رشيد إلى أن باي تونس، على الأرجح، يرى أن قيامه بعقد معاهدات مع دول أجنبية،٤ وفي إقامة علاقات مشتركة مع هذه الدول إظهار لاستقلاله، وأنه يحلم بالاستقلال الكامل، وأن الفرنسيين سوف يخدعونه في المستقبل. كان الباي يخشى الإمبراطورية العثمانية، ولذلك اجتهد في أن يوطِّد علاقاته بأوروبا. وقد دعمت زيارات رافو أحلامه الخاوية. وفي كل مرة كان رافو يذهب فيها إلى باريس، كان يحمل معه خطابات من الباي إلى ملوك أوروبا ويسلمها رسميًّا لهم باعتباره سفيرًا لدولة مستقلة. كان باي تونس مرتبطًا بمعاهدات مع معظم الدول الأوروبية الكبرى (فرنسا، إنجلترا، إيطاليا وغيرها)، وكان يتصرف مع هذه الدول باعتباره حاكمًا مستقلًّا، وقد وضع هذا الأمر، في رأي مصطفى رشيد، الإمبراطورية العثمانية في وضع حرج. في تلك الفترة لم يكن الباب العالي يحظر على الإيالات الغربية (تونس والجزائر وطرابلس) أن تعقد معاهدات مع الدول الأوروبية، والآن فإن الدول الأوروبية يُمكنها أن ترفض وساطة الباب العالي في حالة وقوع خلافات بين تونس وإحدى هذه الدول، وأن تلجأ تونس لاتخاذ قرارات منفردة استنادًا إلى هذه المعاهدات. لقد رأى مصطفى رشيد باشا أن من الضروري منع باي تونس من القيام بتبادل الخطابات على نحوٍ رسمي أو أن يدع علاقاته مع الدول الغربية (٤٨، ص٥٤١–٥٤٣).
في تقرير له مؤرخ ٩ أكتوبر ١٨٥٤م كتب مصطفى رشيد أن صحيفتي Deba وCourrier الفرنسيتين نشرتا أن باي تونس أعلن نفسه حاكمًا عليها، وأن نظام الإدارة في تونس هو نظام مستقل. أما باي تونس فقد راح يومًا بعد الآخر يُغير من سلوكه، استنادًا إلى المعاهدات التي عقدها. كان النفوذ الفرنسي في تونس يزداد تدريجيًّا، الأمر الذي أثار قلق إنجلترا بطبيعة الحال. وقد اقترح مصطفى رشيد استغلال ذلك الظرف، وكذلك دفع علاقات باي تونس مع النمسا إلى التروي بسبب رفض تونس استقبال قنصل النمسا، وأشار مصطفى رشيد بضرورة إرغام الباي على دفع الجزية وإجباره بمقتضى مرسومٍ خاص على استقبال قنصل النمسا (٤٨، ص٥٤٣-٥٤٤).
لقد قامت حكومة السلطان بإصدار هذا المرسوم، لكن الحكومة النمساوية علاوة على ذلك، زوَّدت قنصلها في تونس بأوراق اعتماد باسمها، وهو أمر يحدث عادة عند إرسال ممثلين رسميين إلى حكومة مستقلة. وقد تحدث سفير النمسا لدى باريس مع مصطفى رشيد في هذا الأمر وأخبره «أن رياح الاستقلال تدوي في رأس هذا الرجل (باي تونس، المؤلف)»، وعلى الرغم من أن سفير النمسا أدان سلوك الباي، فإن مصطفى رشيد أكد في تقريره إلى الباب العالي أن قرار النمسا تسليم أوراق اعتماد إلى القنصل النمساوي، كما لو كان متوجهًا إلى دولة مستقلة، أمر تستنكره الإمبراطورية العثمانية (٤٨، ص٥٤٤-٥٤٥).٥

كان التقرير الذي اعتمدنا عليه آنفًا والمؤرخ ٢٢ أكتوبر ١٨٤٥م هو آخر تقرير أرسله مصطفى رشيد من باريس، وقد تم تعيينه بعد ذلك مرة أخرى وزيرًا للخارجية، وسرعان ما عاد إلى الوطن.

١  بدأت حدة التنافس بين الباب العالي وفرنسا في تونس في الظهور منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر. يؤكد ذلك، على سبيل المثال، التقرير الذي اشترك في كتابته كل من مصطفى رشيد ونوري بك في باريس في سبتمبر عام ١٨٣٦م (انظر ٤٦، العدد ١٤، ص٦٤/ انظر أيضًا ٨٥ أ، ص٩٧).
٢  جوزيب رافو: مسيحي من سردينيا، كان يعمل لدى باي تونس أحمد، وكان يؤدي دور «وزير صوري لخارجية تونس»، وكان يتمتع بنفوذ كبير، لكنه لم يكن يتمتع بأي سلطات، وكثيرًا ما قام بدور الوسيط بين حكومة تونس والقناصل الأجانب (انظر ١٥٤، ص٢٢٧–٢٢٩).
٣  انضمت الإمبراطورية العثمانية إلى هذه المعاهدات في عام ١٨٤٦م.
٤  للاطِّلاع على حق عقد المعاهدات الذي أعطاه الباب العالي لتونس انظر أيضًا ١٢٤، ج٢، ص٩٠.
٥  انتهى الصراع على تونس بين الإمبراطورية العثمانية وفرنسا، كما هو معروف، بعد مرور ما يزيد على ثلاثة عقود في عام ١٨٨١م، عندما احتلت القوات الفرنسية تونس لتدخل تحت الحماية الفرنسية، وكانت الحجة هي الدين الضخم على تونس وإفلاسها نتيجة القروض الأوروبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤