الله والفتوات والعلم
بقلم الأستاذ فرتس شتيبات
إذا كانت هذه الظروف والملابسات الخارجية تثير الانتباه، فسوف يتبين للقارئ الذي يطلع على الرواية أن نجيب محفوظ يقدم في الحقيقة عملًا غير عادي. فهذه «الرواية» — وهو الوصف المثبت على صفحة الغلاف — تتناول موضوعًا جبارًا، ألا وهو تاريخ البشرية من حيث هو تاريخ البحث عن النجاة والخلاص، بدءًا بخلق العالم وطرد آدم وحواء من الجنة، ومرورًا بظهور الأنبياء، وانتهاءً إلى مشكلات العصر الحاضر. وهي في تناولها هذا تنقل تاريخ النجاة إلى نطاق حي من أحياء القاهرة، وبهذا تخلصه من البعد الأسطوري لتقربه من جمهور القراء قربًا مباشرًا.
وأولاد حارتنا تدل على الناس الذين يعيشون في حارة تقع على الحدود الفاصلة بين القاهرة القديمة وصحراء جبل المقطم. ففي الصحراء في «الخلاء الخرب»، استطاع الجبلاوي «بقوة ساعده ومنزلته عند الوالي» (ص٥ وما بعدها) أن يقيم لنفسه ملكًا واسعًا، ويشيد بيتًا كبيرًا ذا حديقة مترامية. ويريد الجبلاوي أن يوقف هذا الملك على أبنائه وذريتهم من بعدهم ليكفل لهم حياة مستقرة آمنة، ولكنه يطرد اثنين من أبنائه من أصحاب الأولاد: إدريس (= إبليس) لأنه لا يوافق أباه على إسناد إدارة الوقف لأخيه الأصغر أدهم (= آدم)، وأدهم لمحاولته الاطلاع على حجة الوقف التي يحافظ أبوه على سريتها. ويحاول الجبلاوي أن يسترد أحد أبناء أدهم، وهو همام (= هابيل)، ليعيش معه في البيت الكبير، ولكن محاولته تخفق بعد مقتل همام بيد شقيقه الغيور قدري (= قابيل). وعلى أثر ذلك يعتكف الجبلاوي في البيت الكبير، ويكل الإشراف على الموقف للناظر، ولا يحرك ساكنًا عندما يعبث هذا الناظر بريع الوقف، ويغش ذرية الواقف، أي سكان الحارة التي تنشأ في هذه الأثناء.
وتسقط الحارة في هاوية البؤس والظلم. وتذوق الأمرين من الفتوات الذين يسيئون معاملة الناس، ويبتزونهم الإتاوات، ويجعلون من أنفسهم أدوات لتأييد سلطة الناظر. ومن حين إلى حين ينهض رجل لرفع البؤس عن الناس وقهر الظلم. فجبل (= موسى) يستخلص نصيب آلة من ريع الوقف بالقوة. ورفاعة (= يسوع) يرفض اللجوء إلى القوة، ولا يهتم بريع الوقف؛ لأنه يسعى إلى تحرير الناس من عفاريت شهواتهم، ولكن نجاحه في مسعاه، والتفاف الناس حوله، وزعمه التحدث بلسان الواقف، كل هذا يوغر عليه صدور الفتوات والناظر، فيحسون بخطره ويقتلونه. وقاسم (= محمد) ينجح في تحطيم نفوذ الفتوات بالقوة، ولكنها القوة التي تجمع إلى البراعة السياسية موهبة التنظيم. إنه يتجه ببصره مرة أخرى إلى الوقف، ويأمر لأول مرة بتوزيع ريعه على جميع سكان الحارة دون تفرقة بينهم في العشيرة أو الجنس، ولكن الذي يحدث بعد موته، مثلما حدث بعد موت سلفيه، هو عودة الناظر والفتوات إلى سلطتهما القديمة، ورجوع الظلم والبؤس سيرتهما الأولى؛ لأن البشر سرعان ما ينسون تعاليم روادهم الكبار.
ما الذي يريد له المؤلف أن يتأمله ويفكر فيه؟ إن العثور على إجابة هذا السؤال تفرض علينا تناول ذلك الجزء من الرواية الذي يعقب عصر الأنبياء، وهو الجزء الذي لا يعتمد فيه المؤلف على أصول مستمدة من التاريخ الموروث.
هنا نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة رجل يحتل مركز الأحداث، وهو الساحر عرفة. ولما كان مجهول الأب، فإنه لا ينتمي إلى أية جماعة من الجماعات أو الأحياء الثلاثة التي تنقسم إليها الحارة وهي: الجبلية (لليهود)، والرفاعية (للمسيحيين)، والقاسمية (للمسلمين)، بيد أنه يختار أن يقيم مع الرفاعية. ولا شك في أنه يمثل العلم الذي لا ينتسب لدين أو وطن، وإن يكن قد ازدهر في بلاد الغرب المسيحي. ويستأنف عرفة الصراع الذي بدأه جبل ورفاعة وقاسم مع الفتوات لكي يوفر لأولاد الحارة حياة بشرية لائقة. إنه يريد أن يحقق الشروط العشرة التي تنص عليها وصية وقف الجبلاوي (الوصايا العشر)، وإن لم يكن في الواقع من رجال الجبلاوي (ص٤٧١)، بل يتشكك في وجوده على قيد الحياة. وعندما ييأس من بلوغ هدفه، يتسلل إلى بيت الجبلاوي الكبير لكي يكتشف سر وصية الوقف. ويتورط عن غير قصد في قتل الخادم العجوز الذي يحرس الوصية، ويلوذ بالفرار مذعورًا. ثم يتبين بعد ذلك أن الواقف المسن كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنه مات متأثرًا بالصدمة. ويطارد الفتوات عرفة، فيتمكن من إنقاذ نفسه بإلقاء الزجاجة السحرية التي اخترعها على مطارديه، وهي سلاح متفجر يفوق كل ما عداه من أسلحة. غير أن الناظر يسخره لخدمته. ويتخلص الناظر من الفتوات بفضل الزجاجة السحرية، ولكنه يفعل هذا لصالحه لا لصالح الحارة، وهكذا يصبح عرفة فتوته الجديد. وفي النهاية يتمكن عرفة من الهروب، ولكن أتباع الناظر يلقون القبض عليه ويقتلونه قتلة فظيعة.
ويتجه أولاد الحارة في البداية إلى إدانة عرفة، فيتهمونه بأنه هو الذي قتل الجبلاوي، وأن سلاحه العجيب هو الذي جعل من الناظر طاغية لا يقهر، ولكن بعد موت عرفة يشيع الأمل في الصدور، فقد تمكن شقيقه حنش من النجاة بنفسه، ولعله أيضًا أن يكون قد تمكن من إنقاذ كراسة عرفة السحرية. وكلما اشتدت حملة الناظر على عرفة، وقوي اتهامه له بقتل الجبلاوي مضى الناس يقولون: لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خُيِّرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر (ص٥٥١). وأخذ بعض شبان الحارة يختفون تباعًا لكي يتعلموا السحر على يدي حنش استعدادًا ليوم الخلاص الموعود.
الجبلاوي إله، وهو إله يظل جبروته وامتناعه عن الناس وعدم اكتراثه بمواجهة الإدارة الظالمة لميراثه أمرًا غامضًا محيرًا، «إنه لا يسمح باجتماع القوة والضعف في نفس إلا نفسه هو». حقًّا أن نجيب محفوظ يضع هذه العبارة على لسان إدريس-إبليس (ص٥٦ وما بعدها)، ولكن الابن الساقط للجبلاوي لا يقوم هنا بدور الشرير المطلق الذي تنطوي أقواله بالضرورة على نفسها، إنه إنسان كسائر الناس، وينبغي أن تُفهم أقواله من وجهة نظر إنسانية. أضف إلى هذا أن جبل-موسى (ص١٣٥، ١٧١). ورفاعة-يسوع (ص٢٣٠–٢٣٤)، وقاسم-محمد (ص٤١٠) تنتابهم لحظات شك في الجبلاوي. وليس عجيبًا بعد هذا أن نجد عرفة الساحر العالم يطلق العنان لشكوكه «لكن ماذا أفدت من الحكايات يا حارتنا؟» (ص٤٦٠).
وعلى الرغم من هذا كله يقتحم عرفة بيت الجبلاوي، فلا تعقب هذه الخطوة إلا أسوأ النتائج: مقتل الخادم — الذي لم يقصد إليه عرفة — موت الجبلاوي، تسخير عرفة في خدمة الناظر، وانتصار هذا الناظر انتصارًا مطلقًا. ماذا يريد نجيب محفوظ من هذا كله؟ هل أخفق عرفة لأنه لم يتحرر من إيمانه بالجبلاوي؟ أم أخفق لأنه أراد أن ينفذ إلى ميدان الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) الذي ليس للعالم أن يبحث فيه عن شيء؟ أم يرجع إخفاقه في النهاية إلى تجرؤه على المساس بأقدس المقدسات؟ وعندما يصل عرفة في خدمته للناظر إلى الدرك الأسفل، تظهر امرأة تحمل إليه الرسالة الوحيدة التي وجهها الجبلاوي إليه: «اذهبي إلى عرفة الساحر، وأبلغيه عني أن جده مات وهو راضٍ عنه.» (ص٥٣٨) وتبقى حقيقة هذه الرسالة غامضة، ولا نستطيع أن نقطع بأنها لم تكن إلا حلمًا من أحلام السطل، ولكنها على كل حال هي التي تشجع عرفة على اتخاذ قراره بالهرب من خدمة الناظر كما تمهد بذلك للتحول النهائي الذي تسوده روح التفاؤل. لقد وثق من رضاء جده عنه، واطمأن إلى أنه لم يغضب لاقتحامه بيته وقتل خادمه، ولكنه يفهم كذلك أن رضاه ينطوي على سخطه من عمله في خدمة الناظر (ص٥٤٢). وقد يجوز لنا الآن أن نفك هذه الرموز، مات الإله، ولكن العالم — وهو صاحب الحق في المستقبل — يعترف بالقيم والمعايير الأخلاقية التي وضعها الإله، ومن هذا الاعتراف يأتي الاتجاه إلى الخير.
لا يتخلى نجيب محفوظ عن البعد الميتافيزيقي الذي يضفيه على موضوعه، ولكنه في نفس الوقت لا يقتصر عليه وحده. إن نقل التاريخ المقدس — تاريخ النجاة والخلاص على يد الرسل والأنبياء — إلى مستوى الحارة هو الذي يهيئ الشروط الملائمة «لعلمنته»، وإضفاء النزعة الدنيوية عليه، وتصغير مقاييسه. فأدهم-آدم بعد طرده من بيت أبيه يسعى في سبيل رزقه في شوارع المدينة، وهو يدفع عربة يبيع ما عليها من الخضر (ص٥٤ وما بعدها). وجبل-موسى لا يعثر عليه طافيًا على ماء النيل، بل يرى طفلًا عاريًا يستحم في حفرة مملوءة بمياه الأمطار (ص١٣١). والفتوات الذين يضطهدون آله ويطاردونهم لا يموتون في البحر غرقًا، بل في فخ حفر لهم في دهليز (ص١٩٦). ورفاعة-يسوع لا يتعلم من كتبة المعبد، بل من شاعر ضرير يروي الحكايات وزوجته «كودية الزار» (ص٢٢٨ وما بعدها) وبدلًا من أن يؤسس قاسم-محمد أمة نجده ينشئ ناديًا للرياضة البدنية (ص٣٦٦). هذا التصغير للجليل السامي يؤثر في معظم الأحيان تأثير الصدمة، ولكنه يقرب إلى القارئ أحداث تاريخ النجاة. وليس من المستطاع أن تعرض الأعمال التي أنجزها الأنبياء وشجاعتهم الشخصية، واستعدادهم للتضحية بالحياة المريحة في سبيل رسالتهم أمام جمهور القراء في أيامنا بمثل هذا النجاح، الذي وفق إليه نجيب محفوظ في روايته. والأهم من هذا كله أن المؤلف يوضح على هذه الصورة رأيه الذي يقتنع به، لا يمكن أن يقتصر تاريخ النجاة على خلاص الروح الفردية، ولا بد له كذلك من أن يهدف إلى سعادة البشر في هذه الدنيا، أي إلى تحقيق نظام اجتماعي مرضٍ. إن كل طموح أولاد حارتنا يدور حول بيت الجبلاوي الكبير وحول الوقف. أيعبر هذا عن نزعة مادية كريهة؟ يبدو في بعض الأحيان — وبخاصة في تقرير رفاعة-يسوع — أن هذا السؤال وارد، ولكن نجيب محفوظ يختار ألا يضع حدًّا يفصل ببساطة بين طيبات الدنيا وطيبات الآخرة. فالبيت الكبير يرمز للجنة، والاطلاع على حجة الوقف يعبر عن الأكل من شجرة المعرفة. ورسالة الجبلاوي إلى قاسم-محمد، خاتم الأنبياء، تصل إلى ذروتها في إبلاغه بأن تصير الحارة امتدادًا للبيت الكبير (ص٣٥٣)، أو قل في جعل الأرض امتدادًا للجنة.
ما هي هذه «العجائب»، وما هو هذا «السحر» الذي تتوقف عليه الحياة الجديدة؟ لا بد أن يكون شيئًا يزيد عن العلم الطبيعي الخالص الذي ينتج الأقراص المنشطة والأسلحة العجيبة. يقول عرفة: «حجرتي الخلفية (= المعمل) علمتني ألا أؤمن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي.» (ص٤٨٧)، فالأمر إذًا يتعلق في المقام الأول بالمعرفة العقلية والعينية للأشياء والمشكلات.
ولكن الروح العلمية والنزعة العقلانية لم تكد تقوم حتى الآن بأي دور في حياة الحارة. فالناس يأخذون معارفهم في أغلب الأحيان عن «الحكايات القديمة». وهذا وحده شيء يدعو للارتياب؛ لأن الذين يروون هذه الحكايات هم «الشعراء» أو الرواة المحترفون الكذابون نهازو الفرص، الذين يخدمون الناظر وينافقون الفتوات (ص١١٧، ١٢٠، ١٧٩ وما بعدها، ١٨٧، ١٩٦، ٢٢٦ وما بعدها، ٣١٠، ٣١٨، ٥٥١)، بل إن عرفة ليتشكك في قيمة الحكايات التي تُروى عن الجبلاوي وجبل ورفاعة وقاسم (ص٤٦٨، ٣٧١).
والعقبة الأخرى التي تقف حجر عثرة في طريق المعرفة العقلانية هي الحشيش. فهذا المخدر يظهر كأنه عنصر بديهي في حياة الحارة، وهو يعود دائمًا إلى الظهور، فيعبق به الجو في زفة أدهم قبل طرده من بيت أبيه (ص٢٧)، وجبل-موسى يتجاذب الجوزة مع الحاوي العجوز (البلقيطي) الذي يعلمه أصول فنه (ص١٧١)، ورفاعة-يسوع لا يطيقه حقًّا (ص٢٤٦، ٢٥٩)، ولكن أباه يتناوله بانتظام (ص٢٢٥)، وقاسم يحبه ويقدمه لأصحابه (ص٣٢٢، ٣٣٠، ٣٣٨ وما بعدها، ٣٤٢).
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن المؤلف يعتبر الحشيش وسيلة لا ضرر منها لنسيان هموم الحياة، ومنغصاتها الصغيرة والكبيرة. صحيح أن تجارة المخدرات يرد ذكرها كسبيل للإثراء غير المشروع (ص٢٠٩)، ولكن القارئ سيصدم بغير شك حين يعرف أن قاسم يعرض في جلسة خططه التي تهدف إلى تحقيق رسالته في الحرية والكرامة والسعادة (ص٣٦٢ وما بعدها)، والرجل الوحيد في الحارة الذي لا يقبل على الحشيش هو «الساحر» عرفة الذي يحتاج عمله إلى اليقظة والانتباه، ولكنه لا يلبث أن يصبح حشاشًا بعد دخوله في خدمة الناظر (ص٥٢٥، ٥٣٠ وما بعدها) هنا يتبين من جديد أن اللوحة التي يقدمها لنا نجيب محفوظ متعددة الأبعاد والمستويات، فالحشيش شر في ذاته بطبيعة الحال، ولكنه هنا رمز يدل بجانب ذلك على التفكير غير الدقيق، والتأمل غير الواقعي، والهروب من الحقيقة، كما يدل على الاستسلام الأعمى للشهوات، وعلى كل ما يتعارض مع الروح العلمية المأمولة.
ولكن ماذا عن مكافحة الموت البشرية؟
يقول عرفة: «الموت يكثر حيث يكثر الفقر والتعاسة وسوء الحال.» ويسأله الناظر: وحيث لا يوجد منها شيء يا أحمق؟ فيرد عليه عرفة بهذا الجواب: نعم؛ لأنه معدٍ مثل بعض الأمراض … إذا حسنت أحوال الناس قل شره، فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصًا على الحياة السعيدة المتاحة … سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت، بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت. (ص٣٥٤ وما بعدها) إن الثورة على الموت ليس لها طابع ميتافيزيقي فحسب، وإنما هي كذلك رمز متطرف على الكفاح العقلاني والواقعي من أجل حياة أفضل، وهو كفاح يعنيه نجيب محفوظ بكل ما لهذه الكلمة من قوة.
كل هذا يلقي مزيدًا من الضوء على مفهوم المؤلف عن الروح العلمية التي يتوقع منها كل شيء لنفسه وللناس. إنها — رغم أنف الشفرة التي يستعملها — ليست لونًا من ألوان «السحر» الذي تسقط نتائجه في حجر الإنسان، وإنما تتطلب كفاحًا وتحتاج لأقصى جهد ممكن، وحتى إذا صح أن العلم ليس له نهاية (ص٤٩٧، ٥٤٢) فإن جهد العالم الواحد لا يكفي؛ لأن الواحد بمفرده لا يقدر إلا على القليل، ولأن العالم الواحد عرضة للانحراف عن الطريق الصحيح. وإذا كانت لجبل ورفاعة وقاسم جوانب ضعفهم الإنسانية، فلم يبلغ أحد منهم من الفساد مبلغ عرفة. إن نجيب محفوظ لا يمجد العلم تمجيدًا أعمى، فهو يدرك الأخطار التي يتسبب فيها بابتعاده عن القيم الأخلاقية والاجتماعية. ولهذا نجده يؤكد اعترافه بالمعايير الأخلاقية وينبه إلى ضرورة إيجاد حل اجتماعي للمشكلة: يجب أن يصير أغلبنا سحرة!
هذا التحول من الفرد إلى المجتمع ملمح أساسي آخر من ملامح هذه الرواية. وليس معنى هذا أنها تصور «أولاد حارتنا» في صورة الممثلين القائمين بالأدوار الفعلية. صحيح أن آل حمدان يتمردون على الناظر والفتوات (ص١١٨، وما بعدها)، ولكن تمردهم يبوء بالإخفاق الذريع، حتى يتبنى جبل قضيتهم. والشعب يتضامن مع رفاعة ويقف وراءه، وهو الذي لا يطمع في ريادة ولا يطمح إلى زعامة (ص٢٧٦ وما بعدها)، ومع ذلك فهو الذي فجر الحركة التي عانت بسبب دعوته نفسها من الانقسام بين أتباعه حول أهدافها، وهل تكون مادية أو روحية خالصة؟ (ص٣٠٢ وما بعدها) مهما يكن من شيء، فإن جبل ورفاعة وقاسم هم الذين يحددون شكل حركاتهم وغايتها، وتنهار هذه الحركات بعد موت روادها، فلا يلبث البؤس القديم أن يرجع بخطوات مسرعة. فإذا بلغنا عرفة وجدناه طوال حياته يواجه التعاسة والظلم مواجهة العاجز؛ لأنه لا يجد بين «أولاد الحارة» سندًا يستند إليه.
ويوشك القارئ أن يخرج بانطباع يوحي إليه بأن هذه المراجعة الحزينة للتجارب التاريخية تفعم نفس المؤلف بالتشاؤم، أو بأنه يذكر نفسه بنفسه ويحذرها عندما نراه يعارض التواكل والقدرية معارضة صريحة (ص٤٤٨)، ربما بدا للفرد أن من الممكن أن يحتفظ لنفسه بركن صغير من السعادة والسلامة وسط الشقاء المحدق بالمجموع، ولكن أدهم لا يجد مفرًّا من أن يناجي نفسه قائلًا: لا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن (ص٢١ وما بعدها). ولقد تعلم عرفة في النهاية أن الفعل الذي يحدده الخوف من الموت فعل عقيم لا يجدي شيئًا، فالخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة. ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت. (ص٥٤٦)، والتسليم هو أكبر الذنوب جميعًا (ص٤٧٦)، وليس أولاد حارتنا هم أبطال الرواية، وإنما هم المقصودون بحديثها إليهم. فلا بد لهم أن يعرفوا أن الجهد المبذول لتأمين السلامة والعدالة تمهيدًا لخلق الحياة الجديدة جهد يسعى إلى نجاتهم وخلاصهم، وأن نضال الموت نفسه — الذي لا بد أن يعانيه كل إنسان بمفرده — له من ناحية أخرى معنًى اجتماعي. ففي مقدور الفرد أن يستمد الشجاعة من تضامنه مع الآخرين. وهكذا تنتهي الرواية نهاية واعدة تفيض بالأمل في المستقبل، هذا إذا تيسر كسب الأغلبية لمتابعة الطريق الذي بين لهم عرفة معالمه.
ومع هذا فلن نجد في الرواية وعظًا — على الرغم من الجانب التعليمي المقصود — كما أن الحيوية التي تفتقدها الرواية عن طريق الصنعة الواضحة في بناء الشخصيات والأحداث تعوضها إلى حد كبير واقعية المشكلة الأساسية، وتصوير البيئة تصويرًا حيًّا ملموسًا. إن القارئ يجد الحياة مرسومة أمامه على النحو الذي يألفها عليه (ويكفي أن نفكر في تدخين الحشيش)، غير أنه يفاجأ ببعض المواقف التي تدفعه دفعًا إلى أن يسأل نفسه إن كانت هذه الحياة المألوفة هي الحياة السليمة الطيبة التي يمكن قبولها على المدى الطويل.
إن الحدث المشوق هو الذي يحتل مركز الصدارة، وإن كان التشويق، كما ذكرنا، لا يكمن فيما يحدث، بل في كيفية حدوثه. ومن الواضح أن المؤلف يريد أن يشد اهتمام القارئ البسيط، ويأسره ليتمكن بعد ذلك من إثارة تفكيره.
إن تحليل هذه الآراء والتعليقات يستحق الجهد المبذول فيه، ولكننا مضطرون في هذا المجال للاكتفاء ببعض الإشارات. فغالي شكري — وهو ناقد شاب ينحدر من أصل قبطي، ويعتنق الاتجاه الماركسي — يفسر مفهوم نجيب محفوظ عن التاريخ تفسيرًا يتفق تمام الاتفاق مع مفهوم المادية التاريخية، والواقع أنه يبالغ في ذلك مبالغة شديدة، ويبدو أنه هو نفسه قد شعر بذلك عندما اعترف في ختام دراسته القيمة بأن نجيب محفوظ يتجاوز الماركسية، ويطرح أسئلة تتخطى مجال الماركسية (ص٢٥٥). وماهر البطوطي يركز في نظرية للرواية على الجانب الميتافيزيقي؛ إذ يرى أن المشكلة الأساسية فيها هي مشكلة الصراع بين الخير والشر. ومحمود أمين العالم — وهو مثل غ. شكري كاتب ماركسي معروف — يبحث عن نوع من التوازن عندما يقرر أن نجيب محفوظ قد أقام في روايته «وحدة جدلية حية» بين العلم والدين وبين النزعة المادية والنزعة الروحية (ص٨٣ وما بعدها)، والواقع أنه بقوله هذا قد أنصف المؤلف أكثر مما فعل النقاد الذين سبق ذكرهم. وناجي نجيب يؤكد بحق العلاقة الوثيقة بين أفكار المؤلف وبين التطور التاريخي في مصر، فمن رأيه أن المجتمع القديم لم يكن قد اختفى سنة ١٩٥٢م كما تصور نجيب محفوظ، كانت الثورة قد بدأت، وكان من الضروري أن تتابع طريقها، وهذه هي القضية التي يدافع عنها نجيب محفوظ في روايته.
أما عن الاستشراق والمستشرقين، فقد نشر جاك جومييه — الذي ندين له بدراسة رائدة عن الثلاثية — بعض الملاحظات القليلة عن «أولاد حارتنا». وتكمن قيمة هذه الملاحظات قبل كل شيء في أنها تعكس الشعور السائد عند نشر الرواية على حلقات مسلسلة. ويرجع الفضل إلى ل. و. شومان في أنه كان أول من نبه الغرب إلى عظمة هذه الرواية عندما وفاها حقها من التقدير في محاضرته التمهيدية التي ألقاها بجامعة أمستردام، وكانت بداية انضمامه إلى هيئة التدريس بها. هذا فضلًا عن دراسة الناقد العبري ساسون سوميخ الغنية وتأملات ب. ج. فاتيكيوتيس عن مفهوم الفتوة في الرواية، ولا يمكنني على كل حال أن أوافق الدارسين الأخيرين على تفسيرهما المفرط في التشاؤم.
لست أعرف في الأدب العربي الحديث عملًا تناول مثل هذه المشكلات المهمة على هذا النحو المثير الذي تناولته به «أولاد حارتنا»، ولا شك أن السؤال الأساسي الذي يحتل منها مكان القلب هو مدى تأثير الدين على الحياة. هل ينكر نجيب محفوظ وجود الله؟ إن تعدد المعاني والإيحاءات أمر مسموح به للأديب، وهو يلجأ إليه هنا كما فعل في مواضع أخرى كثيرة. والحجة التي يسوقها لتبرير ذلك هي أن على الميتافيزيقا أن تتراجع وراء الضرورات الأرضية. إن حياة الإنسان، كما صرح بذلك في أحد أحاديثه، تتألف من مأساة الوجود وعدم الوجود كما تتكون من مآسي اجتماعية أخرى عديدة، كالجهل والفقر والعبودية والبطش. ولا بد للإنسان أن يتحرر من المآسي الاجتماعية التي صنعها بنفسه، وهو قادر على التحرر منها. فإذا فرغ من هذا أمكنه بعد ذلك أن يلتفت إلى مأساة وجوده. وقيام نجيب محفوظ بطرح هذه القضية على بساط البحث أمام الجمهور العريض، لا على نحو سري أو خفي، هو في الواقع من أهم النتائج التي أدى إليها التطور العلماني في الإسلام. ويبدو لي في نفس الوقت أنه قد ساهم بذلك مساهمة طيبة في الأدب العالمي بالمعنى الذي قصده «جوته»، فقد قدم عملًا يستحق أن يضاف إلى الرصيد العقلي والروحي الذي تعتز به البشرية. ولا شك أن ترجمة هذه الرواية إلى اللغات الأوروبية ستظل أملًا نتطلع إليه ونتمناه.
ملاحظات
أود أن أقدم شكري للسيد يوسف الشاروني، القاهرة، والسيد الدكتور ناجي نجيب، برلين، على إرشاداتهما القيمة.
-
(١)
قارن الدراسة الكبيرة التي قام بها الأب جاك جومييه عن الثلاثية تحت عنوان: حياة أسرة قاهرية في ثلاثية نجيب محفوظ، وقد نشرت في مجلة ميديو Mideo، العدد الرابع (١٩٥٧م)، ص٢٧ وما بعدها.
-
(٢)
فؤاد دواره: عشرة أدباء يتحدثون (القاهرة) دون تاريخ، حوالي سنة ١٩٦٥م، ص٢٨٣ وما بعدها، وراجع كذلك ماهر البطوطي ص٨١، وناجي نجيب ص٣٤ وما بعدها. أما عن المعلومات الببليوجرافية الكاملة عن التعليقات التي صدرت عن أولاد حارتنا، فانظر فيها الملاحظة رقم ١٣ فيما بعد.
-
(٣)
غالي شكري، ص٢٣٠ وما بعدها، ومجلة ميديو، العدد ٨ (١٩٦٤–١٩٦٦م)، ص٣٤٣، الملاحظة رقم «١».
-
(٤)
يبدو أن اللهجة العامية في نطق أولاد حارتنا تقتضي وضع كسرة تحت الراء على صفحة الغلاف، وهذا هو الذي افترضه «شومان» في رسمه للكلمة بالحروف اللاتينية. غير أنه من الواضح أن هذا التصرف لا يتفق مع قصد المؤلف، الذي سنتعرض لتحفظاته على اللغة العامية في نهاية هذا المقال. أضف إلى هذا أن التشكيل الكامل «أولاد حارتنا» سيكون له رنين طنان.
-
(٥)
نجيب محفوظ في حوار مع سمير الصايغ، مجلة مواقف، العدد الأول (أكتوبر–نوفمبر ١٩٦٨م) ص٨٥ وما بعدها. وقد ظهرت الطبعة الثانية للرواية عن دار الآداب سنة ١٩٧٢م. (الآداب السنة العشرون، العدد الرابع، ص١٨، الملاحظة الأولى).
-
(٦)
راجع بعض الإشارات إلى هذه المسألة لدى شومان ص١٨ وما بعدها.
-
(٧)
يشير شومان (ص١٦ وما بعدها) وطرابيشي (ص١٩ وما بعدها) إلى احتمال أن يكون نجيب محفوظ قد فكر في فعل جبل (شكل، وصور وإبداع) عند صياغته لاسم الجبلاوي. والواقع أن كثيرًا من أسماء الأعلام في «أولاد حارتنا» ترجح أن تقوم معاني الألفاظ بدور معين في سياق العمل الروائي، ويكفي أن ننظر في اسم عرفة الساحر-العالم (من يعرف). ومع ذلك فإنني أشك في تفسير شومان لاسمي ولدي أدهم (ص١٦)؛ إذ يرى أن «قدري» مشتق من «قدر» (تقدير الله)، وأن اسم همام يأتي من حمَّال الهموم (هم)، ألا تكفي ملاحظة التناظر في الحروف التي تبدأ بها أسماء قدري وقابيل، وهمام وهابيل؟ إنني أفضل قراءة الاسم الأخير هكذا «همام»؛ لأنه اسم شاع استعماله في العصر الأخير. والأرجح أن يكون اسم همام أقرب إلى معنى الإرادة والطموح منه إلى معنى الهم والغم (وقد جاء في «المنجد»: من إذا هم بشيء أمضاه، كما جاء معجم «بيلو» Belot أن الهمام هو الذي ينضج مشروعاته وينفذها). وليس من المستبعد على كل حال أن يكون المؤلف قد استخدم اسم همام وفي خاطره معنى الهم (وقد جاء في اللسان: عظيم الهمة، كما جاء فيه إذا هم بأمر أمضاه لا يرد عنه، بل ينفذ كما أراد)، والغريب أن تطلق أسماء بعض الشخصيات الجانبية مثل كعبلها على رجل وتمر حنة وأم بخاطرها على النساء (والتشكيل هنا غير مؤكد).
-
(٨)
راجع تصريحه المهم الذي أعلنه في مجلة مواقف، العدد الأول، ص٨٤.
-
(٩)
انظر حواره مع غالي شكري في مجلة حوار، العدد ٣ (مارس–أبريل ١٩٦٣م) (٧٢، وانظر كذلك ناجي نجيب، ص٣٥).
-
(١٠)
راجع فؤاد دواره ص٢٨٦ وما بعدها، ومجلة حوار، العدد ٣، ٦٧، وكذلك الأب جومييه في مجلة «ميديو» العدد ٤، ٨٧ وما بعدها.
-
(١١)
محيي الدين محمد ٧٣.
-
(١٢)
محيي الدين محمد، غالي شكري، ص٢٣٠ وما بعدها، ٢٥٧.
-
(١٣)
المراجع التي سبق ذكرها في الهوامش هي التي بلغت إلى علمي عن رواية أولاد حارتنا.