كف نفسك
القسم الأول
هذه قراءة لبعض نصوص نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) «النفسية». ربما تثير الكلمة الأخيرة شيئًا غير قليل من الشك والحيرة. وربما ذكَّرت القارئ بالجدل الطويل الذي دار، وما يزال يدور حول الفيلسوف الشاعر مؤلف «هكذا تكلم زرادشت» و«أناشيد ديونيزيوس الديثرامبية»، صاحب الأسلوب المتوهج بالصور الحية، والرؤى العميقة المخيفة، والعبارات البركانية المتفجرة بالغضب والشوق، ذلك الذي «تفلسف بالمطرقة»، ولم يكتب كلمة واحدة لم يغمسها — على حد قوله — في دم القلب، هل هو شاعر أم فيلسوف؟ وهل نحسم هذا الجدل الذي لم ينتهِ بأن نضيف إليه مشكلة جديدة، فنزعم أنه عالم نفس؟
إرادة القوة إذًا شأنه شأن غيره من كتبه قد وضع ليفكر فيه الناس. إنه قول ميتافيزيقي يتحدث عن العالم ككل، ويتجاوز كل ما يضمه من أحوال وأشياء. ويصدق الشيء نفسه عن أفكاره الكبرى — التي تعرضت دائمًا لسوء الفهم — عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة — أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة — وعودة الشبيه الأبدية. فهي أفكار فلسفية وميتافيزيقية قبل كل شيء، وصاحبها الذي طالما تفاخر بعدائه للميتافيزيقا والمنطق والجدل والعقل النظري أو السقراطي هو في رأي معظم الدارسين (وبخاصة هيدجر وتلاميذه) أشد الميتافيزيقيين تطرُّفًا في تاريخ التفكير الغربي، بل إنه في رأيهم منتهى غايتها وآخر حلقة من حلقات تطورها منذ أفلاطون، ومن قبله من المفكرين قبل سقراط.
بيد أن هذا كله لا يتنافى مع الحقيقة التي وصف بها نفسه حين قال إنه «خبير بالنفس» لم يتوقف عن سبر أغوارها، وإنه كما قال في كتابه «إنساني، إنساني جدًّا» قد استفاد من «مزايا الملاحظة النفسية»، وراح في كل كتاباته يحلل نفسه وينقدها، وينطق بلسان «السيكولوجي» حين ينطق عن حاله. يقول على سبيل المثال في كتابه «نيتشه ضد فاجنر»: «كلما ازدادت خبرة المرء بالنفس، واتجه كعالم نفس بالفطرة والضرورة إلى الحالات الاستثنائية والأنماط المختارة من البشر زاد الخطر الذي يتهدده بالاختناق شفقةً عليها …» ولكن ما حاجتنا للجوء إلى مثل هذه العبارات وكتابات الفيلسوف تنطق بخبرته بالنفس، وتعمقه في طبقاتها الدفينة، ومتاهاتها المظلمة؟ إن المطلع على هذه الكتابات ابتداءً من «ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى» حتى شذراته الأخيرة وخطاباته التي كتبها في ليل جنونه، ووجهها إلى قيصر والمسيح وبعض أصدقائه، كل هذه الكتابات تشهد شهادة كافية على تحليلاته النافذة، ونظراته النفسية الثاقبة، بل إنها لتشهد بأنه سبق مؤسس التحليل النفسي في هذا المضمار، وأنه أراد طريق علم النفس التحليلي وعلم النفس الفردي — كما سنرى بعد قليل — وأثر عليها جميعًا بحدوسه، وخواطره الملهمة تأثيرًا مباشرًا أو غير مباشر — وصل في بعض الأحيان إلى حد استباق النظريات — كاللاوعي وما تحت الوعي وما فوقه ووراءه، وكذلك اللاوعي الجمعي النماذج أو الأنماط الأولية، بل لقد بلغ حد التطابق في المصطلحات كما سنرى مثلًا مع كلمة «الإعلاء» التي تتكرر في كتبه أكثر من اثنتي عشرة مرة.
الواقع أن نيتشه قد تجاوز علماء النفس «المدرسيين» في عصره، وتخلَّص من لغتهم التصورية الجافة، وسبقهم إلى كثير من المعارف والأنظار التي لم يدروا عنها شيئًا. نظر في خفايا النفس الفردية وما تنكره خجلًا أو تحجبه خوفًا من نفسها ومجتمعها، كما نظر في العلاقات الوثيقة بين الحضارة والدين، وبين المجتمع والأخلاق، وتتبع التطورات الحضارية التي كوَّنت ما نسميه الوعي إلى الأجداد وأجداد الأجداد، وأثبت أن هذ الوعي ليس إلا حصيلة أخطاء عريقة، وأن الضرورة تقتضي الغوص إلى ما تحته في متاهة الدوافع المستعرة، كما تقتضي التطلع إلى ما بعده في «رعي جمعي» يحمله جيل من أصحاب الأرواح الحرة المريدة الخلاقة، جيل راح ينتظره، ويعد له ويبشر به بأعلى صوته. وهو لم يكتفِ في كل هذا بأن يكون خبيرًا بالنفس يقتفي آثار منابعها الذاتية الحقة، ولم تقف تجاربه ومحاولاته عند البحث عن هذه المنابع الأصيلة (يقول في إحدى القطع التي كتبها عن زرادشت: الانتظار والتأهب. انتظار أن تنبثق منابع جديدة. أن ينتظر المرء عطشه ويتركه، حتى يصل إلى أقصى مداه؛ لكي يكتشف منبعه) لم يقف الأمر عند هذا، بل عرف أن «السيكولوجية» التي يقصدها «سوماتية» أو ممتدة الجذور في الجسد. ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل عنوان إحدى حكمه التي كتبها ضمن شذرات كتابه الأكبر الذي سبقت الإشارة إليه: «الاهتداء بالجسد»، وأن يقول فيها: «على فرض أن «النفس» كانت فكرة جذابة غنية بالأسرار الغامضة، ولم يستطع الفلاسفة — والحق معهم — أن ينفصلوا عنها إلا مرغمين، فربما كان ذلك الذي بدءُوا يتعلمون كيف يستبدلونه بها أكثر منها جاذبية وأحفل بالغوامض والأسرار»، ولا شك أن نيتشه — بعد شوبنهور وفويرباخ — قد اكتشف أن الجسد فكرة أكثر إثارة للدهشة من فكرة النفس «العتيقة». وقد لا نعدو الصواب إذا قلنا باختصار يحتمه ضيق المقام أن هؤلاء الثلاثة قد عملوا على تحول الفكر الحديث من ميتافيزيقا العقل — الذي انهار وخلع عن عرشه بعد موت هيجل — إلى ميتافيزيقا الجسد والإرادة والدوافع. ولعل نيتشه أن يكون أشدهم من هذه الناحية تأثيرًا على تيارات عديدة من فلسفة الحياة إلى فلسفة الوجود إلى علم النفس الوجودي إلى الأنثروبولوجيا الفلسفية إلى مدارس التحليل النفسي المختلفة.
وتبقى في النهاية مشكلة نصوصه نفسها. إن هذه النصوص المجنحة المتوهجة بنار الغضب أو النشوة، تحير كل من يحاول الاقتراب منها. فهل يمكن أن نقف منها موقفًا موضوعيًّا باردًا يقتضيه التحليل العلمي، وهل نستطيع من ناحية أخرى أن نقي أنفسنا خطر الانجذاب لدوامتها والانجراف مع حماسها وجموحها؟ إن نيتشه يصف نفسه بأنه ليس بشرًا، وإنما هو ديناميت، وهو يؤكد باستمرار أنه قدر وأن قدرًا لم تسمع عنه البشرية قد ارتبط به. ومن يطلع على صفحة واحدة من كتاباته لا ينجو من زلزلة تصيبه أو حمم تتناثر من بركانه. ولن ينسى أحد وصفه لنفسه في هذه الأبيات التي جعل عنوانها «هو ذا الإنسان» من كتابه الذي يحمل نفس العنوان:
لا مفر إذن من أن نحاول الأمرين معًا على صعوبة الجمع بينهما: أن نفهم هذا المفكر اللاهب الملتهب، وأن نتعاطف معه، ونجرب أن نرى رؤاه، وبذلك نرضي مطلب الموضوعية الذي لا غنى عنه، ونستجيب لدفء الوجدان الساحر الذي يلفح وجوهنا مع كل سطر من سطوره. الأمر عسير كما قلت، وهو أشبه بإقامة العدل أو عقد الزواج بين الثلج والنار! إنه يتطلب اتخاذ مسافة البعد الكافية التي تحتمها النظرة العلمية المحايدة، كما يقتضي القرب المتعاطف الذي يحتمه التعامل مع مثل هذا الفيلسوف الشاعر بالمعنى الأعمق لا بالمعنى التقليدي لهاتين الكلمتين. ولعل هذا البعد السحيق من جهة، وهذا التواصل الوثيق من جهة أخرى هما اللذان تفرضهما كل علاقة أصيلة يمكن أن تنشأ بين الأنا والأنت (على حد تأكيد مارتن بوبر في كتبه العديدة عن هذه العلاقة الجوهرية الأصلية التي أوشكت أن تغيب غيابًا مطلقًا عن حياتنا العربية والمصرية).
بقي أن نتم المهمة التي أشرنا إليها في بداية هذا التقديم، ألا وهي بيان التأثيرات المباشرة أو غير المباشرة لكتابات نيتشه «النفسية» على أعلام التحليل النفسي أو بالأحرى «علم نفس الأعماق» كما يوصف في لغته. وهي مهمة سنحاول أداءها بإيجاز شديد لا يسمح المقام بتفصيله.
لنبدأ برائد التحليل النفسي ومؤسسه فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩م). ولنذكر أولًا أنه كان معاصرًا لنيتشه الذي يكبره في السن باثني عشر عامًا فحسب، وأنه اتخذ منه ومن فلسفته موقف التحفظ الذي لم يكد يتزحزح عنه. ولعل القارئ لم ينسَ تلك الفقرة المشهورة من نهاية المحاضرة الثامنة عشرة من محاضراته التمهيدية عن التحليل النفسي التي يشرح فيها كيف أوذي الإنسان الحديث ثلاث مرات في غروره واعتزازه بنفسه ومكانته في العالم. كانت المرة الأولى عندما تم التحول الأكبر في عصر النهضة من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس على يد كوبر نيقوس (١٤٧٣–١٥٤٣م) الذي افترض أن أرضنا ليست هي مركز الكون، وكان من الضروري أن يستخلص الإنسان من ذلك أنه ليس تاج الخليقة، وأن العالم لم يُخلَق من أجله. وكانت المرة الثانية عندما قدم تشارلز داروين (١٨٠٩–١٨٨٢م) كتابه عن أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، فأثرت نظريته في التصور الديني بوجه خاص عن كون الإنسان صورة الله وخليفته على الأرض. أما المرة الثالثة فكان الأذى أشد قسوة وأعمق جرحًا؛ إذ جاء من جانب «البحث السيكولوجي الراهن، الذي يريد أن يثبت للأنا أنها لا تملك حتى أن تكون سيدة في بيتها الخاص، وإنما تظل معتمدة على أنباء شحيحة عما يجري بصورة غير واعية في حياتها النفسية». ومع أن فرويد يقرر في تواضع أن أصحاب التحليل النفسي ليسوا هم أول من نبه إلى ضرورة الرجوع إلى الذات، ولا هم وحدهم الذين فعلوا ذلك، إلا أنه يستطرد فيقول: «يبدو أنه قد كتب علينا أن نعبر عن هذا أقوى تعبير، وأن ندعمه بالمادة التجريبية التي تهم كل فرد.» ولسنا هنا بصدد مناقشة الطابع التجريبي والعلمي للتحليل النفسي، فالجدل حول هذه المسألة يطول، ولكننا نسأل فحسب إن كان من حق فرويد وتلاميذه وحدهم أن يستأثروا ﺑ «مجد» إيذاء الإنسان الحديث، وتعرية عالمه الباطني المظلم، أم أن نيتشه قد سبقهم إلى الأخذ من هذا المجد بنصيب؟!
ماذا كان رد فعل مؤسس التحليل النفسي على كل هذا التمجيد والإشادة بدوره؟
العجيب حقًّا أنها لم تحوله عن تحفظه تجاه الفيلسوف، بل لعلها قد زادته إصرارًا عليه، فهو ينصح الكاتب الروائي بالعدول عن فكرة تأليف الكتاب، بل يضيف في خطاباته التالية أننا لا نعرف إلَّا أقل القليل عن تكوين نيتشه الجنسي، وهذا القليل القليل لا يساعدها على تطبيق أدوات التحليل النفسي لإلقاء الضوء على حياته وقدره، ويبدو أن الكاتب لم يقتنع بالحجج التي تذرَّع بها فرويد، فأرسل إليه هذا الأخير — في خطاب مؤرخ في السابع من ديسمبر من السنة نفسها ١٩٣٠م — هذه العبارة الدالة: «اكتب عن العلاقة بين تأثير نيتشه وتأثيري بعد أن أموت» (راجع الرسائل المتبادلة بين نيتشه وأرنولد تسفايج، نشرها إرنست فرويد، فرانكفورت على الماين، ١٩٦٩م، ص٣٥ وما بعدها).
ولقد اعترف فرويد — كما سبق القول — بأن كتابات نيتشه تنطوي على نظرات حدسية نجدها في كثير من الأحيان متطابقة مع النتائج التجريبية للتحليل النفسي. والواقع أن هذه الكتابات تتناثر فيها مفاهيم وأفكار لا شك في أهميتها وقيمتها التحليلية والنفسية، ناهيك عن مصطلحات يمكن أن توصف بأنها بذور نمت منها بعض المصطلحات التي استقرت في التحليل النفسي (مثل مصطلح «الهو» الذي يقابلنا أكثر من مرة في الكتاب الأول من هكذا تكلم زرادشت)، وتبقى النظرات الحدسية — كما وصفها فرويد بحق — هي الأجدر بالاهتمام؛ إذ لا نستبعد أن تكون قد أثرت على رائد التحليل النفسي مهما أنكر ذلك التأثير أو تنكر له. ولنذكر بعض هذه النظريات باختصار: التصور الدينامي للنفس مع تصورات أخرى مرتبطة به كالطاقة النفسية، ومقادير الطاقة الكامنة أو المعوقة، وتحويل الطاقة من دافع إلى آخر، تصور أن النفس نظام أو نسق من الدوافع التي يمكن أن تتصادم وتتصارع أو تندمج وتذوب في بعضها، تقدير أهمية الدافع الجنسي، وإن لم يجعله الدافع الأول والأهم كما فعل فرويد قبل أن يتكلم عن عزيز الموت في كتاباته المتأخرة؛ إذ إنه يأتي عنده بعد دوافع العدوان والهدم، فهم العمليات التي سماها فرويد «آليات دفاعية»، وبخاصة عملية الإعلاء والتعويض، التعطيل أو التعويق — والذي يسميه فرويد الكبت — واتجاه الدوافع وجهة مضادة للذات نفسها. كذلك نجد بعض الأفكار المهمة متضمنة في نصوص الفيلسوف مثل صورة الأب والأم، وأوصافه للإحساس بالحقد والضمير الكاذب والأخلاق الفاسدة التي سبقت أوصاف فرويد للإحساسات العصابية بالذنب كما سبقت وصفه للأنا الأعلى. أضف إلى هذا كله أن كتاب فرويد المشهور «الضيق بالحضارة» يكاد أن يوازي كتاب نيتشه عن «تسلسل الأخلاق» موازاة دقيقة في نقد العصر والحضارة، ولعل كليهما قد تأثر بما قاله الفيلسوف والكاتب الفرنسي ديدرو (١٧١٣–١٧٨٤م) من أن الإنسان الحديث مصاب بمرض عجيب مرتبط بالمدنية؛ لأن المدنية تتطلب منه أن يتخلَّى عن إشباع دوافعه. وغني عن الذكر أن الاثنين قد عاشا متعاصرين، وأنهما قد «مرضا» بزمانهما وحضارتهما، وحاولا أن يعرياهما من أقنعتهما الزائفة. والفرق الأساسي بينهما أن عالم النفس قد اهتم بالتطور الذي يبدأ من الماضي، بينما تطلع الفيلسوف بكل غضبه وحماسه إلى المستقبل.
•••
ويأتي دور ألفرد آدلر (١٨٧٠–١٩٣٧م) مؤسس علم النفس الفردي الذي يدور حول قضية أو فكرة تبدو شديدة القرب من تفكير نيتشه. فالمعروف أن آدلر قد اعتبر الشعور بالنقص أو الضآلة من أهم حقائق الحياة النفسية، كما استخلص منه نتائج مهمة تتعلق بتحديد شخصية ألفرد وبطابع الحياة الاجتماعية. وهو يذهب إلى حد القول بأن الإنسان هو الكائن الذي يسعى سعيًا دائبًا لإكمال شخصيته، وذلك ﺑ «فضل» إحساسه بنقصه وضآلة قيمته، فإذا عاق هذا السعي إلى الكمال عائق، وحيل بينه وبين الطموح إلى القوة وإثبات الذات ظهرت عليه أعراض المرض العصابي.
ربما أوحى إلينا هذا كله بأن مذهب آدلر صورة نفسية من فلسفة نيتشه. غير أن الحقيقة أبعد ما تكون عن هذا الظن، بل ربما جاز القول بأن علم النفس الفردي يسير في اتجاه مضاد لأفكار فيلسوف القوة. ولا يرجع هذا إلى أن آدلر قد تأثر به كما تأثر بغيره، فالتأثيرات مهما اشتدت وتنوعت لا تصنع — كما قدمنا — شخصية ولا فكرًا متميزًا، وإنما يرجع إلى الفروق الموضوعية الدقيقة بينهما. فإرادة القوة التي تصورها نيتشه تختلف عن الطموح إلى القوة الذي يفسح له آدلر مكانًا مهمًّا في نظريته عن العصاب. وبينما يعبر الأول بفكرته عن إنسانية أعلى، ويجعل منها وسيلة تخطي الإنسانية الحاضرة وغايتها، نجد آدلر يعتبر الفكرة نفسها وموقف نيتشه بأكمله تعبيرًا عن اليأس والقلق ونزعة التعويض التي تدفع بصاحبها إلى السيطرة على الآخرين، وإثبات القوة والغلبة عليهم (ولا ننسى بهذه المناسبة أن فيلسوف القوة كان فاسد المعدة، مضطرب الأعصاب، مصابًا بالأرق المزمن وشقيًّا بتجاهل العصر وجحوده)، بحيث يمكننا أن نقول مع بعض الباحثين إن علم النفس الفردي هو أبلغ اتهام لإرادة القوة وأقسى تعرية لخداع صاحبها لنفسه وتدميره لها. وكما وضع فرويد التصميم الواعي والتدبر والحكم العقلي الواضح في مقابل الدوافع اللاواعية، كذلك أقام آدلر من الشعور بالجماعة سدًّا يحمي الحياة النفسية عن عواصف الطموح إلى القوة والسيطرة الأنانية. صحيح أن آدلر قد سلم بوجود ثنائية نفسية تذكرنا بما قاله فرويد عن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، أو دوافع الحب والحياة ودوافع التدمير والموت، ولكن الواقع أن علم النفس الفردي يحاول تحقيق التوازن بين النزوع الفردي إلى القوة وبين الشعور بالجماعة أو المجتمع. فإذا كانت إرادة القوة تمثل الدافع الأصلي وتعبر عن غريزة الحياة الأساسية والمحور الذي يدور حوله الوجود، فإن الشعور بالجماعة هو الأصل والأساس في حياة الإنسان، وما النزوع إلى القوة إلا حركة نفسية نابعة من عقدة الشعور بالنقص (أو ضآلة القيمة) مفسدة للإنسان مدمرة لكيانه.
وليس الإنسان في نظر علم النفس الفردي مجرد حالة فردية أو استثنائية تطمح إلى القوة والسيطرة، ولا تعرف شيئًا عن الحب كما زعم فرويد عن تلميذه المنشق، وإنما يقاس الفرد دائمًا بمقياس الإنسان المثالي الذي يتبع قواعد اللعبة التي يسنها المجتمع ويسير — على هدي التربية وعلم النفس — إلى تحقيق الحياة الإنسانية المشتركة مع إخوته في الجماعة الإنسانية.
•••
ونصل أخيرًا إلى العلم الثالث من أعلام «علم نفس الأعماق»، وهو كارل جوستاف يونج (١٨٧٥–١٩٦١م) لنعرف إلى أي حد تأثر ﺑ «الخبير بالنفوس». والحق أن يونج يسلم بهذا التأثير بجوانبه الإيجابية والسلبية. ونستشهد على هذا برسالة كتبها قبل موته بشهور قليلة إلى أحد رجال الدين الأمريكيين، وقال فيها: «إن تقديم تقرير مفصل عن تأثير أفكار نيتشه على تطوري العقلي لمهمة طموح تتخطى حدود قدرتي. فقد أمضيت شبابي في المدينة التي كان نيتشه قد عاش فيها فترة من حياته، وعمل في تدريس اللغات القديمة في جامعتها، وبذلك شببت في جو لا يزال يرتجف تحت سطوة مذهبه، على الرغم من أن هجماته كانت تلقى مقاومة شديدة. لم أستطع أن أتجنب الأثر الذي أحدثه إلهامه الأصيل على نفسي، وشدني إليه بقوة. فقد كان يتميز بالإخلاص والصدق الذي لا يمكن أن يدعيه عدد غير قليل من الأساتذة الأكاديميين الذين يهتمون بمظاهر الحياة الجامعية أكثر مما يهتمون بالحقيقة. والأمر الذي أثر فيَّ أعظم تأثير هو لقاؤه بزرادشت ونقده ﻟ «الدين»، هذا النقد الذي أفسح في الفلسفة مكانًا للعاطفة المتوقدة، من حيث هي دافع أصيل على التفلسف. شعرت أن «التأملات لغير أوانها» قد فتحت عيني، أما «تسلسل الأخلاق» و«العود الأبدي»، فكان حظهما من اهتمامي أقل، واستطاعت أحكامه السيكولوجية النفاذة أن تبصرني تبصرة عميقة بما يمكن أن يحققه علم النفس.
وعلى الجملة كان نيتشه بالنسبة إليَّ هو الإنسان الوحيد الذي قدَّم لي في ذلك العصر إجابات كافية عن بعض الأسئلة والمشكلات الملحة التي كنت أشعر بها أكثر مما أفكر فيها» (رسائل يونج، الجزء الثالث، ص٣٧٠ وما بعدها).
ولم تمضِ سنوات قليلة حتى رجع إلى نفس الموضوع، وحاول أن يتحسس طريقه إلى «شيطان اللاوعي» الذي وقع الفيلسوف تحت تأثيره السحري عند تدوينه لكتابه عن زرادشت: «إن هذه الاهتزازات الراجفة العميقة للمشاعر، وهي التي تتخطى مجال الوعي وتتجاوزه، هي القوى التي أظهرت للنور أقصى التداعيات تطرفًا وخفاءً.» هنا اقتصر الوعي على القيام بدور العبد الخادم لشيطان اللاوعي الذي طغى على الوعي، وراح يغمره بالخواطر الغريبة، وما من أحدٍ استطاع أن يصف حالة الوعي بمركب لا واعٍ مثل نيتشه نفسه (الكلريبتومنيزيا، في المجلد الأول من مؤلفات يونج الكاملة، ص١١٣ وما بعدها) ويحاول الطبيب النفسي الشاب أن يتابع هذا الموضوع الشائك عن «الأرواح»، والأرباب عند الإغريق، وبخاصة عن شخصية ديونيزيوس مع الإشارة الصريحة إلى تأثيرها على نيتشه ابتداءً من كتابه «ميلاد التراجيديا»، فيقول في رسالة وجهها سنة ١٩٠٩م إلى فرويد: «يبدو أن نيتشه قد أحس بهذا إحساسًا قويًّا، ويخيل إليَّ أن «الديونيزي» كان يمثل موجة ارتداد جنسية لم تقدر قيمتها التاريخية حق قدرها، وقد تدفقت بعض عناصرها الجوهرية إلى المسيحية، وإن طبقت تطبيقًا آخر يتسم بالاعتدال والتصالح» (رسائل يونج، الجزء الأول، ص٣٥).
ولكن الأهم من ذلك ألا ننساق وراء التأثير والتأثر — الذي يظل في تقديري أمرًا غامضًا على كل المستويات — وإن علم أن مؤسس علم النفس التحليلي لم يكن مجرد معجب متحمس لفيلسوف الإرادة والحياة، وإنما أتيح له أن يتطور وينضج ويجد ذاته وينظر إليه بعين ناقدة. ونكتفي في هذا الصدد بمثلين نقدمهما من مؤلفاته. فهو في كتابه عن «الأنماط النفسية» (١٩٢١م) — وهو أول مؤلف كبير بعد كتابه عن تحولات الليبيدو ورموزه الذي شهد انفصاله عن فرويد (١٩١٢–١٩١٣م) — لا يكتفي بسرد نصوص يقتبسها من نيتشه، وإنما يتناول شخصيته كمثل على نوع من الوعي الذي يحاول بكل جهده السيطرة على الدوافع المظلمة. إنه يذكر بالتقابل الأساسي الذي يعبر عن التضاد الحاسم بين طرفين هما ديونيزيوس وأبوللو — كما عرضه نيتشه في كتابه المبكر عن ميلاد التراجيديا من روح الموسيقى — ثم يتطرق إلى نقد دينامية الدوافع الكامنة وراء هذا التضاد، ويسوق أمثلة أخرى من التاريخ الحضاري والأدبي، نذكر منها رسائل الشاعر الفيلسوف شيلر (١٧٥٩–١٨٠٥م) عن التربية الجمالية ليعزز بها نقده.
لقد صدق تاريخ العالم حدس يونج واستيقظ الوحش الأشقر وفجر حمم الكارثة. فهل نقول اليوم إنه ظلم نيتشه فصوره (كما فعل توماس مان بعد ذلك في روايته الرائعة عن الدكتور فاوستوس التي تحمل ملامح من نيتشه ومن المؤلف الموسيقي الغريب الأطوار أرنولد شينبرج …) في صورة النمط المعبر عن الوحش الأشقر، أم أنه أنصفه حين أكد أنه عبر عن ذلك «البربري» الكامن في طبقات اللاوعي السفلي من كل جرماني، وفي أعماق نيتشه نفسه وتجربته؟ مهما يكن الأمر فإن يونج قد اهتم من الناحية العلمية البحتة بإبراز قوى الدوافع «النمطية الأولية» التي وصفها نيتشه نفسه، وأعلن عن عواصفها وصواعقها المقبلة، وحذر من أخطارها، وكأنما كان هذا الشاعر الفيلسوف «الخبير بالنفوس» هو ساحر العصر الذي يستحضر أرواح الشياطين المدمرة، ويتنبأ بالكارثة المحتومة، ويعري الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة لتسقط وسط الحطام الهائل المتراكم على صدر أوروبا العجوز: «ويل لهذه المدينة العظيمة، وأنا الذي تمنيت أن أشاهد أعمدة النار التي تحترق فيها؛ لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم. ومع ذلك فلهذا أوانه وقدره الخاص».
إن هذا النص الذي نجده في زرادشت كما نجد أشباهه في كتب نيتشه الأخرى يدل دلالة واضحة على أنه كان فيلسوف الكارثة. ومع ذلك فإن أمثال هذه النصوص المزدحمة بصور الخراب ورموزه لا يصح أن تغرينا بتفسيرها تفسيرًا تاريخيًّا ضيقًا، ولا يجوز أن تنسينا لحظة واحدة أنها تعبر تعبيرًا رمزيًّا عن «الزلزلة القادمة» التي ستتبعها إشراقة «الفجر الجديد» (ولا ننسى أيضًا أن الرموز الأصيلة ذات أبعاد عميقة متعددة).
ونسأل أخيرًا: ما هي هذه الزلزلة؟ وما هو هذا الفجر الجديد؟ ليس من السهل أن نحدد ما يقصده نيتشه بهاتين الكلمتين أو بغيرهما من كلماته ومصطلحاته الغنية بالإيحاءات والإشعاعات، ولكن ليس من الصعب كذلك أن نرى — على ضوء ما سبق وما سيأتي بعد — أن نيتشه يمثل «صدعًا في تاريخ البشرية» (والتعبير لفيلسوف الحياة لودفيج كلاجيس الذي تقدمت الإشارة إليه). ولقد أكد تأكيدًا لا مزيد عليه أنه «آخر العدمين»، وأن رسالته هي الكشف عن تصدع عصره «البرجوازي»، وانهياره على رءوس رجاله الجوف، وتعرية وعيه الكاذب بأسره، وتغيير ألواح قيمه التي فقدت قيمتها بعد أن تداعى عامود النظام الميتافيزيقي الذي كان يستند عليه، ولكن من الذي سيطلع هذا الفجر الجديد؟ من الذي سيحول القيم من اللوجوس (المنطق والجدل العقلي) إلى البيوس (الحياة وإرادة المزيد من الحياة)؟ وأخيرًا من الذي سيبدع هذا العالم الجديد؟ إنه جيل المبدعين من أفراد الإنسان الأعلى. وليس الإنسان الأعلى على الإنسان المبدع. ومن أجل هذا الإنسان الذي اشتدت حاجتنا إليه كتب هذا البحث، تحية للمبدعين الحقيقيين، ولكل من يساعدهم على فهم أسرار الإبداع.
القسم الثاني
أ
يطرح نيتشه سؤاله عن الذات الحقة ويحدد الطريق إلى هويتها ووحدتها في القطعة الثالثة من كتابه «تأملات لغير زمانها» (١٨٧٣–٧٦). فالإنسان يحيا حياته مستسلمًا للكسل والنوم، غارقًا في بحر العادات والرغبات ومشاغل كل يوم. وفجأة يناديه صوت آتٍ من أعماق ضميره: كن نفسك. كل ما تفعله الآن وتفكر فيه وتتوق إليه شيء مختلف عنك. وتصحو «النفس الشابة» من غفوتها وتحاول أن تسترد ذاتها. ها هي ذي تناجي نفسها قائلة: حقًّا لست شيئًا من هذا كله. ما من أحد يمكنه أن يتولى عنك بناء الجسر الذي يتحتم عليك أن تعبريه فوق نهر الحياة، ما من أحد غيرك. صحيح أن هناك طرقًا وجسورًا وأنصاف آلهة لا حصر لها تريد أن تحملك عبر النهر، لكن ذلك سيكلفك الثمن الباهظ، والثمن الباهظ هو أن ترهني نفسك وتضيعيها. لا يوجد في العالم غير طريق واحد، ولا أحد يمكنه أن يسير عليه سواك. لا تسألي إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ عليك أن تقطعيه.
ولكن كيف يعرف الإنسان نفسه وهي شيء مظلم يلفه الغموض؟ كيف تجد الذات ذاتها، وتعثر على المعنى الأصلي والمادة الأولية لكيانها؟ أتكون هذه الذات كامنة تحت قناع «الأنا» اليومية أم تكون متعالية فوقها؟ أيمكن أن تصل في بحثها إلى شيء يجعلها تهتف فرحة: ها أنت ذي حقًّا، لقد اختفت القشرة!
إن كل شيء يتوقف في نظر «الخبير بالنفس» على أن يقوم الإنسان بتحرير نفسه وتربية نفسه بنفسه. وليس معنى هذا أن «اللب» الإنساني شيء يقبل الصياغة والتشكيل، أو أن المربي صاحب نظريات يعلنها أو معلومات وتوجيهات يقدمها، فالذات الحقة تمتنع على «التربية»، اللهم إلا إذا فهمنا التربية بمعنى الخلاص والتحرير، وعرفنا أن المربي هو المحرر، وأن الفرد وحده هو الذي يمكنه أن يجد نفسه، وهو الذي يتحمل مخاطر الطريق إلى لقاء ذاته.
كيف يتسنى له أن يجدها؟ هل يحفر في نفسه ويهبط إلى أغوارها مع ما في ذلك التغلغل في الأعماق من خطرٍ وعذاب؟ إن نيتشه لا ينصح بذلك، لا لأنه يقلل من شأن الأعماق التي غاص فيها أصحاب التحليل النفسي (فكم نظر في هاويتها وتاه في متاهتها)، ولكن «لأن كيانك أو جوهرك الحق لا يختفي في أعماقك، وإنما يعلو فوقك علوًّا لا حد له، أو هو على الأقل يعلو فوق ما تتصور عادة أنه «أناك». وهنا يعلمك مربوك الحقيقيون أن ذاتك تُحرَّر ولا تُربَّى، وأن التربية الحقيقية هي تحرير الذات الحقيقية من كل زيف، وتخليصها من الأعشاب والأوساخ والديدان التي تؤذي براعمها الرقيقة … هي انسكاب النور والدفء، انهمار المطر الليلي، محاكاة الطبيعة والتضرع إليها حيثما كانت رحيمة كالأمهات، وهي كذلك إكمال للطبيعة عندما توقف نوباتها الفظيعة القاسية، وتوجهها إلى الخير، وعندما تسدل حجابًا يخفي ظواهرها الغادرة وغباءها المحزن.» وينصح الفيلسوف بما يشبه العلاج النفسي عندما يطلب من «النفس الشابة» أن تدير «أهم استجواب» مع نفسها، وتنظر إلى الحياة التي عاشتها متسائلة: ما الذي أحببته حقًّا حتى الآن؟ ما الذي جذب روحك إليه، وسيطر عليها وأسعدها في آنٍ واحد؟ تأمليها مجتمعة ووازني بينها، فربما كشفت لك طبيعتها وتتابعها عن القانون الأساسي لذاتك الحقيقية. انظري إليها كيف يكمل بعضها بعضًا، ويتفوق بعضها على بعض، وكيف تكون السلم الذي صعدت عليه حتى الآن لترتفعي إلى ذاتك.
وماذا يجد المرء إذا ارتفع إلى الذات الحقة؟ سيجد أن التفرد المنتج الخلاق هو لب كيانه. وإذا ما تم لديه الوعي بهذا التفرد جللته هالة غريبة من الضوء، هي الهالة التي تحيط بكل ما هو خارق للمألوف. ولن يطيقها معظم الناس؛ لأنهم بطبعهم كسالى، ولأن ذلك التفرد تطوقه سلسلة من المتاعب والأعباء. لا شك أن هذا المتفرد الشامخ، الذي ينوء بحمل السلسلة الثقيلة، سيضحي بكل ما تشتاق إليه الحياة الشابة من مرح أو أمن أو رفعة شأن، سيكون التوحد هو نصيبه من الناس، وسيجد نفسه يعيش في الصحراء والمغارة حيثما شاء أن يعيش عليه عندئذٍ أن يكون حذرًا فلا يستعيده شيء، صامدًا قويًّا لا يصيبه حزن أو اكتئاب.
لقد شق طريقه بنفسه، وتحمل كل المخاطر حتى وجد ذاته المتفردة، فهل كثير عليه أن يتمسك بهذا الوجود الذي لا يستبدل غيره؟ أليس من الطبيعي أن يتقبل كل ما يفرضه عليه من أعباء وأقدار كأنه جزء لا يتجزأ من «لب كيانه»؟ بيد أن الوعي بالتفرد لا يعني إلا التوحد، وتجربة الإنسان على طريق النضج ومعرفة النفس تجربة لا تنقل للآخرين؛ إذ يتحتم على كل فرد أن يخوضها بنفسه. ولهذا أيضًا تخلق رغمًا عنه مسافة بُعد تقصيه عن الناس. وقد تنمو الأشواك، فيزداد توحده. وقد يكو من سوء حظه أن يعيش في ظل حكومة مستبدة ومجتمع أو رأي عام شديد البطش، فلا يكون له ملجأ إلا وحدته. إن من عادة الطغيان أن يحقد على الفيلسوف الوحيد؛ لأن الفلسفة هي الملجأ الذي يلوذ به، ولا يقوى الطغاة على النفاذ إليه، ولكنه لا يستطيع أن يلازم كهفه الباطن، حتى لا يتعرض لأعظم الأخطار، فهو مضطر للظهور بين الناس، والارتباط معهم بالصلات التي يفرضها المولد والنشأة والتربية والمصادفة وتطفل الآخرين، ولكن الناس تتشكك في أنه يُظهر غير ما يُبطن، ويرتابون في وحدته، فيلقون شباك ظنونهم وسوء فهمهم على حركاته وسكناته، ويتحيرون في تأويل سلوكه، وهو الذي لا يبتغي غير الحقيقة والأمانة. عندئذٍ تتبلد سحب الاكتئاب فوق جبهته، وتتكاثف المرارة في نفسه، فيصبح كالبركان الذي يهدد بالانفجار. إن الظهور ضرورة تفرضها عليه الحياة، ولكنه يكره هذه الضرورة كراهة الموت. ولذلك يثأر من وقت لآخر من هذه الوحدة التي فرضها على نفسه، فيخرج من كهفه بملامح مفزعة، وتتفجر كلماته وأفعاله، وربما أهلك نفسه بنفسه.
هل كان نيتشه يتنبأ بالصراع الذي سيخوضه مع عصره وحضارته، أم كان يعبر عن تجربته وقدره الشخصي الذي جعله يحطم نفسه بنفسه؟ إنه يصف حالة الإنسان الذي يلوذ بكهف الباطن. وربما تصورنا أنه سبق علم النفس التحليلي إلى وصف النمط الانطوائي أو المنطوي. غير أنه يهدف في الحقيقة إلى شيء أبعد من ذلك. فالتوحد والاتجاه إلى الباطن صفتان يطلقهما على أصحاب الذات المتفردة أو «أحرار الروح»؛ لأنهما علامة على التحرر الذي بلغوه بكدحهم ومعاناتهم، وعلى الأخطار التي تتهددهم بعد أن رأوا أبعد مما رأى غيرهم، وعرفوا أكثر مما عرفوا.
ولكن كيف تتحقق هذه الذات المتفردة؟ في أي شكل من أشكال الوجود الفريد تكون؟ متى يتخلص الإنسان من أسر الطبيعة وضروراتها؟ وما هي الخطوات التي يمكن أن تسير به على الطريق إلى الذاتية الحقة والعقبات التي تحول بينه وبينها؟
ليس الإنسان واقعة بيولوجية، ولا يمكن أن يفهم من خلال المقولات الطبيعية والحيوية، صحيح أنه يتكاثر باستمرار، ولكن المهم أن يتصاعد هذا التكاثر إلى أعلى، وأن يواصل عملية التفرد وتحقيق الذات، ولو كان ذلك في لحظات نادرة من ديمومته الممتدة. فالطبيعة لا تهتم بغير الإنسان، وهي في اندفاعها نحوه تؤكد حاجتها إليه لتخليصها من لعنة الحيوانية. والوجود بأسره يجعل من الإنسان مرآة ينظر فيها ليدرك أن الحياة لم تعد خالية من المعنى، وأنها تظهر في صورته البشرية بكل دلالتها الجمالية والميتافيزيقية.
ولكن أين يتوقف الحيوان وأين يبدأ الإنسان؟ إننا نعيش الجزء الأكبر من حياتنا دون أن تتجاوز نظرتنا أفق الحيوان. وما دمنا نسعى إلى الحياة كما نسعى إلى السعادة، فنحن لم نتميز عنه إلا بأننا نطلب عن وعي ما يطلبه بدوافعه العمياء. ونظل أفرادًا وشعوبًا نضطرب في دوامة الحياة، وتضطرب بنا دون أن نتخطى الحيوانية، بل نظل نحن أنفسنا الحيوانات التي تتعذَّب بلا معنًى، وتأتي لحظات ندرك فيها أن الطبيعة بأسرها، ونحن معها، تشرئب إلى الإنسان كشيء يعلو فوقها وفوقنا. وتتبدد السحب وينهمر الضوء الساطع، ونتلفت حولنا ووراءنا: لا زالت الوحوش المفترسة تتجول في كل مكان، ولا زالت حركات البشر فوق الأرض الموحشة — من بناء مدن ودول أو انهيارها وسحقها، من حرب وزحام وتجمع وتفرق، من تآمر أو تعاون وصراخ في المحنة أو هتاف في النصر — لا زالت كلها استمرارًا للحيوانية. وكأن الإنسان قد نكص على عقبيه، وأنكر فطرته الميتافيزيقية، أو كأن الطبيعة التي اشتاقت إليه، وعملت دهورًا على ظهوره قد ارتجفت رعبًا منه وآثرت الرجوع إلى دوافعها اللاواعية.
وأخيرًا تأتي لحظة «التجربة الكبرى»، والمعرفة القصوى. لحظة تعرف الطبيعة أن الإنسان هو هدفها، ويعرف الإنسان ضرورة أن يمتلك ذاتها ويحققها، ويعي — مرة أخرى في لحظات فريدة — أن كل ما نأتي وندع في حياتنا، كل لهاثنا إلى المنصب والمكسب ومخالطة الناس، بل كل سعينا إلى العلم نفسه ليست سوى ألوان من التهرب من مهمتنا الأصلية، والخوف من لقاء ذواتنا الحقيقية، والفرار كل لحظة ممَّا تريد كل لحظة من عمرنا أن تهمس به، والتستر وراء أقنعة السخرية اليومية، حتى لا تلمحنا عين من عيون الضمير المائة، ثم الرعب من السكون إلى أنفسنا، حتى لا نطفو فوق الموج ولا ننتبه من الكابوس. وهكذا تستبد بنا ظاهرة الخوف من لقاء ذواتنا، فتشدنا قوًى ترجع بنا إلى حالة اللاوعي التي تميز الدافعية الحيوانية، ثم لا تلبث الشوكة أن تؤرِّق نومنا فجأة، وتنبهنا إلى ضرورة الارتفاع فوق أنفسنا صعودًا إلى صيرورتنا الذاتية الحقة.
من هم؟ إنهم الفيلسوف والفنان والقديس. هم الأفراد العظام الذين أبدعتهم البشرية بعد عناء طويل، هم نماذج من «الإنسان الأعلى» قبل أن يرفع الفيلسوف صوته بالدعوة إليه في «هكذا تكلم زرادشت». ليسوا مجرد حالات استثنائية، بل هم نماذج تخلقها الحياة وتحقق فيها معنى وجود الإنسان، وتصوغ معها التفكير والشعور والإرادة على صورة جديدة. فالفيلسوف يجسد تعميق الوعي، والفنان يشكل الوجود الجديد، والقديس ينجز التحول. كلهم كامن بالقوة فينا، وكلهم أقرب إلينا مما نتصور، ومن يدري؟ لعل نيتشه بإلهامه العظيم قد استبق الاهتمام العلمي الحديث بأسرار الإبداع، دون أن يستطيع بطبيعة الحال أن يكون «عالم نفس» يحدد قوانينه وظروفه المواتية والانحرافات المرضية التي تعوقه … لقد أسند هذه المهمة إلى الطبيعة التي تحتاج إلى الفيلسوف لكي يعرفها بنفسها، وتتمثل في صوره الخالصة ما لم تستطيع أن تراه بوضوح خلال صيرورتها القلقة، كما تحتاج إلى الفنان لكي يفصح عمَّا عجزت عن الإفصاح عنه، ثم تحتاج إلى القديس ليحول الأنا اليومية من إحساسها الفردي إلى الشعور العميق بوحدتها مع كل ما هو حي؛ ليبلغ بمعجزة التحول إلى الغاية الأخيرة من لعبة الصيرورة، ألا وهي تحقيق الإنسان المبدع الذي تندفع إليه الطبيعة ليخلصها من نفسها.
ب
•••
النفس سر مغلق، هي عالم كامل من الأحوال الباطنة، و«الخبير بالنفوس» يلاحظها، ويحاول أن يسبر أغوارها كما يحاول أن يرتفع فوقها، ويرقى إلى «ذاتها» الحقة، ماذا هو صانع مع الاختيار العسير بين الطريق الهابط والطريق الصاعد؟ أيشفق على نفسه من الأول، وهو الذي تعذَّب على أشواكه وفي متاهاته كما لم يتعذَّب غيره؟ أم يشفق عليها من الثاني، وهو الذي طالما اجتاز الشعاب الوعرة، وتجول وحيدًا فوق القمم؟ أم أن الطريق الهابط والطريق الصاعد طريق واحد في الحقيقة كما قال حبيبه ونظيره الإغريقي هيراقليطس؟!
ما الذي جعله ينشط هذا النشاط كله لتحصين نفسه من نفسه؟ المسئول عن هذا هو نشاطه نفسه! فهو يستغرقه، فيُحكم حوله أغلال التعود، ويصنع قضبان سجنه دون أن يدري، ويزداد فعله ونشاطه، فتزيد عبوديته وسخرته. إنه الموظف النشط، والتاجر الذي لا يتوقف عن العمل، والعالم الذي لا يكل من البحث، هم أفراد النوع العامل كالنمل أو النحل، لكنهم ليسوا بالأفراد المتفردين من بني الإنسان (فهم من هذه الناحية كسالى!) من سوء حظ هؤلاء «الفعالين» أن فعلهم غير عقلي أو لا نصيب للعقل فيه. وتخطئ لو سألت أحد رجال المال والأعمال والبنوك من الذين لا يكفون عن جمع المال عن الهدف من فعلهم؛ لأنه خالٍ من العقل، ولأنهم وأمثالهم يدورون كما يدور الحجر حسب «غباء الميكانيكا»، وليتهم يعرفون أن القليل من التفكير والإخلاد إلى السكينة يمكن أن يشفي جميع أمراض النفس، وأنهم لو عقدوا النية على استخدام هذا الدواء لاكتشفوا فائدته، وليت الأمر كان مقصورًا على هؤلاء الفعالين بلا كلل ولا ملل. إنه طابع الحضارة الحديثة التي تحولت إلى حضارة الفعل والحركة والقلق، حتى لقد أوشكت الفصول نفسها أن تتدافع وتهرول آخذة بخناق بعضها. وتزداد هذه الحركة فيزداد معها القلق، وتتحول حضارتنا أو مدينتنا إلى بربرية جديدة. فلم يحدث أن طغت قيمة الفعل والحركة والنشاط كما طغت على هذا العصر. والنتيجة أن يفتقد الهدوء الضروري للتأمل، وأن تضيع في طاحونة الفعل العقيم قيمة فعل أسمى منه، ونعني به الفعل المتفرد الذي يهبط بنا إلى منابعنا المتفردة، أو يعلو بنا إلى ذواتنا الأرقى (والأمر هنا هو أمر مفارقة لا بد منه: هبوط إلى الأعلى، وعلو إلى الأدنى).
علينا إذن أن نتحرر من هذه العبودية. فالناس ينقسمون اليوم كما انقسموا في كل الأزمنة إلى عبيد وأحرار. «ومن لم يملك ثلثي يومه ليفرغ إلى نفسه فهو عبد، وليكن من رجال الحكم أو التجارة أو الإدارة أو العلم أو ما شاء أن يكون.» إن نشاطه الدائب وفعله المستمر لا يعفيانه كما قلنا من أن يوصف بالكسل، وكسله يرين على أعماق نفسه، ويمنعه من أن يغترف الماء من نبعه الخاص. لقد أصبح الناس — حتى العلماء منهم — يتنافسون في العمل، ويتسابقون على تحقيق الرقم القياسي فيه، ويتصورون أنه يحقق لهم المتعة التي يحققها لغيرهم. والواقع أنهم ينسون متعة أخرى أجدر بهم، متعة لا ينالها إلا القادرون على «التفرغ» أو «الفراغ» بالمعنى الذي فهمه منهما حكماء الإغريق، من ترك النفس للتأمل والنظر في نفسها وفي كل شيء. وإذا صح ما يقال من أن الفراغ مفسدة، وبداية كل الرذائل، فالأصح من ذلك أنه أقرب ما يكون إلى كل الفضائل. والإنسان المتفرغ أفضل دائمًا من صاحبه النشط الفعال (ولا ينسى الكسالى أنهم مستثنون من حديثنا عن الفراغ بالمعنى الذي ذكرناه!) ولا يتصور أصحاب التأمل والنظر أن الفراغ أو التفرغ معناه انتظار الإلهام المفاجئ، وكأن الأفكار المبدعة في الفن والأدب والفلسفة معجزات أو نعم تهبط من السماء. إن مخيلة الفنان أو المفكر تنتج باستمرار ويتراوح إنتاجها بين الجيد والمتوسط والرديء، ولكن ملكة الحكم المدربة لديه إلى أقصى درجة هي التي تختار وتحذف وتؤلف وتربط. لقد كان كبار المبدعين دائمًا من كبار العاملين المجتهدين، ولم يقتصر عملهم وجهدهم المستمر على الابتكار، بل امتد كذلك إلى الحذف والمراجعة والتشكيل والتنظيم والجمع والاختيار.
يلهث الفعالون والعمليون كل لحظة وراء ما يسمونه «التحقيق» أو «النفع» و«الإنجاز» و«النجاح»، ولكنهم في لهاثهم المسعور يضيعون اللحظة والزمن والحياة.
فالحياة تتألف من لحظات نادرة فريدة ممتلئة بالمعنى والدلالة، وبجانبها فترات استراحة تراودنا فيها على أحسن الأحوال ظلال تلك اللحظات النادرة.
فالحب والربيع، واللحن الجميل، والجبل، والقمر، والبحر — كلها تتحدث إلى القلب مرة واحدة لا تتكرر — هذا إذا تحدثت إليه أصلًا! وأكثر الناس لم يجربوا تلك اللحظات. ولهذا يعيشون ويموتون كأنهم فترات استراحة وسكون في سيمفونية الحياة الحقة. وإذا كانوا لم يعرفوا تلك اللحظات التي تفيض في حديثها من القلب إلى القلب، فأولى بهم ألا يعرفوا تلك اللحظة التي يتواصلون فيها مع «الذات الأعلى» — وهي في الوقت عينه الذات الحقة الحميمة — اللحظة التي يطرح فيها الإنسان عبوديته، ويصبح هو الإنسان نفسه. إن أصحاب الطبائع الفعالة الناجحة لا يسيرون على الشعار القديم «اعرف نفسك بنفسك»، بل يبدو أنهم يطيعون هذا الأمر الذي يلح عليهم: «رد نفسًا، تصبح نفسًا»، ويبدو كذلك أن القدر قد ترك لهم حرية الاختيار، على حين أن المتأملين من أصحاب الطبائع غير الفعَّالة قد اختاروا ذلك الشعار القديم منذ اللحظة التي ولدوا فيها.
ماذا بقي لمن يحيا للمعرفة وحدها؟ ماذا يصنع أصحاب العقل الحر والوجدان الحر؟
إن أوضاعهم في المجتمع والدولة ليست هدفهم من الحياة، وإنما هي الهدف الخارجي لها، ولهذا يقنعون بعمل متواضع أو ثروة قليلة تكفيهم مئونة العيش. وهم لا يتقلبون بتقلب النظم السياسية، ولا يتحولون مع تحولات القيم والمواقف من الخيرات المادية. إنهم يدخرون طاقتهم ونفسهم الطويل للغوص في عنصر المعرفة، ورؤية الأساس والقرار رأي العين. وهم بطبيعة الحال قادرون على الحب، لكن حبهم حذر قصير الأنفاس؛ لأنهم لا يريدون أن يتركوا أنفسهم لعالم الميول والدوافع العمياء. سيفعلون ذلك وهم واثقون أن رب العدالة ينصف أولياءه من الأصوات التي تتهمهم بالعجز عن الحب أو الافتقار إليه. وهم في حياتهم وتفكيرهم يتسمون بنوع من البطولة المهذبة التي تأبى عليهم التهالك على إعجاب الجماهير على نحو ما يفعل إخوتهم من أصحاب الغرور والفجاجة، ولهذا كان دأبهم السعي في هذا العالم والخروج منه في صمت وسكون. ومهما تكون المتاهات التي يجوسون فيها، والصخور التي يحفرون في ثناياها مجرًى لأنهارهم، فإنهم لا يكادون يظهرون للنور، حتى يواصلوا طريقهم في صفاء وخفة، وبلا ضجيج، ويتركوا ضوء الشمس يداعب أعماقهم الدفينة.
هكذا يتقدمون في ثقة وكبرياء على طريق الحكمة. إن الواحد منهم ليقول لنفسه: أيًّا ما كانت، فاجعل من ذاتك نبع تجربتك! أنفض عنك السخط، ولا تقسُ على نفسك، في كل الأحوال أمامك سلم من مائة درجة، في إمكانك أن ترقاه لتبلغ المعرفة. إن العصر الذي تتهمه بأنه ألقى بك بين أناس لا تطاق ولا تحتمل، هذا العصر يباركك من أجل هذا الحظ نفسه. إنه يناديك قائلًا: لقد كُتب لك أن تمر بألوان من التجربة، ربما لا تتاح للناس في عصور تالية. لا تقلل كذلك من شأن تجاربك الدينية، واعلم أنها قد هيَّأت لك مدخلًا أصيلًا إلى الفن. أليس في استطاعتك، بمساعدة هذه التجارب نفسها، أن تتابع المسافات الشاسعة التي قطعتها البشرية في عهود سالفة بمزيد من الفهم والتعاطف! ألم تنمُ على هذه الأرض نفسها، هذه الأرض التي استشرى فيها الزيف، فأثارت سخطك، كثير من الثمرات البديعة التي أنضجتها حضارة سابقة؟
حاول أن تجوب الدروب التي قطعتها البشرية في مسيرتها الرائعة المعذبة عبر صحراء الماضي، وستجد أنك قد عرفت معركة أكيدة أن البشرية لا يمكنها، أو لا يجوز لها أن تعاود السير على تلك الدروب. وكلما حاولت بكل طاقتك أن تطلع على عقدة المستقبل، صارت حياتك أداة وسيلة للمعرفة. ففي يدك أن تجعل من كل ما جربته من محاولات وأخطاء، وخيبة أمل وانفعال، وحب وأمل، في يدك أن تجعله جزءًا لا يتجزأ من هدفك. وهذا الهدف النهائي هو أن تكون أنت نفسك حلقة ضرورية في سلسلة الحضارة، وأن تستدل من هذه الضرورة على الضرورة التي تحكم مسيرة الحضارة الشاملة. وعندما يشتد بصرك ويقوى على النظر في قرار النبع المظلم لكيانك ومعارفك، فربما تنعكس على مرآته نجوم الحضارات التي ستزدهر في المستقبل. هل تعتقد أن مثل هذه الحياة التي تتجه إلى مثل هذا الهدف حياة مضنية جرداء؟ إن خطر على بالك هذا، فلم تتعلم بعد أن عسل المعرفة أعذب من كل ما عداه، وأن سحب العلم الملبدة هي الضروع التي تستطيع أن تمد إليها يديك لتحلب منها اللبن الشهي. فإذا جاءت الشيخوخة لاحظت أنك قد استجبت لنداء الطبيعة التي تسيطر على العالم كله عن طريق اللذة، وستجد أن الحياة التي يمتد طرفها في الشيخوخة هي نفس الحياة التي يمتد طرفها كذلك في الحكمة، في ذلك النور الرقيق الذي يسطع من النشوة الروحية الدائمة. وسوف تلتقي بالشيخوخة والحكمة معًا على منحدر واحد من حبل الحياة. فهكذا شاءت لك الطبيعة. عندئذ يكون الحين قد حان ولا وقت للغضب من اقتراب ضباب الموت. فلتكن آخر حركة تقوم بها هي الاتجاه إلى النور، وليكن آخر صوت تلفظه شهقة فرح بالمعرفة.
ج
وتنضج الثمرة ويبزغ «الفجر» (وقد ألفه نيتشه بين سنتي ١٨٨٠ و١٨٨١م). وتصبح معرفة الذات هي غاية سعي الإنسان وهدف «العالم كله»: «فالإنسان لا يتوصل إلى معرفة ذاته إلا بعد أن ينتهي من معرفة الأشياء؛ إذ لا تخرج الأشياء عن أن تكون هي حدود الإنسان.» ويظهر الألم في ضوء جديد، ويكتسب العذاب والمرض قيمة جديدة. فلقد نشأت أفظع الأمراض التي عاناها الإنسان من محاولته الدائبة للتغلب على المرض. ويمر الزمن، فتصبح وسائل علاج المرض وتسكينه أسوأ أثرًا من المرض نفسه. وتصبح أقصر الطرق التي ينصح بها «أطباء الروح» (كالمخدرات التي تسبب المرض بالتعوُّد عليها كما تسببه بالحرمان منها) أقصر طريق إلى أن تترك الإنسانية طريقها ثم تفقده. ولهذا يحتم الواجب على الأطباء الجدد أن يعرفوا أن المرض طريق، وأن الحياة بطبعها طريق يجتازه الفرد مهتديًا بنوره الباطن. وعليه إذا أراد أن يحقق سعادته أن يزيح «التعليمات» و«التوجيهات» عن طريقه؛ لأن سعادته الفردية لا تنبع إلا من ذاته، ولا تخضع إلا لقوانينه الخاصة التي يجهلها كل من عداه. هذه التعليمات والتوجيهات التي تفرض عليه من الخارج، وتوصف في العادة بأنها «أخلاقية» هي في الواقع موجهة ضده، ولا تحقق سعادته ولا سعادة الإنسانية. والعذاب الذي لا بد أن يقاسيه لكي يصير ذاته ويعرفها هو الذي يحرر نظرته إلى الأشياء المحيطة بها، ويمحو «ألوان السحر الكاذبة الصغيرة» التي تسبح فيها. وهو الذي يخلصه من الواجبات والعادات التي اكتسبت رداء الأخلاقية والأخلاق، وينبهه إلى ضرورة الشروع في قلب جميع القيم التي أسفرت عن وجهها، فبدت مجرد أشكال من التحيز.
وأول خطوة على هذا الطريق إلى «عالم الذات المجهول» هي تعميق ما نسميه بالوعي والعلو فوقه والغوص تحته. فمعرفة الذات لا يمكن أن تقتصر على عالم الوعي في حياتنا اليومية المألوفة، وما نسميه «الأنا» لا يعبر أبدًا عن الإنسان في كليته. كان أصعب شيء على الناس منذ أقدم العصور إلى الآن أن يفهموا مدى جهلهم بأنفسهم! لا بالقياس إلى الخير والشر، بل بالقياس إلى ما هو أهم من ذلك بكثير. ولا يزال الناس يحيون على ذلك الوهم العتيق الذي يصوِّر لهم أنهم يعرفون السلوك الإنساني تمام المعرفة، ويعلمون على وجه الدقة كيف يتم في كل الأحوال. إنني أعرف ما أريد، وأعرف ما فعلت، وأنا حر مسئول عنه، كما أدرك مسئولية الآخرين. في إمكاني أن أحدد جميع الإمكانات الأخلاقية، وجميع الحركات الباطنية التي تسبق السلوك، وأن أسميها بأسمائها، لتفعلوا ما تشاءُون، وليكن مسلككم ما يكون، فإني أفهم نفسي من خلاله كما أفهمكم جميعًا، هكذا كان يفكر كل إنسان قديمًا، وهكذا يفكر اليوم كل إنسان على وجه التقريب.
لا مفر كما أسلفنا من أن «نربي» أنفسنا. وآفة التعليم والتربية في كل مكان هي هذه: ما من إنسان يريد أن يتعلم أو يعلم غيره كيف يتحمَّل ألم الوحدة، وما من معلم يريد أن يعطي بغير أن يمن على تلميذه. إن المعلم الحقيقي يهدي ويفرح بأنه ازداد فقرًا عما كان عليه، وهو يأخذ بيد التلميذ إلى ذاته ليتركه لصمته ووحدته معها. ويساعده على الاغتراف من منبعه، واكتشاف كنوزه، ثم ينسل بعيدًا دون أن يشعره بأنه ساعده في الحفر عن هذه الكنوز، بل دون أن يجعله يشعر بوجوده! لقد عرف نفسه، فاستطاع أن يعرف الآخرين بأنفسهم. ثم اقتضته الحكمة أن يسكت، فلا يتطفل عليها أو عليهم. لقد جرب أعمق التجارب، واهتز وزلزل من جذوره، حتى صح وشفي وخرج بابتسامة متألمة إلى الحرية وصفاء السكينة، حطم أغلاله وتحمل سخرية الذين راحوا يشيرون إليه هازئين: ها هو يثبت خيبته الكبرى! إذ كيف يتعود امرؤ على الأغلال، ثم يذهب به الحمق إلى تمزيقها؟
ومع ذلك فقد وجد الشجاعة لكي يخطو الخطوة الحاسمة على طريقه الخاص عندها تكشف له السر؛ تخلى عنه أولئك الذين كانوا أقرب الناس إليه، تعالوا عليه، وتصوروا أنه أهانهم. والغريب أن أفضل من فيهم لا يزال يتوقع منه أن يعثر على الطريق الصحيح، ويرجع إليه — وكأنهم يعرفون هذا الطريق خيرًا منه! لهذا آثر الوحدة ورجع إلى صحرائه. تركهم وهو يقول لنفسه: إنني متعجل. لا بد أن أنتظر نفسي. سيتأخر الوقت قبل أن ينبثق الماء من نبع ذاتي، ويظهر إلى النور، وسيكون عليَّ في أغلب الأحيان أن أتحمل ألم العطش أكثر مما أتحمل الصبر. لهذا أذهب إلى وحدتي، لكي لا يكتب عليَّ أن أشرب من مستودع كل إنسان. إنني أحيا بين أغلب الناس كما يحيا أغلب الناس، ولا أفكر كما ينبغي أن أفكر — ويمضي الوقت، فأشعر دائمًا كأن هناك من يريد أن ينفيني بعيدًا عن نفسي، وينهب مني ذاتي — وهنالك أحقد على كل إنسان، وأخاف من كل إنسان، عندئذٍ أحتاج إلى الصحراء لكي أعود إلى نفسي. أحتاج إلى الوحدة لأكون ذاتي.
د
وتشرق الشمس على من طلع عليه الفجر، وتشع بنور جديد. وتغمر المفكر الوحيد نشوة فرح لم يعرفها من قبل، فيدون في صيف عام ١٨٨١–١٨٨٢م كتابه «العلم المرح» خلال إقامته في منطقة سيلز-ماريا، بين الجبال التي سيلقى فيها زرادشت بعد سنوات قليلة ليبشره بالإنسان الأعلى، وعنوان الكتاب يشير إلى التراث البروفنسالي للتروبادور وإن كانت المحبوبة فيه مختلفة عن تلك التي تغنَّى بها «مطربو الدور»؛ إذ إن العاشق قد تيمه محبوب لن يظهر إلا في المستقبل، أو إن شئت فإن المحبوب هو المستقبل نفسه. ولهذا فإن الحكم المنثورة في هذا الكتاب أشبه باللحن الممهد للقادم الجديد، كما أن الحكيم الذي تعذَّب باستكناه أغوار الوعي والبحث عمَّا تحته ووراءه قد وضع كل خبرته في استقبال هذا الأمل المنتظر.
وتعزف بعض الحكم على الوتر القديم، وتعاود الإلحاح على صيرورة الذات إلى ذاتها: «ما الذي يقوله ضميرك؟ عليك أن تصير أنت نفسك! لا تتردد … واحفر في عمق الأرض، حيث وقفت فتحتك نبع، أما الأشباح السود، فدعها لا تهتم بصيحتها، لا يوجد شيء تحتك إلا نيران جهنم!» وتتردد بعض الأصوات التي سمعناها في الكتب السابقة في صيغ أخرى، فصوت يؤكد ارتباط النفس والجسد (أو الجانب السيكوسوماتي) تأكيدًا يذهلنا لو تأملناه على ضوء علم النفس الحديث: «ليس من حقنا نحن الفلاسفة أن نفصل بين النفس والجسد، ولا بين النفس والروح. فلسنا ضفادع مفكرة ولا أجهزة تقرير، وتسجيل ذات أحشاء باردة، إن علينا أن نلد أفكارنا من ألمنا، علينا أن نرعاها رعاية الأمهات، ونبذل لها كل ما نملك من دم وقلب ونار، ولذة وحماس وعذاب وقدر … معنى الحياة في نظرنا نحن الفلاسفة هو أن نحول كياننا بأسره إلى نور ولهب، كما نحول كل ما يتصل بنا أو يصيبنا، ولن نملك غير ذلك. أما عن المرض فهل يمكننا أن نستغني عنه؟ إن الألم العظيم، الألم الطويل البطيء الذي نحترق فيه كما يحترق الخشب الأخضر، هو الذي يلزمنا بالهبوط إلى أعماقنا الأخيرة، ويتردد صوت آخر عن العلاقة الوثيقة بين المرض والفلسفة … فلولا الأمراض التي استسلم لها الفلاسفة، ولولا أجسادهم المريضة التي عذبت عقولهم وألهمتها وأغرتها بالبحث عن السلام والسكون والصبر والعزاء ما كانت معظم مذاهب الأخلاق والطبيعية وما بعد الطبيعة، ولا كانت أشواقهم إلى ما فوق وما وراء، وكأن الفلسفة لم تخرج حتى الآن عن أن تكون تفسيرًا للجسد أو سوء فهم له. وكأن أعظم الأفكار وأرقى أحكام القيمة عبر التاريخ لا تخفي وراءها غير أنواع من سوء الفهم لأحوال الجسد، سواء كان جسد الفرد أو الطبقة أو الجنس.»
ويعود صوت ثالث إلى السخرية بالوعي، وبكل من يبالغ من شأنه «مبالغة مضحكة»، بيد أن هذا الوعي لم يعد هو الوعي الفردي المغلول بسأم الحياة اليومية، وزيف الأخلاق السائدة، بل هو الذي قفز إلى السطح من أعماق دفينة تراكمت طبقاتها منذ أجيال، وشاركت في صنعه شعوب عريقة وحضارات قديمة. ولو لم توجد هذه الأعماق الدفينة، وهذا «اللاوعي الجمعي» الموغل في القدم لقضت البشرية ضحية وعيها السطحي الذي تغتر به أيما غرور.
لا بد إذًا من إخراج هذه الأعماق الدفينة إلى نور الشمس. فهي نفسها الأخطاء العريقة التي شكَّلت وعي الأجداد، وعلى الأحفاد أو أحفاد الأجداد أن يتمثلوها ويجعلوها جزءًا لا يتجزأ من كيانهم. وليست هذه الأعماق أو الأخطاء إلا غريزة القطيع الذي يتحتم على القلة أن تخطو فوق جثته لتستقبل القادم المنتظر، وتتبعه إلى شواطئ عالم جديد.
ولكن من الذي يشعر بالمحنة ويرى الجثث والأنقاض في كل مكان؟ من الذي أحس بليل العدم المطبق على الغرب، فراح يوجه شراع سفينته نحو شاطئ بعيد وشرق جديد؟ هم القلة التي اختارت ألم الروح والجسد، وجربت جرح العصر الذي سيولد منه فجر الإنسان الموعود: «نحن الجدد الذين لا أسماء لهم، والذين يصعب فهمهم، نحن المواليد المبكرون لمستقبل لم يتأكد بعد — إننا بحاجة من أجل الهدف الجديد إلى وسيلة جديدة، أعني إلى صحة جديدة، أكثر قوة وذكاءً وعنادًا وبسالة ومرحًا من كل ما عرف الناس حتى اليوم — من تعطش إلى هذه الصحة العظيمة، وجرب كل ما كان يعد ذا قيمة حتى الآن، وطاف بسفينته على شواطئ هذا «البحر المتوسط» المثالي، من دفعته مغامرات تجربته إلى الإحساس بمشاعر الفاتح ومكتشف المثل الأعلى فضلًا عن الفنان والقديس والمشرع والحكيم والعالم والمتنبئ والعابد المتنسك من الطراز القديم، من فعل هذا فهو في أشد الحاجة إلى الصحة العظيمة … تلك التي لا يملكها المرء فحسب، بل يكتسبها ولا بد له أن يكتسبها على الدوام؛ لأنه سيضحي بها، ولا بد أن يضحي بها بصفة مستمرة …»
لماذا يحتاج هؤلاء الجدد إلى الصحة العظيمة أو الشجاعة الخارقة؟ لأنهم يواجهون — كما رأينا — عالمًا فظيعًا من الحطام والأنقاض، ويرون مجتمعًا دينيًّا اهتز وزلزل فيه الإيمان من أساسه، وانهارت فيه الكنيسة حتى أصبحت قبرًا ﻟ «الإله الميت» و«موت الإله» هي الصيحة المرعبة التي أطلقها المتنبئ بالإنسان الأعلى في نهاية القرن التاسع عشر، والحدث الأكبر الذي راح يدق له الأجراس، وهو يردد كلمته المخيفة المتناقضة إلى أبعد حدود التناقض. وليس أدل على هذا التناقض من تضارب أسلوبه في التعبير عن هول هذا الحدث. فهو مرة شاعر يرسم صور الانهيار والظلام والدمار والكسوف. ومرة أخرى نبي أو متنبئ يعلن بصوته الغامض المتهدج عن إشراقة عصر جديد تفقد فيه كل المعايير والقيم التقليدية قيمتها، ويبشر بضياء غريب يشع بالسعادة والطمأنينة والمرح والشجاعة. ومرة ثالثة متشكك في قدرة أغلبية الناس على استيعاب مغزى الحدث الضخم وتقدير نتائجه الرهيبة. وهو في كل الأحوال مضطرب الوجدان، مثقل بالشعور بالذنب، فلم يعد الأمر يقتصر على تغير الوعي الفردي، بل أصبح مسألة تحول في وعي البشرية كلها، وزلزلة تقتلع التراث الأفلاطوني-المسيحي من جذوره العتيقة، وانتظار للخلاص على يد جيل من الأبطال المبدعين يقهر ليل العدمية، ويتجاوز إنسان العصر العفن، ويحقق معنى الأرض والحضارة والوجود.
لتستمع إليه في هذا النص الذي يهلل فيه بالفجر الجديد: «إننا نحن الفلاسفة وأحرار الروح نشعر عند سماع نبأ موت الإله العجوز بأن فجرًا جديدًا يشع علينا نوره، وأن قلوبنا تفيض بالعرفان والدهشة والرجاء والتوقع، أخيرًا يبدو لنا الأفق حرًّا من جديد، وأخيرًا تعاود سفننا الانطلاق لتواجه كل الأخطار، ويتغلب العارف على تردده ويقدم على المغامرة، ويمتد البحر — بحرنا — وينفتح أمامنا، ونحس أن هذا البحر المفتوح لم يوجد أبدًا قبلنا.»
ثم لنقرأ هذا النص المشهور عن المجنون الذي راح يلقي على أبناء جيله مسئولية الحدث الهائل المهول، ويحملهم ويحمل نفسه ذنب الجريمة التي لم يسبق لها نظير: «هل سمعتم عن ذلك المجنون الذي أشعل مصباحًا في الضحى، ومشى في السوق وهو يصرخ صراخًا لا ينقطع: إني أبحث عن الإله! أبحث عن الإله! وتجمَّع حوله عدد كبير من الكافرين الذين راحوا يهزءُون به، ويتعجبون منه، وهم يتصايحون ويتضاحكون: هل تاه هذا الرجل كما يتوه الأطفال؟ أم كان مهاجرًا ثم عاد؟ وقفز المجنون وسط الجمع الغفير، وراح يسلط عليهم نظراته الثاقبة، وهو يهتف قائلًا: أين ذهب الإله؟ أنا أتولى الجواب عنكم: لقد قتلناه أنتم وأنا. نحن جميعًا قتلته! لكن كيف فعلنا هذا؟ كيف استطعنا أن نعب البحر؟ ماذا فعلنا لكي نفصل هذه الأرض عن شمسها؟ وإلى أين تتحرك الآن؟ إلى أين تتحرك؟ بعيدًا عن كل الشموس؟ ألا نتخبط باستمرار في كل اتجاه؟ هل بقي هناك ما هو أعلى وما هو أسفل؟ ألا نضل فيما يشبه العدم؟ ألا يلفح الفراغ وجوهنا؟ ألم تزدد البرودة، ويجن علينا الليل والمزيد من الليل؟ مات الإله، ونحن الذين قتلناه. فكيف نعزي أنفسنا ونحن أعتى القتلة؟ أقدس ما ملكت البشرية وأقواه قد سقط تحت سكاكيننا مضرجًا في دمائه، فمن يمسح عنا هذا الدم؟ أين الماء الذي يطهرنا؟ أليست عظمة هذا الفعل أعظم منا؟ ألا يتحتم أن نصبح نحن آلهة كي نكون جديرين به — لا لم يوجد أبدًا فعل أعظم من هذا الفعل — وكل من سيولد بعدنا سيدخل بسببه في تاريخ أسمى من كل تاريخ عرفه الإنسان!»
كابوس غريب يدور في ذهن مجنون حالم يتجول في نومه ينتهي بأن يصمت ويتبادل من حوله نظرات الذهول، ويلقي بمصباحه على الأرض فيتحطم وينطفئ! لقد جاء قبل الأوان، كما يقول على لسان الشاعر الفيلسوف الذي صوَّره، وهذا الأخير يقول كذلك عن نفسه إنه «آخر العدميين»، والطائر الذي يسبق العاصفة، وهو — مثل غيره من رواد القرن القادم — ينتظر فوق الجبال، في قلب التناقض بين اليوم والغد، ويلمح الظلال الزاحفة التي توشك أن تلتف على أوروبا، إنه كما تقول العبارة الأخيرة من النص السابق ينتظر تاريخًا أسمى من كل تاريخ سابق، ويعقد الأمل على إنسان أعلى من كل إنسان حاضر.
كيف نفسر هذه الكلمات الفظيعة والرؤى المضطربة؟ كيف نفهمها كالألغاز التي تستعصي على الأفهام؟ هل نلهث وراء التأويلات التي لا حصر لها لتلك الرؤيا المختلطة عن «موت الإله»، فنقول مع البعض إنها تعبير عن انهيار التراث الغربي، وتداعي الميتافيزيقا والأخلاق والأفلاطونية-المسيحية؟ أم نقول إنها محاولة لتأسيس ديانة جديدة تؤله الأرض والإنسان وإرادة الحياة؟ أم نقول على العكس من ذلك إنها محاولة يائسة من مسيحي صادق الإيمان في عصر فقد فيه المؤمنون إيمانهم كما فقد الإيمان الحقيقي من يؤمنون به؟ أم تراها في النهاية هي الصورة الميتافيزيقية-الشعرية التي تعكس مذهب التطور الطبيعي عند داروين وترتفع به؟
كثيرة هي التفسيرات التي قدمت ولا تزال تقدم لهذه الكلمة المخيفة التي تعد مفتاحًا أساسيًّا لتفكير هذا الفيلسوف ذي المائة باب! وأكثر منها اللعنات أو البركات التي ما لبثت تنزل على رأسه الذي تعذب وجن واحترق في أتون أفكاره الغامضة الغاضبة. والذي يهمنا الآن أن كلمته المخيفة المتناقضة التي أعلنها في «العلم المرح»، ثم صرخ بها في زرادشت قد تمخضت عنها كلمات وأفكار أخرى لا تقل عنها تناقضًا وإلغازًا. ولسنا نريد أن ندخل في متاهة التأويلات المختلفة للإنسان الأعلى وإرادة القوة وعودة الشبيه الأبدية. فالواضح مما سبق أن الشاعر المفكر — الذي يقف على مفترق الطرق أو على قمة الجبل بين اليوم والغد — يتوجه ببصره إلى المستقبل، وينتظر «النموذج الأصلي» الذي يجسد أحلام اللاوعي الجمعي لبشرية نضجت للموت وللبعث الجديد. هذا النموذج المنتظر هو التجسيد الحي «للتجلي الديونيزي» الذي أشرق بنوره وإلهامه عليه والديونيزي نسبة للإله الإغريقي الأسطوري «ديونيزيوس»، الذي تتمثل فيه مأساة الوجود وبهجته، وعذابه ونشوته، ودورته الأزلية الأبدية بين البداية والنهاية، إنه الإنسان الأعلى الذي «يصعد إلى الأعماق» من أجل أولئك الذين يريد أن يهديهم بسخاء، كشمس الغروب التي تغوص في الأفق، بينما تغرق العالم نورها الذهبي. هو «معنى الأرض» التي ينبغي على الإنسان أن يمحضها الحب والولاء، يعلنه المعلم والنبي الملهم زرادشت الذي تجسدت فيه إرادة القوة والعلو على الإنسان: «إنني أعلمكم الإنسان الأعلى. فالإنسان شيء ينبغي تجاوزه. ماذا فعلتم لكي تتجاوزوه؟ كل الكائنات السابقة قد أبدعت شيئًا تخطاها، أتريدون أن تكونوا جزر هذا المد العظيم، وتؤثروا النكوص إلى الحيوان على تخطي الإنسان؟»
ما القرد بالقياس إلى الإنسان؟ سخرية مضحكة أو شيء مخجل أليم. وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان بالقياس إلى الإنسان الأعلى سخرية مضحكة أو شيئًا مخجلًا أليمًا. لقد قطعتم الطريق من الدودة إلى الإنسان، ولا يزال فيكم من الدودة شيء كثير. كنتم قرودًا في يوم من الأيام، ولا يزال الإنسان إلى اليوم قردًا أكثر من أي قرد.
انظروا، إنني أعلمكم الإنسان الأعلى! والإنسان الأعلى هو معنى الأرض! فلتقل إرادتكم: ليكن الإنسان الأعلى معنى الأرض، أستحلفكم يا إخوتي أن تتعهدوا بالوفاء للأرض، وألَّا تصدقوا أولئك الذين يكلمونكم عن آمال علوية. خالطوا السموم هم سواء عرفوا أم لم يعرفوا. محتقرون للحياة هم، منقرضون وهم أنفسهم مسمومون، تعبت من حملهم الأرض، فليذهبوا عنها!
حقًّا إن الإنسان الآن لنهر قذر. ولا بد أن يكون الإنسان بحرًا لكي يستوعب البحر دون أن يتلوث. انظروا، إنني أعلمكم الإنسان الأعلى، فهو هذا البحر، وفيه يمكن أن يغيب احتقاركم العظيم.
تفرس زرادشت في عيون الناس وتعجب. ثم تكلم وقال: الإنسان حبل مربوط بين الحيوان وبين الإنسان الأعلى حبل معلق فوق هاوية. هو معبر خطر، خطوة خطرة على الطريق، التفاتة خطرة إلى الوراء، ارتجافة وتوقف خطر. أعظم ما في الإنسان أنه جسر لا هدف، وأحب ما فيه أنه مرتقًى ومنحدر. إنني أحب أولئك الذين لا يحيون حياة المنحدرين؛ لأنهم هم العابرون المتجاوزون. أحب من كانت نفسه عميقة، حتى في جراحها، ومن يمكنه أن يذهب ضحية تجربة صغيرة، بهذا يقطع الجسر عن طيب خاطر. أحب جميع من يشبهون قطرات المطر المثقلة التي تتساقط قطرة قطرة من السحابة السوداء المعلقة فوق الإنسان. إنهم يبشرون بمقدم الصاعقة، ويسقطون وهم المبشرون.
نعود للسؤال: ومن هو الإنسان الأعلى؟!
عرف نيتشه قدره وأخلص له. وقد وضعه قدره التاريخي على حافة عصر عدمي منهار، فراح — بكل ما فيه من ألم وتمزق وحماس — يتغنَّى بالعصر القادم والإنسان الأعلى. ولم يكن هذا الإنسان في رأيي — على الرغم من كل ما أحاط به من غموض وظلم وسوء فهم — إلا الإنسان المبدع. فهل آن لنا أن نعي هذا الدرس؟ هل آن لنا — ونحن نجتر محنتنا العربية، ونهدم بيت حضارتنا بمعاولنا، وننتحر على كل المستويات بأيدينا، ونغرق كل يوم في مستنقع التفاهة والسأم والصغار والتسلط بعضنا على بعض — هل آن لنا أن نؤمن بإنسان عربي حق — ولا أقول إنسان أعلى — إنسان مبدع، يعلو فوق الإنسان القرد، وفوق الإنسان الكلب، وفوق الإنسان الأفعى — يدرك ألا أمل ولا إنقاذ سوى الإبداع — إنسان يبدع ماضيه وحاضره وغده، يبدع واقعه وقيمه، إنسان يدعو ذات الفرد وذات الأمة وهو يقول: رفقًا يا نفس بنفسك! يا نفسي كوني نفسك!
Nietzsche. Friedrich; Werke 3 Bande. Hrsg. Von. Karl Schlechta, 2. durchges Auflage. Munchen 1960; 7. Aufl. 1973.
C. G. June: Beziehungen Zwischen dem Ich und dem Unbewussten G. W.; 7. 158.
Gerhard Wehr. Du Sollst der werden, der du bist, Psycho logische Scriften von Friendrich Nietzsche. München. Kindler Verlag 1976.
Sigmund Freud; Einige Nachtrage Zum Ganzen der Traumdeutung. G. W. XIV, S. 565.
وإذا كان التحليل النفسي قد نبَّه إلى أن الشعور بالذنب مصاحب لكل أنواع العصاب والذهان، فإن الطب النفسي الجسمي الحديث (وخصوصًا عند لودفج بنسفانجر) قد أكد هذه الحقيقة بالنسبة للأمراض النفسية والعضوية.
(راجع طبعة شلشتا، الجزء الثاني من ٢٧٩، ٢٨١–٢٨٣ وما بعدهما).