شهادة١
-
(١)
من السهل أن أذكر عددًا كبيرًا من الكتاب الذين أحببتهم، سواء من أدبنا أو من الآداب العالمية. وربما سميت بعضهك في النهاية، على الرغم مما في ذلك من غرور وتظاهر أستغفر الله من ذنبهما، لكنني أحب في البداية أن أصارحك بما قد يغضبك ويغضب النقاد. فالأديب يكون بالفطرة أو لا يكون. وإذا لم تكن لديه الموهبة فلن تجعل منه آلاف الكتب أديبًا. قد يتقن مهارات شكلية، وبراعات تقنية، وقد يقتبس من هنا، وينقل من هناك، ويتأثر بهذا أو بذاك. ربما يصبح حرفيًّا وصاحب أسلوب، وربما تدق له الطبول، ويخدع فيه الجمهور المتطلع لكل جديد، ولكنه لن يكون في رأيي أديبًا أصيلًا، له رسالته ورؤيته ومشروعه الأصيل. لن يقترب من دائرة النار المقدسة التي يتوهج فيها المطلق، وتسطع الحقيقة، لن يقربنا منها أبدًا مهما استعرض حيله وأدواته. أترك لك التفكير في عظام الأدباء الخالدين: هوميروس وأيسخيلوس وسوفوكليس، شعراء المعلقات، بل شيكسبير نفسه الذي يقال إن تاريخ بلوتارك كان منبعه الأكبر، أو منبعه الوحيد، بجانب بعض الحكايات والأساطير والروايات الشائعة في زمانه. هؤلاء وأمثالهم في مختلف الآداب والفلسفات لم يقرءُا لكي يكتبوا (كما يفعل معظمنا اليوم بكل أسف)، بل كانت تكفيهم الفكرة أو الحكاية أو الحادثة، وربما الكلمة لتشعل عبقريتهم الطبيعية. أترك لك أيضًا أن تتلفت حولك للماضي القريب أو الحاضر المشهود لتحكم على الكثيرين ممن يكتبون ويقولون، وليس عندهم ما يكتبون ولا ما يقولون، حتى ولو أزعجونا بأعمالهم الكاملة وأصواتهم العالية. إنما هي شطارات في عصر الشطار. هل معنى هذا أن أنكر دور القراءة في صقل الموهبة، وإتقان الصنعة والشكل والأسلوب … إلخ؟ وكيف أفعل وأنا نفسي قارئ، كما أصبحت في السنين الأخيرة — بعد أن قل زادي من التجربة الحية، وانكسرت أجنحة المغامرة — أستمد تجاربي من القراءة، وأنفعل بالتاريخ أكثر مما أنفعل بالحياة، وأعيش مع الموتى الأحياء أكثر بكثير من الأحياء؟ ثم كيف أجرؤ على إنكار فضل القراءة ونحن جميعًا أبناء التراث، نخرج من بطنه ونسبح في بحره، ثم نحاوره ونرد عليه أو نستوحيه ونعيد بناءه أو نهاجمه ونقاطعه أحيانًا دون أن نفلت أبدًا من خيمته؟ لست أذهب إلى هذا الحد بطبيعة الحال، لكنني أكرر إيماني السابق، لا بد أن يكون الأديب أولًا نبتة ممتدة الجذور في الأرض، قاربًا حساس الشراع في مهب الريح، ثم يأتي الكتاب والمعرفة والاطلاع كما يأتي الفلاح والملاح لرعاية النبتة وتوجيه القارب. أعوذ بالله من الكتب التي تخرج من الكتب، ومن المؤلفين الذين يعيدون تأليف كتب مات أصحابها، وشبعوا موتًا. وأستغيث برحمته من هؤلاء «الكتاب» و«المفكرين» الذين تعد كتبهم بالعشرات، بينما هم أنفسهم غائبون في كوكب آخر، يعيشون في عصر الوراقين، وليتهم يملكون ذرة من تواضع أجدادهم وصبرهم النبيل! أتابع المصارحة التي بدأتها ومهدت بها لحقيقة بسيطة في حياتي. لم أنطلق من الكتب التي أصبحت لعنتي ومصيري ومنفاي الاختياري، وملجئي الوحيد من عالم لا يطاق، لقد كانت أمي التي لا تقرأ ولا تكتب هي كتابي الأول، وما زالت هي كتابي الوحيد والأخير ستضحك بطبيعة الحال، لكن هذه الأم المسكينة الطيب التي روت أرضي بحكاياتها هي التي حببت إلى «الحدوتة» أو الحكاية الشعبية التي لا زلت مجنونًا بها في كل الآداب أستلهمها بعض ما أكتب. من فمها سمعت حكايات السندباد، وعبد الله البري، وعبد الله البحري، وعرفت الصياد والقمقم والعفريت وسيدنا سليمان والجواري والصيادين والنساك واللصوص والتجار. عرفتهم قبل أن ألتقي بهم وبغيرهم في ألف ليلة وليلة، وفي الحكايات الشعبية التي أعتز بمكتبة كبيرة منها. أعلم أنني لا أقول جديدًا. فمعظم كتاب القصة يقولون هذا عن أمهاتهم أو جداتهم الطيبات، ولكنني أنطلق عن تجربة لا زالت حية، لم يطفئها الاشتغال بالفلسفة وتدريسها، ولم تزدها القراءات المستمرة إلا رسوخًا (وربما كانت هي المسئولة عما يعرفه المقربون مني من بساطة أو براءة تصل — كما أعلم تمامًا — إلى حد البلاهة والغباء) ومع ذلك فإن جهدي الأكبر وسط عالمنا المزعج بالضوضاء والتلوث هو المحافظة عليها. وها أنا ذا يا صديقي أشبه ذلك البطل المسكين (سيمبليسيوس للروائي الألماني الأول جريملزهاوزن) الذي اكتوى بنيران حرب الثلاثين وظلماتها المضطربة، وراح يحاول أن ينتشل نفسه من المستنقع الذي وقع فيه، فأخذ يشد شعره ليخرج منه، لكن هل في إمكاننا أن ننتشل أنفسنا منه؟
ألا زلت مصرًّا على بعض الأسماء؟ أظن أن هذا حقك، وهو كذلك واجبي، ولكن ماذا أفعل والأمر أعسر مما تظن؟ هل يستطيع إنسان ظل يأكل ويشرب طول حياته أن يحدد من أي طعام أو شراب جاءت كريات دمه الحمراء والبيضاء؟ وعصير العمر والفكر والشعور الذي يسري في عروقنا، هل يمكننا أن نحدد كيف تجمعت قطراته، ومن أي نبع أو جدول أو سحاب؟ قرأت لعشرات، وركزت على عدد قليل نهب بعضهم سنوات من عمري على هذه الأرض. وعشت تجارب إحباط عام وخاص مرارة ومهانة لا تنتهي، وبجانبها لحظات فرح قليل. هل كان الأدباء أم كانت التجارب المرة وراء كتاباتي؟ هل تأثرت بأحدهم تأثرًا مباشرًا أم غاص في الحلم وراء الشاطئ المظلم للوعي وغافلني وأنا أكتب؟ أسئلة تحيرني كما تحير كل من كتب أو يكتب، لكنني أحاول أن أخرج من الحيرة — التي لا مخرج منها أبدًا إن كانت حقيقية — فأقول إنني انطلقت من الشعر. بدأت به حياتي وتجاربي التي لم تتوقف مع الفن، واكتمل لي منها قبل الخامسة عشرة من عمري عدة دواوين صغيرة وسخيفة احترقت كلها في نار الفرن (كما رويت ذلك في مقدمة كتابي ثورة الشعر الحديث)، وفي النهاية توقفت تمامًا في الحادية والعشرين بعد أكثر من حب خائب لم يكتف برفضي، بل رفض كذلك أشعاري، ولكن هل توقفت الشاعرية؟ هل كان من الممكن أن تتوقف؟ ألا تفاجئنا بعد مشيب الشعر كما تفاجئنا رؤية وجه حبيب غائب يزورنا في النوم ويلمسنا ويحنو علينا؟ المهم أنني انقطعت عن «النظم»، وبقيت روح الشعر كالجني الماكر تسكن لحمي ودمي، ولا تقوى على إخراجها طبول الفلسفة، ولا أبواق الدرس والتدريس. وانعكس هذا على تجاربي الأولى في القصة، وأظنها بدأت في حوالي الثامنة عشرة من عمري، انعكس على الرؤية والعاطفة قبل اللغة الأسلوب. ولا زلت أعاني من هذه الشاعرية — بعد أن انحسر الشعر، واكتفيت بدراسته في أدب الغرب، وترجمة بعض روائعه — لا زلت أعاني منها؛ لأنها تفوح برائحة «الرومانتيكية» التي أحاربها بعقلي، فتأبى إلا أن تفرض نفسها عليَّ وعلى جيلي (ربما كان الإحباط الدائم وخيبة الأمل المستمرة، وغيبة الحرية، واضطراب الظروف التاريخية والاجتماعية من الأسباب التي جعلت «الحزن» و«الحلم بالمستحيل» إطارًا وجدانيًّا عامًّا لنا). هذه الشاعرية مرتبطة بما قدمت عن «كتابي الأول والأخير»، بالحكاية الشعبية التي لا زلت وفيًّا لها، بمحاولتي المستمرة لإحلال «المفارقة» و«المتعالي» في الواقع اليومي، بشخصيات المساكين والمجانين والدراويش والمهرجين والحيوانات التي تملأ قصصي القليلة المتواضعة. أتمنى لو كنت أكثر موضوعية وواقعية، لكن ما باليد حيلة تكويننا النفسي والتربوي والتراثي أقوى منا، مزاجنا الخاص هو سجننا وملجؤنا، والمهم أن نكون صادقين في كل الأحوال.
أتلح على معرفة الأسماء؟ إذًا فاسمع بعضها مما يحضر في الذاكرة: بكيت كما بكى كل صبي مصري بدموع ماجدولين وسيرانو دي برجيراك، ذرفت عبرات أسامح المنفلوطي عليها، وأدعو الله أن يبلل بها قبره وذكراه. وهدهدتني أمواج طه حسين الصافية المعجزة في أحلام شهرزاد (أذكر عندما ظهرت أنني كنت في السنة الأولى الثانوية) وعلى هامش السيرة والجزء الأول من الأيام، وفتنت بأسلوب الزيات وترجماته القليلة عن الفرنسية، وبكيت كثيرًا لآلام فرتر (ولعلي فكرت مثله في الانتحار، ولكنني لمبرر لا أفهمه بقيت حيًّا لأعيش مع «جوته» سنوات من عمري وأقدم بعض روائعه وأكتب عنه)، ثم ثرت مع أبطال جبران الذين سبقوني مرارة التوحد، وغصص الاكتئاب التي لم أنج منها إلى اليوم. ثم كان لقائي بالحكيم الذي وهبته بعد ذلك كل حبي، فقد كان لقاء بالفن الخالص والشكل المحكم والأسلوب الرياضي الدقيق، خلصني من كثيرٍ من الإنشائية والبلاغية التي لا زلت أحاول الخلاص منها. وفي الجامعة قرأت كافكا وكامي وقصص توماس مان قبل أن أقرأه بعد سنواتٍ في لغته الأصلية. أما لقائي بنجيب محفوظ وجيله كالسباعي وباكثير والسحار، فقد كان ولا يزال فاترًا، ولا يخجلني أن أقول إنني لم أقرأ كل شيء لهم، إذ كان الاختيار ولا يزال هو قانون حياتي، والذين أختارهم ألازمهم وأغلق عليهم وعلى بابي. هل تعجب إذا قلت لك إنني ظللت سنة كاملة أقرأ كل ما وصل إلى يدي من مؤلفات تشيكوف بالإنجليزية (لكي أختمها في النهاية بمقالة يتيمة نشرتها سنة ١٩٥٦م في «المجلة»، وجعلت عنوانها تشيكوف شاعرًا)؟ وهل يدهشك أن أعيش السنة التالية أو معظمها مع بيراندللو — وكنت في ذلك الحين أجيد الإيطالية التي جرفها تيار النسيان فيما بعد — لكي أقطف ثمرة ضئيلة هي مقالي «مأساة بيراندللو» الذي نشر كذلك في المجلة قبل أن يضم لغيره من المقالات في كتابي «البلد البعيد»؟ وهل يحزنك — كما يحزنني اليوم — أن يفترس سنوات من عمري كتَّاب وشعراء معدودون مثل جوته وهلدرلين وشيلر والمعري وبشنر والتعبيريون وألبير كامي وبرخت، بجانب عدد آخر من الفلاسفة الذين أحببتهم، وتعلمت منهم وكتبت عنهم (مثل هيراقليطس وأفلاطون والفارابي ونيتشه وكانط وماركس وهيدجر)؟ غباء لا شك فيه … غيري ينتقل في البستان، وأنا أسند ظهري إلى شجرة واحدة. غيري يعكف على عملين أو ثلاثة في نفس الوقت، وأنا أسقط في جب واحد، ولا أكاد أخرج منه، لكنني أتلفت حولي الآن فأرى أمامي معاجم عن أدباء العالم، وأتصفح واحدًا منها عن الأدباء الألمان، فأجد أكثر من ثلاثة آلاف اسم من بدايته إلى عصرنا الحاضر. من نختار ومن نترك؟ العمر محدود، والطاقة محدودة. الأيام ضنينة وطاحونة التدريس تتربص ولقمة العيش مرة. وخير لي أن أعرف عددًا قليلًا — ربما لن يزيد عن أصابع يدي الواحدة — معرفة تكون وتؤسس من أن ألم بعشرات من السطح. ألم أقل لك إنه غباء لا شك فيه، أوقعني فيه انطوائي الفطري وأمانتي الفطرية، حتى أصبحا سجني وجحيمي؟ نسيت تيمور ويحيى حقي الذي كان أقرب كُتَّاب بلادي إلى نفسي. ونسيت أسماء كثيرة خصوصًا من الأدب الألماني الحديث الذي تخصصت فيه، وكتبت عن بعض أعلامه وترجمت لهم، لكني لن أنسى كُتَّابًا أحببتهم، وتعلمت منهم، وجددت بهم تجربتي: أصدقاء الجمعية الأدبية المصرية الذين أتشرف بالانتماء لهم، وأعلم أنني أقلهم شأنًا وأضعفهم ضوءًا، وخصوصًا شكري محمد عياد وعبد الرحمن فهمي وفاروق خورشيد وبهاء طاهر (أما أشعار صلاح عبد الصبور، فتغلغلت في كياني منذ البداية، وبناؤها القصصي لا يخفى عليك)، وكتاب الشباب الذين أتابعهم بقدر الطاقة، وأعتز بمحبة بعضهم (المرحوم العزيز ضياء الشرقاوي ونبيل عبد الحميد ومحمد الراوي ومحمد مستجاب وعبد الله خيرت على سبيل المثال) بجانب الصديقين الكريمين يوسف الشاروني — الذي أدين له بفضل رعاية قصصي الأولى، ونشرها في «الأديب» ومتابعة إنتاجي بتعاطف عقلي نادر — والدكتور نعيم عطية. قرأت بالطبع لغيرهم من فرسان الساحة، ولبعض الذين انتفخوا اليوم، وتضخموا وصارت وراءهم جوقة من الشراح والمفسرين، لكني لا أملك أن أذكر كل الأسماء. يكفي أن الشعر والمسرح والفلسفة قد لازمت اهتمامي بالقصة ومحاولاتي القليلة فيها، ويبقى بعد هذا أن تفكر معي في نعمة القراءة أو نقمتها.
-
(٢)
اسمح لي أن أستبدل بكلمة الاهتمام كلمة الضرورة. فالأديب إن كان حقيقيًّا — وما أندر الأدباء الحقيقيين في كل زمانٍ ومكان — يُكتَب ولا يَكتُب. هل تملك الوردة إلا أن تفوح بالعبير، وهل يملك الجدول إلا أن يتدفق ويسيل، والشمس والريح والمطر … إلخ، هل تملك إلا أن تكون؟ المسألة ليست من شأن الإرادة، لا تدخل في باب الاهتمام أو عدم الاهتمام. في ليلة نادرة يتم الاختيار، يصحو الأديب صحوته النهائية، ويقول لنفسه وللعالم: لا بد أن أكتب، لا بد أن أقول، وما دمت اخترت فليكن بعد ذلك ما يكون (راجع إن شئت رسائل رلكه إلى أديب شاب). كتابة القصة القصيرة كانت عندي امتدادًا للشعر الذي توقفت عنه بعد أن تأكد لي غياب الموهبة الأصيلة والقدرة على إحياء الأشياء والتفكير بالصورة. ولهذا كانت معظم قصص دفقات تنسكب في ليلة واحدة، أو جلسة واحدة، مفاجآت كالبروق وسط سمائي الملبدة بسحب الاكتئاب والدرس والتحصيل. معظمها أيضًا كان البذرة التي ألقتها ريح مجهولة عابرة — كلمة أو خاطرة أو موقف أو شخصية أو حكاية من فم عجوز — ثم ظلت تنمو على مدى الأيام والسنين، وتمد جذورها في الأعماق المظلمة، حتى استطالت واهتزت فروعها بالثمرة. النضج هو كل شيء. عندئذٍ لا تملك إلا أن تمد يدك لتقطف هذه الثمرة. تحضرني الآن الشخصيات الست المشهورة في مسرحية بيراندللو فأقول: هذه هي ضرورة الفن التي هي من ضرورات الحياة أو أقوى منها. إنها تفرض نفسها، وتجعلنا وسطاء نساعدها على الظهور للنور. ألم يسم سقراط نفسه قابلة للأفكار يولدها كما كانت أمه تولد الأطفال؟ ألم يقل أفلاطون أن المنشد أو الشاعر ممسوس تتملكه قوة أكبر منه؟ ألم تخبر الجن امرأ القيس أشعارها؟ كلام سيتهم بالسذاجة أو الرومانتيكية، ولكني في الحقيقة أؤمن به، وإن لم أدع الوفاء به أو الاستجابة له إلا في أندر الأحوال.
أذكر الآن أن تجاربي الأولى كانت قصصية مسرحية في آن واحد، شيئًا هلاميًّا بلا شكل ولا قوام، نبضات تائهة لم ينظمها العقل في إطار. جمعتها في كراسة اطلع عليها بعض أساتذتي أو صوروا لي أنهم اطلعوا عليها، ثم رحمني منها صديق قديم، ولم تعد إلى اليوم. أذكر أيضًا أن معظمها كتب تحت تأثير قراءاتي لميترلنك (الذي نصحني بقراءته الصديقان القديمان بدر الديب ومحمود العالم) ولتوفيق الحكيم (الذي فُتنت به كما قلت، ثم ابتعدت عنه بعد ذلك) ولكافكا (الذي خيم على كابوسه الذي لم أفق منه تمامًا إلى اليوم) أما أول قصة نشرتها بفضل يوسف الشاروني، فكانت هي «العتبة»، في الأديب سنة ١٩٥١ أو ١٩٥٢م إن لم تخني الذاكرة: شخصيات مظلمة، امرأة تبيع طفلها في المزاد، أسلوب لا يزال متأثرًا بطه حسين والزيات والرافعي والمنفلوطي، صور قاتمة من كافكا، وسرد تفصيلي من توماس مان، وبالجملة مسخ مبكٍ أو مضحك عرضته في أحد الاجتماعات الأولى للجمعية الأدبية المصرية في بيت أستاذنا المرحوم محمد كامل حسين (أستاذ الأدب الفاطمي لا الطبيب العالم الأديب) فشجعني الأصدقاء أو واسوني، بل إن صديقي الدكتور عز الدين إسماعيل تطوع لشدة دهشتي بعمل دراسة عنها. يا للهول كما يقول يوسف وهبي! إذًا فقد تورطت وأصبحت في نظر الأصدقاء أديبًا. وعليَّ بعد اليوم أن أقدم المزيد، وأحاول الفكاك من نير المنطق والميتافيزيقا والعناد الأكاديمي العقيم إلى فردوس الفن المحرم. ورطة تهربت منها سنوات، لكنها كانت تفرض نفسها وتعودني كأشباح الأسلاف. والآن تلح بأعمال أكبر أستجيب لبعضها كلما أسعف العمل والزمان، «وأركن» أكثرها في جراب المشروعات الذي أحمله منذ سنواتٍ طويلة أشقى به، وأهرب منه معظم الوقت، ولكنه ينتفخ على الدوام وتزداد وطأته ثقلًا. وتمر الأيام وتتساقط أمام العين، ويلتمس حامل الجراب ظلًّا يسند إليه ليكتب قصة واحدة. ويتوه عشر سنين في هجير الدراسة والبحث والترجمة قبل أن يلجئه ثقل الحمل أو الذنب إلى الظل. وهناك يحلم بالتفرغ، ويقنع إرادته الشاحبة بالتحرر من نظام السخرة الجامعي، ويراوده حلم الاعتكاف في دير من أديرة الرهبان (لكن من يدعوه إليه؟) تقول تجاربي الأولى كل ما أكتبه تجارب، وكل ما أطمح إليه أن تكون كل تجربة جديدة ومختلفة عن سابقتها اختلافها عن التجربة اللاحقة. ولهذا ترتعش اليد كلما هممت بتحريك القلم، وكأني أكتب لأول مرة، وأبدأ في كل مرة من الصفر. أليس الفن كله «تجربة» لإظهار ما في الباطن إلى الخارج في شكل لغوي مرضٍ؟ حسبنا أن نجرب ونجرب، أن نكون الأبناء الأوفياء لسندباد وأوديسيوس وفاوست، وكل الحجاج لبيت المطلق. إن وفقنا في محاولة واحدة فما أسعدنا. وإن خبنا فتكفينا المحاولة. حسبنا الصدق والأمانة زادًا على الطريق. ولو عاشت لي قصة واحدة أو عمل واحد في ضمير قارئ واحد، فسأغمض عيني في النهاية وهي قريرة، سأقول لنفسي: لم يضع العمر هباءً …
-
(٣)
أنا في العادة — وبالقسوة/الاعتراف — لا أثق بالبحوث والدراسات، ولا بالباحثين والدارسين. غريب أن يقول هذا إنسان كتب عدد شعر رأسه من البحوث والدراسات والترجمات، وإن كان شفيعه أنه كتبها بقلب الأديب والفنان (أو هذا على الأقل مجرد عزاء). ولهذا لا أميل إلى الكتب التي تحمل عناوين بغيضة إلى نفسي: كيف نكتب القصة أو الرواية أو المسرحية … إلخ، ولا ينتهي عجبي من سذاجة أصحابها أو جرأتهم. إن النماذج الراسخة هي المرجع والدليل. النص هو الألف والياء. هناك تراث وتطور لا شك فيهما ولا فكاك منهما، لكن هل عرف هوميروس أو شيكسبير أو فوكنر … إلخ أمثال هذه البدع العجيبة والأدلة المحيرة؟ إنني أتعلم من النصوص وحدها. أترك الموضوع يختار شكله، المهم أن يحضر وأن يمتلئ حياة، أن ينضج فيكتبني كما قلت ويعفيني من كتابته. أمل بعيد بغير شك، لا يتوفر إلا للنادرين والملهمين، لا أدعي أنني حظيت بنعمته — إن كنت قد حظيت بها — إلا في لحظات نادرة وصفحات أندر. لا أنكر فضل «الوعي» ومعرفة التراث القومي والعالمي، وجهد البناء والتشكيل، وحيل التقنية (الصنعة)، ودور العقل ومكر الرمز وبراعة القناع … إلخ، لكنني أومن بأن الفن حضور حي. والغاية المثلى عندي أن يصبح الفن طبيعة حية كما تحاول الطبيعة عن طريق الفنان أن تصبح فنًّا.
-
(٤)
يعفيني الكلام السابق من الإجابة على هذا السؤال. فأنا لا أختار الإطار، ولكنه هو الذي يختارني. العاطفة أو الفكرة أو اللمحة أو الشخصية أو الموقف هي التي تفرض إطارها. وهذا الإطار — كما يدل تطور القصة القصيرة — أوسع مما يتصور دعاة الحبكة و«الحكاية» و«المفاجأة» و«التنوير» … إلى آخر ما تعيد فيه كتب النقد الركيكة وتزيد. فالقصة القصيرة تقترب من الشعر الغنائي والحوار المسرحي والمقال الفني، وقد تتسع للتقرير الصحفي والبحث العلمي والأرقام والحسابات الجافة، بل إنها قد تحتوي على رسوم توضيحية (على نحو ما فعل الأستاذ الفنان المرحوم يس العيوطي في إحدى قصصه المتأخرة). ولهذا ستظل القصة القصيرة فنًّا متجددًا، كأسًا صغيرة يمكن أن تضم الكون كله، عدسة رقيقة يمكن أن تعكس الشمس وكل ما يستضيء بنورها. ثم إني لا أقتصر على إطار القصة القصيرة؛ لأنني أجرب الكتابة للمسرح منذ زمن طويل، كما جربت كتابة الرواية في عمل لم يظهر بعد، وإذا ترفقت غازلات خيوط العمر والقدر، فربما أنجز روايتين كبيرتين. أما أن الأمر يرجع للحالة النفسية، فليس هذا صحيحًا في كل الأحوال، إذ يمكن أن تكون الرواية لاهثة الأنفاس مركزة كالقصة القصيرة، كما يمكن أن تكون القصة القصيرة رواية مكثفة لم يصبر عليها صاحبها ليفض كل كنوزها. ولي قصص حولتها مسرحيات، وأخرى يمكن أن تغرى بالمحاولة، وفي الأمر سر لا أدريه وقد يدريه غيري. أما إمكانية النشر فهي إغراء قوي ومخرب أيضًا. ويبدو أنه كان وراء التعجل وقلة الصبر اللذين أفسدا خير سنوات شبابي. وأشنع منهما «التكليف» والدخول في أحشاء الصحف والمجلات وأجهزة الأعلام؛ لأن من يدخلها مرة فلن يخرج منها أبدًا، ولكن هل يمكن أن أنصح أحدًا بالبعد عنها؟ وهل هذا ممكن أصلًا؟ ما أشد حسدي للكتاب القدامى قبل لعنة اختراع الطباعة، واكتشاف الموجات الكهرومغناطيسية، ويا ليتني عشت في زمن الرواة والحكائين والمبدعين في الظل والصمت.
-
(٥)
لا شك أن أي عمل فني يحاول أن «يوصل» شيئًا إلى القارئ، وإذا تم توصيله فقد نجح. أما طبيعة هذا الشيء، فيصعب تحديدها اللهم إلا في الأعمال الرديئة. قد يكون هذا الشيء هو المتعة أو الغضب على مفارقات الواقع ومتناقضاته أو المشاركة والتعاطف الإنساني أو العزاء عن تعب الحياة وآلامها، أو تمجيد الحياة والفرح بها، أو تعميق الشعور بها، أو بعث الأمل في مدن المستقبل، أو إحياء القيم الخالدة للخير والحق والجمال … إلخ، أو هذه الأمور جميعًا، ولكن الفنان لا «يهدف» إلى غاية محددة، وإلا أصبح داعية أو معلمًا أو مبشرًا بعقيدة معينة أو غير ذلك مما يصلح له العالم والباحث والمصلح والمربي … إلخ، إلام تهدف كوميديا دانتي أو أشعار المتنبي والمعري أو مسرحيات شيكسبير أو روايات دستويفسكي أو قصص تشيكوف … إلخ؟ لا شك أن لكل منهم رؤيته للإنسان والعالم والله، ولكننا لا نقرؤهم لنستفيد علمًا أو فكرًا — فالفلسفات والمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أقدر على هذا — بل لندخل عالمًا ونعيش تجربة حياة، ونزداد فهمًا لحقيقة الإنسان والواقع وحقيقتنا.
هل حاولت أن أوصل شيئًا بهذا المعنى؟ لا أظن أنني تعمدت هذا بصورة مقصودة مباشرة. ولو كنت فعلت فأنا المخطئ. إنما هي رؤية كونتها تجارب الحياة والثقافة والمزاج الموروث والوضع التاريخي والاجتماعي الذي وجدت نفسي فيه. وإذا كان لي أن أصف هذه الرؤية فهي «الثورية المحبطة»، ثورية الضعفاء والمقهورين والممتحنين في حبهم وحياتهم وعقولهم ومصيرهم، المحرومين من الحرية والعدل والحب، الحالمين المهزومين والمتحدين — حتى في لحظات السقوط — في آن واحد. كل ما أكتبه يدور — أو هذا ما أتمناه وأحاوله — حول الحرية. وكل كلمة لا تصب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الحرية لا تستحق عندي المداد الذي كتبت به، ولا الوقت الذي ينفق في قراءتها.
أما عن القارئ الذي أتمثله عند الكتابة، فهو قارئ مجهول أكاشفه وأحبه، وأعتقد أنه يحبني. طبيعي أن عملية الكتابة فعل جدلي يفترض الحوار بين كاتب وقارئ. وطبيعي في أمة «اقرأ» التي لا يقرأ فيها أكثر من عشرين في المائة، ولا يقرأ الأدب إلا أقل من النصف في المائة أن يتمنى الكاتب لو انمحت الأمية، ووصل إنتاجه إلى الفلاح والعامل والموظف البسيط ورجل الشارع. لكنا — ويا للحسرة — نكتب في الأغلب الأعم لبعضنا أعلانا صوتًا وأكثرنا حظًّا من الدعاية والأضواء هو الذي يقرأ. ولا بد لمثلي — ممن لا يقرؤه حتى النقاد أو يقرءُونه ويتجاهلونه — أن يفترض القارئ البسيط المجهول الذي يعيش اليوم أو زمن مقبل، وليته لا يكون ناقدًا ولا برجوازيًّا! حدثني مرة أحد الأصدقاء أن والدته لم تستطع النوم قبل الفراغ من قراءة مجموعتي الأولى «ابن السلطان». لا يمكنك أن تتصور سعادتي في ذلك اليوم بما قاله هذا الصديق، فهذه السيدة الكريمة — وهي ربة بيت بسيطة — أخلفت موعد نومها بسببي، وجدت في قصصي بساطة أو براءة يصعب أن يجدها الناقد المحترف، اطمأنت يومنها إلى أنني لم أقع ضحية الحذلقة وحيل التجديد. لمثل هذه القارئة الطيبة المجهولة أكتب، وبمثلها أعتز. وإذا كان النقد قد تجاهلني، فهذا من حسن حظي. لا كرامة لكاتب في وطنه ولا بين أهله. والناقدان الوحيدان اللذان اهتما ببعض أعمالي كانا من اليمن (الدكتور عبد العزيز المقالح) وألمانيا (الأستاذ بيتر باخمان). هل تذكر ما قاله فولتير في نهاية قصته الفلسفية «كانديد»؟ ازرع حديقتك. وأقول لك وللمخلصين من الشباب ابذر بذرتك واتركها. احرث حقل اللحظة بالعمل الصادق وألقِ بذورتك فيه. ربما تنمو الشجرة بعد زمان يطول أو يقصر. وربما ينتفع بها فلاح أو حطاب أو مسافر وحيد، وحتى إذا لم تنمُ شجرتك ولم تثمر فقد فعلت ما في طاقتك، حرثت الأرض، وطرحت البذرة. وقاك الله شر المتورمين والمتضخمين المشغولين بأنفسهم. أتريد أن تكون كارثة تضاف إلى الكوارث التي تزحم حياتنا، وتخنق أنفسنا، وتملأ جونا بالضجيج والفجاجة والانتهازية والتخبط والكذب؟
-
(٦)
القصة القصيرة عندي دفقة واحدة. إن لم أفرغها — كما قدمت — في ليلة واحدة وجلسة واحدة فلن تتم أبدًا. أعلم أنني بحاجة إلى تعلم الصبر، وقد بدأت أتعلمه في السنين الأخيرة، لكني لا أكاد أكتب إلا إذا «حضرت» القصة بشخصياتها ومواقفها وانفعالاتها وصورها، وأكاد أقول بلغتها. عندئذٍ تكتبني ولا أكتبها. ما أنا في هذه الحالة إلا مدون فحسب. ربما راجعت بعض الكلمات، واستبدلت بها كلمات أخرى، لكن هذا أيضًا أمر نادر. أظن أن هذا عيب كبير، وأنا أعترف به. ثم إن الأمر لا يتم دائمًا بهذا التخطيط الدقيق. فللفن مفاجآته. أذكر أنني جلست من سنوات تقل عن العشرين قليلًا لأكتب قصة عن سيدة ريفية في شتاء العمر، مات زوجها، في وجهها آثار جمال قديم، تنتظر ليلة القدر مع صبي صغير هو راوي القصة. أعدت معه كل شيء، وبدأت تتمتم بالدعوات، وتغالب المرض العضال توقعًا «للطاقة» الباهرة الضوء. وهي تلفظ أنفاسها تظهر لها الطاقة، ويدعوها الصوت الرهيب أن تفصح عن رغبتها، لكنها تكون في آخر الأنفاس. تنظر للضوء الساطع، وتهمس في أذن الصبي: «قل له لقد تأخرت، لا أريد شيئًا، لا شيء». كانت هذه هي القصة التي تهيأت لكتابتها، ولم أكتبها إلى اليوم، أتدري ماذا كتبت ليلتها؟ فوجئت بقزمٍ صغيرٍ يحتل مكان المسكينة، قزم عجوز، ومريض طرده صاحب الخيمة التي تقدم الألعاب في مولد السيدة لكبر سنه، فذهب إلى المقام الطاهر وقدم فيه ألعابه. وقبض الزوار على الكافر وأودع «التخشيبة». وتتجلى له «الست» وهو يحتضر وتسأله عن طلبه، فينظر إليها بعيون دامعة، ويقول: «لا شيء يا ست. لا شيء أبدًا». وكانت هي قصتي «الست الطاهرة» عنوان مجموعتي الثانية، تسألني عن الصعوبات التي ألقاها أثناء الكتابة؟ لا، ليست هناك صعوبات. «فالحضور» الذي حدثتك عنه، والعاطفة الدافئة، والممارسة، والقراءات الماضية التي تبرز من رصيد الكهف الباطن … إلخ كلها تتكفل بحلها. الصعوبات يا سيدي قبل الكتابة ومن حولها في الحياة غير السوية التي نحياها، في الجو الموبوء الذي لا يسمح بحياة إنسانية سليمة، فما بالك بحياةٍ مبدعة، في طاحونة التدريس التي تسحق بذور الفن وتقتل عذاراه …
-
(٧)
لا أعرف ماذا تريد «ببعض العناصر الحرفية». لست كاتبًا حرفيًّا بأي معنًى من المعاني. واشتغالي بتعليم الفلسفة ودراسة الأدب الغربي والترجمة لم يكن احترافًا، ولا حتى تخصصًا. الكتابة عندي عشق وبكاء، زهد وفناء، هي — كما يقول القرآن الكريم — نسكي ومحياي. والفن معبود جشع للدماء. إنه يطلب ما يسمى «بذبح الذات» في الطقوس القديمة، عندئذٍ يمكن أن يسمح لك بالمثول لحظات بين يديه. إن أعطيته كل شيء، فربما أعطاك شيئًا. وإن تخليت عن عرش العالم، فربما يمنحك نعمة الرضا عن النفس. لهذا أشفق على الذين يمتطون صهوة حصان الأدب أو العلم سعيًا وراء الشهرة أو السلطة أو المال أو الإعجاب أو الظهور تحت الأضواء. أشفق عليهم وعلى الفن والمجتمع منهم كما أرثى لهم. هل هربت من السؤال؟ لا شك أن في القصة القصيرة كما في كل الفنون حرفيات. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتكلم النقاد العرب عن «صنعة» الشعر، وأن يسمى الفن عند اليونان «تيخني» (صنعة ومهارة). ومن يشأ الاطلاع على هذه «الحرفيات» المختلفة يجدها في كتب النقد، ولكن هل سيجد نفسه أو يجد القصة أو الشعر … إلخ؟ لا بد أن تصبح هذه الحرفيات المتطورة عبر الزمان وتحت تأثير الظروف الحضارية والاجتماعية والسياسية … إلخ طبيعة ثانية. إن اكتفى بتطبيقها فهو مهما ادعى أو زعم مجرد حرفي بارع، معد أو مقتبس أو متأثر أو ناقل … إلخ، إن الحقيقة لا تغتصب. وإذا لم تصبح دقائق الصنعة طبيعة أخرى فستكشف اللعبة. ربما كنت أملك بعض العناصر التي تتحدث عنها، لكنني أصارحك بأنني لا أعرفها، ولا أتذكرها عند الكتابة. ولا بد أنني اكتسبت من قراءاتي لمختلف الكتاب ومختلف الأعمال والأشكال الفنية بعض هذه العناصر، لكن لماذا أختار أحدها دون الآخر (كأسلوب المناجاة أو المونولوج مثلًا) ولماذا يحرك الرمز والحكاية الشعبية والأسطورة ومشاهد التعاسة وصور الانهيار والاحتضار … إلخ، لماذا تحرك مائي الراكد؟ لا بد أن الأمر أكبر من الصنعة والحرفة، ولا بد أن يكون الصدق مع النفس ومع الفن أخطر وأولى بالنظر. اعذرني إن لم أستطع أن أحدد لك هذه العناصر، لكن يسعفني عند الكتابة ما سبق أن حدثتك عنه: الحضور والامتلاء، النضج والاستواء. وتسعفني قراءاتي السابقة (وربما تسللت خفية لما أكتب) ونظرتي الكونية المفعمة بالشحن، وخيبة الأمل، وربما ساعدت الفلسفة أيضًا بطريقة غير مباشرة على ما يوصف بالعلو والنظرة الكلية والقدرة على تحليل المشاعر والمواقف والأفكار والتركيز على ما يسميه بعض فلاسفة الوجود بالمواقف الحدية، كالعذاب والإخفاق والفراق والموت والذنب. حاشاي أن أقصد بهذا أن قصصي المتواضعة تملك هذه الخصائص. إنما أردت أن أقول إن روح التفلسف ربما تسللت إلى بعضها وإعارتها جناحا تحلق به قليلًا فوق تفاصيل الواقع، أو تغوص به في قلبه.
-
(٨)
لا أظن أن الأمر أمر اهتمام أو عدم اهتمام، فتعمد المغزى أو الهدف الاجتماعي أو الفلسفي أو السياسي … إلخ، لا يمكن أن يصنع فنًّا. قد يصنع مقالة أو درسًا أخلاقيًّا أو اجتماعيًّا متنكرًا في ثياب قصة أو مسرحية أو قصيدة، ولكننا سنفضل عليها المقالة أو الدرس. تأمل أقاصيص فولتير الفلسفية (مثل زاديج وكانديد)، وانظر فيما كان يكتب باسم الواقعية الاشتراكية عندنا أو عند غيرنا، وستجد أنها قد ظلمت الفن والحقيقة (الفنية والإنسانية). لا أريد أن أدخل في متاهة الأسئلة العقيمة: هل الفن للفن أم الفن للمجتمع، فهي في رأيي قد أسيء طرحها، ولم تكن دائمًا لوجه الحقيقة. لا يمكن أن يوجد عمل فني لا يطمح إلى أن يكون فنًّا، وما من عمل فني يمكنه أن ينكر أصوله الاجتماعية أو دوره الاجتماعي، حتى لو حطم كل القواعد المعترف بها من الجماعة. وفي استطاعة الفنان أن يضمن عمله المغزى الذي يشاء، بشرط أن يسري فيه سريان الدم في عروق الكائن الحي، تعرف أنه موجود وإن كنت لا تراه. إنني — مثل غيري — أعيش «هنا والآن»، وأكتب لقارئ يحيا هنا والآن. حتى كاتب القصة التاريخية يفعل هذا من وراء الأقنعة التاريخية. وأي كتابة في الأدب أو الفلسفة أو العلم تصدق عليها هذه الحقيقة البسيطة، نحن لا نكتب للموتى ولا للخلود، ولكننا مثل من نكتب لهم، أبناء لحظتنا التاريخية والاجتماعية والحضارية، مؤقتون وعابرون ككل شيء يصنعه الإنسان. أين إذن ذلك الذي «يبقى مما يؤسسه الشعراء» على حد تعبير هلدرلين؟ يبقى منها ما يقترب من دائرة الحقيقة أو يدخل فيها، وإن كان قد كتبه إنسان فان مثلنا، لأناس فانين مثلنا من هنا «وآن» مختلفين، فأثبتا على مر الزمان أنهما لكل هنا وكل آن … لهذا بقي «أوديب» و«هاملت» و«فاوست» ونماذج ألف ليلة وليلة، وكل الشخصيات والأعمال التي لا تزال حية تعبر عن حقيقة الإنسان فينا، وسائر الحقائق التي يرتبط بها ويسعى للاقتراب منها في حياته وموته، وعذابه وفرحه، وشقائه وسعادته. الاستطراد مغر، ولكنني أقطعه وأقول إنني قبل كتابة أي عمل قصصي أو غير قصصي أحاول جهد طاقتي أن يجمع ثلاث دلالات تعبر عن ثلاثة مستويات، أو ثلاث دوائر متداخلة: الدلالة الشخصية (وإلا ما وجدت الدافع لكتابتها) والاجتماعية (وإلا فلمن أكتب؟) والكونية (وإلا فما قيمة عمل لا يفتح نافذة على المطلق، أو لا ينبعث منه شعاع ينفذ في ظلماته؟).
لست أيديولوجيًّا، بمعنى الانتماء إلى نظام مغلق من الأفكار والقيم والمعتقدات. ولست كذلك ضد الأيديولوجية. لا أنا متعصب لها ولا ضدها. علمتني الفلسفة أن أضع كل شيء موضع السؤال. علمني الإيمان بالحرية أن أقف موقفًا حرًّا من كل شيء وكل إنسان. أحاول أن أستفيد من كل المذاهب بقدر جهدي، لكني لا أسمح لواحد منها أن يستعبدني. ولأني طائر وحيد، لا يستطيع أي قفص أن يأسرني. ربما كتبت قصة تحمس لها الأيديولوجي، وربما كتبت قصة أخرى فلعنني، وتمنى أن يقتلني! ليس معنى هذا من جهةٍ أخرى إنني خاوٍ من الرأي والحلم. إنني ثائر محبط، شأني شأن معظم أبناء جيلي. في ضميري يعيش اشتراكي محزون خائب الأمل، أشبه بالناسك المعدم أو القديس العدمي. إحساسي بعذاب الإنسان وتعاسته يجعلني قدريًّا، وحلمي المستحيل بمدن المستقبل المستحيلة يجعلني جدليًّا، بين القطبين يهتز وترى المشدود ويلتقط الأصوات والصور والأحداث التي تحركه. كم تمنيت أن أنشد على هذا الوتر، لكنني كما قلت لا أملك موهبة الشاعر. لهذا قنعت في كثيرٍ مما كتبته بأن أكون صدى وظلًّا. إذا تعرفت بأحد أسرع قليلًا أنت الذي ترجم كذا وكذا. وتهوي السكين في قلبي. إن كنت قد ترجمت فهي ترجمة أديب لأدباء. وإن كنت قد كتبت في الفلسفة فبقلب أديب، أو في الأدب فبعقل فيلسوف. هل يصدق ما قاله عني أحد المعذبين (بكسر الذال المشدودة) في الأرض، وما أكثرهم: أديب بين الفلاسفة وفيلسوف بين الأدباء؟ أي لا شيء عن الإطلاق! ويبقى على فيما يبقى من سني العمر أو شهوره أو أيامه أن أحدد ملامح وجهي.
-
(٩)
أحيانًا يكون مدخلي إلى القصة كلمة أسمعها صدفة، أو صورة، أو موقفًا أراه، أو فكرة استلهمها من قراءاتي. تحرك هذه كلها أو إحداها بذرة كامنة، تبعث حياة منسية، تكسو جسمًا عريانًا بثوب مناسب كان يفتش عنه. ما أعظم ثراء المنجم الذي يطويه كل منا في داخله، وما أقل ما نفطن إليه! أظن أن الحدث هو الذي كان يلفتني في البداية. ثم اهتممت بالشخصية أو بالأحرى فرضت نفسها عليَّ (وقصصي مزدحمة بالشحاذين والدراويش والمجانين والمهرجين والممثلين الفاشلين، والعصاميين الذين يكلمون أنفسهم، والموتى، والحيوانات، وخصوصًا القطط التي أكاد أعبدها، وأتمنى لو تناسخت روحي في واحدٍ منها متكبر وصامت ووحيد) أصبحت الآن أميل إلى الموقف المعبر عن مفارقة، وإحلال الأسطوري أو الرمزي أو الماورائي في الحياة اليومية. أظن أن ما بقي حيًّا في ذاكرتي من قصصي القديمة يصور موقفين أو خطين أو مستويين متوازيين ومتصادمين في آن واحد. وغالبًا ما يكون أحد الموقفين أو الشخصيتين ذا بعد مفارق للواقع، أسطوري أو كابوسي (يونس في بطن الحوت، الحصان الأخضر بموت على شوارع الأسفلت، التابوت … على سبيل المثال). لكن الأمر هنا أيضًا لا يخضع لقاعدة. فقد تجر الكلمة أو الصورة شخصياتها ومواقفها المناسبة، وربما لغتها أيضًا، وقد يفعل الحدث أو الموقف أو الرمز نفس الشيء. ألم أقل أن كل قصة يجب أن تكون كائنً متجددًا وجديدًا؟ أعتذر لأني قلت «يجب» حيث لا وجوب، اللهم إلا للحضور الحي والنضج والامتلاء، لكن ما أندرها وما أفقر حظي منها.
-
(١٠)
ليس في يدي أن أعين المكان أو الزمان أو أتركهما بلا تعيين. إنما القصة كيان حي مستقل عني تعين زمانها ومكانها بنفسها. وربما اختارت أن تكون بلا زمانٍ ولا مكانٍ ولا أسماء محددة. أكتفي بأن أقول أن للحكاية أو الحدوتة التي أحبها دخلًا في هذا البعد عن التحديد. وكذلك الميل إلى استلهام الماضي والتاريخ. وربما كان للتعبيرية (التي شغلت بها وقتًا طويلًا، ووضعت عنها كتابين) أثر على بعض القصص التي تجنح للتجريد والمباشرة والصراخ.
-
(١١)
الإجابة على هذا السؤال متضمنة في الإجابات السابقة، ثم إنها من شأن القراء. كل ما يشغلني الآن أن تكون قصصي القادمة مختلفة عما سبقها. أيكون «تطورًا» بالمعنى الذي تقصده؟ وإلى الأسوأ يكون أم إلى الأفضل؟ هذا ما لا أحكم عليه. كل ما أتمناه أن تواتيني اللحظة، وأن تترفق بي الطاحونة.
-
(١٢)
لم أنصرف عنها، هي التي انصرفت عني. فعندما وجدتني مشغولًا عنها بالطموح العلمي العقيم، أشاحت بوجهها زمنًا طويلًا. أنا الآن أسترحمها لتعود، فهل تستجيب؟ في السنوات الأخيرة شغلتني بكائياتي على نفسي وجيلي ووطني الأكبر الممزق المنهار. كانت آخرها بكائيتي على صديق العمر صلاح عبد الصبور. والقصة تؤكد نفسها حتى في هذه البكائيات التي لا أعرف لها شكلًا محددًا. لم أكتب قصة بالمعنى المتعارف عليه منذ سنوات طويلة. ومع ذلك فإنني أثق بالموجة القادمة وأنتظرها. ربما توردت خدود العزم فجأة، فأقبلت على مشروع مجموعة قصص تختمر في باطني منذ أكثر من عشر سنوات. واعذرني إن لم أبح لك بشيءٍ أكثر من هذا. أولا تعلم أن الفن يحب الكتمان، أولا تسمع صوت الطرقات على باب الوجدان؟!
-
(١٣)
إذا كنت بطبعي متشائمًا فيما يخص حياتي الخاصة، فإنني كبير الأمل في مستقبل الفن والوطن والإنسانية. من يأتي بعدنا يجب أن يكون خيرًا منا. هذا شيء لا يحتمل الشك. وعدم إيماننا به يساوي الكفر بالتقدم، وبقدرة الشعب على الإبداع. وقد ذكرت فيما سبق أنني أحرص بقدر طاقتي على كتابعة أعمال الشباب، وأسعد بالتعلم منهم. وأقع في التكرار الممل إذا قلت أن الجيل الذي جاء بعدنا قد أضاف — خصوصًا في ميدان القصة القصيرة — إضافات واضحة وثمينة، لكن القصة القصيرة نفسها إغراء خطر. والنجاح في واحدة أو أكثر لا يبيح لأحد أن يزهو كالطاوس (تكفينا الطواويس الزائفة في كل مجال) لهذا أتمنى أن يجربوا الأشكال الأخرى. فيخيل إليَّ أن إتقان القصة القصيرة أو التوفيق فيها ينطوي بالضرورة على القدرة على إتقان الرواية. وهذه تهيئ إشباعًا أكبر وثقة أوطد بالنفس. وبعض الشباب قد نجح بالفعل — لا بالقوة وحدها — في المجالين. يكفي أن أسماء نخبة منهم قد انضمت إلى أسماء الجيل السابق فيما ترجم من قصص مصرية وعربية إلى بعض اللغات الحية، ولكن هذه الترجمات والانتشار في الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام لا يقدم أدنى مبرر للغرور. إن الغرور بداية السقوط كما يقول المثل المعروف، بل هو السقوط نفسه كما تشهد الحقيقة. تعففوا واعكفوا. هذا قولي لكم. إن تفاني الفنان في فنه هو واجبه الأقدس، اكتشاف نفسه ورؤيته وأسلوبه، إتقان أدواته، تعميق وعيه بالواقع من حوله، وبالتراث القومي والعالمي … أهناك أولى من هذا كله؟ ستغريكم الأضواء، فاحذروها. لقمة العيش يمكن أن تدفعكم لطرق أبواب الكسب، فحاولوا أن تكسبوا أنفسكم أولًا (لأن العالم كله لن يغني عنها كما تقول كلمة السيد المسيح) ركزوا ولا تتشتتوا، فالتركيز هو أب الفضائل جميعًا. كم في تاريخ الأدب من أسماء عكفت عشرين سنة من عمرها أو عمرها كله على عمل واحد. جيلي تشتت بين الكتابة الحرة والدراسة والترجمة والإعداد لأجهزة الإعلام. حتم علينا قدرنا التاريخي أن يقوم الواحد منا بأدوار متعددة توزع في البلاد المتحضرة على أفراد عديدين. وإذا تحتم عليكم أن تطرقوا أبواب أجهزة مختلفة فلا تنسوا أنكم أدباء، أي إنكم تخدمون الحقيقة قبل أن تخدموا الأجهزة … وخدمة الحقيقة تتطلب أن يكون ما تنتجون أدبًا جميلًا وصادقًا قبل كل شيء، ومهما اضطررتم لصبه في الأشكال المرئية أو المسموعة التي لا مفر من تطويعه لها، فلا يمنع هذا أن يظل في خدمة الحقيقة، وأن يبقى أدبًا جميلًا وصادقًا. الصدق هو كل شيء. ما لا يصدر من القلب لا يصل إلى القلب. ومن الصعب أن نحافظ على الصدق في عالم يتنفس الكذب ويبيعه ويشتريه، ولكن لا مناص من الصراع في سبيله والموت تكريمًا له. لتكن أيامكم أسعد حظًّا من أيامنا. لقد تعذبنا من أجل الحرية والعدل والصدق، وسنغمض عيوننا قبل أن نشهدها. وإذا نجوتم من الطوفان الذي أغرقنا فاذكرونا وسامحونا. فلا تنسوا أننا تعذبنا ومتنا من أجلكم، لا تنسوا أننا كنا صادقين.