ثورة الشعر الحديث
قصيدة الشعر كائن لغوي حي، يدين لصاحبه بالوجود، كما يدين للعصر الذي عاش فيه، والجو الفكري والحضاري الذي تنفَّس هواءه. والعصر الحديث بالمعنى الواسع لهذه الكلمة قد بدأ مع بداية الثورة الصناعية باكتشاف القوى البخارية والمائية، ثم مضى الإنسان في صراعه المستمر للانتصار على الطبيعة، واستغلالها وتجريدها من أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمة القلق على حياته ومصيره مع اكتشاف الطاقة الذرية، وسباقه على غزو الفضاء.
ولقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة كما تغيرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشري في خلال القرنين الأخيرين تغيرات كبيرة صاحبت ثوراته الصناعية والاجتماعية والدينية والعقلية، أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعكست بالضرورة على وجدان الشاعر، وظهرت في تعبيره الفني فيما يمكن أن نسميه بثورة الشعر الحديث أو بالأحرى ثوراته المتعددة. فحين كان الناس من حوله مشغولين بالواقع الخارجي، وبالسيطرة على الطبيعة، وبناء المصانع، والمدن الحديثة، واستغلال الأرض، وإنتاج المزيد من السلع، كان هو يقف من ذلك كله موقف المؤيد حينًا والمعارض في معظم الأحيان، فيمجد التغيير السياسي والاجتماعي مرة، أو ينصرف إلى تأمل ذاته، واستكشاف عالمها الباطن المستتر في اللاشعور أو الرمز أو الأسطورة مرات. وكل من ينظر إلى تطور الفكر والحضارة في المائة والخمسين سنة الأخيرة لا بد أن يلاحظ مدى التغير الذي تم في هذين المجالين في وقت واحد: في مجال المجتمع والطبيعة، وفي مجال النفس والعالم الباطن.
وطبيعي أن هذا التطور في اكتشاف العالم الباطن قد سار في تيارات معقدة، وأنه كان يختلف في أوروبا وأمريكا من حيث العصر والمزاج والحركة الأدبية التي يرتبط بها هذا الشاعر أو ذاك، ولكن هذا التطور كان يتتابع في حلقات متتابعة ينبع أحدها من الآخر. فالرومانتيكية كانت كامنة في الكلاسيكية التي أرادت أن تبعث القديم وتطوره، والرمزية هي ذروة النضوج التي وصلت إليها الرومانتيكية المزدهرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والواقعية كانت رد فعل للرمزية على اختلاف أشكالها واتجاهاتها.
ولقد كان الشاعر — الذي خلع عن نفسه صفة الناظم إلى الأبد — يحاول في أثناء هذا كله أن يكتشف مجاهل عالمه الباطن كما يكتشف لغته ويعيد بناءها لتكون قادرة على الإيحاء بعالمه الجديد. صحيح أن هذه التيارات والمدارس التي ذكرتها تختلف فيما بينها باختلاف البلاد وطبائع الأفراد، كما أن لكل منها خصائصه المعقدة المتمايزة وشعراءه المختلفين عن بعضهم أشد الاختلاف، إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن حركة اكتشاف الواقع الخارجي التي كادت تصل إلى نهايتها — على الأقل من ناحية السطح والظاهر — لم تستطع في مجال الواقع الداخلي أن تنتهي من اكتشاف عالم الباطن أو «أفريقيا الباطنة» كما يسميها أحد الكُتَّاب، بل لعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل المحاولات والمغامرات الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادًا وكثافة، في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من زمن طويل من اكتشاف أفريقيا، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء.
إن الصورة العامة للشعر الحديث والمعاصر صورة محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرة على ملامحها الفردية عند بعض من يمثلونها أصدق تمثيل. ولما كان هذا شيئًا يتجاوز حدود هذا المقال، فليس أمامنا إلا تقديم بعض الملامح والخطوط العريضة لما سميناه ثورة الشعر الحديث.
نشأ الأسلوب الشعري الذي يسيطر اليوم على القرن العشرين في فرنسا لا في أي بلد آخر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد مهد له الشاعر الكبير بودلير (١٨٢١–١٨٦٧م)، بعد أن ظهرت بوادره عند شاعر الرومانتيكية الألمانية نوفاليس (١٧٧٢–١٨٠١م)، والشاعر الكاتب الأمريكي إدجار آلان بو (١٨٠٩–١٨٤٩م)، حتى وصل الشاعران رامبو (١٨٥٤–١٨٩١م) ومالارميه (١٨٤٢–١٨٩٨م) إلى أبعد الحدود التي يمكن أن يصل إليها الشعر.
والواقع أن الشعر في القرن العشرين يبدو كأنه لم يعد يأتي بجديد. وليس في هذا القول ما يغض من قيمته، أو يقلل من شأن الشعراء المجيدين فيه، ولكنه يتيح لنا التعرف على وحدة الأسلوب التي تربطه بأولئك الرواد العظام. ووحدة الأسلوب التي نقصدها لا تعني الاطراد ولا الملل، ولكنها تدلنا على الروح العامة التي تجمع بين الشعراء على اختلافهم في اللون والموضوع والأداء. فنحن لا نستطيع مثلًا أن نتحدث عن وحدة الأسلوب عند شاعرين مثل لامارتين وسان — جون — بيرس في اللغة الفرنسية، أو ليوباردي وأنجارتي في الإيطالية، أو جوته وجوتفريد بن في الألمانية، أو شوقي وأدونيس في العربية، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن شعراء مثل رلكه وألبرتي وإليوت ورينيه شلر، على ما بينهم من اختلاف في النشأة والنظرة والأصالة والمزاج. والمهم هو أن نعرف أن الظواهر التي رأت النور في القرن الماضي ما زالت تؤثر على الحياة الشعرية حتى اليوم. وسواء تبين لنا أن شاعرًا من الشعراء قد تأثر بسلفه أو لم يتأثر، فإن ذلك لن يعفينا من التسليم بحقيقة مهمة تسري على الشعر سريانها على سائر الفنون، ألا وهي أن لكل عصر روحه وأسلوبه الملزم، وأن هناك نهجًا في الرؤية والإحساس والأداء لا يزال يسود الشعر الأوروبي منذ أكثر من مائة عام. ولا يصح أن ننخدع بكثرة المدارس والبرامج الأدبية التي ظهرت في أقل من قرن من الزمان، فقد لا يكون هذا التنوع الهائل سوى نوع من خداع البصر، يبين مدى خصوبة الشعر الحديث، وتعدد الفروق والظلال فيه، ولكن لا يجوز أن يحجب عنَّا وحدة الروح العامة التي تسوده وتتغلغل فيه.
إن من يتصفح بعض المراجع في تاريخ الأدب يجدها تتحدث عن الرمزية، وتكاد تتفق على تحديد نهايتها بسنة ١٩٠٠، ولكن هل انقطع تأثير أقطابها — وفي مقدمتهم مالارميه — على شعراء متأخرين مثل فاليري وجوين وأنجارتي وإليوت؟ وهل انقطع سيل المدارس و«المودات» الأدبية في الشعر أو في غيره من الفنون من دادية ومستقبلية وتعبيرية وسيريالية وحديثة وما وراء الحديثة … إلخ؟ القارئ يعرف الجواب، فلنحاول أن ننظر معًا في بعض الملامح والخطوط العامة في هذه الصورة المحيرة التي يقدمها لنا الشعر الحديث.
١
ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهين رئيسيين في بناء الشعر الحديث سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي. فهناك إن شئنا التبسيط ما يمكن تسميته بالشعر المتحرر من الشكل أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم بالشكل المحكم الدقيق في جانب آخر. أما هذا الاتجاه الأخير، فيعبر عنه فاليري (١٨٧١–١٩٤٥م) في سنة ١٩٢٩ بقوله: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عيدًا من أعياد العقل.» وأما الاتجاه الآخر المضاد، فيعبر عنه رائد المدرسة السيريالية أندريه بريتون (١٨٨٦–١٩٦٧م) حين يقول: «ينبغي أن تكون القصيدة حطام العقل.» أو حين يقول: «إن الكمال هو الكسل.»
ووجود هذه الأضداد في شعر القرن العشرين شيء يرتبط بصورته العامة. فليس الأمر مجرد خلاف بين حزبين متعارضين، بل هو تعبير عن قطبين يدور حولهما الشعر الحديث كله، وقد يمثلان صراعًا تدور رحاه في وجدان الشاعر الواحد بين العقل والفوضى، والنظام والحلم، والتجريد والهلوسة. وعلى الرغم من اختلاف النموذجين فهما يؤكدان مشاركتهما في وحدة البناء العام التي تميز الشعر الحديث. فالشعر العقلي والشعر غير المنطقي يشتركان في بُعدهما عن العاطفية المسرفة، وزهدهما في قابلية الفهم، وتخليهما عن الشيئية المعتادة، وإيثارهما للإيحاء، واستثارة الخيال، وجعلهما من القصيدة كيانًا مستقلًّا بنفسه، يكمن مضمونه في لغته الحرة وخياله الطليق ولعبه بالأحلام لا في محاولة «نسخ» العالم أو «التعبير» عن العواطف. وكل هذه أشياء تصدم القارئ العربي وتحيره؛ لأنه اعتاد من الشعر أن يصور ويعبر، ولكن لا بد له من تقبلها وتعويد نفسه عليها إذا أراد أن يجد طريقه إلى الشعر والفن التشكيلي والموسيقى الحديثة.
(٢) البحث عن لغة جديدة
كان من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغة جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منَّا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرًا ممكنًا ومقبولًا ومفيدًا؛ إذ كان هدف الناقد والشاعر أن يخطبا ود القارئ، ويمهدا له طريق الإحساس بقصيدة كُتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافًا كبيرًا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان — جون — بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني المتصلة بعالم هذا الشاعر أو ذاك. فأسلوب الأداء هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يلفت الانتباه قبل كل شيء سواه. فنحن لا نستطيع الآن كما كان الحال قديمًا أن نشغل أنفسنا بمضمون القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير عن هذا المضمون؛ لأن التباين بين أسلوب التعبير والشيء المعبر عنه قد أصبح من أهم قوانين الشعر الحديث. هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة، حتى كاد يجرد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها، بل من وجودها نفسه. فالقصيدة تتحاشى الاعتراف «بموضوعية» العالم الواقع خارج الذات أو داخلها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي الخارجي، فهي إنما تستخدمها أداة لتحريك المخيلة ودفع طاقتها على التحوير والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعات قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلًا. وحتى إذا حدث هذا، فلا يمنع أن تكون هناك قصائد تزدحم بالموضوعات والأشياء تخضع الآن لتركيبة جديدة وأسلوب جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها طاقة الذات الشاعرة، وقدرتها على التخيل، وفقدت كثيرًا جدًّا من «موضوعيتها وشيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياء لا تآلف بينها في الواقع والطبيعة، ويرمز إلى أشياء لا يتطابق فيها الرمز والمرموز إليه، ويشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق.
أسلوب الشاعر الجديد إذن يأبى على المضمون أن يكون له وجود متماسك وقيمة في ذاته. إنه لا يكف عن البحث عن اللغة الجديدة. إنه يريد كما يقول أبوللينير (١٨٨٠–١٩١٨م)، لغة جديدة لا يدري النحويون عنها شيئًا، ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟
يقول «أراجون» (١٨٩٧–١٩٤٢م) في مقدمة ديوانه «عيون إلزا»: إن الشعر لا وجود له إلا بفضل الخلق الجديد المستمر للغة، وذلك بتحطيم النسق اللغوي، وتكسير قواعده، وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام. والشاعر «ييتس» يقول: «ليست لي لغة، فكل ما أملكه لا يزيد عن مجموعة من الصور والتشبيهات والرموز.» وفي قصيدة «إليوت» المشهورة «أربعاء الرماد» نجد هذا البيت الغريب: «لغة بلا كلمة، وكلمة بلا لغة». وسان — جون — بيرس يتحدث عن التركيب اللغوي لديه، فيشبهه بالبرق والصاعقة، وكأنما يتفق هؤلاء الشعراء جميعًا على أن هذه اللغة الجديدة لن تقوم لها قائمة حتى تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحل التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام.
معنى هذا أن اللغة الجديدة ستصبح لغة مفاجئة للقارئ، لا بل معادية له. ولقد ألحَّ الشعراء والفنانون الجدد على كلمة الصدمة أو المفاجأة، حتى صارت تعبيرًا اصطلح عليه الفن الجديد من عهد بودلير. يؤيد هذا ما يقوله فاليري من أن أي دراسة للفن الحديث في نصف القرن الأخير لا بد أن تبين كيف كانت تثار مشكلة الصدمة كل خمس سنوات. وهو نفسه يعترف بأن شعر رامبو ومالارميه قد أثَّرا عليه تأثير الصدمة المفاجئة عند قراءته لأول مرة. والسيرياليون يتحدثون عن «الأذهال» الذي ينبغي أن يحدثه الشعر الجديد، ويذهب زعيمهم «بريتون» إلى حد القول بأن الشعر إنما هو إعلان للتمرد والاحتجاج، كما يقول سان — جون — بيرس (١٨٨٧م) أن «ترف الشذوذ» هو أول مواد السلوك الأدبي. وكأني بهذه اللغة الجديدة لم تحرص منذ عهد الرومانتيكية على شيء حرصها على الاحتجاج، وكأنها لم تسعَ إلى شيء سعيها إلى زيادة الهوة التي تفصل بين الشاعر وجمهوره، بحيث لا نغالي إذا قلنا إنها تحاول عن قصد أو غير قصد أن تصدمه وتفاجئه وتعاديه؛ ذلك لأن الاهتمام بالأسلوب وحده قد أصبح هدفًا في ذاته، يختفي وراءه المعنى والموضوع والمضمون، ويستوي معه أن يتناول خلود الروح، أو يصف حذاءً قديمًا أو علبة صفيح فارغة.
(٣) اللغة سحر وإيحاء
من خصائص الشعر الحديث أنه أصبح منذ عهد رامبو ومالارميه نوعًا من السحر اللغوي. وكثيرًا ما تظهر فكرة الإيحاء في كتابات النقاد في القرن العشرين في كلامهم عن التأثير الشعري. فبرجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» (١٨٨٩م) قد جعل منه عنصرًا أساسيًّا من نظريته في الفن، وكثير من الرسامين والموسيقيين يحدثوننا عن أثره في إنتاجهم. والمقصود بالإيحاء هو تلك اللحظة التي يطلق فيها الشعر «العقلي» طاقات وإشعاعات روحية يؤخذ القارئ بسحرها، وإن لم يفهم منها شيئًا. هذه الإشعاعات الإيحائية تأتي في الغالب من الطاقات الحسية التي تزخر بها اللغة، أعني من الإيقاع والنغم والصوت. وقد تأتي من تلك المعاني والدلالات التي توحي بها الكلمة أو تحدثها مجموعة الترابطات الشاذة بين كلمات لا تجمع بينها صلة ظاهرة ولا مألوفة. فمثل هذا الشعر الإيحائي الذي يعتمد على سحر اللغة يزيد من سلطان الكلمة ويجعلها أصل الفعل البشري وأول أسبابه. إنه لا يعتبر العالم حقيقة واقعة؛ لأن الكلمة وحدها هي الواقع بالنسبة إليه. ومن هنا نفهم ما يقوله بعض الشعراء المحدثين — مثل ماكليش — من أن القصيدة لا تدل على شيء، بل توجد أو تكون. ومعظم الشروح والتعليقات التي تقدم لما يسمى ﺑ «الشعر المحض» تدور حول هذه الفكرة. ويظهر أن المبدأ الشعري الذي قال به «إدجار ألن بو» قد ثبتت صحته في حركة الشعر الجديد. فالشاعر الكاتب الأمريكي يرى أن يصمم الشاعر قصيدته مبتدئًا بقوة النغم الكامنة في اللغة والسابقة على المعنى، فإذا تم له ذلك استطاع بعدئذٍ أن يضفي عليها المعنى الذي سيظل على الدوام شيئًا ثانويًّا. وقريب من هذا ما يقوله الشاعر الألماني «جوتفريد بن» من أن القصيدة تكون قد تمت بالفعل قبل البدء فيها، ولكن الشاعر لا يكون قد عرف نصه اللغوي بعد، ولعل شعر «بن» نفسه أن يكون من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة، وسبق الصوت على المعنى. ولعل هذا المبدأ هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر، وجعلها مع ذلك شاعرية.
وفي شعر رامون خيمينيز (١٨٨١–١٩٥٨م) وهنري ميشو (١٨٩٩م) وتوماس إليوت شواهد كثيرة على هذا التأثير السحري — بل المغناطيسي في بعض الأحيان — الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكل مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها، بحيث تخلق توافقات إيقاعية وتركيبات موسيقية تنفذ مباشرة إلى الأذن، وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر يعتبر اللغة طاقة نغمية قبل كل شيء. ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجوين الإسباني.
(٤) شعر بلا منطق أو وراء المنطق
وعلى الطرف الآخر من هذا الشعر النابع من تراث مالارميه نجد ما يمكن أن نسميه بالشعر اللامنطقي، شعر الهواجس والأحلام و«الهلوسات» الصادرة عن حياة اللاشعور الباطنة. والشعراء الذين يمثلون هذه النزعة يتأثرون برامبو ولوتريمو (١٨٤٦–١٨٧٠م) وعلوم الأسرار وكيمياء المعادن القديمة وكتابات اليهود المعروفة بالقابالا. فشعرهم هو شعر الأحلام — بالمعنى النقي لهذه الكلمة — سواء أكانت أحلامًا ترى في النوم أم أحلام يقظة تصطنع بالعقاقير والمخدرات. وذات الشاعر في هذا الحلم الشعري الذي يخلقه الخيال، أو يُرى في المنام ذات منسلخة عن الواقع تؤمن بأن الإنسان هو سيد العالم بفضل ملكة الحلم التي وُهبت له وحده.
فالشعر اللامنطقي يستفيد إذن، مثله في ذلك مثل الشعر العقلي، من قدرة الإنسان على تخيل الصور غير الواقعية، ولكنه في حالتنا هذه يتلقى تلك الصور من أعمق طبقات الحلم، ولا يتدخل في ترتيبها. إن الإنسان عند شعراء الحلم، كما يقول بريتون، ليس وحشًا ذهنيًّا، ولكنه — بفضل أبحاث فرويد ويونج — كائن ينطوي على قوى مظلمة مجهولة تكمن في أعمق أعماق وجدانه. وتفسير «يونج» للأدب بوجه عام، وللشعر بوجه خاص أنه ينشأ تحت تأثير «رؤى أولية» تعيش في اللاشعور الجمعي، وما الشاعر إلا «الوسيط» الذي تتدفق خلاله هذه الرؤى. وبذلك تكون عملية التشكيل الفني عملية ثانوية إلى جانب الاهتمام بهذا العالم المعتم السحيق القدم.
«كانت قطع الفحم في المساء شديدة القرب مني، بحيث شعرت بالخوف من رائحتها. تزوج حيوانان غير متكافئين، وأصبحت فروع الكروم عناقيد مثقلة بصور الأقمار. من حلقوم القرد ارتفعت ألسنة اللهب، وزخرفت العالم بالزنابق. الطغاة فرحوا. وأقبل عشرون خياطًا أعمى. وقرب المساء طارت الأشجار هاربة، وحولت نفسي إلى مائة شخص. القطيع الذي كنته سقته إلى البحر. السيف أطفأ ظمئي. مائة ملاح قتلوني تسعًا وتسعين مرة. وشعب كامل ضغطوه في المعاصر، راح ينزف دمًا وهو يغني. ظلال غير متساوية نشرت السواد بمحبة على حمى الأشرعة القرمزية، بينما تكاثرت عيوني في الأنهار، في المدن وفوق ثلوج الجبال.»
ومع أن السرياليين قد توالى إنتاجهم منذ العشرينيات من هذا القرن، فإن برامجهم تستحق الاهتمام أكثر بكثير من إنتاجهم. فلقد دأبوا منذ عهد «رامبو» على تأكيد لون من ألوان الإبداع في الشعر حشدوا في سبيله لغة أقرب ما تكون إلى لغة الحلم. ففي رأيهم أن في مقدور الإنسان الذي يتخبط في ظلام اللاشعور أن يمد تجربته الفنية بلا حد، وأن مرضى العقول يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم عالمًا فوق الواقع لا يقل «عبقرية» عن عالم الأدب والشعر، وأن اللاشعور هو الذي يوحي بالشعر والأدب دون التقيد بقيد ولا شكل. تلك هي بعض مواد هذا البرنامج الغريب الطموح. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن السرياليين يخلطون فيه بين التقيؤ والتفنن، وبين الإفزاع والإبداع. ولا يستطيع منصف أن يذكر لهم شعرًا عظيمًا، وإن ذكر لهم برامجهم ونظرياتهم الجديدة الجريئة. وحتى الشعراء الكبار الذين يحسبون عادة من السيرياليين، مثل أراجون (١٨٩٧م–…) وإلوار (١٨٩٥–١٩٥٢م)، لا يدينون بشعرهم لبرامج السيرياليين، بل لذلك الأسلوب العام الذي شاع في عالم الأدب منذ عهد رامبو، وجعل الشعر لغة الأحلام والصور المجردة عن المنطق والمعقول. إن كل ما يذكره الناقد للحركة السيريالية هو أنها كانت نتيجة لا سببًا، وأنها شكل واحد من أشكال عديدة تعبر عن شوق الإنسان الحديث إلى الأسرار والألغاز. وقد يشفع لشطحاتهم أن نذكر على كل حال أن الشعر الحديث في أوروبا ما يزال يغوص في غياهب الأحلام، وكأن الشعراء يصرون على أن ينطبق عليهم هذا الوصف الذي يشهر بهم ويمجدهم في آن واحد، فيصورهم كالسائرين نيامًا.
(٥) بين الحداثة والتراث
إذا كان الشعر الحديث يحطم القديم، فهل معنى هذا أنه يقطع صلته بالتراث؟ وهل يستطيع شاعر أن يستغني عن التراث، فيكون كالسمكة التي خرجت من الماء؟ ثم ما هو موقفه من عالم التجربة والعلم والتصنيع والتخطيط والمحن الجماعية، وإلى أي حد يرفعه أو يتأثر به؟!
لقد اهتم الشعراء منذ عهد بودلير بهذا الوجه الجديد المزعج من المدينة والتكنيك الحديث، وكان لهذا الاهتمام جانبه السلبي والإيجابي. فأبوللينير يدخل عالم الآلة الواقعي مع أغرب أحلام العبث والمحال في نسيج واحد. وتصبح الآلة في يديه شيئًا سحريًّا، بل قد تحل عليها البركات، وتقدم إليها القرابين. إنه في قصيدته «منطقة» (١٩١٣م) يضع قاعات المطار والكنائس في منزلة واحدة، ويجعل المسيح «الطيار الأول» الذي يضرب أعلى رقم قياسي. ونجد مثل هذا في قصيدة جاك بريفير (١٩٠٠م–…) «الصراع مع الملاك» (١٩٤٩م)، حيث نرى هذا الصراع يدور في حلبة المغنيسيوم كما نرى الإنسان يسقط صريعًا فوق نشارة الخشب:
ولكن يبدو أن الشعر الجديد قد تأثر بهذا العالم الصناعي الجديد تأثرًا مزدوجًا. فالحياة الآلية التي نحياها، والمعيشة في المدن الكبيرة المزدحمة يمكن أن تفتن الإنسان أو تعذبه، ويمكن أن تثير في نفسه إحساسات جديدة أو تملأها بالخراب والضياع.
إن الشعر الحديث يعبر عن عذاب الإنسان وضياع حريته في عالم تتحكم فيه الآلات والساعات والمشروعات الكبرى، وتفجعه الحروب والكوارث التي لا تنقطع، وتحيله في ظل الثورة الصناعية المتجددة إلى كائن صغير ضئيل. إن أجهزته وآلاته تشهد على قوته وضعفه، وتتوجه وتخلعه عن العرش. ولا شك أن هناك صلة قوية بين هذه التجارب التي يعانيها الإنسان وبين بعض خصائص الشعر الحديث. فالانطلاق إلى عالم اللاواقع، والبعد بالخيال الجامح عن كل ما هو مألوف، والشغف بالرموز والأسرار الخفية، و«تعقيل» اللغة إلى أقصى حد يمكن أن تكون كلها محاولات من جانب النفس الحديثة للمحافظة على حريتها في مواجهة عالم يتحكم فيه المال والآلة، وإنقاذ سر العالم ومعجزة الخلق في زمن يلهث وراء السرعة والمنفعة.
ولكن إذا كان الشعر يعلن احتجاجه على هذا العصر، فهو من ناحية أخرى يتأثر به وينطبع بطابعه. فالشاعر الحديث ميَّال إلى التجريب والمحاولة، دقيق في صنعته دقة العالم في معمله، والرياضي مع رموزه وأرقامه، متأثر بروح العصر في صلابته وبروده وقسوته. إنه يشكِّل تلك القصيدة المركبة التي تمتزج فيها الصور الشعرية القديمة — كالنجوم والبحار والرياح — بصور الحضارة الآلية واصطلاحات العلماء المتخصصين. فشاعر مثل «جوفيه» يقول في إحدى قصائده: «أرى بقعة غليظة من زيت الآلة، وأتفكَّر طويلًا في دم أمي». وشاعر آخر مثل «كاردريللي» يشبه ساعة الموت بلحظات الانتظار تحت ساعة المحطة، حيث يحصي الإنسان الدقائق والثواني. وأشعار إليوت وبن وسان — جون — بيرس تزدحم بالتفاصيل العملية والفنية، ومع ذلك تظل محتفظة بصدقها وشاعريتها. على أننا إذا كنا نلاحظ هذا كله، ونقرر وجوده، فلا ينبغي أن نتجاهل خطره. فقد تؤدي المبالغة في هذا الاتجاه — وبخاصة لدى شعراء لا يملكون الموهبة الكافية والثقافة الحقة، والقدرة على الرؤية الشاملة — إلى أن يقضي الشعر على نفسه بنفسه، ويستسلم لهذه النزعة العامة المدمرة التي تزداد ضراوة كل يوم، وكأن الإنسان لا يسعى إلى شيء كما يسعى إلى تفجير الكرة الأرضية في الهواء.
مهما يكن الأمر، فإنه إذا كان الشاعر الحديث قد قطع صلته بالتراث، فقد فتح قلبه وعقله على جميع الآداب والديانات، وراح يغوص في أعماق النفس البشرية، ويلتقط الصور والرموز السحرية والأسطورية التي عرفتها مختلف الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونحن نلاحظ هذا بالفعل في أشعار «رامبو» قبل أن يكتشف «فرويد» اللاشعور أو يكتب «يونج» نظرياته عن اللاشعور الجمعي أو النماذج الرئيسية.
وهناك عديد من النصوص في الشعر الحديث تتردد فيها أصداء أسطورية وشعبية من كافة الأمم والعصور. فشعر سان — جون — بيرس مثلًا يزدحم بإشارات عديدة إلى الرسم القديم، والأساطير الغابرة، وأماكن العبادة عند مختلف الشعوب، و«وازارا باوند» يورد في قصائده نصوصًا من الشعر البروفنسالي والإيطالي والإغريقي والصيني والمصري القديم (برسومها الأصلية في بعض الأحيان). وقصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب» تقتبس من مرجع كبير عن الشعوب البدائية كالغصن الذهبي لفريزر، كما تستفيد من الكتاب المقدس والأوبا نيشاد، وتورد نصوصًا عديدة من أشعار بودلير ومالارميه وشيكسبير وأوفيد ودانتي وكتابات القديس أوغسطين. ويحس الشاعر فيما يبدو كأن قصيدته قد أصبحت كالدغل الكثيف، فيتولى التعليق عليها بنفسه. ويصبح هذا تقليدًا يحتذيه شاعر إيطالي مثل «مونتاله» أو إسباني مثل «دييجو».
ولكن لا يصح أن تخدعنا هذه الاقتباسات العديدة من النصوص القديمة. فهي لا تدل على ارتباط حقيقي بالتراث، ولا بعصرٍ من العصور الماضية. إن الشاعر يمد يده إلى هذه النصوص والإشارات ويأخذها حيثما اتفق الأمر؛ لأنها أصبحت بالنسبة إليه بقايا ماضٍ تمزق وفقد وحدته. إنه لا يعود إلى الرموز والأساطير ليمجد عصرًا، أو يبعث زمنًا مضى، وإنما يسوي بينها كما يسوي بين الأشياء التي يستمدها من عالم الواقع، ويضعها إلى جوار بعضها، أو يمزج بينها كيفما شاء هواه. ربما يكون هدفه من ذلك أن يزيدنا إحساسًا بتمزق قصيدته أو عدم تماسكها، كتمزق الواقع نفسه، أو ربما يريد أن يلبس أقنعة مختلفة للتعبير عن حالة ضياع واحدة، أو يخلق بهذه الكلمات والرموز القديمة نوعًا من سحر الأنغام والصور يضفي على شعره روعة وبهاءً، والدليل على ذلك أنه لا يضع هذه الرموز والصور والنصوص المقتبسة في عصرها، ولا يوردها بحسب ترتيبها التاريخي، بل يخلطها بكلمات وشعارات وصور أخرى من العالم الحديث.
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف في مختلف البلاد والعصور كما يشاء، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرًا مثل «جوتفريد بن» (١٨٨٦–١٩٥٦م) يقول في قصيدته «أنا ضائعة»:
وإذا سمعناه في قصيدةٍ أخرى يقول: «الدوائر تظهر تماثيل أبي الهول العريقة في القدم، كسبات وبوابة من بابل، رقصة من ريو ورقصة سوينج وصلاة»، استطعنا أن نقول كما قدمنا إن الشاعر يسوي بين حقائق التاريخ كما يسوي بين الأشياء التي يجدها أمامه في عالم الواقع، فكل ما يراه في التاريخ أو على الأرض قد صار غريبًا بلا أرض ولا وطن.
(٦) الوحدة والقلق
من أبرز الإحساسات التي ينقلها إلينا الشعر الحديث هو الإحساس بالوحدة والقلق. فالشاعر هو أشد شعورًا بوحدة الذات في العالم وانفرادها بين غيرها من البشر. والفكرة قديمة بغير شك. ولعلها قد وجدت قبل الرومانتيكية بكثير، غير أنها أصبحت في أيامنا فكرة جديدة كل الجدة، ترتبط ببدعة العصر أو حقيقته التي ذاعت اليوم على كل لسان، من أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر القلق والوحدة والضياع في الزحام. ولعل الناس لا تتفق على شيء يتعلق بالشعر والشعراء كما تتفق على أنهم أناس متوحدون قلقون غريبو الطبع، اتفاقهم على أنهم مساكين أو «مجانين» أو يتبعهم الغاوون.
وقد عبر الشاعر «أبوللينير» عن ذلك في قصة نثرية بعنوان «الشاعر المقتول» (١٩١٦م) يسرد فيها أحداثًا عجيبة غير منطقية تنتهي إلى تصور جريمة القتل التي ترتكبها جميع البلاد في حق جميع الشعراء، وتنتهي القصة بأن يصنع أحد المثَّالين للشاعر المقتول تمثالًا من الدم. والشاعر سان — جون — بيرس يقول عن اللغة التي يستخدمها في قصيده الطويل المشهور «منفى» إنها لغة المنفى النقية. وإن دل هذا كله على شيء، فهو يدل على أن القلق قد أصبح سمة العصر التي يتحدث عنها الجميع كما كانوا يتحدثون قديمًا عن «القمر» أو «الشوق». ولذلك فليس غريبًا أن نجد أحد الشعراء الإنجليز (وهو و. ﻫ. أوديني) يؤلف في سنة ١٩٤٦م قصيدة بعنوان «عصر القلق».
ولنعقد الآن مقارنة سريعة بين الجو العام الذي يسود إحدى قصائد شاعر قديم نسبيًّا مثل «جوته» (١٧٤٩–١٨٣٢م) وبين بعض قصائد المعاصرين. فهو يتحدث في قصيدته سكون (ويحتمل أن يكون قد كتبها في سنة ١٧٩٥م) عن الفضاء الشاسع المخيف، والبحر الساكن العميق الذي لا تتحرك فيه موجة ولا تهب عليه نسمة:
ولكنه يتبعها بقصيدة أخرى تتفق معها في الموضوع والإيقاع والنغم وهي «رحلة سعيدة». نجد فيها كيف ينقشع القلق وينفك أسار الخوف، ويتشجَّع الملاح، ثم لا يلبث الشاطئ أن يظهر للعيون من جديد:
فالخوف والقلق هنا ليسا إلا جسرًا يعبره الشاعر إلى الأمل والصفاء. أما ما نجده في الشعر الحديث، فهو يختلف عن ذلك. فيندر أن تجد قصيدة تحدثت عن القلق، ثم استطاعت أن تتخلص منه. وتشبه قصيدة «جوته» السابقة قصيدة «لرامون خيمينز» بعنوان «بحر» تصور رحلة على مركب. ويصطدم المركب بشيء ما، ولكن لا يحدث في الحقيقة شيء. فليس هناك إلا السكون والأمواج وشيء آخر «جديد» يتركه الشاعر بلا اسم. وهكذا يسير الشاعر الحديث من الأمل إلى القلق بعد أن كان الشاعر القديم يسير في عكس هذا الاتجاه.
ولنأخذ مثلًا آخر من كنز الشعر الإسباني الحديث، ولتكن قصيدة لوركا (١٨٩٩–١٩٣٦م) عن الصمت:
فالصمت هنا لا يمحو هول تلك «الصرخة» المخيفة التي سمعناها تتردد في قصيدة أخرى بهذا العنوان، بل لعله يزيده رهبة؛ إذ يولد هولًا جديدًا، هول الصمت الذي تنزلق خلاله الوديان والأصداء ويضغط جبهة الحياة على الأرض. والشاعر نفسه في قصيدته «مرثية الصمت» يجعل من هذا الصمت اسمًا آخر للقلق، ويصفه بأنه شبح الانسجام ودخان الشكوى؛ لأنه يحمل «عذابًا» سحيق القدم وصدى الصرخات التي انطفأت إلى الأبد. وكأني بلوركا يتحدث عن ذلك القلق الذي يقلقه ألا يجد غذاءه من الألم والعذاب، وعن الخوف الذي لم يعد يخاف شيئًا كما يخاف الخوف نفسه.
وعلى نحو آخر يتحدث شاعر مثل «إلوار» عن القلق في قصيدة من ديوانه الحياة المباشرة (١٩٣٢م)، إنه لا يسميه، بل ينقل إلينا الإحساس الحذر به عن طريق النص نفسه عندما يكرر كلمة بعينها «كان هناك»، أو جملة واحدة كأنها صلاة تتلى في ملل:
فهذه الأشياء التي تذكر واحدة بعد الأخرى دون أن تكون بينها علاقة لم يهدف إليها الشاعر في ذاتها، بل أراد أن تكون علامات على النفي والرفض والتهشيم، وبذلك تصبح في نفس الوقت علامة على القلق الذي لا تذكره لغة القصيدة، بل توحي به.
هكذا نستطيع أن نقول بوجه عام — وإن كان التعميم هنا شيئًا كريهًا كل الكره — إن الشاعر القديم كان يسعى للاتصال بالعالم والناس، وكانت نفسه تريد أن تقترب منهما، سواء نجحت في ذلك أم خاب أملها.
أما الشاعر الحديث، فيتعمد أن يجعل المألوف غريبًا والقريب بعيدًا. وكل من يقرأ لكبار الشعراء المعاصرين يخيل إليه أن هناك قوة خفية تدفعهم دفعًا إلى تحطيم الصلة بينهم وبين العالم والناس. (ومن يتابع الرواية الحديثة يلاحظ أيضًا أنها تحرص على هذا الإغراب وقطع الصلة بين الناس والأشياء أو بينهم وبين بعضهم البعض، وذلك ابتداءً من روايات فلوبير الأخيرة إلى روايات وأقاصيص هيمنجواي وألبير كامي والروائيين الجدد).
يقول الكاتب الروائي النمسوي «روبرت موزيل» (١٨٨٠–١٩٤٢م): إن الشاعر يحس حتى في الصداقة والحب بأنفاس الكراهية التي تبعد الكائنات بعضها عن بعض. والشعور بأن قرب الإنسان من الإنسان هو في حقيقة الأمر بعد عنه يكاد أن يكون موضوعًا ثابتًا من موضوعات الشعر الحديث. فقصيدة «أغنية» للشاعر الإيطالي «أنجارتي» الذي ولد بالإسكندرية (١٨٨٨م) تنتهي بحزم غير عاطفي يعبر عنه قوله: إن الحبيبة بعيدة كما لو كانت في مرآة، وإن الحب يكشف عن القبر اللامتناهي للعزلة الباطنة:
ولوركا يقول في إحدى قصائده: «ما أبعدني حين أكون قريبًا منك، وما أقربني حين أكون بعيدًا عنك.» والشاعر الألماني كارل كرولوف (١٩١٥م–…) يقول في «قصيدة حب» (١٩٥٥م): هل ستسمعينني خلف الوجه المعشوشب للقمر الذي يتفتت؟ والليل يتكسر كالصودا، «أسود وأزرق». وكأن هذه الصور الصلبة، وهذا التحطم والتناثر والانكسار تعبير عن فشل محاولته للقرب من الحبيبة كما هو تعبير عن خلاصه الوحيد المنتظر على يد اللغة الشاعرة الخلاقة. والجزء الأخير من قصيدة لوركا المشهورة عن صديقه مصارع الثيران سانشيت ميخياس يحمل هذا العنوان «نفس غائبة». إنه لا يذكر الميت ولا الموت بكلمة واحدة، وإنما يقول إن أحدًا لم يعد يعرف صديقه، لا الثور والخيل والنمل في بيته ولا الطفل والماء، ولا الحجر الذي يرقد تحته. ولقد صار الميت بعيدًا عنه بعدًا لا يستطيع التذكر نفسه أن يصل إليه. «لكنني أغني باسمك». غير أن هذا لا يجدي أيضًا. فالشاعر الذي غلبته الوحدة واليأس من الوصول إلى الصديق البعيد لم يعد يملك إلا الغناء عن النسيم الحزين الذي يسري بين شجيرات الزيتون.
وقل مثل هذا عن قصائد الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي (١٩٠٢م) التي نشرها في سنة ١٩٢٩م بعنوان «عن الملائكة». والملائكة التي يتحدث عنها الشاعر ليس لها أي معنًى ديني. إنها كائنات خرساء كالأنهار والبحار، خلقها خيال شاعر وحيد. هناك صراع خفي يدور بينها وبين الإنسان وينتهي إلى انقطاع كل أمل في الاتصال بينهما. فالإنسان يعلم أن الملاك موجود. غير أنه لا يراه، ولا الريح وزجاج النوافذ تراه، والملاك أيضًا لا يرى الإنسان، ولا يعرف المدن التي يسير فيها؛ لأنه بلا عيون ولا ظلال، ولأنه يغزل الصمت في شعره، وما هو إلا «ثقب وحيد رطب، ونبع جف الماء فيه …» لقد مات بيننا نحن البشر، أضاع المدنية وأضاعته. ومع أن من الصعب تفسير هذه القصائد التي وصفها البعض خطأً بالسريالية، إلا أن الرمز الذي تدور حوله لا يستعصي على الفهم. فالملائكة كائنات نورانية مباركة، سواء أرسلت إلى الناس لتبشرهم بنعمة الله أم لتنذرهم بغضبه ونقمته. كان الإنسان يحس صلة بينه وبينها، وكان يشعر أنه ليس وحده في هذا الكون، ويرى بين الحين والحين أن هناك كائنًا علويًّا يرعاه ويتذكر وجوده على الأرض البائسة. غير أنه يبدو أن الملائكة قد سئمت الإنسان، فلم تعد تهتم بشأنه، بل ولم تعد تذكر منه إلا صورًا للقبح والفساد والفناء.
للكاتب الألماني فرانز كافكا (١٨٨٣–١٩٢٤م) أمثولة جعل عنوانها «القرية المجاورة» يقول فيها: «كان من عادة جدي أن يقول: إن الحياة قصيرة إلى حدٍّ مذهل. والآن تضغط الحياة بذكرياتها، حتى لا أكاد أتصور مثلًا كيف يمكن أن يصمم شاب على ركوب جواده إلى القرية المجاورة دون أن يخشى — ويصرف النظر تمامًا عن الصدف المؤلمة — من أن يكون عمر الحياة العادية التي يلازمها الحظ أقصر بكثير من أن يتسع لمثل هذه الرحلة.»
هذه الأمثولة تعبر عن موقف أساسي في وجدان الجيل الحديث، ألا وهو العجز عن الوصول، حتى ولو كان الهدف قريبًا. ولنضرب مثلًا لذلك من الشعر الحديث بقصيدة لوركا «أغنية فارس»:
فهذا الفارس يعرف الطريق إلى هدفه وهو مدينة قرطبة، ولكنه يعرف أيضًا أنه لن يصل أبدًا إلى هذا الهدف. إن الموت يحملق فيه من أبراج قرطبة، وهو لن يعود إلى بيته؛ لأن الموت ينتظره هناك في السهول الشاسعة التي تعصف فيها الرياح. وما كذلك الشاعر القديم الذي كان يحن إلى بيته أو وطنه، ويحمل في نفسه صورة البيت والدخان الذي يصعد من مدخنته، والسور الذي يظهر فوق سطحه، والعجوز التي ستفتح له الباب.
لنضرب كذلك مثلًا بقصيدة «جوته» التي تبدأ بهذا البيت: «دعوني أبكي»، وهي إحدى قصائد ديوانه الشرقي التي لم ينشرها فيه، ووُجِدت في أوراقه بعد موته:
إن الشاعر هنا بعيد عن هدفه. يقضي ليلته في الصحراء المترامية الأطراف، ويفكر في الأميال التي تفصله عن حبيبته فيبكي. غير أن بُعد هذا المكان لا يبعده عنه في الحقيقة؛ ذلك لأنه يظل شيئًا يحن إليه كما يظل شيئًا مألوفًا لديه، قريبًا منه بالتذكر والشوق، يمكن الوصول إليه بين يوم وآخر. إنه حزين حقًّا، لكنه حزن يمكن أن يجد العزاء. بل إنه ليعزي نفسه حين يتذكر أبطالًا قدامى، بكوا حقًّا، والبكاء لا يعيب الرجال.
أما شاعرنا «لوركا» فيقول في مطلع قصيدته: إن قرطبة بعيدة. ولا يصح أن نتصور أنه بُعد مكاني. فالفارس يرى المدينة أمام عينيه، ولكنها بعيدة عنه بُعدًا مطلقًا على الرغم من قرب المسافة التي تفصله عنها. إن هناك لغزًا محيرًا يتمثل في شبح الموت الذي يطارده ويبعد المدينة عنه كما يبعده عنها. ما من شوق ولا دموع ولا عزاء عن هذا الإحساس الفاجع بالبعد المحتوم. فالنفس تعيش في يأس مطبق. والشاعر ينادي الجواد والطريق والموت، وهذا هو كل شيء. أضف إلى ذلك تلك الجمل التي تدور في شبه دائرة ناقصة، وتخلق باستغنائها عن الأفعال صورة لغوية تعبر عن استسلام الشاعر للغربة، وخوفه من الخطر الجاثم عليه.
هكذا يتجلى لنا الفرق بين أسلوبين في التعبير الشعري. فالهدف البعيد في المكان يظل قريبًا من نفوس القدماء. إنهم يتصورونه ويحنون إليه ويبكونه، ويعزون أنفسهم بقرب الوصول إليه. أما المحدثون، فيتحول القرب المكاني عندهم إلى بُعد هائل مخيف تحس به نفوسهم أوضح إحساس وأقساه. الشاعر القديم مطمئن للعودة إلى بيته وأهله. أما الشاعر الحديث فيعلم أن هذه العودة مستحيلة؛ لأن هناك قدرًا يأسره ويتسلط عليه، ويبعد الوطن عنه، أو يبعده عن الوطن. إنه ليس غريبًا في هذا العالم فحسب، بل إن العالم نفسه قد صار غريبًا عليه.
(٧) خاتمة
إن الشاعر الحديث يحس بأن القوى التي تهدد حريته تزداد كل يوم، ولذلك يزداد تلهفه عليها وتشبثه بها. وهو لا يبخل في سبيل ذلك بشيءٍ ولا تعز عليه تضحية، ولو أدى به الأمر إلى تحطيم الواقع وإعادة النظر في كل المقدسات والانفصام عن التراث أو معاداته والسخرية منه.
لم يعد الشاعر يجد الراحة والاطمئنان في الواقع التاريخي أو الموضوعي المحيط به، ولا عاد يشعر بقربه من حقيقة عالية كانت تطل على أسلافه وترعاهم. لذلك راح يخلق لنفسه عالمًا جديدًا من خياله، ويبدع بالكلمة الشاعرة وحدها مملكة تعادي كل ما هو مألوف، وتناقض كل ما كان يفوح برائحة الثبات والاطمئنان.
الشعر الحديث أشبه بحكاية أو «حدوتة» عظيمة لم تُسمَع من قبل، ولكنها حدوتة وحيدة شديدة الوحدة. إنه بستان تنمو فيه الزهور، ولكنه يمتلئ كذلك بالأشواك والأحجار، وتكثر فيه الثمار، كما تكثر العقاقير والسموم الخطرة. إذا أراد القارئ أن يتجول في طرقاته أو يعيش في جوه المتقلب، فعليه أن يتحمل أقصى ما يستطيعه من العذاب والشقاء. وإذا أمكنه أن يسمع شيئًا، فربما سمع في هذا الشعر صوت الحب الوحيد العنيد الذي يرفض أن يستهلكه القراء و«المعجبون»، ويؤثر أن يضل في المتاهات، أو يتحدث في الفراغ على أن يتحدث إلينا أو يتقرب منَّا. إن القصيدة الواحدة تمتلئ بأطلال الواقع الذي فككه الخيال الجريء ومزقه، ولكن هناك عوالم أخرى «غير واقعية» تسبح فوقها، وتكون مع تلك الأطلال ذلك السحر الذي يدفع الشعراء إلى تأليف شعرهم، كما يدفع القراء إلى التحمس له أو النفور منه.
لقد امتلأت لغة الشعر كما قدمت بالأنغام الناشزة والصور المتنافرة، شأنها في ذلك شأن لغة الموسيقى الحديثة أو الرسم والتصوير. ولكنها ستظل لغة شعرية، وإن استعصت على الفهم في معظم الأحيان. إن الشعراء يحسون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنهم وحيدون مع اللغة، ولكنهم يحسون كذلك أن اللغة هي ملجؤهم الوحيد. كما يعرف أكثرهم وحدة أنه يتصل على الرغم من كل شيء بنوع من الخلود الذي يمتد من الأزل، ويدوم إلى الأبد، وأعني به حرية اللغة، وقدرتها المستمرة على الابتكار، والتجربة، واللعب، والغناء.
ونسأل الآن سؤالًا ربما طاف بذهن القارئ: ما هو مستقبل الشعر الحديث؟ والحق أن الجواب على هذا السؤال شيء عسير، إن لم يكن مستحيلًا. فلا يدري أحد حين تنشب ثورة كيف ولا أين ستنتهي، وقد يقول قائل إن ثورة الشعر الحديث قد أوشكت أن تبلغ نهايتها إن لم تكن قد بلغتها بالفعل، وإن الشعر الجديد قد أوشك أن يستنفد طاقاته، ولا بد أن يبحث الشعراء والنقاد عن مخرج جديد.
ولكن كيف يبدو هذا المخرج، وعلى يد أي عبقري سيتم؟ هل سيبتعد عن الموجات الصاخبة والشعارات الصارخة والمدارس المتحمسة والبيانات المزهوة بكل جديد؟ أم سيظل يدور تلك الدورة المحتومة التي كتبت على كل نشاط يبذله الإنسان؟
لا أحد يدري كما قلت. وترك الأسئلة مفتوحة لا يعني أن نتشاءم أو نستسلم للحزن. فهذا شيء لا بد أن نرفضه ونقاومه دائمًا، وبكل ما نستطيع من وسائل (ومنها الشعر)، ولكنه يعني أننا لا نستطيع أن نتنبأ بمستقبل الشعر ولا بمستقبل غيره من الفنون، وكل ما نستطيعه أو ما يجب أن نفعله هو أن «نعرف» حالته الحاضرة، و«نفهم» كيف وصل إلى ما هو عليه.
إن المدارس الجديدة تلتئم ويلتف حولها المتحمسون حينًا، ثم ينفض كلٌّ إلى سبيله. والسؤال القديم — الذي لا نكف نحن الشرقيين عادة عن إلقائه — وهو: هل هناك جديد تحت الشمس؟ وهل ترك لنا القدماء ما نقوله؟ يمكن أن يجاب عليه بنعم ليس هناك جديد، كما يجاب عليه: بل هناك ما لا نهاية له كل يوم وكل لحظة مما يمكن أن يجرب ويقال، وبخاصة بالنسبة لنا نحن العرب الذين نريد أن نحافظ على التراث ونتجاوزه في آن واحد، ونصمد في مواجهة الحاضر بكل نكباته، ونصر على ميلاد مستقبل جديد مهما كان الثمن (وما أكثر ما يستطيع الشاعر العربي الجديد أن يقول في هذا المجال).
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل كما قلت. فالثورات في عالم الفن تمضي في سبيلها، ثم تنقلب إلى ضدها. وتنشأ ثورات أخرى باستمرار (الفن طائر فريد يأبى أن يرضى بالأقفاص، وطالما حبسوه في المعبد والكنيسة وقصر السلطان وديوان الحكم ومقر الحزب، فعرف دائمًا كيف ينجو بنفسه …) وليس معنى هذا أن ندين ثورات الشعر الحديث في أوروبا أو ثورة الشعر الوليدة في بلادنا. فليست وظيفة الكاتب أن يحكم ويدين، بل أن يفهم ويتعاطف. وماذا يمكن أن يتعلمه شاعرنا الجديد (حارس لغتنا وتراثنا وضميرنا، وأمل حاضرنا ومستقبلنا) من دروس أكثر من نصف قرن قطعها الشعر المعاصر في بلاد غير بلاده؟ لا شك أنه يستطيع أن يتعلم الكثير. يستطيع أن يتعلم أولًا ألا يقلد هذا الشعر تقليدًا أعمى لا يناسب لغته ولا حسه (فالتقليد فعل القرود)، وألا يتجاهله مع ذلك، أو يسدل من دونه الأستار. ويستطيع أن يتعلم كيف يضع تراثه بين عينيه وفي حبات قلبه، على أن يتعلم في نفس الوقت كيف يتجاوزه إلى مشكلات الحاضر، وآمال المستقبل، ويستفيد من حكمه وأخطائه، ويميز كنوزه وروائعه من نفاياته وأعبائه، ويواجه عالم القلق الحديث بمزيد من جسارة اللغة وشجاعة الذات التي تصر على أن تحقق نفسها أو تموت.