العالم والتاريخ والأسطورة١
-
(١)
تنقسم هذه المحاضرة إلى قسمين كبيرين، يحاول القسم الأول منها أن يبين أهم الأسس التي تقوم عليها فلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) لإدموند هسرل. ولا تعتمد هذه المحاولة على كتاباته المنشورة فحسب، بل تعتمد كذلك على المخطوطات التي تركها وراءه. أما القسم الثاني فينطلق من تلك الأسس، ثم يتجاوزها، ويضع تخطيطًا لتحليل ظاهرياتي للأسلوب الأسطوري لوجود الإنسان.
-
(٢)
إن مشكلة البداية من أصعب مشكلات الفلسفة. والبحث عن البداية يعد نوعًا من البحث عما هو أول، عما يأتي في المقام الأول. ومع ذلك فإن هذا الأول لا يوجد بذاته منفردًا، إذ لا يوجد الأول إلا لوجود الثاني وما يتبعه أو يتلوه. وإذن فالبداية لا تنفصل عما يصدر عنها. ومعنى هذا — من جهة أخرى — أننا لا نستطيع أن نجد البداية مستقلة عما صدر عنها بالفعل.
إن البداية هي المدخل إلى ما نوجد فيه سلفًا. ولهذا فإن حل مشكلة البداية يكمن في العثور على تبرير أخير لما نوجد فيه بالفعل، للفهم المسبق — العصي على التعبير — لكل ما هو موجود. أي إنه تبرير لا يمكن إلغاؤه أو الذهاب إلى ما وراءه، وافتراض أخير يتبين كافتراض أخير. هذه هي بداية الفلسفة، وهذا الافتراض الأخير هو الذي كشف عنه إدموند هسرل.
والأمر يتعلق في الواقع بشيءٍ لا يسأل عنه، شيء ألفه الناس واعتادوا قبوله، بحيث لم يفكر أحد قبل هسرل في أن يضعه موضع السؤال، ألا وهو أننا نعيش في العالم، وأن كل واحد منا هو أنا — موجودة — في العالم، وأن العالم — تبعًا لذلك — هو الافتراض الأخير، ولكن العالم هنا لا يعني العالم ببساطة، ما دمنا موجودين بالفعل في العالم، فالمبرر الأخير هو تجربتنا بالعالم، تجربتنا الأصيلة بالعالم.
إن الوجود «في» العالم قد أصبح هو الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الظاهريات الحديثة بأكملها، وهو بوجهٍ خاص أساس فلسفة مارتن هيدجر، أشهر تلاميذ هسرل.
إذا كنا قد عرفنا أن العالم هو أرضنا أو تربتنا الأخيرة، ومن ثم فهو كذلك التربة التي تنمو فيها الحقيقة، فيبقى علينا أن نحدد حقيقته، ونعبر عنها تعبيرًا مفصلًا.
نحن نعيش في العالم، ونجربه، نحن حياة تجرب العالم. ما الذي يترتب على القول بأننا قادرون على وضع مشكلة التعبير عن تجربتنا بالعالم وحقيقتها بهذه الصورة، وأننا كذلك ملزمون بضرورة وضعها؟ إن الفلسفة يتعين عليها تقديم العبارة الأولى عن العالم، ولكننا في الوقت نفسه نعرف على الفور أن هذه العبارة الأولى ذاتها هي في الواقع شيء ثان بالنسبة للتجربة العينية بالعالم، وبالنسبة للحياة العينية.
وتتطلب الظاهريات أن تكون كل العبارات التي تقال عن العالم، وكل المفاهيم، مستمدة من التجربة، أي تجربتنا بالعالم.
هنا يكمن المعنى الحقيقي لمطالبتها بالتخلي عن أي افتراضٍ مسبق. والواقع أننا حين نتكلم عن التخلي عن أي افتراض إنما نقصد في الحقيقة افتراضًا يسبق كل شيء آخر، أي يكون هو البداية والتبرير. هنا يفترض أننا لا نبلغ المعرفة إلا ابتداء من هذه التجربة، وهذه الرؤية نفسها. في هذا الافتراض يكمن ما تطالب به الظاهريات من التخلي عن كل افتراض. ومعنى هذا أنها تتضمن افتراضاتها الخاصة وتوضحها.
-
(٣)
لنسأل الآن: أين تقع نواة العطاء المسبق للعالم؟ كيف نتوصل إلى جعل العالم موضوعًا للبحث والوعي؟ إنه التوتر القائم بين العطاء والدلالة، بين المعطي والمعنى المصاحب له.
إن كل تجربة، أيًّا كان ما نلقاه فيها، تنطوي على معرفة مصاحبة ومعرفة سابقة بما ينتمي إلى موضوع التجربة، وذلك دون أن يقدم لنا هذا الموضوع مباشرة. «من جهة الوعي، لا ينتهي المدرك، حيث ينتهي الإدراك» (الفلسفة الأولى، الجزء الثاني، ص١٤٧).٢ وإذا حاولنا على سبيل المثال، رد إدراك الموضوع إلى «الإدراك الخالص» قلنا: إننا لا نرى الآن سوى جانب واحد من الموضوع، ولكن هذا معناه أننا نراه في «أفقه»، أي بوصفه جانبًا من الموضوع، ونحن لا نرى فحسب جانبًا واحدًا، وإنما نرى جانبًا «من» هذا الموضوع، كما أن الموضوع كله له بدوره أفق أوسع. فكل ما هو معطى يزيد عن كونه مجرد معطى، أي يحتوي على شيء زائد يكون أفقه.كل ما أعرفه فله أفق، وله «ما يتجاوزه»، ولهذا فهو في النهاية وجود في «داخل»، في «أفق كل شامل». هذا الأفق الشامل في العالم. وليس العالم مركبًا مؤلفًا من آفاق، وإنما هو يتخطى هذه الآفاق. ولهذا فهو تربة تجربتنا وهدفها على السواء. هذه الخاصية التي تميز العالم هي التي يصفها هسرل ﺑ «العلوم» (الترانسندنس).
-
(٤)
لما كان الأنا موجودًا في العالم، فينبغي علينا أن نشير باختصار إلى تشابك الأنا والعالم.
إن الموجود، من حيث أن له أفقًا، ومن حيث أنه معطى، يحيل من تلقاء ذاته إلى قدرة الأنا على تفسيره. هذا هو معنى وجوده المعطى. ويرتبط بمعنى وجوده ما يمكن أن نسميه صلاحية العالم (أو صدقه وقيمته) التي تحيل كذلك إلى قدرة الأنا على تفسيره. إن الأنا «يملك» العالم بوصفه التربة التي تضم كل ما هو موجود، وهذا الملك هو «أنا أقدر» (أو أستطيع). في ملك العالم هذا نقول: أستطيع أن أفهم هذا وذاك، على هذا النحو أو غيره، ويمكنني دائمًا أن أواصل تحديده، قد تظهر أحيانًا بعض المتناقضات، ولكنني قادر باستمرار — في إطار وحدة العالم — على تصحيح تجاربي في كل مرة، وإضفاء التجانس والاتساق عليها.
إن العالم — بوصفه أفقًا شاملًا — لا يقدم إليَّ أبدًا توقعًا يقينيًّا لتجانسه تجانسًا نهائيًّا، ولكن هذه فكرة لا متناهية؛ لأنني لن أتمكن أبدًا من معرفة العالم معرفة كاملة، ولا من تحديده تحديدًا تامًّا، ولأنني أستطيع دائمًا أن أكتشف فيه جديدًا. ولولا هذه الفكرة لصار العالم ركامًا مختلطًا، ولما كان ثمة تجربة منظمة وقابلة للتصحيح، والواقع أن كوننا نملك العالم بوصفه «أنا-أقدر» إنما هو أمر يثبته العمل نفسه، كما تؤكده قدرتنا على تفسير العالم.
-
(٥)
لقد كشفنا عن المعطى في ارتباطه بأفق ملازم له، ثم كشفنا عنه في ارتباطه بالعالم أو في «عالميته». ولما كان كل معطى يحيل إلى ما وراءه، وكانت البداهة تحيل دائمًا إلى بداهة أخرى، فإنه لا يمكن لموجود فردي أو جزئي أن يعرف معرفة مطلقة البداهة واليقين. إن كل تجربة تعطي نفسها تشير إلى ما يتعداها، وهي كذلك انتظار لذاتها. ومن طبيعة كل انتظار أن يحتمل خيبة الأمل. وهكذا نجد أن من طبيعة البداهات أن تحيل إلى ما وراءها، وأن تحتمل الخيبة، كما أن من طبيعتها — وهذا أمر في غاية الأهمية — أنه لا يمكن أن يقوم مقامها، أو لا يمكن أن يستبدل بها، إلا بداهات أخرى عديدة (المنطق الصوري والترنسندنتالي، ص١٣٩ وما بعدها).
بهذا نكون قد وصلنا إلى رأي مهم يتعين علينا الآن أن نعبر عنه في صيغةٍ واضحة، أن المعرفة اليقينية الوحيدة التي نملكها هي المعرفة بالحياة التي تجرب العالم، بالأنا «في» العالم، ﺑ «عالمية» كل شيء جزئي أو فردي. وبهذا نرى في نفس الوقت أن حل مشكلة الحقيقة والبداهة إنما يكون في العالم.
إن الذي يوصف باليقين (أو بالضرورة اليقينية) هو العالم والحياة التي تجرب العالم، وتجرب نفسها بما هي كذلك، ولكن هذا اليقين، كما يقول هسرل، لا يمكن أن يكون مطابقًا أو مكافئًا، فحتى «الأنا-أفكر»، وإن كان من الممكن معرفته معرفة مكافئة، أي بوصفه تجربة قابلة لأن ترد في كل لحظة إلى وجود موضوع وضعًا يقينيًّا، فليس من الممكن أن يعرف معرفة مكافئة. (الفلسفة الأولى، الجزء الثاني، ص٣٩٦ وما بعدها). إن يقين المعارف الجزئية لا يتصف في ذاته باليقين الضروري، وإنما يشارك فحسب في ذلك اليقين الواحد الوحيد. والعالم في يقينه الضروري هو الشيء الوحيد الذي يتصف بالحقيقة. وعلى التربة الشاسعة لحقيقة العالم تتخذ كل بداهة، وكل عطاء ذاتي (للمعطى بما هو معطى) كما يتخذ إدراكه طابعه واسمه المميز. وليس هذا طابع الحقيقة، بل هو طابع تحقيق الحقيقة (راجع: الفلسفة علمًا دقيقًا، ص٢٠١).
إن كل تجربة جزئية هي تجربة محدودة تتم على أساس الصلاحية أو الصدق الشامل للعالم، إنها تجربة تخصص أو تعزل وتبرز من هذا العالم نفسه. بهذا يظهر كل جديد، وكل تجربة جديدة بوصفهما نوعًا من التخصيص. ويتخذ كل ما يجرب تجربة حية شكل التخصيص في إطار العالم المعطى (قارن الجزء الثالث من الفلسفة الأولى، ص٦٢٠ وما بعدها). وهكذا يكون كل ما يعاش في التجربة شيئًا جديدًا، وخاصًّا في داخل الأفق الشامل للعالم، كما يكون بلوغ الشيء المجرب تحقيقًا (وضعًا في الحقيقة) يمكن أن نتابعه بصفة مستمرة على الأساس المتجانس للعالم الحق. واليقين الذي يتصف به تحقيق العالم (وضعه في الحقيقة) هو في الواقع يقين نسبي متعلق بيقين العالم وبتجربة حية. وهكذا يتوصل هسرل إلى هذا المفهوم الذي يبدو للوهلة الأولى متناقضًا، ألا وهو مفهوم اليقين النسبي (راجع: الفلسفة الأولى، الجزء الثاني، ص٤٠٦)، ويترتب على هذا أن اليقين النسبي هو الذي يميز المعطى عندما نحققه (أو نضعه في الحقيقة) بوصفه تخصيصًا من العالم أو في العالم.
-
(٦)
الوجود «في» العالم فهم، إنه فهم الإنسان ذاته — «في» العالم — بكليته. ولهذا الفهم جانبان. فنحن حين نفهم أنفسنا في العالم ننشغل بكل ما هو ممكن، دون أن نعزله لنجعل منه موضوع بحثنا، ودون أن نخصصه على حدة. وإذن فلدينا جانبان من الفهم؛ أحدهما يتجه مباشرةً إلى الموضوع، والآخر يفسره ويكشف عنه، وهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. ومعنى هذا أننا لا نملك فحسب ذلك الفهم الشامل للعالم الذي نحيا فيه على علاقة مباشرة بالأشياء دون أن نعنى ببحثها، بل إن فهمنا يكون على الدوام فهمًا مصحوبًا بالتفسير. هذا الفهم الذي يشرح ويفسر هو الذي أطلقنا عليه صفة التخصيص.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف نفسر شيئًا معينًا في أفقه؟ كيف نبحث شيئًا ونجعله — بوصفه شيئًا جزئيًّا — موضوعيًّا للوعي؟ وكيف نعزله من ثنايا فهمنا للعالم ونخصصه؟
-
(٧)
بهذا نصرف نظرنا عن الفهم المباشر للموضوع وعما فهمناه مباشرة، ونجعل منه — من حيث هو موضوع مخصص — موضوعًا للوعي. وأهم شيء هنا هو أن ما نتأمله الآن، ونبتغي وصفه يصبح معطى مخصصًا عن طريق تعبيرنا عنه تعبيرًا ذهنيًّا أو صوتيًّا. ومن خلال العبارة نجعل من موضوع البحث مهادًا،٣ وذلك على حد وصف هسرل له.
وإذا كنت سأتكلم الآن مثل هسرل عن المهاد والتحديد، فإني أؤكد أهمية ما أقوله؛ لأنه سيكون أساس تحليل موازٍ سأقدمه في القسم الثاني من المحاضرة.
إن الموضوع أو المهاد هو المفهوم الأول والأصلي للواقع الذي يمكننا أن نقول شيئًا عنه، وأن نكشف تجربتنا له، ونعبر عنها. وعن طريق عبارتنا عنه يصبح الموضوع مهادًا. وأي تجربة نقوم بها هي في الحقيقة تجربة بمهاد، أو هي بتعبيرٍ أوضح متعلقة بمهاد.
والموضوع الذي أدركه هو الموضوع الذي أكون عنه أو أصدر عليه عبارات، هو الذي أحكم عليه، وهو الذي أفسره في تجارب جزئية أو تجارب خاصة.
إن تفسير أي موضوع تفسيرًا يعتمد على التجربة الحية أمر مرتبط بتحديد ماهيته وسماته وخصائصه. هذا التفسير يتضمن في كل الأحوال الفارق بين «ما يقال عنه أو يحكم به عليه»، وبين ما أحدده بصدده خلال التجارب الجزئية الخاصة، أي إنه يتضمن التفرقة بين المهاد والتحديد.
غير أنني أستطيع كذلك أن أتناول الماهية، وأجعل منها موضوعًا للبحث؛ لكي أواصل شرحها وتفسيرها. بهذا يتخذ ما كان في الأصل تحديدًا طابع المهاد. وبهذا أيضًا «أمهد» (من المهاد)، أو أسمي تحديدًا ما.
ويصف هسرل أنواع المهاد، التي لم تنتج عن تحديد لطبيعتها كمهاد، بأنها مطلقة. والمهاد المطلق هو ذلك الذي يمكن إدراكه بكل بساطة وبطريقة مباشرة. في إمكاني كذلك أن أدرك إدراكًا مباشرًا عدة أجسام معطاة ببساطة للإدراك، وموضوعة على سبيل المثال في سياق مكاني-زماني. بهذا يصبح هذا السياق الأخير بدوره مهادًا مطلقًا.
ونحن نعني بالتحديدات المطلقة تلك التحديدات التي لا يمكن أن تصبح «مهادات» إلا عن طريق تسميتها، وجعلها مهادات. ويبين هسرل بتفرقته بين المهاد والتحديد أننا نقوم بالضرورة بتفسير الأفق الذي يقدم فيه الشيء المعطى.
-
(٨)
إن المهادات التي نصفها بأنها مطلقة يمكن في الحقيقة أن تكون موضوع تجربة مباشرة، وذلك في مرحلة أولى، ولكنها توجد في علاقات تضايف أو إحالة متبادلة. وهذا يبين مرة أخرى أنها توجد داخل أفق شامل، وهذا الأفق هو العالم. وبسبب هذا النظام من العلاقات والإحالات المتبادلة، وبسبب وجودها داخل «أفق أشمل»، لا تكون المهادات المطلقة مستقلة. إنها تجد نفسها، كما يقول هسرل، في مهاد أشمل، أي في مهاد العالم.
في إمكاننا أيضًا أن نتجه مباشرةً إلى العالم كما نتجه إلى كل أو موضوع واحد للتجربة، ولكن علينا في هذه الحالة أن نعرف بوضوح أننا لا نجربه ولا نحياه بوصفه مهادًا، وأننا لا نعاينه عيانًا بسيطًا. وهنا ينبغي أن نعبر بوضوح عما لم يوضحه هسرل. فنحن حين ننتقل من مهاد مطلق جربناه تجربة بسيطة مباشرة، إلى مهاد مطلق ومستقل، أي إلى العالم، فإن المهاد في هذه الحالة يغير وظيفته. إنه يتحول مما «أقول بصدده شيئًا» إلى ما هو «داخل». وعندما نجعل هذا «الداخل» موضوعًا للبحث، يصبح بدوره «ما يقال بصدده شيء»، ولكنه سيختلف كذلك عن المهاد المعتاد.
مهما يكن من شيء، فإن العالم سيبدو عندئذٍ في صورة المهاد المطلق المستقل. وبهذا يصبح هو المطلق الخالص البسيط. إن جميع المهادات المطلقة توجد «في» شيء ما، وهي تحدد بأنها كل ما يوجد «في» شيء ما. غير أن العالم نفسه لا يوجد في شيء ما. إنه هو الشيء الكلي. وإذن فالعالم وحده هو المهاد المطلق، مأخوذًا بمعنى الاستقلال المطلق.
-
(٩)
لعل من أهم الاكتشافات التي توصلنا إليها حتى الآن اكتشاف الفارق بين التجربة المباشرة والبحث (المقصود الواعي). فنحن حين نعيش في العالم ببساطة لا نعيش فيه كما لو كنا نريد أن نجعله موضوعًا للبحث، أو كما لو كان مبحثًا نهتم بالنظر فيه. وحتى لو وجهنا اهتمامنا نحو الجزئيات، سواء أكانت أشياء واقعية، أم أمورًا شخصية، فإننا لا نبحث في بيئة هذه الأشياء ولا في آفاقها التي تعطى لنا من خلالها.
وينبغي علينا، فيما يتعلق بمسألة البحث، أن نلتفت إلى أمر مهم يتصل بمنهج الكشف الظاهراتي. ولا بد لنا — إن جاز هذا القول — أن نكتبه على الحائط حتى لا ننساه؛ لأن النسيان يغلب على كل من يميل بطبعه إلى التفكير والتنظير.
إن ما أجده عندما أغير موقفي وأتجه إلى البحث، لا يبقى على ما كان عليه في الأصل، أي على ما كنت أجربه تجربة مباشرة، وأحياه حياة مباشرة. إنه الشيء نفسه، وهو في الوقت عينه شيء آخر مختلف. ومنهج الكشف الظاهراتي بأكمله لا يسمح لنا إلا بالإحالة إلى الحياة التي نعيشها بطريقةٍ عينية، وإلى التجربة العينية الملموسة التي تبقى — بما هي كذلك — في نهاية المطاف غير قابلة للتعبير عنها من جهة ما تمثله من حياة وتجربة مباشرة. إن العبارات التي تقال عنها لا تكون ممكنة إلا على صورة إحالات عكسية.
-
(١٠)
لقد انطلقنا من المشكلة الأساسية في فلسفة الظاهرات، ألا وهي مشكلة المعطى في علاقته المتوترة مع المعنى المعطى معه، أي من المعطى وتفسيره. ثم وصلنا في النهاية إلى «الداخل» النهائي المطلق والمستقل أو المكتفي، ونعني به العالم. ولسنا بحاجةٍ إلى الإشادة بما أسداه هسرل إلى الفلسفة بمنهجه الجديد، وبكشفه للعالم وللحياة التي تجرب العالم. ولنكتف في هذا المقام بذكر عبارة واحدة قالها الأستاذ ج. جرانيل: «إن هسرل هو ببساطة أعظم فيلسوف ظهر منذ الإغريق» (إدموند هسرل، في الموسوعة العالمية، المجلد الثامن، باريس، ١٩٧١م، ص٦١٣).
ومع ذلك فهنالك «داخل» مطلق آخر لم يرَه هسرل، وسوف يتحتم علينا أن نسأل أنفسنا إن كان هذا المطلق مرتبطًا بالعالم، وعلى أي نحو يتم ارتباطه به، بل إن كان يشمل هذا العالم ويحيط به.
إن اكتشاف هسرل للأفق ومن ثم للعالم يأتي من فلسفة تركز على الرؤية. وقد كان هسرل نفسه على وعي كامل بهذا، تشهد على ذلك رسالة وجهها إلى أ. ميتسجر وقال له فيها: «أنا الذي وهبت حياتي كلها لتعلم الرؤية والمران عليها، وتأكيد حقوقها، أقول: من بلغ درجة الرؤية الخالصة (بالعمل على كشف العيانات أو الحدوس) فقد بلغ اليقين الكامل بالمرئي، بوصفه عملية إتمام لما هو «معطى عطاءً أوليًّا» (…) ثم أضيف عن المنهج وآفاق مجالات البحث عن الأفكار هذه الكلمة الوحيدة» (انظر الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، ٦٢، ١، المجلد النصفي، ص١٩٦).
ومع أن التاريخ يشغل مكانًا مهمًّا من مؤلفات هسرل التي وضعها في أخريات حياته، فإننا لا نكاد نجد فيها شيئًا عن الأساس الذي يقوم عليه التاريخ، ونقصد به العمل. وإن فيلسوفًا ينطلق من الرؤية كما يفعل هسرل، لا بد له — كما كان من الممكن أن يقول بنفسه — أن «يكف» العمل، على الرغم من أنه يتساوى مع الرؤية في أهميته.
-
(١١)
وقد عثرت على نقطة الانطلاق الوحيدة لظاهريات العمل — التي يمكن أن تقف على قدم المساواة مع ظاهريات الرؤية، أو بالأحرى يمكن أن ترتبط بها — في بعض الفقرات الموجزة أشد الإيجاز، وفي موضعين يشغلان عدة صفحات من المخطوطات التي تركها وراءه، وتناول فيها موضوع «الذاتية المشتركة». وهي المخطوطات التي لم تنشر إلا منذ ثلاث سنوات. وما سأعرضه عليكم الآن مستمد من مخطوطات هسرل التي ترجع إلى بداية العشرينيات، والذين يعرفون منكم فلسفة هيدجر سيدهشون قليلًا مما يسمعون.
يصف هسرل العالم، كما يعطي لنا عطاءً مباشرًا، بأنه عالم عملي. إنني — بصفتي «أنا» جسمية، جسدية أو متجسدة — لا أعيش في بيئة وعالم جسميين أو ماديين. فبيئتي وعالمي هما في الأصل بيئة عملية. ولهذه البيئة جانبان، فأنا أتدخل فيها، وأشكلها أو أغير شكلها، وأسعى لتحقيق أهداف وغايات فيها.
بيد أن غائية العالم العملي ليست «موضوعية» بحتة، بل تنطوي على الحالة الوجدانية (المزاج) والتعبير. والآخرون، الذين يعطون لي في صورة جسدية، يعطون لي كذلك مع تعبيرهم عطاءً مباشرًا. وأنا نفسي معطي لنفسي مباشرة في أحوال وجدانية متغيرة، أعرف عن طريق الآخرين أنها معبرة: «إن العالم في مواجهتي (…) العالم الذي هو «مسرحي»، ومجال نشاطي، العالم الذي يصيبني بالفزع والخوف وسائر الأحوال الوجدانية، هذا العالم كان دائمًا مثل هذا المسرح، وهو يستمد ملامحه من أوجه نشاطي وفاعليتي، ومن مختلف الأحوال والأمزجة التي تعرض لي.»
(الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثاني، قبل سنة ١٩٢٤م).
إن الجسد والتعبير متشابكان ومتلازمان. ولما كان العالم في جوهره عالمًا عمليًّا، فإن التعبير والحالة الوجدانية ينتقلان من الأجساد إلى الأجساد (الأشياء المادية)، بحيث «تعبر» كثير من الأشياء، وتثير في معظم الأحيان نوعًا من المزاج أو الحالة الوجدانية.
وفي العالم العملي يكون الجسد أداة الأدوات، بحيث تعد الأدوات (الآلية) امتدادًا لجسدي.
إننا نقوم بتشكيل البيئة تشكيلًا مناسبًا، ويكون للأشياء التي شكلناها جانبًا، فهي في الجانب الأول تشير إلى الإنتاج البشري، كما تتصف في الجانب الثاني بأنها يمكن أن تخدم أهدافًا وغايات معينة. والمعنى العملي (أو النفعي) للأداة نفسها يحيل بدوره إليَّ من ناحيتين؛ فهو من ناحية يحيل إليَّ بوصفي «أنا» جسدية قادرة على استخدام هذه الأداة بطريقةٍ أو بأخرى، وهو من ناحيةٍ أخرى يحيل إلى كوني «أنا» ذات رغبات، وقيم، وغايات عملية، تتصرف في تلك الأشياء المشكلة لتحقيق هذه الرغبات والقيم والغايات: «إن عالم البيئة لا يتكون فقط من طبيعة مادية ومجموعة موحدة من الظواهر، بل هو كذلك بيئة أقوم أنا (وغيري من الناس) بتشكيلها. إنه تغيير في شكل الأشياء يتم وفقًا للغايات المقصود، وبأفعال غائية أو عملية، تكشف عن الجانب المزدوج الذي أشرنا إليه. والشكل نفسه، على النحو الذي انتهى إليه، سواء أكان ساكنًا أم متحركًا، يحيل إلى أفعال موجهة لتحقيق هدف، وإلى إنتاج مقصود، وينطوي على معنى غائي باطن، وخاصية قابليته الدائمة لأن يوضع موضع التصرف من جهة الأفعال التي تتوخى غاية، وذلك باعتباره أداة أو أية وسيلة أخرى من وسائل التشكيل. هنا أيضًا نجد الجانب المزدوج المشار إليه. فالمعنى المرتبط بتحقيق غاية أو هدف يحيل إلى «أنا» ذات جسد وقدرات جسدية، ولكنها كذلك «أنا» تشعر برغبات، وتصدر أحكام القيمة، وتسعى للوفاء بأهداف وغايات» (الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثاني، ص٣٣٠، سنة ١٩٢٤م).
هكذا نرى بوضوح تام كيف يدخل العمل في نسيج العالم العملي.
ويتحدث هسرل في موضع ثانٍ عن أن من طبيعة البشرية أن تعمل على تطوير نفسها، وتضفي على العالم طابعًا إنسانيًّا. ما معنى هذا القول؟ معناه أولًا أن الإنسان يطور ذاته باستمرار على المستوى النفسي، وبوصفه شخصًا. ومعناه ثانيًا أن هذا يرجع إلى أنه يحيا حياته في عمل متصل، وأنه ينتج ما ينتجه بنشاطه الفردي أو الجماعي. ومعناه ثالثًا أن هذا التشكيل الفعال للبيئة يخلع على العالم معنى إنسانيًّا. و«أنسنة» العالم هذه أو خلع الطابع الإنساني عليه يتم عن طريق التعاون المشترك مع الآخرين. فالأفراد يحققون على الدوام أفعالًا، ويقومون بأعمال في إطار الجماعة ومع الجماعة. ونتيجة هذه الأعمال تدخل في تكوين العالم. فالعمل إذن هو الذي يصبغ العالم بصبغة إنسانية. ويعبر هسرل عن هذا بوضوحٍ عندما يقول إن العالم يعرض علينا وجهه العقلي أو الروحي، وهذا الوجه هو العمل. وهو كذلك ما ينتج عن العمل، سواء أكان عملًا مقصودًا أم غير مقصود.
والواقع أن الأمر منذ البداية لا يتعلق بالصنع وحده، ولا بالفعل الأدائي، بل يتعلق بالعمل الشخصي الذي يوثق رابطة الفرد مع الآخرين، ويحثه على التواصل معهم، ويتيح له أن يحقق شخصيته الاجتماعية، وأن يكون — نتيجة لذلك — شخصًا مشاركًا في جماعة نشطة (راجع الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثالث، ص٣٩١ وما بعدها).
-
(١٢)
على الرغم من الأهمية البالغة للمنطلقات التي أشرنا إليها، فإن هسرل لم يستعن بها على اكتشاف العالم. ولهذا فسوف نحاول أن نقوم بهذا في القسم الثاني من تأملاتنا. سنحاول، من منظور العمل، أن نقوم بتحليل موازٍ لذلك التحليل الذي أجريناه مع هسرل في القسم الأول من المحاضرة، عندما كنا بصدد تفسير الأفق اعتمادًا على مفاهيم معينة، كالمهاد والتحديد والعالم، ولكننا لن نلجأ إلى هذه المفاهيم باعتبارها نماذج يقتدى بها، بل سنسترشد بها في القيام بالتحليل الموازي الذي أشرنا إليه.
-
(١٣)
لو أننا بحثنا عن مفهوم مكافئ للمهاد المعيش ببساطة، لكان أول ما يخطر على بالنا — على الأرجح — هو الفعل أو العمل. فإذا حاولنا أن نفسر معنى العمل تبينا أنه في الواقع موازٍ للتحديد، ولكن كيف كان هذا ممكنًا؟ لنسأل أنفسنا ببساطة ما مقومات العمل؟ أو بتعبيرٍ أفضل، ما المقومات التي يدخل فيها العمل؟ ولا ننسى أن العمل الذي نقصده هنا ليس هو العمل الشيئي أو الأدائي، فالعمل يدل على الانطلاق من شيء والاتجاه إلى شيء. فقد استثير في باعث أو دافع معين، جعلني أسعى لتحقيق شيء ما في المستقبل. ثم إنني لا أعمل إلا بالنظر إلى الآخرين الذين يعملون هم أيضًا في إطار موقف معين، ولكن ما معنى الموقف الذي يوجد فيه عدة أشخاص يشتركون سويًّا في العمل؟
الموقف جزء من تاريخ. ولقد نشأ وتطور ابتداء من ماض، كما أنه يشير في ذاته إلى المستقبل. وفي الموقف تكون لدي مقاصد معينة، وغايات أحققها بواسطة العمل، مثلي في ذلك تمامًا مثل الآخرين الذين ينتمون — بوصفهم عاملين — إلى الموقف نفسه. والموقف في النهاية وضع حاضر في تاريخ.
-
(١٤)
من الطبيعي أن يؤدي بنا هذا إلى السؤال التالي: ما هذا الذي نسميه تاريخًا؟ وهي مشكلة معقدة لا يمكن أن نتناولها هنا بكل تفصيلاتها. وقبل أن نسأل عن معنى تاريخ معين وعن مضمونه، نود أن نطرح هذا السؤال: أين يتبين — أول ما يتبين — معنى تاريخ معين ووحدته؟ وسنجد هذا الجواب في تاريخ٤ يُروى كتابة أو مشافهة، في حكاية، في قصة.٥ والتاريخ الذي يروى، أو يمكن أن يروى، يمكننا أيضًا أن نسميه قصة،٦ أو حكاية مروية،٧ وذلك حتى لا تثير الكلمة (التي تعني التاريخ والحكاية٨ معًا) أي غموض في المعنى.ونسأل الآن: ما الحكاية أو القصة؟ القصة هي التي تروي لنا تاريخًا. وكما يتحول الموضوع لأول مرة إلى مهاد بفضل عبارتنا — عبارتنا التي تجعله موضوعًا للبحث — كذلك لا يتحول التاريخ الحي — الذي لم يصبح بعد تاريخًا بمجرد تجربته تجربة حية — إلى تاريخ إلا بفضل روايتنا أو قصنا له. والقصة تروي التاريخ نفسه، أو تقص حكايته، بإحصاء الشخصيات والأحداث، وذلك في تتابعها ومن جهة تتابعها. وبم يبدأ الإحصاء والقص؟٩ يبدأ بالحدث الأول والشخصية الأولى، يبدأ بالبداية. فالقصة تبدأ بتكرار البداية باعتبارها الأصل الذي انحدرت منه. وبهذا تكون القصة تكرارًا واستعادة، كما يعاد وضع الماضي١٠ في التاريخ (أو الحكاية التاريخية)، بحيث يستحضر هذا الماضي حاضره الذي كان، ويصبح التاريخ (أو الحكاية التاريخية) استعادة (إعادة وضع) وقصًّا في وقتٍ واحد. وهكذا يفسر التاريخ نفسه بنفسه عندما يستعيد أصله — عن طريق القص — ويكرره ويحصي ما جرى بعد ذلك. ونود هنا أن نقدم نموذجًا مثاليًّا يوضح ما نقول. فقد يحدث أن تبدأ قصة (أو حكاية) «من الوسط»، وألا يعرف الأصل فيها أبدًا، ولكنها تنتهي — مهما يكن ذلك بطريقة معقدة — إلى نهايتها التي تشف عنها بدايتها (ولا ننسى أن العودة إلى الأصل تظل هي العنصر الأساسي في كل «تفسير»، وأن هذه العودة تتحول في الفلسفة إلى البحث عن «الأصول» والمبادئ الأولى — «الأرخاي»)١١ بهذا تبرر القصة نفسها بوصفها هذه القصة. وبهذا أيضًا تستبعد منها المصادفة بطريقة معينة. نقول «بطريقة معينة» لأن المصادفة التي بطبيعة الحال هي المصادفة، ولكنها تكتسب في القصة معناها الخاص بوصفها حدثًا «مقصودًا» يضفي على الموقف أسلوبًا «جديدًا». والواقع أن المصادفة جزء من الحدث المفهوم فهمًا عينيًّا.
-
(١٥)
إن الذي يستوجب التفسير والتبرير ليس هو الإمكانات العامة والمجردة، بل هو «الهنا والآن» للحالة الخاصة، هو فردية قصة١٢ عينية يمكن أن تجرب تجربة بسيطة. ولا يتيسر فهم الطابع الفردي للحدث الشخصي المعيش، إلا إذا نجحنا في رده إلى ما لا يقل فردية وعينية، بحيث لا يقبل أي تفسير آخر، ولا يحتاج إليه، ولكنه (أي الطابع الفردي) يجب أن يكون واضحًا، ومعنى هذا أن البواعث أو الدوافع التي تحرك أبطال القصة أو شخصياتها الفاعلة ينبغي أن تكون واضحة. والدوافع بدورها تتطلب تبريرًا؛ لأنها تكون في الغالب الأعم غامضة. وسبب الدافع والقصد هو مبرره، ولكن هذا يبين أيضًا أن السبب نفسه كثيرًا ما يكون غامضًا ومخفيًّا. وما أكثر ما نقف أمام الدافع متسائلين: لماذا يفعل إنسان هذا أو ذاك؟ أو لماذا أفعله أنا؟
-
(١٦)
إن تبرير الرؤية هو الصحة أو الحقيقة. وقد بينا أن الحق لا يوجد إلا مخصصًا، وذلك بوصفه تحقيقًا (أو تأكيدًا للحقيقة)، يستند إلى وحدة العالم وتجانسه (أو اتساقه). وعلى ذلك يكون «تبرير» العمل هو الكشف الخاص عن الدوافع، سواء كانت خيرة أو شريرة، اعتمادًا على وحدة القصة نفسها واتساقها. ولا بد أن يتم إدراك هذه الدوافع في سياقها المترابط. وفي هذا تكمن وحدة القصة. إن القصة تفسر نفسها، وتقدم الحساب عن نفسها. ولهذا نلمس العلاقات والروابط العميقة بين المعاني المختلفة التي تدل عليها كلمة القصة والقص في اللغات الأوروبية المختلفة مثل Erzählung (قصة)، Tale (حكاية أو خبر مروي)، Récit (قصة)، Conte (أقصوصة)، Count (يحصر أو يحصي)، Account (يقرر أو يعد أو يقدم الحساب)، Raconter (يحكي أو يروي)، مع العلم بأن الكلمة الأخيرة تحيلنا إلى Reconter (يعيد العد والحساب) وإلى Ren-Contrer (يلتقي ﺑ…) وRendre Compte (يقدم الحساب عن …) أما كلمة Tale (قصة — حكاية — خبر) الإنجليزية، فتأتي من الفعل Tell (يخبر)، الذي يتصل كذلك بالعد. إن المرء يعيد العد، ويقوم بالحصر والإحصاء، وهذا يوضح التبرير (أو تقديم كشف الحساب). والماضي تستعاد روايته أو يعاد وضعه من جديد.١٣ وبذلك يمكن أن يسأل أو يستجوب على نحو ما تسجل شهادة الشاهد، بل إن الماضي الذي تعاد قصته، أو يعاد وضعه (في الحاضر) يمكن أن يقدم الشهادة (عما جرى فيه). والكلمتان Conte في الفرنسية وCount في الإنجليزية تأتيان من العد. ولا شك أن الكلمة الفرنسية Raconter تردد أصداء العد، وتقديم الحساب أو التبرير واللقاء. فبغير اللقاء لا يمكنني أن أقوم بهذا أو ذاك.
-
(١٧)
إن الشيء الذي تكاد القصة تخفيه هو النهاية. فالقصة لا تتوقف عند نهاية حقيقية، أو لا تنقطع انقطاعًا، وإنما تنتهي إلى نوعٍ من الحاضر الذي حكت لنا أصله. فالنهاية تقع إذن في الحاضر.
ويصدق نفس الشيء على المستقبل. فلو أرادت القصة أن تحكي المستقبل لما جاز لها أن تتوقف، ولكان عليها أن تواصل الحكي، لكن المستقبل لن يكون عندئذٍ هو المستقبل، بل سيكون ماضيًا محكيًّا. إن المستقبل في القصة أشبه ما يكون بامتداد الحاضر الذي تتوقف عنده القصة. فالقصة تقودنا إذن إلى حاضر لم يقص (لم يحكَ)، حاضر مفتوح، متعالٍ على الزمان إن صح هذا التعبير.
-
(١٨)
هكذا يكون الموازي المقابل للمهاد — الذي يمكن تجربته تجربة خالصة — هو حكاية أستطيع أن أرويها أو أسمع غيري يرويها.
أما عن العمل فيمكنني — موازاة للتحديد — أن أسميه وأحوله إلى مهاد. ويتم هذا عندما أقدمه أو أضعه في موضع الصدارة، وأجعل منه عملًا منجزًا أو تامًّا، ولكن العمل لن يخرج عن كونه تحديدًا نسبيًّا للتاريخ، إذ لا يوجد عمل وحيد، ولا عمل من إنجاز فرد واحد.
-
(١٩)
لنتابع الآن التحليل الموازي الذي بدأناه.
كما أن هناك مهادًا يمكن تجربته تجربة خالصة، أي مهادًا مطلقًا، يتكون من واقع مفرد أو من أنواع متعددة من الواقع، من مجموعة أو «تشكيلة» من الوقائع، فهناك كذلك حكاية يمكن روايتها وتجربتها تجربة خالصة بسيطة غاية البساطة، كما أن هناك بالمثل حكاية هي «تشكيلة» أو مجموعة أشكال من الحكايات التي يمكن تجربتها تجربة خالصة، أي إدراكها إدراكًا مباشرًا.
وقص الحكاية البسيطة يوازي التخصيص (الذي تحدثنا عنه فيما سبق). فالحكاية تبرز من حكاية شاملة في الخلفية، كما ترتبط — إذا تمعنا فيها عن قرب — بحكاياتٍ أخرى. بهذا نكتشف علاقات الترابط العامة بين الحكايات المختلفة، أو نكتشف أن هذه الحكايات يحيل بعضها إلى البعض الآخر.
-
(٢٠)
لقد استطاع هسرل أن يميز المهاد المطلق من المهاد النسبي، وأن يفرق كذلك بين التحديد المطلق والنسبي. وقد بيَّن أن المهادات المطلقة بطبيعتها المطلقة، أي بحكم كونها قابلة للتجربة المباشرة الخالصة، ليست مستقلة بنفسها. فهي في رأيه يحيل بعضها إلى بعض كما تحيل دائمًا إلى ما يتجاوزها، أي إلى ما تكون فيه وهو العالم.
هنا نصل إلى هذا السؤال المهم: أين توجد الموازاة؟ وما «الداخل» المطلق المستقل الذي توجد فيه الحكايات؟
-
(٢١)
ربما يبدو للوهلة الأولى أن هذا الداخل هو الزمان. وقد كنا انطلقنا من الموقف بوصفه الوضع الحاضر لحكايةٍ ما. والموقف شيء صار أو خضع للصيرورة، وأنا الذي أوجد في الموقف لي كذلك «صيرورتي»، التي تسهم في تحديد الموقف بالنسبة لي، وأنا ونحن لنا مقاصدنا، ونحن نسعى إلى شيءٍ في المستقبل، لنا مقاصدنا التي نحققها بأعمالها المتجهة إلى المستقبل. غير أن الزمان — وهذا ما بينه هسرل بوضوح تام — لا يوجد ﮐ «ظاهرة»؛ لأنني لا أستطيع أن «أراه» ولا أن «أتأمله». إن العالم ظاهرة، وهو معطى لي، أما الزمان فليس معطى لي، إنه صورة للعالم (أو شكله) كما هو صورتي أنا نفسي (راجع الحولية الفلسفية لجمعية جوريس، المجلد الثالث، ص٣٦٢). ومع ذلك فنحن نتكلم عن الزمان، أي «ندركه» على نحوٍ من الأنحاء، ولكن ما طبيعته التي ندركه عليها؟
لقد بيَّن هسرل أن الزمان هو صورة (شكل) الحياة التي تجرب العالم. وقد رأينا منذ قليل أن الحياة التي تجرب العالم ليست رؤية فحسب، بل هي عمل أيضًا. ومعنى هذا أن الحياة التي تجرب العالم تجري على هيئة حكايات (تواريخ)، وأنها يجب أن تدرك بهذه الصفة. والظاهرة العينية ليست هي الزمان، بل هي الحكاية (التاريخ)١٤ المعيشة، المروية، والمعبر عنها. والزمان هو صورة الحكاية (التاريخ). والزمان لا يظهر نفسه بنفسه، إنه يعبر عن نفسه بوصفه صورة مضمون حي. أما ما يظهر نفسه فهو الحي ذاته، الصورة والمضمون، الحكاية (التاريخ) العينية. إن الزمان — من حيث أنه صورة — كامن فيما يعبر عنه، وما يقال، وما يسمع، وما يعاش، وما يحكى. -
(٢٢)
لو بحثنا تبعًا لهذا عن «داخل» الحكايات (التواريخ) باعتباره ظاهرة، لما أمكن أن يكون هو الزمان، إذ ليس الزمان ظاهرة، بل هو صورة، ولهذا يتحتم أن يكون هو الحكاية (التاريخ) المطلقة المستقلة.
إن ظاهرة «الحكاية (التاريخ) المطلقة المستقلة»، بوصفها «الداخل» الذي يشمل الحكايات (التواريخ)، تفجر صورة الزمان. ويرجع هذا إلى سبب بسيط، فالحكاية — وهذا شيء يقتضيه معناها — يجب أن تكون ذات بداية ونهاية. أما الزمان أو الزمانية — بوصفها صورة — فليس له بداية ولا نهاية. ولو حاولت أن أتصور بداية للزمان لبقيت دائمًا «في» الزمان. ويصدق نفس الشيء إذا حاولت أن أتصور نهاية الزمان. وكما تصورت البداية أو النهاية بقيت داخل صورة الزمان.
ولما كان للحكايات وللتاريخ صورة الزمان، فإن بداية ونهاية التاريخ الذي نوجد بداخله «لا يمكن أن تعطى للرؤية». ويصدق هذا على تاريخ حياتي الخاصة المجربة للعالم. فأنا مثلًا لا أعرف شيئًا عن مولدي إلا من الآخرين. كما أن موتي لم يعط لي. ويصدق نفس الشيء صدقًا أعم وأشمل على «الداخل» المطلق المستقل الذي توجد فيه كل الحكايات.
إن المهاد المطلق قد أعطي لي في تجربة خالصة بسيطة. ويمكنني أن «أقص» التاريخ المطلق باعتباره تجربة خالصة حية، ولكنني لن أستطيع أن أقص بداية التاريخ المطلق المستقل ونهايته بصورة حقيقية وافية. ولهذا لا يمكن أن يقص التاريخ المطلق والمستقل — باعتباره «الداخل» المطلق المستقل — على نحو ما يقص التاريخ «الزمني» (أو التاريخ الواقع في الزمان).
-
(٢٣)
إن التاريخ المطلق والمستقل يفجر صورة الزمان، وبهذا يعلو على الزمان ويتجاوزه. وكما أن العالم في رأي هسرل هو «العالي» (الترانسندنس)، فالتاريخ المطلق كذلك هو «العالي».
هكذا نجد أنفسنا أمام هذا السؤال العسير: كيف يتيسر إدراك هذا «الداخل» المطلق والمستقل؟ فكما أن العالم ليس مهادًا يمكن أن يجرب تجربة خالصة بسيطة، كذلك التاريخ المطلق والمستقل — وهو «الداخل» الذي يحتوي جميع الحكايات (التواريخ) — ليس حكاية (تاريخًا) يمكن أن تقص أو تروي رواية خالصة بسيطة.
-
(٢٤)
ما هذا الذي يحتوي البداية والأصل اللذين يتجاوزان الزمان، كما يشتمل على النهاية المفتوحة التي تتخطى الزمان أيضًا، دون أن يكون في المستطاع قصه أو روايته بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة؟ الإجابة تقول: إنه الأسطورة.
وكما أننا لا نملك ابتداءً ولا في أغلب الأحيان وعيًا «بحثيًّا» بالعالم، فكذلك الحال مع الأسطورة. فنحن في الغالب نجربها متناثرة في شذرات، أي فيما يسمى بالموضوعات الأسطورية، دون أن نفطن إلى ذلك. ومع ذلك فإن من الممكن تفسير بنية الأسطورة، شأنها في ذلك شأن بنية العالم.
مهما يكن الأمر فقد استطعنا على كل حال أن نؤكد هذه الحقيقة الأساسية: كما أن الوجود «في» العالم هو الأسلوب الرئيسي لوجود الإنسان، فكذلك يمكن أن نقول إن الوجود «في» الأسطورة أسلوب أساسي في وجوده.
-
(٢٥)
اسمحوا لي في الختام أن أعرض عليكم بعض الملاحظات عن البنية الأصلية للأسطورة.
سننطلق في هذا العرض من تناهي الإنسان. والتناهي يظهر في النقص. وليس المقصود بهذا أنه عيب أو «خطأ» يمكن تلافيه، بل المقصود به أن البنية الأساسية لكل موجود هي معاناة النقص «في» ذاته، وأكتفي بأن أذكركم بما بيناه في القسم الأول من هذه المحاضرة عن النقص الملازم لتكافؤ كل معرفة (بحيث لا نجد معرفة مكافئة لموضوعها أو مطابقة له مطابقة تامة). ولكي نفهم بنية النقص المشار إليها بصورة أفضل، أود أن أقدم لكم، باختصارٍ شديد، ودون دخول في التفصيلات، مثلين اثنين يلقيان عليه الضوء.
إن النقص لا يقوم على الكلية (أو الشمول) المفتقد. فاللغة مثلًا تعد ناقصة في ذاتها؛ لأنها استدلالية منطقية. فهل يمكننا أن نتصور لغة كاملة؟ هل يسعنا أن نتخيل لغة شامة متكاملة لا تقتصر على أن تكون لغة استدلالية منطقية؟ إننا لنعجز حتى عن تصور مثل هذا الشمول الكلي.
ثم كيف تبدو صورة الزمان إن لم يكن في ذاته نقصًا؟ إن المثل يقول: الزمن يهرب.١٥ وليس معنى هذا أن الزمان يفلت أو يهرب منا، بل معناه أنه في ذاته عابر وزائل. وحتى لو حاولنا أن نتصور الأبدية كزمن كلي، فإنها لن تعدو في الحقيقة أن تكون «لحظة دائمة».١٦ وهذا هو الذي يفترضه الزمان الذي يتدفق في ذاته وينساب ويفلت حتى من ذاته.هكذا تكون اللغة ناقصة في ذاتها، ويكون الزمان ناقصًا في ذاته. غير أننا لا نملك حتى أنن طرح هذا السؤال: ما الذي ينقص اللغة؟ وما الذي ينقص الزمان؟
-
(٢٦)
نحن نرى إذن، من وجهة النظر الفلسفية، أن النقص هو البنية الأساسية للموجود المتناهي. هذا النقص يتجسد في الأسطورة، ويمكن أن يقص ويحكى ليتخذ بذلك الشكل الأسطوري-التاريخي لدراما أصلية. وتجسيد النقص بصورة درامية-تاريخية يقوم على حقيقة أن وفرة أو امتلاءً أصليًّا قد فُقد فقدًا أليمًا، وأنه سيستعاد مرة أخرى بالألم والمخاطرة. ومعنى هذا أن الأسطورة لها شكل دراما أصلية تتمثل في الوفرة الضائعة، واليأس، والرجاء، والصراع، والانتصار. فالأسطورة إذن في صميمها هي أسطورة الصراع الدائم، حتى ولو لم تظهر في هذه الصورة، بل في صورة أخرى، كأسطورة البحث على سبيل المثال. ولا يجوز بطبيعة الحال أن نفهم الصراع المذكور على أنه قوة، أو على أنه مجرد قوة فحسب، بل يجب أن يفهم منه أنه جهدٌ لا يتوقف عن الصراع.
-
(٢٧)
إن الهدف من هذا الصراع هو الانتصار. وليس معنى الانتصار الذي نقصده سحق العدو بالقوة، بل معناه خلاصه من اليأس، معناه النجاة. وهكذا يرتبط الانتصار والخلاص والنجاة برباطٍ لا تنفصم عراه. إن النجاة هي الانتصار الشامل على النقص عن طريق الأسطورة وبفضلها، بحيث يلتقي الأصل والنهاية. وما النجاة في نهاية المطاف؟ إنها الانطلاق من «المقدس» بوصفه الأصل في وجودي، والوصول إلى المقدس بوصفه نهايتي. ومفهوم النجاة، أو بالأحرى فكرته، ليست فكرة غير محددة فحسب، بل يتحتم أن تكون غير محددة، إذ يكمن فيها الانتصار الشامل على النقص أو إلغاؤه إلغاء شبه كامل.
-
(٢٨)
اليأس يولد الأمل، والأمل يولد الصراع. وفي الصراع يتحول اليأس إلى أمل فعال.
إن ضياع الوفرة الأصلية منا يمكن أن يكون شيئًا من صنع الإنسان نفسه، فمن المحتمل أن تكون قد ضاعت بسبب أخطاء ارتكبها أو ذنب اقترفه. لهذا يرتبط ضياع الوفرة الأصلية واليأس بالشعور بالذنب. ولهذا أيضًا يقوم الصراع من أجل استعادة ما ضاع على الجهد المبذول للوصول إلى الخلاص من الذنب، أي للوصول إلى الغفران، ويرتبط بهذا الجهد أيضًا أن نحاول تجنب الوقوع في أي ذنبٍ آخر. غير أننا لا ننجح أبدًا في ذلك كل النجاح، وذلك لأننا موجودون دائمًا في الذنب واليأس. ولهذا السبب على التحديد كان الغفران هو محو الذنب الأساسي أو الأصلي، وإلغاء الذنب العيني المحدد.
ويرتبط كذلك بالأمل الفعال الذي لا يتوقف عن الصراع أن العذاب الذي ينطوي عليه اليأس والصراع يعد نوعًا من الانتقال إلى الخلاص. ذلك هو الطابع الإيجابي للعذاب، للعذاب نفسه من حيث هو بداية الخلاص، وللصراع الذي يعد سيرًا على الطريق نحو الخلاص، وذلك من حيث هو صراع مقترن بالعذاب، وعذاب تقبله الإنسان برضاه، ومن ثم فهو عذاب فعال.
-
(٢٩)
نلاحظ من هذا كيف يتجلى في الدراما الأصلية للأسطورة ما اتفقنا على تسميته بتاريخ النجاة أو تواريخ النجاة.١٧ ولكن هذا لا يمنع أن تواريخ النجاة — وهذه ملاحظة مهمة — يمكن بغير شك أن تكتسب طابعًا سياسيًّا، وتعبر عن جوانب سياسية بالمعنى الواسع لهذه الكلمة الأخيرة.
-
(٣٠)
بيد أن المهمة التي تضطلع بها فلسفة الظاهريات (الفينومينولوجيا) ليست هي تفسير تواريخ (قصص) النجاة. والتحليل الظاهراتي للأسطورة — الذي ألقينا الضوء على الأسس التي يقوم عليها — سوف يجيب عن الأسئلة التالية: ما الوسائل والمناهج التي تعين على تصور تواريخ (قصص) النجاة؟ وكيف تبدو أبنيتها الأساسية؟ إن تواريخ النجاة أساطير رحبة شاملة. ونحن نجد بجانبها أساطير جزئية، بل إن هناك أساطير شخصية. وسوف يتعين على فلسفة الظاهريات أن تلقي الأضواء على مضامينها، وتكشف عن قيمتها ودلالتها على وجودنا الإنساني.