فتح دارفور
(١) صدور الأمر بتجريد حملة على دارفور
صدر أمر الحكومة من شخص السردار بتأليف وحدات سريعة الانتقال تتحمل هجير الصحراء، ورمالها حينما عزمتْ على توجيه حملة على السلطان علي دينار «سلطان دارفور»؛ لتقتص منه، وتنزله من شامخ مجده، وسؤدده؛ لامتناعه عن دفع الجزية السنوية، وانضمامه إلى أعداء الحلفاء في الحرب العالمية الكبرى، أي إلى جانب تركيا، وألمانيا، والنمسا والمجر، وذلك في ١٠ فبراير سنة ١٩١٦م.
وكان من بين تلك الوحدات السريعة التحرك: «البطارية المكسيم الجمالي الخصوصية السريعة.»
(٢) تحركها
بعد التمرن اللازم صدر الأمر بتحركها من الخرطوم بحري يوم ٢٧ فبراير سنة ١٩١٦م بقطار الساعة ٩ مساء اليوم المذكور، ولم يكن لدينا فسحة من الوقت، حيث صدر الأمر فجأة حوالي الساعة ٢ بعد الظهر، وقد كانت وجهتنا الأُبَيِّض بالطبع.
(٣) الضباط الذين انتُخبوا من سلاح الطوبجية للبطارية المذكورة
-
حضرة اليوزباشي «علي إسلام أفندي» نائب قومندان هذه البطارية.
-
حضرة الملازم الأول «حسن أفندي حسني الزيدي» قائد ١ جي صنف.
-
حضرة الملازم الأول «حسن أفندي حلمي» قائد ٢ جي صنف.
-
حضرة الملازم الأول «حسن قنديل أفندي» قائد ٣ جي صنف.
(٣-١) قوة هذه البطارية
ولما كانت هذه البطارية قد أُنشئت لغاية خاصة، هي أن تكون خفيفة وسريعة، فقد تألفت مما يأتي:
عدد | |
---|---|
٦ | مدافع مكسيم فكرز سريعة الانطلاق ٠٫٣٠٣ من البوصة (أي ٨ مليمترات تقريبًا). |
٥٥ | صف ضابط وعسكري من ضمنهم ٣ إشارجية، وبروجي، وبيطار، وباشجاويش، وبلوك أمين. |
٧٨ | جملًا بالمخاليف والسمارات (من ذلك ١٥ جملًا لحملة البطارية). |
١ | بكباشي إنجليزي «البكباشي هاتون»؛ ليكون قومندانًا لها حيث حضر أخيرًا وانضم إلينا في بلدة النهود. |
١ | يوزباشي. |
٣ | ملازمين. |
(٤) الوصول إلى «الأُبَيِّض»
وصلنا إلى الأُبَيِّض عاصمة كردفان وحاضرته الساعة ٨ من صباح يوم ٢٩ فبراير سنة ١٩١٦م، وعملنا بها مسقى ومزاود للجمال، حيث أخذنا راحة خفيفة.
(٥) التحرك من «الأُبَيِّض»
قمنا من «الأُبَيِّض» الساعة ٣ بعد ظهر يوم وصولنا إليها، وواصلنا السير حتى بلدة النهود عاصمة المركز يوم ٧ مارس سنة ١٩١٦م الساعة ٩ صباحًا بعد سفر شاق استغرق سبعة أيام بلياليها.
-
حضرة صاحب العزة الأميرالاي «كلي بك Kelly» قومندان عام التجريدة والسواري والبيادة الراكبة.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «لتل بك Little» الرئيس الأول لأركان حرب التجريدة.
-
حضرة الصاغقول أغاسي «محمود أفندي حافظ» مساعد أركان حرب التجريدة.
وهؤلاء كانوا مركز الرياسة.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «إسبنكس بك Spinks» قومندان طوبجية التجريدة أو الحدود الغربية.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «هادلستون بك Hudleston» قائد عام الهجانة.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «كمنس بك Cammins» حكيمباشي القوة.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «هني بك» مدير عام الأشغال العسكرية Henny.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «جيلز بك» قومندان عموم الحملة ٤ بلوكات Giles.
-
حضرة صاحب العزة القائمقام «ورسلي بك» مساعد مدير عام التعيينات.
القوة | |
٢ | بلوك بيادة راكبة تحت قومندانية البكباشي «كوبدن» الذي ترقى فيما بعد قومندانًا لعموم السواري والبيادة الراكبة. |
٣ | بطاريات طوبجية، منها بطاريتا ميدان تحت قومندانية البكباشي «ثوربورن» وبكباشي إنجليزي آخر، يساعدهما في ذلك حضرتا اليوزباشي «حسن حسني علوي أفندي»، واليوزباشي «محمود زكي رشاد أفندي». والبطارية الثالثة تحت قومندانية البكباشي «محمد أفندي السبكي». |
١ | بطارية مكسيم جمالي خصوصية أُنشئت لهذه التجريدة خاصة. |
٤ | جي أورطة بيادة. |
٤ | بلوكات من ١٣ أورطة سودانية، من ضباطها البكباشي «أحمد أفندي فهمي». |
٢ | بلوكان من ١٤ أورطة بيادة تحت قومندانية بكباشي إنجليزي. |
٢ | إدارة من أورطة العرب الشرقية تحت قومندانية القائمقام «مكاون بك» نائب قومندانها. |
٥ | بلوكات هجانة. والهجانة بأجمعها تحت قومندانية القائمقام «هادلستون بك». |
قسم الأشغال العسكرية | |
مستشفى ميدان مؤلف من ١٠ أطباء و٤٢ صف ضابط وعسكري. | |
التعيينات | |
٣ | بلوكات حملة، وأخيرًا صاروا خمسة. |
قسم من المهمات مركزه النهود تحت قومندانية حضرة الملازم الأول «عبد الرحمن محمود أفندي». |
(٦) التحرك من النهود
تحركنا من النهود يوم ١٦ مارس ١٩١٦م الساعة ٣ بعد الظهر، ووجهتنا بلدة «واد بنده». ومما يجدر ذكره هنا أننا قبل وصولنا إلى النهود بيومين سمعنا بفرار الملازم الأول المدعو «عبد الموجود» من الهجانة للمعاملة السيئة التي كان يعامله بها البكباشي «ماكلين» قومندان البلوك وهو إنجليزي، وانضمامه إلى السلطان علي دينار، وبعد أربعة أيام علمنا بنزول اليوزباشي «محمود أفندي رياض»، وهو من أورطة العرب إلى الخرطوم ثم إلى مصر، وكذلك الملازم أول «عبد الرحمن أفندي الصيرفي» نائب مأمور مركز النهود مع الملازم الثاني «محمد أفندي أبو المجد» وهو من الطوبجية واعتقال الجميع لأسباب سياسية.
(٧) القصد من تحرك القوة
أن القصد من تحرك القوة هو ضرب السلطان علي دينار؛ حيث إنه تمرد على الحكومة بامتناعه عن دفع الضريبة — الجزية المعتادة — وانضم إلى أعداء الحلفاء مع أنه تابع للحكومة، وبلاده جزء متمم للسودان الإنجليزي المصري.
وقد بقينا في الحِلَّة المذكورة فترة؛ لنستريح قليلًا.
(٨) التحرك من حِلَّة «دم جمد»
قمنا من «دم جمد» الساعة ٦ صباحًا، فدخلنا في أرض السلطان علي دينار، ووصلنا بمسيرنا إلى بلدة تدعى «أم شنقا» الساعة ١٢ ظهر يوم ٢٠ مارس سنة ١٩١٦م. وقبل أن نصل إليها بساعتين ظهرت سواري كشافة للعدو، وعددهم يقرب من الخمسة والأربعين فارسًا إلا أن كشافتنا كانت متيقظة، فلمحتهم من بعد، وأعدت للأمر عدته، وقابلتهم بنار حامية جعلتهم يولون الأدبار.
(٩) الوصول إلى «أم شنقا»
وصلنا إلى «أم شنقا»، وعسكرنا فيها بشكل قلعة محمية من جميع جهاتها بالمدافع المعدة لضرب أي مهاجم، أو مفاجئ.
ومما يجدر بالذكرى، والاعتبار أن معسكرنا هذا قد وقع في قطعة أرض مرتفعة، ومحاطة بخندق صُنع بدقة، وإحكام، وحاكم على كل الجهات المطلة عليه. وبالتحري علمت أنها كانت محل معسكر الجيش المصري القديم عند سقوط سلطنة دارفور في عهد الخديو إسماعيل، فقلت في نفسي: يا الله! ما أجمل الذكرى! وما أحبها إلى القلب!
وقد عسكرنا تلك الليلة وبتنا، وكنا على أتم الحذر، والاستعداد لسحق كل مهاجم. وفي مساء ذلك اليوم أجرى قومندان البطارية الجديد الذي رافقنا من النهود تجربة المدافع أمام نظره، وتأكد من حسن حالتها.
(١٠) القيام من «أم شنقا»
قمنا من «أم شنقا» أي جميع الطوبجية، والبيادة، والهجانة، والبيادة الراكبة ما عدا ٢ جي بطارية، وبعضًا من الهجانة؛ لتكون مع الحملة، ولحفظ خط الرجعة أيضًا.
وفي الساعة ١٠ صباحًا ظهرت كشافة العدو، ولكنهم طُوردوا، فطُردوا، وفروا مرتدين على الأعقاب، وما وافت الساعة ١١ صباحًا حتى ظهرت ثانية تعززها أورطة بيادة للعدو أيضًا، ومعها بيرقها.
(١١) أول موقعة
ولما رأتهم كشافتنا أصدرت القيادة العامة الأمر بأن تتألف القوة بشكل قلعة تحميها المدافع من أركانها الأربعة، فحصل ذلك بغاية ما يمكن من السرعة، ووقع في تلك اللحظة تبادل النيران بين الطرفين، وقد كان شديدًا لفترة صغيرة لا تجاوز نصف الساعة.
وقد قيل إن نار مدافعنا أصابت عشرة من سواري العدو فجندلتهم، أما أغلب رصاص العدو فقد كان جميعه طائشًا، ولم يفوزوا إلا بخرق جبة أحد عساكر الهجانة، وخدش فخذ أحد عساكر البيادة الراكبة، وقد استمرت هذه الموقعة الصغيرة ما يقرب من ساعة ونصف، وقد كنت ترى مدافع المكسيم السريعة الانطلاق ترد العدو من بعد على أعقابه حائرًا دهشًا من تلك النيران السريعة الجهنمية التي كانت تلفظها من أفواهها.
(١٢) التقدم إلى جبل الحلة
تقدمنا بعد ذلك إلى جبل الحلة، فوجدنا العدو قد أعمل النار في معسكره، وتركه وهو لا يلوي على شيء، واللهب قد بلغ أشده، وسُحب الدخان تكاد تسد الجو.
(١٣) الوصول إلى جبل الحلة واحتلاله
وما وافت الساعة ٣ بعد ظهر ذلك اليوم حتى وقفنا أمام قشلاقات العدو، وأطفأنا تلك النيران الملتهبة المحرقة، ثم احتلت بعض مدافع الطوبجية الجبل، والمواقع الحاكمة فيه.
(١٣-١) ما هو جبل الحلة؟
جبل الحلة هو جبل منيع به سكان عديدون، وحلل كثيرة متقاربة، ولا تسل عن فرح الأهالي، وغبطتهم عند وصولنا إليهم، فقد انتشلناهم من وهدة ظلم ابن دينار الذي أرهقهم بجبروته، واستبداده. وهواء هذا الجبل حسن جدًّا.
(١٣-٢) مبارحة جبل الحلة
تركنا أربعة مدافع ميدان بجبل الحلة، وتقدمنا مسافة على بعد ساعة منه، واحتللنا الآبار التي في بلدة «اللجود» فوجدناها سليمة، ووجدنا ماءها غزيرًا، فملأنا الأوعية، وسقينا الجمال، والخيل، والبغال، وبتنا بها تلك الليلة.
(١٣-٣) العودة المعجلة إليه ثانية
وفي ظهر يوم ٢٣ مارس سنة ١٩١٦م جاءتنا إشارة تلفونية بواسطة «الهيلوجراف» وهي الإشارة بالمرآه، باحتمال هجوم العدو على القوة المرابطة بجبل الحلة نظرًا لقلتها، وحينئذ صدر الأمر بالعودة المعجلة إلى هذا الجبل.
وفعلًا كان ذلك، فوصلنا إليه الساعة ٤ بعد الظهر، وعسكرنا به، واستعددنا لكل أمر مفاجئ وإصلاء العدو وابلًا من الرصاص.
(١٣-٤) رحيل الأهالي من جبل الحلة
وقد صدر أمر القيادة العامة برحيل الأهالي من جبل الحلة خيفة الهجوم عليه حتى لا يتحملوا أي خسارة، وفعلًا نُفذ ذلك ورحل أغلبهم إلى بلدة «اللجود».
(١٤) عودتي إلى «أم شنقا» ثانيةً مع بلوك هجانة
صدر لي الأمر أن أقوم بصنفي مع بلوك هجانة إلى «أم شنقا»، ومعنا بلوك حملة، فقمنا من بلدة اللجود الساعة ٤ والدقيقة ٣٠ صباح يوم ٣٠ مارس سنة ١٩١٦م، فوصلنا إليها الساعة ١٢ ظهر اليوم المذكور، فقابلت قومندان المعسكر القائمقام «مكاون بك» القومندان الثاني لأورطة العرب الشرقية، فعيَّن لي المكان الذي سأعسكر فيه، وكانت المسافة من بلدة اللجود إلى «أم شنقا» ٢٢ ميلًا تقريبًا.
(١٤-١) أهمية «أم شنقا» في ذلك الوقت
لقد كانت «أم شنقا» محل التعيينات العام للتجريدة؛ لورود المئونة إليها، ثم صدورها منها إلى مركز النهود. أضف إلى ذلك أن بها بلوكين من أورطة العرب الشرقية، وبلوك الهجانة، وصنفي أنا المزود بمدافع المكسيم السريعة الانطلاق، وقوة من قسم الأشغال، والقسم الطبي، فالقسم البيطري. وقد كان الحصول على المياه بها من الصعوبة بمكان لقلة الآبار، وعمقها السحيق.
والخلاصة أن التعب كان ناشئًا عن قلة الماء، فالعسكري كان مرتبه جالونًا واحدًا من الماء في الأربع والعشرين ساعة، والضابط جالونًا ونصف جالون في هذه المدة أيضًا.
وبالجملة لم يكن لدينا طرق مواصلات منتظمة كسكة حديد، أو خط ضيق على الأقل، أو ما يماثل ذلك. كلَّا لم يكن لدينا شيء من ذلك مطلقًا. يضاف إلى ذلك قلة الماء الذي هو الشريان المهم، والأداة القوية لكل جيش محارب، فالعطش وحده هو عدونا الهائل المخيف الذي يهددنا من وقت لآخر، ويرينا خيال الموت، ويصور لنا ما فعله بحملة هكس باشا، ورجاله الذين ضلوا الدروب في قلب الصحراء، فماتوا عطشًا، وهم على قيد أمتار من الآبار. وإنما جهل الطريق قد أضلهم فأعماهم، فذهبوا ضحية المفاوز النائبة المترامية.
والغرض المهم من وجودنا ﺑ «أم شنقا» هو أنها المركز العام لجميع التعيينات والعلائف «العلايق» التي ترد للتجريدة مبدئيًّا كما أسلفت، وأنها النقطة الوحيدة التي بها آبار ماء بعد ذلك السفر الطويل الذي استغرق خمسة أيام بلياليها من النهود. أضف إلى ذلك الخوف الشديد من مهاجمتها، وأخذها على غرة؛ حيث كان العدو على بعد خمسة عشر ميلًا منها، وحينئذ كان الجيش يُضرب ضربة شديدة في مقتل مميت، وما ظنك بجيش ضاعت مئونته، وعلائفه، فماؤه؟!
لذلك كانت مدافعي متقابلة في طرفَي ضلعَي المعسكر مستعدة في كل لحظة للضرب، ومن ذلك كنت ترى الأهمية العظيمة للقوة المرابطة ﺑ «أم شنقا»، والمسئولية الكبرى الملقاة على عواتقنا.
وفي تلك المدة — أي مدة وجودي ﺑ «أم شنقا» — احتلت القوة الأمامية بلاد «بروش»، و«أم كدادة»، و«أُبَيِّض» بعد قتال خفيف سبقته مناوشات بسيطة، اللهم إلا في «أم كدادة»، فإن رجال الملك محمود الدادنجاوي قاوموا مقاومة تذكر، وقد بقيت في «أم شنقا» إلى يوم ٢٨ أبريل سنة ١٩١٦م.
(١٥) القيام من «أم شنقا» إلى جبل الحلة
صدر الأمر يوم ٢٨ أبريل سنة ١٩١٦م أن أقوم إلى جبل الحلة بحملة كبيرة تحت قومندانيتي، فبارحتها الساعة ٥ مساءً فرحًا مسرورًا؛ حيث أصبح المقام فيها ثقيلًا على النفس؛ إذ من شأنها أن تسأم الإقامة في مكان واحد، وما لذة العيش إلا في التنقل، فوصلنا إلى جبل الحلة الساعة ٨ من صباح يوم ٢٩ أبريل سنة ١٩١٦م.
(١٦) مبارحة جبل الحلة
وبعد ذلك صدر الأمر لصنفي، وصنف حضرة الملازم الأول «محمد أفندي يسري»، ومعنا حملة الجبة خانة الاحتياطية، وحملة من التعيينات، وإداراتان من أورطة العرب، والجميع تحت حكمدارية سعادة القائمقام «مكاون بك»، فتحركنا من جبل الحلة الساعة ٤ من صباح اليوم المذكور، وعملنا بها مسقى للجمال، وباقي الحيوان، والمسافة من جبل الحلة إليها تقرب من اﻟ ١٥ ميلًا.
(١٧) مبارحة «بروش»
قمنا من بروش الساعة ٤ من صباح يوم ١١ مايو سنة ١٩١٦م فوصلنا إلى بلدة تسمى «أم رزيقة» الساعة ١٠ صباحًا، وقد استرحنا بها قليلًا، ثم بارحناها الساعة ٣ بعد الظهر، فوصلنا إلى «أم كدادة» الساعة ٥ والدقيقة ٣٠ مساءً، وفيها انضممت مع بطاريتي تحت حكمدارية البكباشي «هاتون»، كما انضمت كل وحدة إلى سلاحها الأصلي.
(١٨) مبارحة «أم كدادة»
صدر الأمر إلى البطارية — أي بطاريتي — مع باقي الوحدات تحت قومندانية القائمقام «مكاون بك» يوم ١٢ مايو سنة ١٩١٦م بالقيام الساعة ٤ صباحًا من يوم ١٣ منه، فوصلنا إلى بلدة «أُبَيِّض» الساعة ٩ من صباح يوم ١٤ منه، والمسافة ما بين «أم كدادة» و«أُبَيِّض» هي ٢٥ ميلًا تقريبًا، وهنا تجمعت جميع القوات، وانضمت إلى وحداتها الأصلية.
(١٩) مبارحة «أُبَيِّض»
وفي الساعة ٥ مساءً ابتدأنا السير للتقدم إلى «الفاشر» عن طريق مليط، واستمر المسير حتى الساعة ١٠ مساء ثم عسكرنا للمبيت.
ثم تحركنا الساعة ٥ من مساء ذلك اليوم، واستمر السير حتى الساعة ٩ مساءً أيضًا ثم عسكرنا للمبيت.
(٢٠) مليط
مليط بلد هواؤه جميل جدًّا، وبه حلل كثيرة متفرقة، وفيه زرع، وضرع، وخضرة، وليمون مما أهاج الحنين فينا إلى الخرطوم، ومعيشتها، كما يوجد به آبار عديدة جدًّا ماؤها عذب زلال، وفي كثرة زائدة، هذا فضلًا عن السهولة المتناهية في كيفية استخراجه، وهو أنه مركب على كل بئر شادوف مما يماثل الشواديف التي كانت منتشرة بمصر قبل نظام الري، ووجود الآلات الرافعة، ثم وجدنا به بلحًا لا بأس به، ولا تسل عما فيه من أصناف الخضر.
أما العساكر فحدِّث ولا حرج عن سرورهم، ونسيانهم كل ما مضى من نَصَب، وتعب وما عانوه في قطع تلك المسافات الشاسعة.
(٢٠-١) الطيارة وجيش ابن دينار
لقد أوقعت الطيارة الرعب في ابن دينار، وفي صفوف جيشه، وصفوة مقربيه، وأتباعه ممن يلقبونهم بالأنصار، والمجاهدين، حقًّا لقد فعلت بهم ما هو أدهى من ذلك عندما ألقت عليهم قنابلها الفتاكة.
وهذه الطيارة وأختها الأخرى فقط هما القوة الإنجليزية التي اشتركت مع القوات المصرية الصميمة في فتوح الفاشر مما يجعل الحكم الثنائي موضعًا للنقد، والسخرية؛ إذ إنه يسخَّر الضعيف لنيل أغراض القوي، ورغباته، فيُشبع بطنه، ويسد نهمه على حساب الخزينة المصرية المفتوحة على مصراعيها للمستشار المالي الإنجليزي، والموصدة أبوابها في وجوه الأمة المصرية قاطبة.
وقد غنمت هذه القوة ببلدة مليط ما يربو على الألف جمل، وألف رأس من الضأن.
(٢١) مبارحة «مليط»
أما خسارتنا فكانت تسعة عشر، ما بين قتيل، وجريح، وهذا بيانهم:
القتلى | |
---|---|
١ | جاويش من البيادة الراكبة. |
١ | عسكري من الطوبجية. |
٣ | ضابطا صف، وعسكري من الهجانة. |
٢ | عسكريان من ١٣ أورطة بيادة. |
١ | عسكري من ١٤ أورطة بيادة. |
الجرحى | |
---|---|
١ | البكباشي «ميدون» من السواري والبيادة الراكبة. |
١ | الملازم الأول «محمد أفندي يسري» من الطوبجية. |
١ | الملازم الثاني «محمد أفندي زهران» من ١٤ أورطة بيادة. |
٨ | عساكر من بقية الأسلحة. |
وقد أُسميت هذه الموقعة بموقعة برنجية نسبة إلى اسم حِلَّة برنجية التي حصلت بجانبها.
(٢٢) التقدم إلى الفاشر
(٢٣) هجوم العدو الليلي
وقد قام العدو بهجوم في الليل حوالي الساعة ٣ بعد منتصف الليل بقوة قُدرت بثمانمائة فارس غير أن القره قولات الخارجية كانت غاية في اليقظة؛ فتقهقرت، وأخلت الأرض للمدافع التي أعملت مقذوفاتها، وردت العدو على الأعقاب.
(٢٤) احتلال «الفاشر»
غير أن حرصه على الدنيا جعله يجمع كل ما له من مال، ومتاع، وحوره، وولدانه وبنات مطر، ومحظياته، ونساءه الشرعيات، بل أخذ كل ما تصبو إليه نفسه، وترك الفاشر قصبة ملكه، وسلطانه، وقلبه يتميز غيظًا.
وإني أكتب هذه السطور وأنا جالس وراء مدافعي؛ لأحفر لها الخنادق، وأعمل لها الظلل «الدراوي»، فاعذرني أيها القارئ على ركاكة جملي، وعلى عدم إتياني بوصف مدينة «الفاشر» عاصمة دارفور؛ لأني جندي، ولست كاتبًا قديرًا، ولأنني حتى هذه اللحظة لم أتمكن من رؤية ما بداخل البلد، وسأصفها عند سنوح الفرصة، وعند مقابلتي لبعض الأهالي، والمقربين من السلطان للوقوف على كل ما يتعلق بذلك الطاغية العاتي، فإلى الغد، وإن غدًا لناظره قريب.
ولقد فاتني أن أذكر السبب الرئيسي للفشل الذي حل بابن دينار، وهربه، فهاكه:
عند اقترابنا من عاصمة ملكه كان في تصميمه أن يعتصم بالبلد، ويخندقها، ثم يلقانا بكل ما يملكه من حَول وطَول، إلا أن أمراءه وذوي شوراه عقدوا مجلسًا قرروا فيه بعد مناقشة حادة قتالنا خارج البلد «العاصمة»، وقد كان ذلك بقرار الأغلبية، وعلى الأخص قائد جيشه العام المدعو «رمضان واد بره» الذي تبعه في قراره هذا بقية الأمراء الذين يعتمد عليهم، كالخليل وسليمان، وغيرهما.
وقد أقسم الجميع على المصاحف بأنهم لن يعودوا إليه إلا والنصر مكلل على رءوسهم أو يموتوا فداءً لسيدهم.
وفي تلك المعركة استشهد السردار «رمضان واد بره» قائد الجيش العام، والأمير «سليمان» وجُرح الخليل، وأمراء كثيرون لا تحضرني أسماؤهم.
والخلاصة أن السلطان فقد نخبة جيشه وقواد جنده، وأمراءه، وعددهم يربو على الألف.
(٢٥) وصول الخبر إلى عاصمته وتزعزع عرشه
ولما وصل الخبر إليه، وإلى عاصمة ملكه تزعزع جدران عرشه، وعلم أنه أوشك أن ينهار على رأسه، فعجَّل بالهرب يوم ٢٣ مايو سنة ١٩١٦م أي قبل دخولنا «الفاشر». وهذا هو الجزاء العادل على الظلم، والجبروت، والعتو وجزاء من لا تجد الشفقة، والحنان إلى قلبه سبيلًا وإن ربك لبالمرصاد.
وبعد دخولنا «الفاشر» فُتِّشت المساكن جميعها كالعادة الحربية المتبعة، ثم جُمع السلاح الذي بيد الأهالي، وقد كان الكثيرون يأتون من تلقاء أنفسهم لتسليمه إلى الحكومة، وتقديم الطاعة التامة.
ومن جملة من سلَّم نفسه للحكومة ثالث يوم — أي يوم ٢٦ مايو المذكور — الأمير «محمود الدادنجاوي» الذي تسميه الرعية بالملك محمود تقديرًا لأهميته؛ ولأن السلطان نفسه كان قد منحه هذا اللقب، وهذه كانت من التقاليد المألوفة.
ولنعد إلى الأمير محمود هذا، فنقول إنه على حسب فكري رجل راجح العقل كثير الوقار، والتأني، والهيبة، وقد أرسله السلطان علي دينار لمحاربتنا ﺑ «أم كدادة»، فأعمل الفكرة وطرق كل أبواب الحيلة؛ ليتغلب علينا، ويرجعنا القهقرى غير أنه أخفق إخفاقًا تامًّا، فرجع إلى سلطانه يجر أذيال الخيبة، وقال له: لم أترك يا مولاي حيلة إلا اتخذتها لمحاربة الترك — أي المصريين — إلا أن نارهم لا تصطلي.
نعم هم جماعة قليلو العدد إلا أنهم — والحق يقال — شعلة من نار جهنم، وإني أرى من الصالح لسيدي أن يصالحهم، ويقدم الطاعة للحكومة؛ حفظًا لكرامته، وكرامة ملكه، وعرشه وتاجه.
غير أن السلطان كان من الجهل والغباوة بمكان، فلم ترُق مشورة الأمير في عينه، بل ضرب بها عرض الحائط، وقال له: «أتهددني بمثل هذا يا عبد! فما أنت إلا جبان، ومثلك لا يصلح أن يكون ملكًا، وأميرًا.» وجرَّده من ملكه وعقاره، وأخذ منه سيفه، وطبنجته، وهذا دليل على منتهى غضبه عليه.
وفي ذلك اليوم عينه — أي يوم ٢٦ مايو سنة ١٩١٦م — سلَّم الأمير الآخر المدعو «واد حولي»، وهذا على — ما سمعت — فارس مغوار، يركن إليه في وقت الشدة كما أنه مشهور بشدة مراسه، وقدرته على الحروب، وهو الذي كان قد أرسله السلطان إلى جبل الحلة؛ ليعاون الخليل على قتالنا.
وبعد أن سلَّم هذان الأميران تبعهم الأهالي زرافاتٍ، ووحدانًا ومعهم أسلحتهم مقدمين الطاعة للحكومة.
(٢٦) تعنيف الميرم تاجه لشقيقها السلطان
يجب أن تحارب حتى آخر نفس يتردد فيك، وإلا فالأولى لي أن أعطيك جلبابي، وآخذ ثيابك وأذهب مكانك للحرب، والجلاد.
وهذا كلام وطني — والحق يقال — يجب أن يُكتب بالذهب الخالص، وشجاعة لم أسمع مثلها إلا عن «جان دارك» معبودة الفرنسيين التي حاربت الإنجليز، وانتصرت عليهم في عدة مواقع دفاعًا عن حرمة وطنها العزيز فرنسا.
وشقيقته هذه كانت تحبه الحب الخالص، ولها دالة عليه، ولا يمكنه بأي حال أن يبُتَّ في أمر بدون مشورتها؛ لأنها — على ما يقال — على جانب عظيم من النجابة، والذكاء.
وهذه أسماء المقربين من السلطان، وأسماء مشيريه، ولقد كان كثيرًا ما ينعم على بعض القوم بلقب ملك لزعمه أنه دون لقب السلطان.
(٢٧) ملوك دارفور
-
(١)
الملك «محمود الدادنجاوي»: وهو ثاني رجل بعد السلطان في المكانة والوجاهة.
-
(٢)
الملك «تبن واد سعد النور»: زوج ابنة السلطان عاشة «عائشة» ويلقب بملك النحاس.
-
(٣)
الملك «علي السنوسي»: وهو زوج أخت السلطان المسماة «قصوره»، وأصله تعايشي أي من قبيلة التعايشية.
-
(٤)
الملك «عربي دفع الله»: وقد أماته السلطان عند سقوط «الفاشر» لشكه في إخلاصه، وأمانته.
-
(٥)
الملك «مقدوم شريف»: وهو موروبي، أو فوراوي، وهما لفظان يدلان على معنى واحد.
-
(٦)
الملك «عز العرب واد رحمة»: وهو بنجاوي.
-
(٧)
الملك «أحمد بيضه حمر»: وهو من قبائل العرب التي تسكن ما بين غرب «دارفور»، و«الفاشر».
-
(٨)
الملك «يس أبو الجبايين»: وهو فوراوي، وكان جامع خراج العيش «الذرة».
-
(٩)
الملك «أبو علقنة»: وهو فوراوي.
-
(١٠)
الملك «فورو»: وهو فوراوي ووظيفته كوظيفة عشماوي الجلاد ناصب المشنقة.
-
(١١)
الملك «مصطفى جلغام»: زوج شقيقة السلطان «الميرم تاجه» وهو تكروري.
-
(١٢)
القاضي «إدريس»: قاضي قضاة دارفور، وهو تقلاوي وله من المقام ما للملوك.
-
(١٣)
«عثمان تيراويه»: وهو تاماوي، وأصله سلطان تاما بحدود السودان الفرنسي، ولما طردته فرنسا جاء إلى السلطان علي دينار فأنعم عليه بلقب ملك.
(٢٨) أمراء دارفور
-
(١)
الأمير «محمود الدادنجاوي»: وهو المذكور في أول الملوك.
-
(٢)
الأمير «رمضان واد بره»: مولَّد، وهو قائد الجيش العام، وله ثقة ومكانة عند السلطان يحسد عليهما. وأصله عبد جاء به من «أم درمان»، ورباه فأحبه حيث كان فارسًا قديرًا، فأنعم عليه بلقب أمير.
-
(٣)
الأمير «حسن واد سبيل»: أمين الخزنة، وبيت المال، والمجوهرات، وكل ثمين لديه، وهو محبوب، ومقرب إليه أكثر من غيره، وهو جلابي.
-
(٤)
الأمير «عبد الخير»: مولَّد، وهو أمير الجبه خانة، والسلاح والمفرقعات بسائر أنواعها.
-
(٥)
الأمير «سليمان»: وهو فوراوي ومن أمراء الجيش، أحضره السلطان هو والأمير «رمضان» الآنف الذكر وتربَّيا معًا عنده.
-
(٦)
الأمير «الخليل واد كرومه»: ميماوي وهو أمير «أم شنقا» و«جبل الحلة» و«بروش» و«كدادة» و«أُبَيِّض»، وقد حاربنا بكل هذه المواقع، والمعاقل وهو فارس غاية في النجابة، والذكاء.
-
(٧)
الأمير «واد حولي»: هواري، وهو وإن كان رأس مائة إلا أنه مقرب من السلطان، وله مكانة عظيمة لديه ومشهور بالفروسية والجلاد.
-
(٨)
الأمير الحاج «محمود واد الشيخ»: وهو جلابي، وجليس السلطان ومن ذوي شوراه.
-
(٩)
الأمير «عبد الماجد أبو كريم»: وهو شابقي، وجليس السلطان ومن ذوي شوراه.
(٢٩) أخوات السلطان
-
(١)
«الميرم تاجه»: وهي أحب أخواته إليه، ولا يبت في أمر من الأمور إلا بمشورتها ومراجعتها.
-
(٢)
«الميرم نور الهدى»: أخته من أبيه، وزوجة الفقيه أحمد.
-
(٣)
«الميرم شكر»: أخته من أبيه، وقد ماتت إلى رحمة مولاها.
-
(٤)
«الميرم قصوره»: أخته من أبيه ماتت إلى رحمة مولاها.
(٣٠) أقرباؤه
-
(١)
الأمير «شمس الدين» ابن عمه، وقد كان الرسول بينه، وبين الحكومة.
-
(٢)
الأمير «محمد فضل» ابن السلطان موسى من سلاطين دارفور.
-
(٣)
الأمير «حسين واد إبراهيم» ابن السلطان إبراهيم.
-
(٤)
الأمير «منصور عبد الرحمن» ابن السلطان عبد الرحمن شقيقه.
-
(٥)
الأمير «عبد المجيد نعمة» ابن أخيه.
-
(٦)
الأمير «أبو البشر هاشم» ابن أخيه.
هؤلاء هم ملوك، وأمراء، ووزراء دارفور الذين كان بيدهم الحول، والطول، غير أنهم كانوا لا يجرُءون على إبداء ما كان يجول بخواطرهم بالصراحة التامة إذا شموا منها ما يُغضب السلطان؛ خوفًا على حياتهم، وقد كانوا يضربون على النغمة التي يحبها ويهواها من مداهنة وخضوع، وتوسل، فيصفونه تارة بالسلطان القادر القوي الذي تعنو لهيبته جميع الملوك، وتارة بخليفة المسلمين في جميع الأقطار.
وبمثل هذه الأراجيف، وتلك الخزعبلات الفارغة كانوا يتقربون إليه، ويصورون له من الضعف قوة، ومن الظلم عدلًا، ومن الخسف، والجور بِرًّا ورحمة، فبتلك الأباطيل التي ما أنزل الله بها من سلطان. كان أولئك الذين أعماهم الله، وأخزاهم، فأضلهم فأصبح نظرهم معكوسًا لا يرون الأشياء على حقيقتها، وساء ما كانوا ينظرون.
والسلطان نفسه كان غريقًا في الملاهي، والملاذ، والإكثار من خدمه، وسراريه، وبنات مطر، وكثيرًا — بل في غالب الأحيان — ما يكون لهؤلاء الشأن الأعظم في سير الأمور التي تتعلق بالرعية.
وينقسم أولئك إلى ثلاثة أقسام:
(٣٠-١) بنات مطر
هؤلاء هن البنات الجميلات جدًّا، ويدعون «بنات مطر»، وهن البنات الأبكار الجميلات اللائي يبلغ جمالهن مسامع السلطان، سواء كن من بنات الملوك، أم الوزراء أم قواد جيشه، ورعاياه الذين ينكوون بحكمه، وتأكلهم نار صلفه، وجبروته.
وبالاختصار كان على كل واحد رزقه الله ببنت جميلة أن يقدمها إليه، وهؤلاء يرتعن عنده بل ينغمسن في المسك، والعنبر، والطِّيب، ويتحلين بالذهب الإبريز، ويخطرن أمامه كأغصان النقا، وأعواد البان؛ فيسبح هو في لذاته، ويعاقر معهن الدنان، وبعد ذلك يلقب نفسه بالسلطان العادل، وأمير المؤمنين! وتلك والله تسمية من الغرابة بمكان!
وبعد أن يأخذ من الواحدة مشتهاه يُنعم بها على من كان راضيًا عنه.
فقاتل الله الظلم والجبروت، فإنه يقتاد العواطف إلى مهاوٍ سحيقة يُذبح فيها العفاف بمُدية الفسق، والفجور.
(٣٠-٢) سراريه
كلهن جميلات يأخذن باللب، ويتركن الإنسان صريع سهامهن، وكل واحدة من نسائه الشرعيات عندها الكثيرات من أولئك السراري، وهو لا يأبى أن يضاجع أغلبهن، ويعتبرهن ملك يده، وله الخيار في بيعهن، وشرائهن كالأغنام، والخيل، والإبل.
(٣٠-٣) نساؤه الشرعيات
لكل واحدة من هؤلاء بيت خاص، وهن كثيرات جدًّا لا يحصى لهن عد، وأحبهن إليه «بنت النور عنجرا» المشهور ﺑ «أم درمان».
(٣١) خوف السلطان وحذره
والسلطان نفسه كان كثير الخوف شديد الحذر على حياته، وله جواسيس عديدون، حتى إنه من شدة حذره ما كان يُعرف أين يبيت! وعادته التخفي ليلًا؛ ليندس عند من يصمم على المبيت معها، ومن عاداته أيضًا أنه يحب التطيب، والتدلك بنهود الأبكار، والميل المطلق إلى الجميلات، والانغماس في حمأة الشهوات، وقد كان يشرب الخمر المُعتق التي يصنعها في قصره، وهو شراب يُدعى بشراب «الكوشيب» و«العرديب» وقد ذقت الأول فوجدتُ طعمه لذيذًا للغاية، ويشابه كثيرًا شراب الشمبانيا.
ومن الغريب أنه كان يعامل أولاده كما يعامل العامة من الناس، ومن عادتهم الحضور صباحًا كل يوم، فيخضعون، ويركعون أمامه كبقية القوم، ثم يمكثون بالقرب منه في الجامع الذي بقصره للدرس، والمطالعة، والتفقه في العلوم الشرعية حتى يدخل إلى محل حريمه فيفترق إلى بيته، ومع ذلك فهو يحبهم حبًّا جمًّا يفوق الوصف.
ولقد بلغني أنه عند هربه عطشت بعض سراريه اللاتي معه وشكون إليه ألم العطش فقال لهن: «نحن في صحراء جافة، وليس هنا ماء.» فلم يستطعن لتعبهن السير معه، فأخرج طبنجته ورمى منهن أربعًا بالرصاص، فأماتهن ثم قال: «أقتلُكنَّ بيدي وأنا مسرور خيرًا من رجوعكن إلى الفاشر؛ فيتمتع بجمالكن الترك — أي المصريون.» فانظر إلى قسوة هذا السلطان، وإلى عواطفه التي لا تتحرك إلا لمطلق الشهوة.
(٣٢) إرساله رسولًا إلى الحكومة
ولما أعيته الحيلة، وعلم أنه سيكون مشتتًا، ومهددًا بالقبض عليه أرسل ابن عمه، ومعه ستة فرسان؛ ليفاوض الحكومة لتؤمنه على حياته حتى يرجع، ويتوب، ويستغفر لذنبه إن كان من الخاطئين. وهذا دهاء ومكر منه أيضًا، فهو كلما أرسل يتذلل للحكومة زاد في الحيطة لنفسه والتوغل في «جبل مرة»، وقد كان الرسول بينه وبين الحكومة ابن عمه الأمير شمس الدين.
(٣٣) أولاده
- زكريا: وهو الأكبر وعمره ٢٥ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- حمزة: وعمره ٢٤ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- سيف الدين: وعمره ٢٣ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- عبد الرحمن: وعمره ٢٢ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- حسن: وعمره ٢١ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- محمد فضل: وعمره ٢٠ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- كريم الدين: وعمره ١٩ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- إبراهيم: وعمره ١٨ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- عباس: وعمره ١٨ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
- مصطفى: وعمره ١٧ سنة، وهو متزوج وله أولاد كثيرون.
وبقية أولاده الصغار يربو عددهم على المائتين، والخمسين ما بين ذكور وإناث.
ومما سمعته وتأكدت منه أنه: لما انهزمت جنوده في موقعة برنجية الشهيرة وبلغ ذلك سمعه، جمع من بقي معه من الأمراء، والوزراء، والملوك، وشاورهم فيما عسى أن يكون، فقرَّ قرارهم على قتالنا ثاني يوم على أن يكون السلطان نفسه على رأس الجيش، ثم ضربوا موعدًا لأنصاره؛ كي يجتمعوا به غير أنهم تخلفوا، ولم يحضر منهم إلا نفر قليل جدًّا. وفي ذلك الوقت حضر إليه كثير من الجلابة، وقالوا له: «إن جندك قد خذلك، وولى الأدبار، فاحتفظ لنفسك، وتدبر إن كنت من الحازمين.»
ما كنت أفكر مطلقًا إلا أن أذبَّ عن مملكتي وبلادي، وقد كان يحلو لي أن أكون الضارب لآخر طلقة بيدي مدافعًا عن ميراث آبائي، وأجدادي، وما كان الهرب يخطر لي ببال، ولكن لا أريد بأي حال مطلقًا أن أرى أولادي، وأهلي، وعشيرتي يذبحون على مرأى مني، فلا مندوحة لي من أن أترك «الفاشر» قصبة ملكي، وقلبي مملوءة بالأسى، والحزن، والخيبة، وفؤادي يقطر دمًا.
ولما تركها هو ومن ذُكر من أهله، وعشيرته، ومن تبعه من بقية جنده، وعبيده قابلهم في الطريق بئر بها ماء، فذهب كل منهم يريد الشرب، فحصل من تزاحمهم عراك شديد كانت نتيجته أن قتل بعضهم بعضًا، فتأثر السلطان لهذا الحادث، وبكى بكاء مرًّا، وتذكر عزه وجلاله، وذرف الدمع سخينًا على أيام كانت تعنو فيها لصولته الرعية، ولا ينبس أحد أمامه ببنت شفة. وما العظمة إلا لله الواحد القهار، وسبحان مبدل الليل والنهار.
وقد علمنا بوصول الخليل «واد كرومه» الشهير، والمثير لهذه الحرب، وأنه لا يزال جريحًا من واقعة برنجية.
(٣٤) القبض على الخليل
فحملناه على عنجريب وأحضرناه إلى المعسكر تحت مراقبة حرس قوي، وقد كنت أتمنى أن أرى ذلك الرجل المشهور الذي يرن اسمه في كل بلدة من بلاد دارفور، فجلست معه ورأيت أن أول رصاصة قد مرت من ثديه الأيمن، وخرجت من نصف ظهره الأيسر، أي ضلعه الأيسر على بعد ثلاث أصابع من سلسلة الظهر، والأخرى مرت من كف رجله اليمنى، ثم رأيت آثار دانة أي قذيفة مرت على ظهره مرورًا، وهذه هي التي سببت له ما يماثل الشلل، وأظن أنه لو لم يكن مجروحًا لكان له معنا شأن آخر، وحالة غير التي رأيناها.
(٣٥) أوصافه
وهو أسمر فاتح عيناه كعيني الصقر، لا تستقران مع حلاوة فيهما، مستدير الوجه ذو لحية مستديرة، له ثبات غريب، وإعجاب بنفسه كأنه يحس بصولته، ورجولته، ولا عجب فقد كان الحاكم بأمره في «أم شنقا» و«جبل الحلة»، و«بروش»، و«كدادة»، و«أُبَيِّض». وهو ذو ذكاء قلَّ أن يوجد في غيره من أمثاله، تكلمه فلا يلقي الكلام جزافًا، بل تراه يتريث، ويجيبك بعقل، وتؤدة، ورزانة.
ولقد فاتني أن أقول إن المسافة من «الفاشر» إلى «الودع» كلها حلل عامرة، والأرض مكسوة ببساط سندسي جميل، والهواء ما وجدت أمتع منه في حياتي.
(٣٦) إعجابي بالخليل وبشجاعته الخلقية
ومما أعجبني وراق نظري كثيرًا ثبات الخليل على حب مولاه السلطان، ومدحه له، والمدافعة عنه، عندما قلت له: «إن السلطان كان جاهلًا وسِكِّيرًا، هذا فضلًا عن إرهاقه الرعية بالظلم، والجور، والحيف، ومع ذلك لا يخاف الله.» فاغتاظ الرجل، وأجابني في حدة مع تأدب، وقال: «إن ما بلغكم عنه لزور وبهتان وافتراء، ولو كان سكيرًا كما تقول لما أمكنه أن يدير دفة هذا الملك الواسع ما يربو على التسعة عشر عامًا بدقة، وإحكام، ولو كان ظالمًا فظًّا لانفضَّ الناس من حوله.» وحينئذٍ كنت تراني أتلذذ من هذا الكلام الذي بلغ الغاية في الحكمة، والولاء، والذي أنضجه الذكاء الفطري، وسرعة الخاطر العجيب، ودلَّ على وجود مبدأ سامٍ شريف في الرجل، وزاد على ذلك: «إن السلطان كان رءوفًا، رحيمًا، برعيته كريمًا، جوادًا، كثير الإحسان مسلمًا تقيًّا، جمع كل صفات الخير، والبر، والرحمة.» فأكبرت الرجل في عيني، وصرت أنظر إليه منذ ذلك الوقت بعيني قلبي لا بذلك النظر السطحي.
هذا ما قاله الخليل مع علمه بأنه قد أصبح أسيرًا، ولا سبيل — بل لا وسيلة — في نجاته. واعتقادي أنه لو كان رجل آخر مكانه لقال هكذا: «ما حيلتي وأنا غير مخير في نفسي، وما عملت كل ما عملت إلا مجبرًا خوفًا على دمي أن يريقه السلطان» غير أن الخليل كان في غاية الشجاعة الخلقية.
ولما انكسر جيش التعايشي بواقعة «أم درمان» رأى الملازم علي دينار أنه من الحكمة أن يعود بما بقي له من جيشه إلى بلاده، ومسقط رأسه «الفاشر» عاصمة دارفور، ولما وصل إليها قابله الأمير «محمد أحمد» على الرحب، والسعة، وأكرمه، ثم أجلسه على سرير أجداده، ومن ذلك الوقت استمر سلطانًا حتى فتوح الفاشر، ولما رأيت أنا أنه قضى على سلطة التعايشي، ومزق جيشه شر ممزق، قلت في نفسي: يجب أن أعود أيضًا إلى بلادي دارفور، وقد كان بيني، وبين السلطان علي دينار بعض الصداقة لما كنا معًا ﺑ «أم درمان».
وبينما أنا عائد في الطريق قابلتني قبيلة الكبابيش الموالية للحكومة في جبل كاجا، وحصل بيننا قتال عنيف أسفر عن تغلبي عليهم، وإصابتي في مفصل يدي اليمنى برصاصة، (وقد أراني مكانها حيث لا يزال أثرها باقيًا).
ولما وصلت إلى الفاشر قابلني السلطان علي على الرحب، والسعة، وجعلني رئيسًا على قبيلتي «الميماوية» بالفاشر، وقد كان من عادة السلطان أن يعين رئيسًا للقبيلة، ومركزه مع نفس القبيلة، وآخر مركزه بالفاشر، والأول عليه أن ينظر في كل أمر يتعلق بالقبيلة، ثم يعرضه على الرئيس الآخر الذي بالفاشر، وهذا الأخير إذا رأى ما هو خارج عن سلطته عرض الأمر على السلطان.
وقد كان السلطان يثق بي كثيرًا، ويحبني كأحد أولاده؛ ولذلك أضاف إليَّ إمارة «أم شنقا»، و«جبل الحلة»، و«كدادة»، و«بروش»، و«أُبَيِّض». وهذا بالاختصار هو تاريخ حياتي.
(٣٧) جيش السلطان علي دينار ورؤساؤه
ينقسم جيش السلطان علي دينار إلى أرباع، والربع يقدر بثمانمائة فارس، وهاك بيانها:
عدد بالربع | |
---|---|
١ | برنجية ورئيسه «أحمد واد إبراهيم» ابن أخت السلطان علي دينار. |
٢ | إيكنجية ورئيسه «منصور عبد الرحمن» ابن أخي السلطان علي دينار. |
٣ | ربع ورئيسه «عبد الرجال» أصله من عبيد السلطان. |
٤ | ربع ورئيسه الملك «محمود الدادنجاوي». |
٥ | ربع ورئيسه «مقدوم شريف». |
٦ | ربع ورئيسه الأمير «سليمان واد علي». |
٧ | ربع ورئيسه الأمير «رمضان واد بره»، وعلاوة على ذلك كان قائدًا عامًّا للجيش في واقعة برنجية التي استشهد فيها. |
٨ | ربع ورئيسه الخليل «واد كرومه» الشهير رئيس قبيلة الميماوية. |
٩ | ربع ورئيسه الأمير «حسن واد سبيل». |
١٠ | ربع ورئيسه إسماعيل علي، أصله جلابي ورباه السلطان فنشأ بين أحضانه. |
١١ | ربع ورئيسه عبد المكرم بنجاوي، أصله من عبيد السلطان أيضًا. |
١٢ | ربع ورئيسه «كتونج»، أصله عبد داجاوي من عبيد السلطان أيضًا. |
١٣ | ربع ويدعى ربع الخوشخانجية، ورئيسه «نجابو كداوي»، كان قد حضر مع «عربي دفع الله» من الرجاف، وهؤلاء يحملون بنادق كبيرة توازي ما يسمونه «ربع مدفع»، ولها ثلاث أرجل تشابه تمامًا سيبية المدفع المكسيم. |
ولكل ربع من هذه الأرباع قسم من الخيالة يستعمل ككشافة علاوة على وجود ربعين كاملين من الفرسان «السواري».
ملحوظة: تركت «الفاشر» منتدبًا بأمر معالي السردار للخدمة بقوة البحر الأحمر أركان حرب لها أثناء الحرب العالمية، وما كدت أصل إلى الخرطوم حتى علمت بأن قوة حاصرت السلطان علي دينار بقرب «جبل مرة»، وضيَّقت عليه الخناق، فوجد أن لا سبيل إلى إفلاته، ولا بد من وقوعه أسيرًا، ففضل أن يكون مصيره بيده، فأطلق على نفسه الرصاص فمات.
وبموته تكاملت حلقات الأمن، والطمأنينة بدارفور، أما أقرباؤه، وأولاده فجيء بهم أسرى بأم درمان تحت إشراف الحكومة، وهم يتناولون شهريًّا مرتبًا ضئيلًا.
(٣٨) الفاشر
«الفاشر» عاصمة دارفور بلد كبير يوازي في عمرانه، واتساعه «أم درمان» عاصمة السودان القديمة، وقصبته، والتي كانت مقرًّا للمهدي، وخليفته عبد الله التعايشي، وقد أُحكم انتخاب موضعها حيث بُينت على أرض مرتفعة تشبه التل أي إن موقعها مستحكم استحكامًا طبيعيًّا غاية في القوة، والمناعة كقلعة عظيمة.
وفي اعتقادي أن السلطان لو صمَّم على الاعتصام بها، والمدافعة عنها كما كان ينوي لاستمرت، وبقيت على المدافعة أيامًا، وأسابيع وشهورًا، ولا يُعرف ما كان يحصل بعد ذلك إلا علام الغيوب.
وأول شيء يُرى على بعد نحو عشرة أميال منها تلك القبة الجميلة التي تشبه الحمامة البيضاء، وكلما قربت منها بهرك منظرها الرائع، وأدهشك صنعها كثيرًا، وتقع تلك القبة في وسط جامع كبير، ومدفون بداخلها والد السلطان علي دينار المدعو «زكريا».
ولكل صاحب بئر جنينة صغيرة حول بئره تكسو أرضها الخضر، وهذا منظر غاية في الجمال والإبداع، ومما يسترعي النظر حقيقة وجود ذلك الخور في زمن الخريف مملوء بالماء والمباني على جانبيه مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا، والأرض مكسوة بلونها الطبيعي السندسي الجميل، والبلدة نفسها مملوءة بأشجار كبيرة خضراء منظرها غاية في البهاء، وكثيرًا ما كان يفرج هموم الإنسان عندما يسبح الفكر في جولاته.
وأمام مبدأ الخور يقع قصر السلطان علي دينار الكبير، وحيشانه العظيمة ومخازنه، كما يقع الجامع الكبير الذي لا يبعد عن قصره أكثر من خمسين قدمًا، وله مئذنة صغيرة يُؤذن فيها لله الواحد القهار.
وفي شرق قصر السلطان تجد بيوت الأميرين «رمضان واد بره»، و«سليمان»، وهي متصلة ببعضها بواسطة أبواب صغيرة سرية لا تكاد تُعرف، وفي شرق تلك البيوت ترى بيوت الأميرين «حسن واد سبيل»، و«عبد الخير»، وإنما يفصلها شارع لا يتسع أكثر من ثلاثين خطوة.
وعلى حافة الخور تمامًا من تلك الجهة عينها ترى مخازن العيش أي الذرة، ثم مخازن السروج، وهو ما يسمونه بتعبير رجال العسكرية مخازن التعيينات، والأسلحة، والمهمات، والبلدة نفسها تنقسم إلى حلل كثيرة كما أن القاهرة، والإسكندرية تنقسم إلى أقسام.
فكما تقول قسم الوايلي، وقسم الموسكي، وقسم المنشية، وقسم الرمل، تقول: حلة فزان، وحلة الشايقية، وحلة الريف، وحلة الدكارنة، وحلة الجلابة إلى غير ذلك.
(٣٩) أغاني الفوراويين «مثل من هجوهم لعلي دينار بعد هربه»
إن أهالي دارفور كغيرهم من أهالي السودان، يميلون إلى الحروب، وركوب الخيل، والتحدث بعظمة أجدادهم، فلا يعرفون من صغرهم سوى الحربة، والرمح، والسيف، والقوس، فلما هرب السلطان علي دينار ذمه فتى أجير يعمل في حملة تعيينات الجيش، قال:
وهذه أغنية أخرى تغنيها البنات الصغيرات، ويوقعن نغماتها بأصوات رخيمة جدًّا: