لِمَ الشعراء في الزمن الضنين؟
هذا ما يقوله هلدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م) في قصيدة «باطموس» التي تعد من أعمق قصائد شعره. ونقف حائرين أمام هؤلاء الأحباب الذين يسكنون فوق قمة جبلين منفصلين متباعدين، ومع ذلك فهم قريبون من بعضهم أشد القرب. وتزداد حيرتنا إذا قرأنا الأبيات التي تبدأ بها القصيدة؛ لأنها كذلك مثقلة بالأسرار:
ونعود فنسأل أنفسنا من هم هؤلاء الأحباء؟ وإذا طالت بنا الحيرة توجهنا إلى مفكر من أعمق المفكرين المعاصرين أيضًا، تولى عنا شرح هذه الأبيات وكثير غيرها لهذا الشاعر نفسه، فوجدناه يقول: هما الشعر والفكر. إنهما جاران، يسكنان فوق جبلين قريبين تفصل بينهما هوة بلا قرار. كلاهما يتلقى النور من أعلى، ويبحث عن حقيقة الوجود. هدفهما واحد، وإن كان كل منهما يسير على طريق غير الطريق. وقبل أن نمضي في السؤال لا بد أن نتعرف إلى الشاعر الوحيد. فلتكن هذه لمحة سريعة عن حياته المعذبة التي قضى نصفها تائهًا في ليل الجنون.
•••
ومعالم حياة هلدرلين — أو بالأحرى نصف حياته الذي قضاه ممتَّعًا بالعقل قبل أن يغوص في هاوية الجنون — بسيطة يمكن سردها في سطور قليلة لا يسمح المجال بأكثر منها. فقد ولد في العشرين من شهر مارس سنة ١٧٧٠م في بلدة «لاوفن» الصغيرة التي تقع على نهر النيكار في منطقة شفابن أو سويفيا، وكان أبوه معلمًا في أحد الأديرة القريبة ومديرًا له. ومات الأب قبل أن يتم هلدرلين سنتين من عمره، وتزوجت الأم بعد موته بسنتين من عمدة مدينة نورتنجن، وانتقلت إلى هذه المدينة، ومعها طفلها الذي قضى مرحلة صباه، وتعليمه الأولي هناك. ومات زوج أمه وهو في التاسعة من عمره، وأنهى دراسته في المدرسة اللاتينية في مدينة نورتنجن، وهناك بدأ كتابة قصائده المبكرة، ثم انتقل إلى «السيمنار» العالي في دير المدينة «ماولبرون»، وقضى به سنتين قبل أن يدخل معهد اللاهوت الشهير في مدينة توبنجن. وكوَّن جمعية أدبية مع اثنين من أصدقائه، ومضى في كتابة أشعاره متأثرًا بالشاعر المتدين كلوبشتوك (صاحب الملحمة الغنائية الكبرى عن السيد المسيح) وبشعر شيلر الفلسفي، متوجِّهًا بها إلى المثل الإنسانية كالصداقة والجسارة والحرية والحب والجمال، كما بدأ أولى ترجماته عن اليونانية ببعض أناشيد الإلياذة.
وفي التاسعة عشرة من عمره تعرف إلى «شتويدلن» الذي كان يتولى نشر عدد من المجلات الأدبية والفنية، فشجعه ورعى عددًا من قصائده، كما تعرف في هذه السن أيضًا إلى الشاعر الوطني الحر شوبارت (١٧٧٧–١٨١١م)، وكان قد خرج من السجن بعد أن قضى فيه عشر سنوات، ولا شك أنه تأثر بنزعته الوطنية المشبوبة، ولغته العاطفية المتدفقة. وحصل في العشرين من عمره على درجة الماجستير في الفلسفة (وكانت في ذلك الحين أدنى الدرجات الأكاديمية) وجمعت الصداقة الحميمة بينه وبين هيجل (الذي كان يشاركه نفس الحجرة في ذلك المعهد الذي طالما عانى فيه من الطعام السيئ والرقابة الصارمة ودروس اللاهوت) كما انضم إليهما شيلنج الذي كان يصغرهما بأربع سنوات، وفي سنتي ١٧٩٢، ١٧٩٣م ظهرت أولى قصائده في المجلة التي كان يصدرها شتويدلن، وبدأ يكتب المسودات الأولى من روايته «هيبزيون»، ويشارك صديقيه وشباب جيله تحمسهم لمبادئ الثورة الفرنسية، وسخطهم على مظالم الحكم الإقطاعي في بلاده. ويقال إنه احتفل مع طلبة المعهد اللاهوتي بعيد الثورة الفرنسية، واشترك معهم في غرس شجرة الحرية في أحد ميادين المدينة بين الرقص والتهليل والغناء … كان في هذه الفترة من حياته شديد الإعجاب بشخصية شيلر ورجولته ومثاليته. وقد عطف عليه الشاعر الكبير، وأرشده وأعانه على مصاعب الحياة، وإن لم يستطع هو ولا «جوته» أن يقدرا شاعريته حق قدرها. وقد توسط له شيلر — بعد أن أتم امتحان اللاهوت في مدينة شتوتجارت — في البحث عن عمل يكسب منه قوته، وأوصى به خيرًا عند السيدة شارلوته فون كالب التي كانت على اتصال بالحياة الأدبية؛ ليعمل مدرسًا خصوصيًّا لأبنائها، وسافر بالفعل للالتحاق بعمله في بيتها بمدينة فالترز هاوزن بمقاطعة تورنجن. وبذلك بدأ سلسلة العذاب والإخفاق التي سيقاسيها من مهنة التعليم الخصوصي البائسة.
ونشر له شيلر قطعة من روايته «هيبريون» في مجلته «تاليا»، وهي روايته الوحيدة التي سيعكف على صياغتها مرات عديدة. وسافر مع تلميذه الصغير الذي كُلف بتربيته إلى مدينة «يينا» — كعبة المثالية الألمانية في ذلك الحين — وهناك التقى بشيلر عدة مرات كما قابل الفيلسوف فشته وجوته الذي تجاهله في أول لقاء، ثم قابله بعد ذلك عدة مرات، ولكنه لم ينصفه، ولم يستطع أن يقدر موهبته، وأصر دائمًا في رسائله إلى شيلر على أنه من «تلك الطبائع المسرفة في التوتر والذاتية».
وفي منتصف شهر يناير سنة ١٧٩٥م تخلى عن عمله عند عائلة فون كالب، وذهب لمدينة «يينا»، وفي نيته أن يواصل دراسة الفلسفة، ويتقدم بعد ذلك للتدريس بجامعتها الشهيرة. واستمع إلى بعض محاضرات فشته، وتابع كتابة «هيبريون»، وتعرف إلى أخلص أصدقائه وأوفاهم، وهو أسقف سنكلير الذي رعاه في أزماته، وبذل بعد ذلك غاية جهده لإنقاذه من الجنون. ويبدو أنه سئم الفلسفة فجأة، واكتشف أنها تبعده «عن عمله الحبيب»، وتشغله عن الشعر وهو على حد قوله: «أكثر المشاغل براءة»، فغادر المدينة، وقفل راجعًا إلى بلدته نورتنجن التي قضى فيها النصف الأخير من ذلك العام، ولكنه لم يقبل على نفسه أن يكون عبئًا على أمه، فسافر إلى مدينة فرانكفورت؛ ليعمل مدرسًا خصوصيًّا في بيت رجل المال والبنوك جونتار. وهناك كان ينتظره أسعد لقاء وأعظم حب في حياته. رأى «سوزيته» جونتار ربة البيت وزوجة رجل الأعمال، فأحبها وعرف فيها قدره ومأساته وفرحته الوحيدة، وسماها ديوتيما على اسم الحبيبة في روايته التي كانت لا تزال تتعثر بين يديه، فشاء لها الحظ أن تنمو وتكتمل، أو على اسم «ديوتيما» الكاهنة الغامضة التي تُكلم سقراط وتعلمه أسرار الحب والحكمة في محاورة «المأدبة» لأفلاطون، وظهرت أولى علامات الحب المثالي الجارف في أغنية رقيقة كتبها سنة ١٧٩٦م تحت عنوان ديوتيما.
بدأت المحبوبة — أو كاهنة الحب المقدس كما كان يسميها — تبادله حبه، وتستمع إلى شعره، وتعزف له على البيان، بينما يشاركها بالغناء، وترسل نظرتها النافذة الحنون إلى أغوار حزنه، وتحاول أن تصرفه عن كآبته.
ورافقها في السفر عندما هربت مع أولادها فرارًا من الجيوش الفرنسية الغازية إلى دريبورج عبر مدينة كاسيل. وفي هذه الأثناء مات صديقه شتويدلن منتحرًا بعد أن طُرد من البلاد، واشتدت عليه المحنة، وأهداه هيجل قصيدته «إلويزس» التي تعبر عن دفء صداقته له (وستجدها بعد قليل على هذه الصفحات)، وظهر المجلد الأول من رواية هيبريون عند الناشر «كوتا». ثم اضطر أن يهجر وظيفته في بيت جونتار في منتصف شهر سبتمبر سنة ١٧٩٨م، بعد أن حاصرته الإشاعات ورقابة الزوج الغيور. ولجأ إلى صديقه سينكلير في مدينة هومبورج. وحاول هذا أن يخفف عنه جراحه، فصحبه معه في أسفار عديدة. وبدأ يكتب مسرحيته الوحيدة «موت أمبادوقليس» في صياغتها الأولى، كما جرب نفسه في بعض المقالات الفلسفية التي أكدت من جديد أنه لم يخلق للفلسفة. وفكر في إصدار مجلة أدبية، ولكن المشروع مات قبل ولادته، كما حاول أن يتقدم لجامعة بينا لإلقاء محاضرات في الفلسفة، فأوصدت الجامعة أبوابها في وجهه، ورجع إلى بلدته نورتنجن، وهو في أسوأ حال من الضعف وقلق الأعصاب، ولكنه استطاع أن يكتب أخلد قصائده، وأن يبلغ ذروة إبداعه الفني. وشق عليه أن يكون عبئًا على أمه المسكينة، فرجع إلى مهنته البائسة، وقبل العمل في بيت أنطون جونسباخ، وكان من تجار الأقمشة في مدينة «هاوبتفيل» بسويسرا، ولكنه لم يلبث أن هجر العمل بعد أن أخفق من جديد في تلك المهنة التي لم يخلق لها. ورجع إلى أمه في شهر أبريل سنة ١٨٠١م، وأقام فترة قصيرة في مدينة شتوتجارت، حيث تفاوض دون نجاح مع الناشر «كوتا» على طبع أشعاره. واضطر أن يلجأ للدروس الخصوصية من جديد، فقبل العمل في بيت القنصل الألماني في مدينة «بوردو» الفرنسية. وسافر إلى هناك في أواخر العام على قدميه عبر مرتفعات الأوفرن الخطرة التي كانت تغمرها الثلوج، ولكنه سرعان ما تخلى عن عمله الجديد؛ إذ يبدو أنه لقي نفس المعاملة التي جرحت كبرياءه في كل بيتٍ دخله — وكان المعلمون الخصوصيون يُعامَلون معاملة الخدم والأتباع — وتلقى نبأ وفاة حبيبته سوزيته جونتار التي كان يعلم أنها تعاني داء السل. ورجع في شهر يوليو إلى وطنه سائرًا على قدميه، ورآه الناس في مدينة شتوتجارت فذهلوا لمنظره. كان محطمًا ممزق الثياب أشعث الشعر، مضطرب الكلام، في حال من اليأس والارتباك لا نظير لها. وواصل إنتاجه على الرغم من مرضه وظهور بوادر الجنون عليه، فكتب عددًا من قصائده المتأخرة التي سماها «أغنيات الليل»، وعكف على ترجمة مسرحيتي «أوديب ملكًا»، وأنتيجونا لسوفوكليس، وبعض قصائد من شعر بندار. واشتد عليه المرض، وتأكد للجميع أنه يترنح على حافة الهاوية، فأسرع إليه الصديق الوفي سينكلير، وأخذه معه إلى مدينة «هومبورج»، وسعى له في الحصول على وظيفة أمين مكتبة في بلاط أمير المدينة الزاهد «فريدريش فون هومبورج»، وكان الصديق يدفع له مرتب الوظيفة من جيبه، ولكن محاولات الصديق لم تجدِ شيئًا، فقد ازدادت حالته سوءًا، حتى صار الأطفال يجرون وراءه في الشارع. وأدخلوه مصحة الأمراض العصبية في مدينة توبنجن سنة ١٨٠٦م، لكن حالته تدهورت، ويئس الأطباء من شفائه. وتطوع النجار تسيمر — وكان من هواة الأدب وأحباب الشعر — فتقدم للمصحة، وأعلن استعداده لإيواء المريض في بيته. وقال له الطبيب وهو يسلمه له إنه لن يعيش أكثر من سنة أو سنتين على الأكثر، ولكن المريض ظل يعيش في بيت النجار الطيب كالحالم أو كالميت ستًّا وثلاثين سنة … كان طوال هذه السنوات يتجول في باحة البيت في هدوء غريب، ويجلس بالليل أمام نافذته يتأمل النجوم. لم تفارقه طلعته الجميلة، ولم ينطفئ من عينيه الصافيتين ذلك البريق العجيب الذي كان يشع منهما، ولم تفارقه طفولته ونقاؤه وبراءته وحياؤه وانكساره، لكنه ظل غائبًا عن الوعي تمامًا إلى أن أنقذه الموت في اليوم السابع من شهر يونيو سنة ١٨٤٣م عندما مات وهو يجلس إلى جوار نافذته يتأمل النجوم.
•••
لنعد الآن إلى سؤالنا الذي بدأنا به.
ما العلاقة بين الفلسفة والشعر؟ ما الذي يجمع بين لغة العقل ولغة الوجدان؟ أهما جاران متباعدان أم لعلهما في البداية أو النهاية يلتقيان؟
لنترك لهلدرلين نفسه الإجابة على هذه الأسئلة، قبل أن نخوض في الحديث عن صلته بالفلاسفة، ومحاولاتهم المستمرة لتأويل شعره وفكره.
إن أوضح ما قاله وأبسطه وأشمله أيضًا قد ورد في روايته الشاعرية الوحيدة، وهي رواية «هيبريون»، وهو يأتي في إحدى رسائل هيبريون، بطل الرواية الذي يحكي قصة حياته واتحاده بالطبيعة الإلهية الخالدة وحبه البائس ﻟ «ديوتيما»، وكفاحه لتحرير وطنه «اليونان» من قبضة الأتراك. والرسالة إلى صديقه الألماني «بلارمين»، وهي تقع في الكتاب الثاني من المجلد الأول من الرواية، حيث تلتقي جماعة الأصدقاء في بيت المحبوبة ديوتيما، ويتصل بينهم الكلام عن أمجاد اليونان، وعظمة الأثينيين وفطرتهم الإنسانية الأصيلة التي صانتهم من الاستبداد، وعسف الطغاة، وجعلتهم بحق أمة الشعر والفلسفة والحوار. ويعرف هيبريون من حبيبته أن جبل «الأوليمب» على مسيرة يوم واحد، فيهتف في لهفة: لا بد أن نذهب على الفور إلى هناك. ويركبون السفينة في اليوم التالي، في الساعة التي يستيقظ فيها البشر على صياح الديك، ويبدءُون رحلة الحج إلى مهد الآلهة وربات الفن تحت شمس الربيع الخالدة، والحياة من حولهم وفي أعماقهم كالجزيرة التي ولدت في المحيط، وهبطت عليها أول بشائر النور والاخضرار.
ويتصل بهم الحديث عن مجد الأثينيين. ويقول أحدهم: إن الأصل فيه هو المناخ، ويقول الآخر: بل هو الفن والفلسفة، ويزعم الثالث أنه الدين ونظام الدولة والحكم. ويعترض هيبريون على هذه الآراء، فيقول: إن ما ذكره الأصدقاء هو زهرة الشجرة وثمرتها، لا تربتها وجذورها. لقد نشأ الأثينيون أحرارًا من كل قيد، فأتاحت لهم هذه النشأة أن يكونوا آدميين بحق، وأن يبلغوا الإنسانية الجميلة الكاملة. لم يقهرهم قانون الاستبداد، كالإسبرطيين، ولم يستعبدهم طغيان القانون، كشعوب الشمال، ولم تذل طفولتهم عبادة الآلهة الضخمة والفراعنة كالمصريين الذين تعلموا الركوع قبل أن يتعلموا المشي على الأقدام، ولقنوا الصلاة قبل أن يلقنوا الكلام … لقد نمت طفولتهم في حرية وبساطة، ولم يقهرها أحد على الدخول في مدرسة الحرب والنظام والقانون والعبادة والطاعة قبل الأوان.
وهكذا كان الأثيني إنسانًا، وهكذا تحتم أن يصبح رجلًا. خرج جميلًا من بين يدي الطبيعة، جميل الجسد والروح على السواء. وأول أبناء الجمال البشري والإلهي هو الفن. فبفضله يتجدد شباب الإنسان، ويحقق طبيعته الإلهية في صورة أو تمثال أو معبد يجسد به جماله أمام عينيه. هكذا خلق الإنسان آلهته؛ إذ كان في الأصل والمبدأ هو والآلهة شيئًا واحدًا وكيانًا واحدًا. وثاني أبناء الجمال هو الدين. فالدين في حقيقته حب الجمال. والحكيم يحب هذا الجمال الشامل غير المتناهي، والشعب يحب أبناءه الذين يظهرون له في صورة الآلهة المتعددة الأشكال. ولولا هذا الحب الذي بذله الأثينيون للجمال، ولولا هذا الدين لبقيت دولتهم أو مدينتهم الحرة هيكلًا عظيمًا خاليًا من الروح والحياة، ولظل فكرهم وسلوكهم كالشجرة المبتورة بلا جذور تمتد في الأرض ولا ذؤابة ترتفع للسماء.
كان الفن والدين إذن أبناء الجمال الخالد، ولكنهما كانا كذلك أبناء الطبيعة الإنسانية الكاملة. ومن يتأمَّل أعمال الإغريق في الفن، أو يقرأ أساطيرهم وخرافاتهم، لا يملك نفسه من الإعجاب بنزعتهم الإنسانية التي عرفت دائمًا كيف تحافظ على الحد والاعتدال، وكيف تصون نفسها عن التطرف والشطط، وهو عندهم أشنع الخطايا وأكبر الكبائر.
ولكن كيف استطاع هذا الشعب الأديب الفنان أن يصبح شعبًا فيلسوفًا، بل شعب الفلسفة الأصيل؟
لولا الأدب ما كانت الفلسفة. ويخطئ مَن يظن أن لا صِلَة بين صوت القلب الدافئ الحنون وبين صوت العقل البارد المتعالي. فالأدب — والشعر بوجهٍ خاص — هو مبدأ الفلسفة وغايتها. إنها تخرج منه كما خرجت منيرفا (أو أثينا) الحكيمة من رأس سيد الأدباء جوبيتر (أو زيوس). الأدب في صميمه ارتفاعٌ بالإنسان إلى وجودٍ أسمى، والفلسفة تهتمُّ في صميمها بالمبدأ الأول والغاية الأخيرة، ولا بد أن يصبَّ نهرُها البطيء المتعرِّج في نبع الأدب الحافل بالأسرار.
من لم يشعر ولو مرة واحدة في حياته بالجمال الخالص الكامل، من لم يحس بقوى الوجود وهي تتماوج وتتفاعل في نفسه كما تتماوج ألوان الطيف في قوس قزح، من لم يجرب في لحظات الدهشة والوجد والحماس كيف تتشابك الموجودات، وينسجم كل شيء مع كل شيء، فلن يكون في استطاعته أن يتفلسف أو يتشكك، ولن يقدر عقله إلا على الهدم لا على البناء؛ لأن المتشكك لا يرى النقص والعيب والتناقض فيما يعرض لفكره، إلا لأنه يحس انسجام الجمال الذي لا عيب فيه، ولا نقص، ولا تناقض، أو لأن لديه رؤية غامضة عنه، وإن لم يسعه التفكير فيه. إنه يزور عن الخبز الجاف الذي يقدمه إلى العقل؛ لأنه قد أكل حتى التخمة على مائدة الآلهة.
والكلمة العظيمة التي أطلقها هيراقليطس وهي الواحد المختلف أو المتفرق في ذاته «هين ديافيرون نيآوتي» لم يكن من الممكن أن يعثر عليها، أو ينطق بها إلا رجل إغريقي؛ لأن كنه الجمال موجود فيها، ولم يكن من الممكن أن توجد الفلسفة قبل أن يهتدي الإنسان إلى جوهر الجمال.
وجد الكل أولًا، فأمكن أن يوجد التحديد والتعيين. تفتحت الزهرة ونضجت، ثم استطاع الإنسان أن يحلل ويفسر. أعلن الجمال عن نفسه، تجلى للبشر، دبت فيه الحياة والروح، وجد الواحد غير المتناهي، ثم أقبل عليه الإنسان، فأخذ يحلل ويفرق بالعقل، وأخذ يجمع ما تفرق، ويؤلف ما حلل وجزأ. هكذا استطاع أن يعرف كنه الأسمى والأفضل والأعظم، واستطاع أن يجعل مما عرفه قانونًا يسري على مختلف مجالات العقل. وهكذا أتيح للأثيني أن يتفلسف، ولم يتح هذا للمصري ولا للشرقي. فالأول قد أحس المشاعر المتناقضة نحو السماء والأرض، شعر نحوها بالحب والكره والخشوع والخوف في وقت واحد. عاش متحدًا مع العناصر التي تؤثر عليه؛ لأنه عاش متحدًا مع نفسه وطبيعته، فسهل عليه أن يرى الجمال الخالد في كل ما يقع عليه بصره، أما الثاني فقد قهرته السماء الجبارة، والصحراء الشاسعة، والطاغية المستبد المخيف. تعلم أن يركع قبل أن يمشي، وأن يصلي قبل أن يتكلم. تعبد وأطاع وملكته الرهبة من الآلهة الضخمة والأسرار المقنعة والتماثيل الصامتة والملوك المتسلطين الظالمين. تفتتت نفسه أجزاء قبل أن تعرف الوحدة. ولهذا فهو لا يعرف شيئًا عن الواحد ولا عن الجمال. إيزيس عنده لغز صامت مخيف، بداية ونهاية، عدم مرتفع شامخ، لكنه فارغ خواء، ولا يخرج من العدم إلا العدم.
أما الشمالي فقد أكره على أن يكون رجلًا عاقلًا قبل أن ينضج فيه الإنسان. إن «الشمال» يجبره على العودة إلى نفسه، والانغلاق عليها قبل أن يستكمل عدته للسير على درب الحياة. إنه يطالب بالعقل قبل أن ينضج شعوره، ويحمل مسئولية الرجل قبل أن ينضج الطفل بين جوانحه. لم يترك له أحد الفرصة لتزدهر فيه الإنسانية، وينضج الإحساس بالجمال والوحدة. فالعقل، والعقل الخالص وحده هو الملك المتوج على عرش الشمال، ولكن العقل وحده لا ينتج عنه شيء عاقل، والفهم الذي لا يقترن بجمال الروح والقلب والشعور أشبه شيء ﺑ «الصبي»، الذي ينجر سورًا من الخشب كما لقنه معلمه ليقام حول الحديقة. إن عمل العقل كله نابع من الضرورة والحاجة، فهو ينظم ويرتب، وبذلك يحمينا من الخروج على المعقول أو الافتئات على الحق والعدل، ولكن الحماية من الطيش أو الأمان من الجور ليس هو أسمى ميزة يتحلى بها الإنسان. وما العقل بدون القلب والروح، إلا كرجل عيَّنه رب البيت؛ ليراقب عبيده، ويشرف على حسن أدائهم للعمل. فهو كالعبيد أنفسهم، يجهل الغاية من هذا العمل، وكل همه أن يصرخ في وجوههم، ويستحثهم على بذل الجهد والنشاط. وما من فلسفة تأتي من العقل وحده؛ لأن الفلسفة تزيد عن مجرد المعرفة المحدودة بالواقع الموجود. وما من فلسفة تخرج من الفهم الخالص؛ لأن الفلسفة أكبر من المطالبة العشواء بالتقدم المطرد في تناول المادة الممكنة بالتحليل والتفريق أو التأليف والتركيب.
لا بد إذن أن يجتمع العقل والقلب، ويتعانق الفهم والشعور، ويتحد النظام والجمال. فإذا تجلى مثال الجمال للعقل، إذا سطع عليه نور هذا المبدأ الإلهي الذي ألهم الإنسان ذات يوم أن الواحد متفرق في ذاته، وأن الكل ثابت ومتحرك، متشابه ومختلف مع نفسه، كف هذا العقل عن مطالبه العمياء، وعرف لماذا يعمل ولأية هدف أو غاية. وإذا أشرقت شمس الجمال على العقل كما يشرق نور الربيع على مرسم الفنان، لم يحلق بعيدًا، ولم يترك عمله الضروري، بل أمكنه أن يفكر في يوم يحتفل فيه بالعيد، ويتجول مرحًا شابًّا في نور الربيع يوم يتذكر طبيعته الإلهية، ويتذكر القرابة الحميمة التي كانت تؤلف بينه وبين الآلهة والطبيعة والبشر، وتجعل الإنسان مركز العالم، والكأس التي في خمرها يذوب الآلهة والبشر، والسماء والأرض، والأبطال والرجال، والحاضر والخلود.
•••
يتضح من العبارات السابقة أننا أمام شاعر غير بعيد عن الفلسفة. فماذا كانت علاقة هذا الشاعر بالفلسفة نفسها؟ وماذا كان موقفه من أضخم بناء عقلي في تاريخ الفكر الحديث، وهي المثالية الألمانية التي عاش في خضمها وعاصر رجالها وتأثر بها، وأثر فيهم بغير جدال؟ لقد اتصل ﺑ «فشته»، وسرعان ما تمرد عليه، وصب اللعنات على الطغيان والطاغية اللذين تمثلا له في صورة الفلسفة والفيلسوف، وجمعت الصداقة بينه وبين «هيجل» و«شيلنج» بضع سنوات من حياته قبل أن يتفرقوا كلٌّ في طريق. لنبدأ بصداقته لهيجل وشيلنج قبل الحديث عن صلته بفشته.
دخل هلدرلين المعهد الديني في مدينة توبنجن في شهر أكتوبر سنة ١٧٨٨م. واستطاع بعد سنتين أن يحصل على شهادة الأستاذية «الماجستير» في اللاهوت. وكانت دراسته الأولى في هذا المعهد تشمل المنطق والفلسفة العملية، وما بعد الطبيعة، والتاريخ، والرياضة، والفيزياء، واللغتين اليونانية، والعبرية. ثم اتجه إلى اللاهوت الخالص، فأخذ يتعلم الأصول والجدل والأخلاق وتفسير النصوص، وأصبح من حقه أن تصرف له كل يوم قنينة من النبيذ، بشرط أن يصرف وقته كله للاهوت.
وكان هذا المعهد في صرامته وجهامته أشبه بالدير، بل أشبه بالسجن. فأسواره كأسوار السجون، وحجراته الرطبة الخشنة كالزنزانات التي ينفذ المطر والريح والثلج من سقوفها المتداعية، ونوافذها الخربة. وكانت وجبات الطعام دروسًا يومية في الصبر على التقشف والجوع، وعيون الرقباء تتجسس على الطلبة، وترصد حركاتهم وسكناتهم، فلا يملكون إلا أن يتكوموا على بعضهم البعض؛ ليتقوا البرد، ويتعلموا دروس اللاهوت المرة. كان كل شيء في هذا المعهد يثير ثائرة الشاعر الرقيق، ويجرح كبرياءه. ولولا توسلات أمه المسكينة، ولولا أن الأقدار ساقت إليه زميلين سيلمع نجماهما بعد ذلك في سماء الفلسفة لما احتمل هذه الحياة التي لا تطاق، ولا صبر على تزمت أساتذة اللاهوت أو حفاري القبور في توبنجن كما كان يحلو له أن يسميهم.
كان أحد هذين الزميلين هو «هيجل» الذي قاسمه حجرته في المعهد. وكان الآخر هو «شيلنج» الذي يصغرهما بأربع سنوات، ويلفت إليه الأنظار بنبوغه المبكر، وقصر قامته، وضآلة حجمه، واعتداده الشديد بنفسه، وتباعده عن زملائه. وقد سعى إليه هلدرلين، فتعرف عليه وقربه منه، وجمعت بينهما صداقة حميمة امتدت من خريف سنة ١٧٩٠ إلى سنة ١٧٩٣م، حين تفككت عراها، وحل محلها نوع من التقدير والاحترام، الذي لا يخلو من الجفوة والكبرياء. أما الصداقة التي ألفت هلدرلين وهيجل، فقد كانت أشد عمقًا وأكثر دفئًا وأطول عمرًا من صداقته لشيلنج (إذ استمرت حتى نهاية القرن). ولم يكن السبب في ذلك هو تشابههما في السن، بل لعله يرجع إلى اختلاف موهبتهما وطباعهما — والضد يسعى إلى ضده كما يقال — كما يرجع إلى نشأتهما في بلد واحد غرس فيهما مزاجًا واحدًا وتقاليد مشتركة، وإلى عاطفة الحب الجارف الذي كان يحمله كل منهما لصاحبه.
ألف الحب والأمل والطموح بين قلوب الأصدقاء الثلاثة. كانوا يجتمعون في حجرة هلدرلين، فيقرأ عليهم شعره أو يتحدثون عن مبادئ الثورة الفرنسية التي ألهبت نفوسهم شوقًا إلى تحرير بلادهم من الفساد والطغيان، أو يطالعون أفلاطون وكانط ورسائل ياكوبي عن مذهب اسبينوزا. وكان من قدر هذه الصداقة الحميمة — وفي كل صداقة عظيمة قدر — أن تؤثر على روح العصر كله، كما أثرت على الحياة الشخصية والعقلية لكل واحد منهم.
كانت بالنسبة لهيجل أكثر الصداقات دفئًا في شبابه. وكان هلدرلين يحس الراحة والهناء كلما قابل هيجل. وليس أجمل من تواضعه حين يعترف بذلك فيقول: «إنني أحب رجال العقل الهادئين؛ إذ يستطيع الإنسان أن يهتدي برأيهم كلما التبس عليه الأمر في علاقته بنفسه وبالعالم.» وليس من المبالغة أن يقال إن الأساس الوجودي الذي تقوم عليه فلسفة هيجل، ويكثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة — لا يمكن أن يفهم، إلا إذا فهمت صلته الشخصية بهلدرلين. أما هلدرلين نفسه، فيعترف في رسالة له إلى هيجل بعد خروجهما من المعهد بأنه على يقين من استمرار صداقتهما إلى الأبد. ثم يضيف في حسرة: «كثيرًا ما كنت روحي الملهم. أشكرك جزيل الشكر. إني أشعر بهذا شعورًا تامًّا منذ فراقنا. لا زلت أتمنى أن أتعلم منك أشياء، وأخبرك في بعض الأحيان بأحوالي … يجب علينا من حين إلى حين أن ننتبه إلى أن لكلٍّ منا عند صاحبه حقوقًا واجبة.»
وقد يدهش القارئ إذا عرف أن الفيلسوف — الذي لا يكاد يقرأ له حتى يتصبب العرق على جبينه، وربما تشكك في قواه العقلية — قد أهدى صديقه الشاعر قصيدة تحمل من الرقة والدفء والحنان ما يندر أن نصادقه قبل كتاباته المخيفة. استمع إليه وهو يقول له:
وافترق الأصدقاء، وسار كلٌّ منهم في طريق. سار هلدرلين — كما يقول في قصيدته عن الاحتفال بالسلام — على طريق «الروح المزدهر»، الذي أحس بأنه يسري في «الكل»، الذي يحيا في جميع الكائنات، ويؤلف بين الطبيعة الإلهية وأرواح السماويين الخالدين والأبطال والبشر الفانين في وحدة واحدة. ومضى هيجل على طريق «الروح المطلق»، الذي تنتهي عنده الأضداد، ويتحقق السلام الأخير. أما شيلنج، فاختار درب الفيلسوف المتصوف الذي يحلم ﺑ «كنيسة يوحنا»، ولكنهم على الرغم من هذا التفرق قد اشتركوا في نسيج واحد قدم له كلٌّ منهم خيوطه. ويصعب أن نسمي هذا النسيج المشترك باسم محدد، ولكن لعلنا لا نجاوز الصواب كثيرًا إذا سميناه «الفكر الديالكتيكي» أو الجدلي.
لقد أسهم كل منهم في هذا النسيج بالخيط الذي يميزه عن صاحبه، هلدرلين بالبراءة والخشوع المطلق، وشيلنج بالتفكير الجسور الدقيق الحاد، وهيجل بالبناء المذهبي الضخم والقدرة الخارقة على الاستدلال والتمحيص. وتأثر الثلاثة في مبدأ الأمر بلغة هيردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) المتدفقة، ومنهجه العضوي والحيوي في التفكير. ثم شجعتهم فلسفة فشته المثالية المطلقة، ونظريته الضخمة المتعسفة عن العلم (وكان يقصد به الفلسفة)، وأمدتهم بالمران والقدرة على مواجهة الحياة على اختلاف صورها. وليس التفكير الديالكتيكي إلا مواجهة الحياة المتطورة المتغيرة من خلال التوتر والصراع بين قطبين متضادين، أي إدراك الصيرورة والتحول الناجم عن هذا الصراع بين الطرفين، بحيث يتحقق الطرف أو المبدأ الثالث الذي يصالح بينهما ويتجاوزهما إلى صراع آخر جديد. ولم يكن هذا التفكير الديالكتيكي منهجًا طبقه الأصدقاء الثلاثة كلٌّ في مجاله، بقدر ما كان الفعل الفكري الأصيل الذي جمع بينهم. ومن طبيعة هذا التفكير المتغير المتطور تطور الحياة نفسها أن يفهم العقل أو الروح فهمًا تاريخيًّا، أي إنه لا يهتم إلا بالتاريخ؛ لأن التاريخ هو جوهره وقوامه.
يقول هلدرلين في قصيدته السابقة الذكر عن الاحتفال بالسلام: إن الروح العظيم يفض صورة الزمان. ويتطرق شيلنج إلى المعنى نفسه حين يقول إن كل لحظة خاصة من لحظات الزمان هي كشف عن جانب خاص من الله يكون مطلقًا في كل واحد منها.
وهكذا يفضي التوتر بين المرحلة الأولى (وهي مرحلة الوجود البسيط الخالص الذي لم يتميز أو لم يتفتح بعد) والمرحلة الثانية (وهي مرحلة الوجود الذي يتفكر في ذاته، ويتبلور على نفسه) إلى مرحلة ثالثة يتم فيها التصالح والسلام في الوجود. وهكذا أيضًا يمكننا أن نتصور هذا الطريق بخطواته الثلاث التي سارها هيجل وشيلنج وهلدرلين كلٌّ على طريقته، وبحسب موهبته بالتأمل أو الرؤيا أو الشعر، وبالعقل المجرد أو الحدس المتصوف أو القلب الملهم.
لا شك أن هذا تبسيط مخل للطريق المعقد، الذي لا حد لتعدد أشكاله ومستوياته، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام أن الأصدقاء الثلاثة يشتركون في الغاية الأخيرة، والهدف من هذا الطريق، وهو السلام الذي ينتهي عنده موكب الصراع، وتتحقق أمنية العقل والقلب.
ونعود فنسأل: كيف سيبدو هذا السلام السماوي الهادئ الجبار، كما يسميه هلدرلين؟ في أي مكان أو زمان يفي بوعده ويبني بيته؟ سيقول الأصدقاء الثلاثة: في مملكة الله. وسيرى كل منهم هذه المملكة على طريقته في الرؤية والتفكير.
إن هلدرلين يكتب إلى هيجل في صيف سنة ١٧٩٤م — أي بعد تسعة شهور من وداعهما لمدينة توبنجن — فيذكره بكلمة السر التي افترقا عليها، ويؤكد أنها ستجمعهما بعد كل تحول وتغير واغتراب. ولم تكن كلمة السر هذه سوى «مملكة الله». ولم تكن مملكة الله في تصورهم شيئًا مجردًا متعاليًا على الواقع، بل شيئًا يستطيع كل واحد منهم أن يشارك فيه بجهده، وإيمانه، وحبه، وأمله. ها هو ذا هيجل يصف في شبابه هذه المملكة الإلهية الصغيرة، فيقول إنها دائرة الحب والأفئدة التي تتنازل عن حقوقها الخاصة تجاه بعضها البعض، بحيث لا يجمع بينها غير الإيمان المشترك والأمل المشترك.
ويبحث الأصدقاء الثلاثة عن نواة هذه المملكة الإلهية، فيجدونها في الفكرة التي قال بها قبلهم «لوثر» و«كانط» و«هيردر» عن «الكنيسة غير المنظورة». ويتلقفون الفكرة، ويتعمقونها كلٌّ من جانبه. ويكتب هيجل إلى شيلنج في سنة ١٧٩٥م فيقول: «لتأتِ مملكة الله، ولنعمل بأيدينا على تحقيقها، ولا ندعها تسترخي فارغة في حجرنا. ليبقَ العقل والحرية دائمًا قدرنا، وكلمة السر بيننا، ولتكن الكنيسة غير المنظورة هي النقطة التي نلتقي عندها.»
ومملكة الله هذه لا صلة لها بمملكة الأرض ودولتها. ولقد أعلنها السيد المسيح قوية أمام بيلاتوس عندما قال إن مملكتي ليست من هذا العالم. وهي كذلك لا تتصل بالكنيسة المنظورة، ولا شأن لها بطقوس العبادة؛ لأنها من شأن العقل والقلب والحرية.
ستأتي مملكة الله. سيشدو بها هلدرلين بعد ذلك في حماس وحنين لا نظير له في روايته الوحيدة «هيبريون». سيقول: إن الدولة لن تقيمها، بل سيمنحنا إياها ربيع الشعوب، وتدثرنا في سحابة ذهبية، وتحملنا بعيدًا فوق الموت والفناء. وسندهش ونصاب بالذهول، وسنسأل نحن التعساء الذين طالما اشتقنا للربيع: أحقًّا صارت مملكة الله لنا؟
ولكن متى يتم هذا؟ عندما تبزغ الكنيسة الجديدة، حبيبة الزمان وأجمل بناته وأصغرها من بين الأشكال القديمة البالية. عندما يستيقظ الإحساس بالإله في قلب الإنسان، فيعيد إليه الشعور بألوهيته وشبابه ونضارته وبراءته. إن هلدرلين يعترف أنه لا يحس بها، ولا يمكنه أن يتنبأ بموعدها، ولكنه على يقين من أنها ستأتي. فالموت هو رسول الحياة. وما دمنا نرقد اليوم كالمرضى، ونشعر بدبيب الموت في نفوسنا وأجسامنا، فإن هذا هو بشير الصحوة القريبة والربيع الجديد:
ويطلب هلدرلين من أحبابه وبني وطنه وعصره أن يتذرعوا بالهدوء والسكون. فالسكون هو شرط التجدد الروحي المأمول. وكلاهما موصول بالقدرة على الإنصات وحسن الاستماع لصوت الوجود الحق، أو صوت الخالدين السماويين، الذي لا يفنون ولا يبخلون. ولا بد للاتحاد مع هؤلاء الخالدين أن نكون قادرين على الانسجام معهم، أي أن يتجانس الصوت البشري مع الصوت الإلهي في نغم واحد وسر واحد. ولا بد أيضًا أن نحسن الإنصات؛ لكي ندخل في الحوار الشجي، ونعود حوارًا كما بدأنا ولغة واحدة هي لغة البراءة والقداسة والحب؛ لأنها هي لغة القلب. ومن لا يحسن الإنصات، فلن يحسن إلا النزاع والخلاف:
وبدأت الكلمات تأتي من هنا ومن هناك. وبلغت المحبة ذروتها في الحوار، فهو روح الحياة وحياة الروح:
ستتحقق إذن مملكة الله على الأرض، ويتحقق معها الروح الشامل عندما تتحد النغمة الوحيدة في النغم العام، ويذوب الفرد في تطور الكل ونمائه، وتصبح لغة الحب هي لغة سكان الأرض:
هنالك يزدهر الروح حولنا نحن البشر. وحين تأتي هذه الساعة تصبح شريعة المحبين هي شريعة السلام:
تلك هي مملكة الله التي تراود خيال الشاعر. مملكة ستديرها شريعة الحرية والحب والوفاء التي يخضع لها الخالدون، وستأتي في المستقبل عندما ينجلي ليل المحنة، وينتبه البشر إلى الإله الكامن فيهم، وفي كل ما يحيا من حولهم، ويتعلمون لغة الحب والحوار، وينتظرون المنقذ الذي سيحررهم في ثقة وصبر واطمئنان «ففي أوقات الخطر تتجلى سبل النجاة». وقد عبر هلدرلين عن هذه المملكة المقبلة بشعر صادر عن القلب، كما عبر عنها صديقاه بالتأمل المجرد أو بالرؤيا والحدس. وآمن ثلاثتهم بأن مملكة الحب والحق والعدل لن تهبط من السماء، بل لا بد أن تنبع من إرادة الفرد، ولا بد أن يبنيها الرجال بالعرق والجهد.
تفرق الأصدقاء الثلاثة كما رأينا، وآثر الشاعر أن يسير وحده ويتبع نجمه. لم يكن السبب في هذه الفرقة أن هلدرلين كان بطبعه ملولًا خجولًا، لا يكاد يستقر في مكان أو يطمئن لإنسان، وأن الكآبة والغرب والوحدة كانت جراحًا غائرة في قلبه تستعصي على كل دواء، بل إن السبب الحقيقي يرجع قبل كل شيء إلى موقفه من الفلسفة. لقد أقبل على دراستها في صبر وعناد، وراودته — كما ذكرنا — في فترة من فترات حياته فكرة تعليمها في جامعة «يينا». ومن حسن حظ الشعر أن الجامعة أغلقت أبوابها في وجهه. وجرب نفسه في كتابة بعض المقالات والتعقيبات الفلسفية فلم يكن لها صدًى في نفسه، ولا في نفوس الناس. واكتشف في نهاية الأمر — كما اعترف بذلك في شهر يناير سنة ١٧٩٩م في سياق كلامه عن «صنعة الشعر العذبة» — أن الفلسفة قد أضنته إلى حد اليأس، ووصفها بأنها نوع من السخرة، وأن الحياة معها أشبه بحياة الجنود في المعسكرات. كان كلما انصرف إليها شهق قلبه حنينًا إلى «عمله الحبيب»، كما يحن الرعاة السويسريون أثناء فترة تجنيدهم إلى المراعي والسهول والقطعان. وكان يسأل نفسه على الدوام: لماذا تحرمه الفلسفة من الطمأنينة والسلام؟ ولماذا يكون كالطفل المسالم الطيب عندما يفرغ لإلهامه العذب، وينصرف إلى الشعر وهو أكثر الأعمال براءة؟
لا عجب إذن أن يعلن سخطه على «طغيان» الفلسفة، ويتمرد على قيودها، ويضيق بلغتها، ويهرب بنفسه وموهبته من حيلها وفنونها وأفكارها المجردة.
ولعل المسئول عن هذا السخط هو فشته (١٧٦٢–١٨٤٤م) الذي كان «روح مدينة يينا»، وزعيم الفلسفة في ذلك الحين. قدمه صديقه «مانويل نيتهامر» إلى بعض رجال الفكر الذين يشغلون المدينة بأخبارهم. ويحدثنا هذا الصديق في مذكراته عن اجتماع ثلاثة منهم في إحدى أمسيات الصيف في بيته. وكان هؤلاء الثلاثة هم فشته وهلدرلين ونوفاليس الشاعر الرومانتيكي الرقيق الحزين، الذي كان في ذلك الحين في الثالثة والعشرين من عمره. ولسنا ندري ماذا تم في هذا اللقاء، ولكن إشارة واحدة من نيتهامر عن النصيحة التي وجهها إليه صديقه هلدرلين بأن يحمي نفسه من الأفكار المجردة يمكن أن تلقي شيئًا من الضوء على رأي شاعرنا في الفلسفة والفلاسفة.
وطبيعي أن لا يكون هذا اللقاء العابر هو سبب سخطه على الفيلسوف الكبير. فقد سبق أن أبدى إعجابه به، وتحمس لفلسفته إلى حد أن قال لهيجل في إحدى رسائله التي أرسلها إليه في شهر نوفمبر سنة ١٧٩٤م إنه لا يعرف له نظيرًا في عمقه وطاقته العقلية الفذة. بيد أن هذه العبارة كانت بنت اللحظة. فلم يلبث أن شعر بآفة التسلط الكامنة في هذه الفلسفة المجردة. ها هو ذا يعترف لهيجل في شهر يناير سنة ١٧٩٥م بأنه اشتبه في جمود فشته وتزمته، وبدا له أن الفيلسوف يقف في مفترق الطرق. ولعل شبهة التزمت (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالنزعة الدجماطيقية) أن تكون من أصدق وأقسى ما يوجه إلى هذه الفلسفة المثالية المتطرفة التي تقوم في أساسها على أن «الأنا» هي التي تضع الواقع أو الوجود الخارجي. ومهما حاول فشته أن يدفع التهمة، فإن محاولته تستند إلى نفس الفرض الذي بنى عليه فلسفته.
مهما يكن من شيء، فإن الحوار الفكري الجاد لم يأتِ إلا بعد مرور فترة طويلة على لقائه بالفيلسوف في بيت صديقه، وذلك عندما كتب في أواخر سنة ١٧٩٩م مقاله الذي لم يتمه عن الدين. حاول هلدرلين في هذا المقال أن يرد على فلسفة فشته في المطلق، ويناقش فكرته عن أن الذات هي التي تضع الوجود، أي إن الوجود لا قيمة له إلا من جهة تأكيده لوجود الذات. أما فكرته عن الذات الأخرى أو «الأنت» التي اعتبرها مجرد «وسيط لتأدية وتوضيح واجباته الأخلاقية»، فقد رد عليها هلدرلين بفكرة أخرى مطلقة، نابعة من تفكيره الإلهي العميق عن العلاقة الحميمة التي تجمع الأنا والأنت. ولا بد من باب الإنصاف أن نقول إن هذه الفكرة كانت جديدة كل الجدة في تاريخ الفلسفة، وإنها انتظرت أكثر من قرن ونصف قرن، حتى تناولها الوجوديون في الزمن الحديث — وبخاصة هيدجر وسارتر وياسبرز — فتعمقوها إلى أبعد حد في فكرتهم عن الوجود من أجل الآخرين.
لننظر في كلمات هلدرلين التي عبر بها عن فكرته الفلسفية تعبيرًا يلائم حقيقة قلبه وحياته. فإذا أراد الإنسان في رأيه أن يتحدث عن الألوهية، وأن يكون حديثه من القلب لا من القراءة أو الذاكرة أو بحكم الصنعة، فلن يستطيع بالرجوع إلى نفسه وحدها أو الموضوعات الخارجية المحيطة به أن يتبين أن في هذا العالم روحًا أو إلهًا، أو أنه يزيد عن كونه مجرد جهاز آلي ضخم، يتحرك حركة مستمرة، وإنما يمكنه أن يتبين هذا لو اتصل بما يحيط به، ومن يعيشون معه اتصالًا حيًّا مترفعًا عن الحاجات الضرورية. من هنا يكون لكل إنسان إلهه الخاص، بقدر ما تكون له دائرته الخاصة التي يعمل فيها. وبقدر ما يشترك عدد من الناس في دائرة واحدة يعملون فيها، ويتعذبون بصورة إنسانية — أي بصورة تسمو على كل حاجة ضرورية — بقدر ما يشاركون في الألوهية. ويستطيع الإنسان أن يضع نفسه في موضع الآخر، كما يستطيع أن يجعل الدائرة التي يحيا فيها الغير دائرة خاصة به، أي إنه لن يعجزه أن يقر بطريقة الإحساس بالألوهية وتصورها على نحو ما تتأتى من العلاقات الخاصة التي تربطه بالعالم الذي يعيش فيه — بشرط ألا يكون هذا التصور وذلك الإحساس صادرين عن حياة متطرفة في العاطفة أو الغرور أو العبودية … هكذا تبدأ تجربة الروح أو الإله على حدود الفرد. وحيث تتفتح هذه الحدود على القدر والكل والأنت تتم تجربة المطلق.
الواقع أن هذه الفكرة لا تختلف عن فكرة «فشته» إلا في الظلال الطفيفة التي تكسوها. فكلاهما يرى أن الإنسان لا يجرب واقعه إلا من خلال لقائه مع شريكه أو مع الآخر كما تقول الفلسفة المعاصرة. غير أن نقطة البداية التي ينطلقان منها تختلف عند الفيلسوف عنها عند الشاعر. فالفيلسوف يعنيه أن «يصنع» الإنسان نفسه عن طريق تحقيق مجال طاقته أو دائرته الخاصة، أي إنه لا يشعر بتحقيق طاقاته وإمكاناته إلا بالاصطدام بمجال آخر أو دائرة أخرى. إنه «يضع» نفسه — بالتعبير الشائع في المثالية الألمانية — عندما يقيم «الوضع المضاد» له.
أما الشاعر فينصب اهتمامه على اللقاء الذي يتم بين الأنا والأنت التي يضعها القدر في طريقه، بحيث يبرز «الثالث» أو المطلق الذي «يقوم بيني وبينك». وليس لنا أن نتوقع من الشاعر أن يتولى هذه الفكرة بالتحليل والتفصيل، فما خُلق الشعراء لشيء من هذا. ولهذا نجده يقف فجأة عند هذا الحد، بينما يمضي «فشته» مع فكرته على ترتيب دقيق، حتى يصل بها إلى الغاية المرسومة لها في فلسفته وهي «الفعل».
«هكذا يجب علينا أن نقدم التضحية للألوهية التي تجمع بيني وبينك، فنحتفل باللطف والنقاء اللذين يتمثلان في حديثنا عنها إلى بعضنا البعض، كما نحتفل بالروح الأبدي الذي يربط بيننا.» وتعود هذه الصورة في رسالة متأخرة إلى صديقه «بولندروف» بعد أن تغيرت قليلًا واكتسبت شيئًا من العمق: «أنا في حاجة إلى أنغامك النقية، إن الروح التي تؤلف بين الأصدقاء، ونمو الفكرة في مجرى الحديث وعلى صفحات الرسائل المتبادلة بينهم أمور لا يستغني عنها الفنانون. ولو لم يكن الأمر كذلك ما بقيت لنا فكرة، وظلت ملكًا للصورة المقدسة التي نكونها».
والفكرة الأصلية هنا واضحة متميزة، على الرغم من غموض العبارة وبخلها. فالشاعر يكرر رأيه الذي عرفناه، ويزيده قربًا. إنه يؤكد أن تجربة المطلق أو الروح التي تجمع بين الأصدقاء ليست تجربة مجردة أو معلقة في الفراغ أو فوق السحاب، بل هي تجربة «بيني وبينك» يمكن استخلاصها من الأحاديث العادية التي تدور بين الناس كل يوم. أما الصورة المقدسة التي نكوِّنها بأنفسنا، فهي تشير إلى بُعد أسطوري عميق وجديد. فلعلها تريد أن تقول إننا نحن البشر نشارك في عمل المبدع الأعظم، ونسهم في جهود القوى الخلَّاقة، وفي «نسج صورة الزمان التي يرسمها الروح الأكبر»، على نحو ما تقول قصيدة «الاحتفال بالربيع» التي أشرنا إليها من قبل. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نقف من الخالق المدبر موقف الطاعة والخشوع، ونتأمل حكمته المتجلية في الطبيعة والروح.
•••
هذه هي منزلة هلدرلين من المثالية الألمانية، وصلته بروادها الثلاثة الكبار، عرضتها بإيجاز شديد أرجو ألا يكون مخلًّا. وقد رأيت بغير شك أن هلدرلين يفكر تفكير شاعر يبتعد جهده عن التجريد، ويلتزم دائمًا بالواقع المجسد، ويرتبط بتيار التحول والصيرورة في الحياة على اختلاف صورها وألوانها. إنه يصغي على الدوام لدقات قلب الحياة، ويرصد عمليات التغير والنمو التي تتم في تيارها الدافق. وليس من طبيعة هذا الفكر أن يكون مذهبيًّا مغلقًا أو نهائيًّا تامًّا في ذاته؛ لأنه في حالة نشوء مستمرة. ولا يهم صاحبه أن يشيد بناء من التصورات والأفكار يرتفع طبقة فوق طبقة، بقدر ما يهمه أن يكون في حركة متصلة، ويتغلغل فيما يحيط به من أسرار القدر والوجود، ويتتبع الخيوط التي يتألف منها نسيج الحياة. وهو لهذا كله فكر يعرف حدوده — وتلك هي أول خطوة على درب المتواضعين الخاشعين الذين أعطاهم الله موهبة الطاعة والانتظار، وأنعم عليهم بالقدرة على التعلم من الطبيعة والإنصات لصوت الوجود — إنه يقف من هذه الطبيعة الإلهية موقف العبد الخاشع والتلميذ المطيع، ويحاول أن يتعلم منها، ويغري الناس بأن يحبوها ويتعلموا منها كما يقول في قصيدته عن بلاد اليونان:
وهو يحاول أن يصل إلى الروح الموجود في كل ما هو حي، وإن كان يعلم أن هذا الروح يحجب وجهه عن فضول البشر، كما يحسن أنه «قريب وعصي على الإدراك»، ولكنه لا يعبر عن هذا الروح بالتصورات والكلمات المجردة، وإنما ينظر إليه بعين الشاعر، فيرى سحره المنثور على جسد الأرض، ويصور انعكاساته على وجدانه بلغة مكثفة وصور حية توشك أن تكون محسوسة وملموسة. فإذا أراد أن يعبر عن الأمل أصبح عنده وهجًا حيًّا ملموسًا، وإذا أراد أن يصور السلام لجأ للحدث المحسوس الذي تلمحه العين، ويهتز له القلب. انظر إليه مثلًا وهو يخاطب الخالدين:
لهذا كله يقترب هذا الشعر من روح الفلسفة، وإن ابتعد الشاعر عن الفلاسفة، وأعرض عن نهجهم المرتب ولغتهم المجردة، ووصفهم بأنهم طغاة متزمتون، وتسلل في جنح الليل هاربًا من مدينتهم «يينا» بعد أن شعر بوحدته وبؤسه أمام قصرهم الفخم الذي وضعت عليه لوحة «المثالية الألمانية».
ولهذا أيضًا نوه بعض الشراح بالقرابة الروحية التي تجمع بين هلدرلين وبين المفكرين السابقين على سقراط. فقد كانوا مثله يفكرون في الطبيعة، ويحيون في قلب الأسطورة، ويدهشون لمعجزات الوجود الممتدة أمام أبصارهم. وكانوا لذلك مفكرين شاعريين يعبرون عن انبهارهم بالوجود بلغة الصورة والرمز والخيال، كما كان فكرهم هو الفجر الذي سبق ظهور الفلسفة بمعناها الدقيق. فإذا رأينا واحدًا منهم مثل هيراقليطس يصور الروح أو العقل أو اللوجوس في صورة البرق الذي يسطع في السماء، فإن هلدرلين — الذي أعجب به وأحبه وأقام فكره على أساس كلمته المشهورة عن الواحد — لا يبتعد عنه كثيرًا حين يرسم التفكير — في قصيدته عن بلاد اليونان — على هيئة الأثير الرفاف، ويصور الحب بلون البنفسج الأزرق الذي يكسو الأرض:
فكر هلدرلين في الوجود نفسه، ولم يحبس نفسه في أسر الموجود. وعلينا أن نفك قيودنا، وننصت لندائه إن أردنا حقًّا أن نخرج من محنة الليل الذي يدثر الكون. فالوجود قريب منا كما يقول الشاعر في قصيدة «العودة»، ولكنه في نفس الوقت بعيد، ولذلك لا نكف عن البحث عنه.
والشاعر يتغنَّى بالوطن في أكثر من قصيدة. والوطن الذي يتغنَّى به ليس هو الوطن الجغرافي، بل هو القرب من الأصل والمنبع. وهو يتمنَّى أن يعود إليه؛ لأن من العسير — كما يقول في قصيدة «التجوال» — أن يهجر المكان من كان قريبًا من الأصل، ولأن التغني بالوطن هو صنعته ورسالته، ولأن العودة للوطن ليست إلا القرب من أصل كل الموجودات، أي من الوجود نفسه. وهو لا يقترب منه بالشعر فحسب، بل إن الشعر نفسه هو القرب من الأصل؛ لأنه هو الذي يعبر عن فرحة القرب من سره الذي يتجلى ويحتجب، ويهب نفسه ويبخل بها في آن واحد. بهذا تمتزج الفرحة بالحزن، وتختلط السعادة بالهم.
ولكن هذا الشعر لا «يقول» شيئًا عن الأصل. وكيف يتسنى له أن يسمي ما لا سبيل إلى تسميته؟ فليكن الشعر إذن غناءً، لا بل عزفًا على الأوتار. وليكن في نفس الوقت فكرًا أو تفكُّرًا فيما يقال عن الأصل والسر.
والشعر عند هلدرلين هو أكثر المشاغل براءة، ولكنه في نفس الوقت أشدها خطرًا.
فهو شكل من أشكال اللعب، يخلق عالمه من الصور والأخيلة بحرية وبلا قيد، ولكنه يخلقها من «مادة» اللغة، واللغة هي أخطر ما أُعطي للإنسان، بها يخلق ويبدع، ويقوض ويحطم، وعن طريقها يرجع من جديد إلى الأم والمعلمة الخالدة التي لقنته أسمى ما لديها من جوانب الألوهية، وهو الحب الذي يرعى ويصون، ولكن الشعر لعب خطر أيضًا؛ لأنه يجمع البشر ويضمهم في «أساس» وجودهم، ويشعرهم بالراحة في ظله، ويبعدهم عن مشاغل الحياة اليومية وضجيجها ومتاعبها.
لكن الشعر يقال وينطق بالكلمات. واللغة إذن هي مجال «أكثر المشاغل براءة» وهي في نفس الوقت أخطر ما وهب الإنسان من خيرات — لا لأنها تستطيع بالكلمة أن تعبر عن أصدق الأشياء وأسماها، أو أحقرها وأدناها، بل لأنها هي الشهادة على انتمائه للموجود بكليته، أي الشهادة على إمكان التاريخ نفسه. وهي كذلك أخطر ما وهب الإنسان؛ لأنها تتحمل مسئولية الكشف عن الوجود، فتشعله حماسًا إذا حضر، أو تملؤه همًّا وخيبة أمل إذا غاب.
واللغة ليست مجرد أداة للتفاهم، ومن يقول بهذا يبتعد عن حقيقتها وجوهرها. إنها هي التي تكفل للإنسان إمكانية أن يظل منفتحًا للوجود، وبهذا تضمن له أن يصبح موجودًا تاريخيًّا.
وحيث تكون اللغة يكون العالم، أي تكون دائرة الأعمال والقرارات والمسئوليات، وكذلك دائرة الضلال والضجيج والعسف والعطب والاضطراب.
اللغة ليست أداة، وإنما هي «الحدث» الذي يتحكم في أعلى إمكانات الإنسان. وماهية الشعر لا يمكن على هذا الأساس أن تفهم بالرجوع إلى ماهية اللغة، بل إن العكس هو الصحيح؛ إذ لا بد أن تفهم ماهية اللغة بالرجوع إلى ماهية الشعر نفسه؛ لأنه هو «اللغة الأم» أو اللغة الأولى التي تؤسس الوجود بالكلمة.
يقول هلدرلين في إحدى قصائده التي لم تتم:
وإذن فنحن البشر حوار. ووجودنا يقوم باللغة وعليها، لكن هذه اللغة «لا تحدث» إلا حيث يكون الحوار، ولا تبلغ حقيقتها إلا به. وليست اللغة المقصودة هي نسق الكلام وقواعده وبنائه النحوي والصرفي، فهذه كلها مظاهر اللغة. إنما «الحدث» الجوهري للغة هو الحوار، والحوار يفترض إمكانية السماع والإنصات لبعضنا البعض، والحوار يفترض كذلك أن تكشف الكلمة الجوهرية عن الشيء الواحد الذي يمكن أن نتفق عليه، ونتحد به، ويحمل وجودنا. وهذا الذي نتحد عليه لا بد أن يكون شيئًا ثابتًا وباقيًا.
ولكن هلدرلين يقول: منذ أن كنَّا حوارًا، أي منذ أن كان الزمن، ومنذ أن كنَّا في التاريخ، أي إن الوجود في الحوار وفي التاريخ شيء واحد ونفس الشيء.
منذ أن كنَّا حوارًا جرب الإنسان كثيرًا وسمى عددًا كبيرًا من الآلهة، أي التقط إشاراتهم وأبلغها للبشر على نحو ما يسبق النسر العواصف والبروق والرعود، ويعود للأرض لينبئ «الشعب» بمقدم الآلهة، وبهذا يقف روح الشاعر الجسور بين الآلهة والبشر، ولعل مأساة الشاعر ترجع إلى وقفته في زمن المحنة والليل، بين عهد مضى وغابت عنه الآلهة، وعهد آخر ينتظر قدومهم ولم يأتِ بعد.
ولعل عظمته أن تكون راجعة إلى قدرته على الانتظار والصبر والخشوع، وبهذا كان بحق شاعر المحنة.
منذ أن كنَّا حوارًا جرب الإنسان كثيرًا وسمى عددًا كبيرًا من الآلهة، ومنذ أن كانت اللغة حوارًا تكلم الآلهة وظهر العالم في نفس الوقت، ولكن الآلهة لا تتكلم إلا بلساننا، والعالم لا يظهر إلا لنا. ومعنى هذا أن وجود الإنسان ارتبط بوجود الحوار وقام عليه.
فإذا سألنا: من الذي بدأ هذا الحوار الذي هو نحن، ومن الذي سمى الآلهة، وانتزع من الزمن المتغير الهدام شيئًا باقيًا عبَّر عنه بالكلمة، كان جواب الشاعر في ختام قصيدته «ذكرى» على هذا النحو:
«أما ما يبقى فيؤسسه الشعراء». والعبارة تكشف لنا عن ماهية الشعر.
فليس الشعر زينة ولا تسلية ولا مظهرًا حضاريًّا ولا لعبة في أيدي النقاد وأصحاب الجمال. إنما الشعر «تأسيس» بالكلمة وفي الكلمة.
ما هذا الذي يؤسسه الشعر؟ هو ما يبقى ويثبت ويدوم. وهو يؤسسه حين ينتشل هذا الشيء الثابت من تيار التغير الجارف، ويستنقذ البسيط من المعقد، والمعيار من خضم الفوضى والاضطراب. ولا بد له أن يكشف الحجاب عن الوجود لكي يتاح للموجود أن يظهر. ومسئولية الشعراء تفرض عليهم أن يبقوا على ما من شأنه أن يبقى، ويصونوا ما من شأنه أن يصان. وهي «عناية يبذلونها، وخدمة يناط بهم أداؤها» أي بذل وعطاء صادران عن حرية واختيار. والحرية في صميمها التزام بقدر أسمى وضرورة عليا. والقدر الأسمى والضرورة العليا التي يتحملها الأدب عمومًا والشعر بوجه خاص هي أن يؤسس الوجود بالكلمة، أي يدعم صلة الموجود الإنساني بالوجود. بهذا يكون وجود الإنسان في صميمه وجودًا شعريًّا؛ لأن الإنسان — كما يقول الشاعر — يسكن على الأرض سكنًا شعريًّا.
•••
إذا أردنا الآن أن نستخلص من شعر هلدرلين ونثره وحياته الكسيرة البائسة فلسفة، فيمكن أن نقول إنها نمت وتطورت وفقًا لقانون التطور الدوري، أو ما يسميه هو نفسه «دورة الحياة» حين قال في قصيدة تحمل هذا الاسم:
أخذت هذه الفلسفة في روايته «هيبريون» شكل وحدة الوجود، فكانت الطبيعة الإلهية بكل قواها وعناصرها وحدة واحدة مع البشر الفانين والسماويين الخالدين. ثم تطورت في قصائده المتأخرة إلى نوع من الواحدية أو «التوحيد» الذي يضم عناصر من الوثنية الإغريقية بآلهتها المتعددة، ومن وحدة الوجود والمسيحية. ووجدناه يتحدث عن إله أعلى خارج حدود الزمان يسميه «إله الآلهة»، إلى جانب درجات أخرى من الألوهية كان آخر من ظهر منها هو المسيح.
هناك أيضًا دورات أخرى يتعاقب فيها الليل والنهار، ويتجلَّى الإله للبشر أو يحتجب عنهم، على حسب قدرتهم على احتمال نوره الباهر.
وقد كان كل هم الشاعر في أعماله المتأخرة أن يبرر طرق الرب المختلفة إلى الناس. وإن كان قد فعل هذا من خلال تجربته الفاجعة بمأساة الحياة، ومأساة الشاعر في عالم لا يفهمه ولا يسمعه، وتجربته الأشد فجيعة عن «الرب الذي لم يعد يتحرك فوق رءوسنا من زمن طويل».
ويتصل بهذا فكرته عن أن الإله قريب، وعصي على الإدراك، وعن النور الرباني الساطع الذي لا يحتمله البشر، والذي يفاجئهم، فيرتعشون لحظة، ويظلون يسألون بعد ذلك عن سره. وهي فكرة نجد جذورها في كثير من نصوص العهد القديم وكتابات الأسرار والتراث الشعري، كما نجد لها نظائر في آداب مختلفة عند شعوب متعددة، كما نراها مثلًا في الفردوس المفقود لملتون أو في شعر وليم بليك (١٧٥٧–١٨٢٧م) الذي يعبر عن هذا المعنى في إحدى قصائده «الصبي الأسود الصغير»:
لقد وضعنا على الأرض فترة قصيرة من الزمان علَّنا نتعلم كيف نحتمل أشعة الحب.
وتتصل فكرة هلدرلين عن الليل والوحشة وزمن المحنة بفكرته عن «الليل الكوني»، حيث يحتجب الرب ويبتعد، ويتخلى عن البشر فلا يتجلى لهم ولا يهديهم. وفي ليل الوحشة والمحنة يزداد غرور الإنسان، وينسى قوانين السماء، ويتخطى حدود قدرته، أي يزل الزلة الكبرى التي حذر منها اليونان في أدبهم وفلسفتهم، وجعلوها أكبر الكبائر، وأشنع الخطايا.
أما نهاية الفلسفة والشعر وغايتهما الأخيرة، فهي كما تقدم «العودة للوطن» أي للأصل والمنبع، للوجود الذي يظهر كل موجود، لكي تتم الدورة، ويتحد الكل، ويجتمع المتفرق، ويسود التجانس والصلح والوئام.
وواضح أن هذه الفلسفة تمد جذورها في عاطفة التدين العميقة التي كانت تغمر كيان هلدرلين، ولكنه تدين ورع خاشع لا صلة له بالكنيسة، ولا برجال الدين الذي رفض بعناد وإصرار أن يصبح واحدًا منهم. وهو التدين الذي يجعله يرتبط بكل شيء وكل إنسان، ويحس الروح الإلهية في كل ما تقع عليه عيناه، ويعبر عن إحساسه تعبيرًا أسطوريًّا، وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء ذلك التدين الذي يضع الإنسان في مركز الوجود، فقد آمن هلدرلين بأن «الإلهي» يحتاج كذلك للإنسان. وأقواله في هذا الصدد كثيرة ومتعددة. فهو يقول مثلًا في قصيدته التي جعل عنوانها باليونانية وسماها «ميموزينة» أي ذكرى:
كما يقول في الصياغة الثانية لمسرحيته «موت إمبادوقليس»: ماذا كانت تصبح السماء والبحر، لو لم أعطها النغمة واللغة والروح؟ كما يقول في قصيدته عن نهر الراين: وإذا كان السماويون يحتاجون لشيء، فهم يحتاجون للإنسان.
وهي في النهاية عاطفة التدين التي تفيض بالروح الإنسانية، وتتطلع لإنسان المستقبل، وتعمل أيضًا من أجله. الإنسان المتكامل الشامخ الحر البريء من العبودية التي كان هلدرلين يرى الناس في عصره غارقين فيها إلى آذانهم. الإنسان الذي يحيا في ظل الكنيسة الحرة، أي المدينة الحرة العزيزة التي يتكلم الناس فيها فيكون كلامهم حوارًا، ويحسنون السماع والإنصات لبعضهم البعض.
مهما يكن رأي القارئ في هذه الفلسفة، فلا يمكن الإغضاء عن أهمية هلدرلين كشاعر مفكر، أو إن شاء كشاعر فيلسوف. إن الفكر وحده لا يصنع شاعرًا، والعاطفة وحدها لا تصنعه أيضًا. وكل الشعراء العظام قد حققوا نوعًا من التوازن الجميل بين الفكر والوجدان، وبين القلب والعقل، فجعلوا من الأفكار أغنيات، وأشاعوا نبض الحياة في التأملات. والواقع أن الحدود الفاصلة بين الفكر والشعر دقيقة ورقيقة كالزجاج الشفاف، وهما متقاربان يسكنان — على حد تعبير الشاعر الذي أوردناه فيما سبق — على قمة جبلين متجاورين وإن كانا منفصلين.
ومع ذلك فقد فطن هلدرلين إلى خطر الفلسفة على موهبته، وشكا في بعض فترات حياته من أن الفكر قد أربكه وشتته، وقال على لسان بطله هيبريون، الذي هو في الحقيقة هلدرلين نفسه: إن الإنسان يكون إلهًا حين يحلم، وشحاذًا حين يفكر. وقد كانت الحياة الفلسفية على أيامه هي المسئولة عن ارتباكه وتشتته. فقد وصلت الميتافيزيقا الألمانية إلى الأزمة التي بررت شكواه. وبلغت أزمة الثنائية العتيقة ذروتها، فأبعدت بين العقل والعالم، والفكرة والواقع، والتأمل والحدس المباشر، والفن والطبيعة. وكان على الأدباء والشعراء أن يلتمسوا لأنفسهم مخرجًا من هذه الأزمة التي تحاصرهم من كل مكان. غرق بعضهم إلى أذنيه في بحر الفلسفة، مثل شيلر الذي ظل هلدرلين فترة طويلة من حياته يعده مثله الأعلى في الأدب والرجولة على السواء — ولكن هلدرلين استطاع أن ينتشل نفسه من المتاهة الفلسفية الغريبة — كما فعل شيلر قبله. فاستنجد بقلبه، واستجاب لصوت إلهامه الباطن الذي لا يمكن أن يكذب، كما يُنتظَر من كل أديب حق يمر بمثل هذه المحنة، والتقى الواقع والفكرة، واتحد القلب والعقل، ووجد الشاعر طريقه لأول مرة بفضل المرأة التي أحبها، ووجد فيها مثال الجمال والطهر والقداسة عندما كان يقوم بتربية أبنائها. هو الحب إذن ولا شيء سواه. هو المنقذ الذي طالما انتظره وناداه؛ ليخلصه من محنته. وهو الذي أعاده كذلك إلى «ليل المحنة المقدس»، وجعله يغوص في هاوية الجنون نصف حياته الأخير، فسقط فيها سقوط الفنان المبدع في قاع «الوطن» الذي أحبه وقدسه وتغنى به، وإن لم يستطع أن يتحمله أو يفهمه.
سؤال هتف به الشاعر هلدرلين منذ قرن ونصف قرن من الزمان، حين أحس ليل المحنة يلف الكون، وأن الآلهة لم تعد تكترث بالبشر، والثلاثة العظام — هرقل وديونيزيوس والمسيح — قد هجروه إلى غير رجعة.
لم يقل: أين الشعراء؟ لأن الشعراء كانوا كثيرين في عصره، وكانوا يغنون فيحسنون الغناء، ويعبرون فيجيدون التعبير عن آلامهم وآلام وطنهم وآلام الناس.
وكان الزمن ضنينًا وتعيسًا؛ لأنه نظر حوله، فوجد البشر بعيدين عن السماء، والسماء بعيدة عن البشر، ووجد الرب «يتحرك من وقت طويل فوق رءوسنا بغير اكتراث»، وأحس أن الدنيا خلت من البراءة والقداسة والنور والجمال، وأن الحب نفسه أصبح سخفًا وخداعًا، واللغة أقفرت من الحوار، فلم تعد هي لغة الأرض والأحباب.
تلفت حوله، فوجد وطنه ممزقًا إلى أشلاء من إمارات وولايات، ورأى الإقطاع في أوج سلطته وجبروته، والقهر والاضطهاد والاستبداد والفساد في كل مكان، والصَّغار والأنانية والجشع والإرهاب تكتم على الأنفاس. وتطلع بكل شوقه وإخلاصه إلى بلاد يونان جديدة حرة، تمنَّى أن تبعث لتمحو هوان وطنه وسوء حاله. ولم يكتفِ بالشعر والغناء، فأراد أن يكون الشعر هو السبيل الهادي إلى الفعل، بل أن يتحول هو نفسه إلى فعل خلَّاق. ها هو ذا يكتب في سنة ١٧٩٤م — قبل أن يصاب بخيبة الأمل المتكررة في الحب والناس والحياة — إلى صديقه «نويفر» قائلًا: سنكسر أوتارنا التعيسة إذا لزم الأمر، ونعمل ما كان يحلم به الشعراء. ثم يكتب بعد ذلك بخمس سنوات إلى شقيقه من أبيه فيقول: وإذا أرادت مملكة العتمة أن تظهر للوجود، فسوف نقذف بأقلامنا تحت المائدة، ونمضي باسم الله إلى حيث تكون المحنة على أشدها، ونكون نحن أشد الممتحنين بها.
لقد كان ليل المحنة يلف في الحقيقة كل شيء بظلامه. ونظر هلدرلين فرأى أن شعاع الأمل الوحيد الباقي لبلاده هو الأدب الذي كان في أوج ازدهاره، ولكن الحياة الأدبية تجاهلته، والناشرين أعرضوا عنه، ولقمة العيش أجبرته على مرارة التعليم الخصوصي، والحب العظيم اليتيم في حياته حاصرته التقاليد وأعين الرقباء وألسنة الصغار.
وصرخ من قلبه قبل أن يغوص في ليل الجنون بقليل:
هكذا صرح الشاعر الوحيد منذ أكثر من قرن ونصف قرن.
فماذا عسانا أن نقول بعد ما ازداد الزمن تعاسة؟
هل نقول: لمَ الشعراء في الزمن الضنين، والشعراء عندنا أكثر من الهم على القلب، وإن كان الصوت الصادق فيهم أندر من قطرة ماء أو نفحة ورد في الصحراء؟
ماذا نقول في محنتنا الكبرى في الأرض والوطن والقيم والضمير والرجال؟
ماذا نقول وعصابات القتلة واللصوص والأفاقين المطرودين من بلاد الله تدنس أرضنا، وتهين كرامتنا وتاريخنا؟ وطوفان الكذب والضجيج والتنغيص والإحباط والصَّغار يحاصرنا من كل ناحية، وكرامة العربي مستباحة للكلاب والذئاب، وأشجع رجالنا من الفدائيين يذبحون بأيدي الخونة أمام أعيننا، والبيروقراطية الفرعونية تخنق الأنفاس وتتحرش الآن بالنور والهواء والأشجار والطيور والزهور، والبرجوازية المريضة تواصل جنايتها على روح التمرد والثورة والمغامرة، وعلى ملايين الفقراء المقهورين، وتستحم في مستنقع الجشع والتظاهر والغرور والثرثرة والأغاني والأفلام العاطفية المقززة؟
لا نستطيع أن نقول مع الشاعر الغريب:
لمَ الشعراء في الزمن الضنين؟ بل نقول:
لمَ الحياة نفسها في الزمن التعيس؟
ما السبيل لإنقاذ الرجولة والبطولة والكبرياء والطهر والبراءة في نفوسنا ونفوس أبنائنا؟ كيف نخفف من التعاسة ما دامت السعادة أبعد من الأحلام؟ وكيف تصبح الحياة محتملة ما دام الموت هو الشيء الوحيد الأكيد؟
لنسأل الشاعر الملهم العراف، فقد نجد عنده الجواب. سيقول لنا: لا بد أن يصل البشر الفانون إلى قاع الهاوية وقرار المحنة قبل أن تمتد إليهم يد المنقذ بالخلاص.
ونعود فنسأله: ألم نصل بعد إلى قاع الهاوية وقرار المحنة، مع كل ما نقاسيه ويقاسيه العالم من مخاوف الرعب والقلق والتعذيب والاضطراب وانتصار الوحشية في كل مكان؟
من يدري؟ فلعل المحنة أن تشتد عمَّا هي عليه، ولعل العزاء والأمل الوحيد أن يكونا في قول الشاعر نفسه: