وحوار …١
ولدت في أحد بيوت الطبقة الوسطى في ريف مصر، ولا يزال تاريخ مولدي هو الشيء الوحيد المؤكد في حياة مضطربة لا شيء فيها أكيد. فيبدو أن ذلك اليوم قد أثار فضول البسطاء في بلدتي البسيطة في شمال الدلتا كما أثار دهشتهم التي انطفأت بعده مباشرة، فقد ولدت مثلثًا، أقصد ثالث ثلاثة. ولم يلبث ضلع المثلث أن وجد نفسه وحيدًا بعد أن اختفى الضلعان الآخران بعد شهرين! لا زلت حتى اليوم لا أفهم مبررًا لبقائي دونهما. والشعور بالذنب يلاحقني منذ فتحت عيني وعرفت. لماذا قدر لأضعف الثلاثة أن يعيش، وما الذي يسوغ أن ينجو الطفل الرقيق النحيل الذي نذرته أمه للموت دون أخويه؟ وهل قدم شيئًا في حياته العادية يضمن له أن يتخطى الخمسين؟ وإذا كان قد بدأ أول أنفاسه بظلم غيره، فهل يحق له أن يعجب من أن يعيش مظلومًا؟ أليس من العدل أن يذوق طعم الجحود والمرارة مع كل كأس تقدمها كل لحظة من عمره؟ لك أن تضحك إذا تصورت الصبي الصغير يبحث وحده في المقبرة الريفية عن قبر شقيقيه. كم ضرب واكتوت قدماه بسوطٍ حامٍ لكي يقلع عن التجول عند الغروب بين أشباح الموتى، لكن الشعور بالذنب لاحقه كظله، وما يزال يلاحقه. فكرة ثابتة مجنونة لا تعقل من صاحب عقل أثقله العلم وقيدته الموضوعية، لكن من قال إن كل أفكارنا يمكن أن تفهم وتفسر؟ ربما كان الذنب القديم الذي لا ذنب لي فيه هو علة إحساسي الدائم بأنني غير مطلوب ولا مرغوب — حتى الهواء أحس أحيانًا أنني لا أستحق أن أتنفسه — وربما كان وراء الحرص الدائم — أو الحصر الدائم — بأن أعطي وأعطي بغير حدود، وأحب وأسامح وأجود، وأغبط نفسي كل ليلة بأن أبيت مظلومًا لا ظالمًا، كما كانت أمي تقول باستمرار ربما كان كذلك وراء الاكتئاب الذي أعرف أنه مرض رومانسي أحاربه بعقلي ومنطق عصري دون أن أفلح من ذلك في الخلاص منه، لكن النقمة في نهاية المطاف قد لا تخلو من نعمة. فقد أبقتني في الظل، وعلمتني أن ألازم الظل. أكدت لي أن كل ما أريد هو أن أعيش في هدوء، وأعمل في هدوء وأموت في هدوء. وفي النهاية أتسلل كالظل. ولهذا لا تفرغ دهشتي من الباحثين عن الشهرة، والساعين إلى الظهور في الصورة، والمتهالكين على الإعلان والإعلام وتسويق الإنتاج حتى قبل أن ينتجوا شيئًا! يا حصان المجد البراق! هل استطاع أحد أن يمتطي صهوتك رغمًا عنك؟ ألم تكن تسعى بنفسك وتقدم سرجك الذهبي، وتحني رأسك الجميل لمن زهد فيك؟ ويبقى التعفف عن الشهرة وأضوائها مسألة مبدأ. ليس مكرًا ولا طمعًا في جائزة مؤجلة ولا أملًا في إنصافٍ مفقودٍ أو موعود، وإنما هو كما قلت مسألة مبدأ وطبع وأسلوب حياة. ولتسامحني السماء وتغفر ما يعلق بهذا التعفف من بقايا الطمع أو الأمل مهما تكن هزيلة. فتحت عيني — المدللتين بالطبع في بيئة لا تسمح بالتدليل — على أب صارم جاد، لا يخلو من قسوة تغلف الحنان المكتوم، يقرأ طوال حياته في كتاب واحد لم يقرأ غيره، وكان بغلافه الخشبي الساذج هو الشيء الوحيد الذي ورثته عنه، وهو القرآن الكريم. وأم مسكينة طيبة أتقنت فن العطاء، ولم تنتظر كلمة شكر أو جزاء، بل كانت دائمًا أسعد الناس بأن يغالبها النوم أثناء صلاة العشاء (بعد عناء يوم طويل بدأته قبل الفجر) على زمجرة الأب الذي لا يكف عن السخط والشكوى، كما كانت على الدوام مبتسمة وراضية بأن تبيت مظلومة لا ظالمة … هل قلت مبتسمة وراضية؟ لقد كانت بضحكها ودعاباتها وسخريتها التي تحاكي بها الأب والأولاد والأقرباء هي الضد المقابل للأيام والأعمال الكالحة الضنينة التي لم ترحمها لحظة واحدة. من الجد الصارم من ناحية، والسخرية المرة المتسامحة من ناحيةٍ أخرى، غزلت خيوط وجودي. نشأت وتموت مثل آلاف الصغار في الريف المنكسر الطيب يرزح منذ القدم تحت قدر لا فكاك منه: الشعور بالظلم والشوق إلى الحرية، الأمراض التقليدية التي أصبحت علامات الوشم القومية على الجلد والدم والأعضاء، من الدوسنطاريا والملاريا إلى الرمد الربيعي وفقر الدم، الحنين الدائم إلى البعد والخروج وتجاوز الحدود (هذا الحنين الذي جعلني — ويا للأسف — أبعد في أسفاري وسياحاتي في حضارات وثقافات وبلاد بعيدة بعيدة، لا أكاد أنظر إلى الأرض التي أقف عليها، والتربة التي نمت بذرتي فيها إلا منذ سنوات قريبة!) لا جدوى من أن أحدثك عن تعليمي الابتدائي والثانوي في بلدتي، ثم مع شقيقي الأزهري في طنطا عاصمة الريف (كم أتلفت بالحمد والامتنان إلى الأيام الطويلة التي قضيتها في صحبة أزهريين طيبين يجيدون فن الحب والاحترام الذي أصبح نادرًا في هذه الأيام، ويقولون الشعر ويروونه، فأصبح لبعضهم راوية، ويقرءُون «الرسالة» فأدمن قراءتها حتى توقفها عن الصدور، وأعرف عن طريقهم على هامش السيرة وأحلام شهرزاد وقادة الفكر وأهل الكهف ورسائل الحب والجمال وأوراق الورد، وأسمع معهم آيات وحي الرسالة وعذاب «فرتر» وآلامه، وأستعذب دموع المنفلوطي في الفضيلة وسيرانودي برجراك) كم كانت تلك الأيام الشقية الجميلة زادًا للعمر، وكم تمردت أيامها على فصولها وبصلها وكشريها المقررين على مائدة الغداء، دون أن أتنبأ بأني سأحن إليها بعد المشيب أكثر من حنيني إلى نزهات الغابة السوداء وشواطئ الراين! من الطبيعي أن أقول الشعر في صباي الذي لم يتجاوز الحادية عشرة، وأن أدون الديوان بعد الديوان، وأن أحاول بعد سنوات قليلة أن أعارض غير مجد في ملتي واعتقادي و«يا نائح الطلح أشباه عوادينا»، لكنها محاولات تقليد ساذج، أصداء ليس فيها صوت واحد أصيل، انطفأت كلها — والحمد لله — في سن الواحدة والعشرين بعد حب فاشل أساء فهمها إساءة ما بعدها إساءة! ودخلت كلية الآداب التي كانت تموج بالفرسان والرجال، لم أدخل القسم الذي كان ينتظر مني دخوله لأواصل التعثر على درب الشعر المفقود، بل القسم المضاد الذي يجفف ينابيع الوجدان والإلهام تحت وهج العقلانية المحرقة. ولم تنجح الفلسفة ولا أساتذتها العظام (الذين أحبني بعضهم وقربني منه كزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وعثمان أمين عليه رحمة الله ورضوانه) لم تنجح في إسكات النبض الخافت أو تجفيف الجدول الصامت الذي ظل ينسكب بين أحراش المجردات والنظريات والمذاهب. ظلت العاطفة كالأم الحنون التي تحتضن أطياف أبنائها العصاة، وتبكيهم إن غابوا عنها. واستمرت قراءاتي في الشعر، ودراساتي له بعد أن تأكدت أنني حرمت صوته الأصيل وملكته المبدعة. واتصل الصراع بين الأخوين المتقاتلين في صدري حتى اليوم. ولما تخرجت في الكلية بعينين حائرتين ونفس لا تعرف نفسها أمعنت في الخروج والسفر إلى البعيد والبحث عن الخلاص من المنفى المقدور. عينت في دار الكتب المصرية، وألفيتني أعيش سنوات طويلة كالفأر المذعور في مصيدة الكتب، وزبانية البيروقراطية، ومرارة السكن الفقير مع الزملاء الفقراء. كان السبيل الوحيد لاقتناص أمل «الخروج» هو الاستمرار في القراءة المشتتة، والإصرار على تعلم لغات جديدة (في العشرين وما بعدها) بدأت تعلم الإيطالية التي لا زلت أقرؤها، وإن كنت قد فقدت ذلاقة اللسان التي اكتسبتها بعد زيارة لبلادها لمدة ثلاثة شهور هبطت عليَّ كما يهبط عفو الله على شيطان مذنب صغير، كما بدأت أخرج كل شهر ثلاثة جنيهات من جيبي الخاوي لتعلم الألمانية التي واصلت دراستها بعد ذلك، حتى ارتبط اسمي — لشدة بلائي أو عزائي لا أدري — بأدبها وفكرها، حتى كان يوم نودي على اسمي لمراجعة الواجب في أحد فصول مدرسة الألسن التي كانت مسائية في ذلك الحين. أما المنادي فكان هو المستشرق الألماني الذي أهديته كتابي «النور والفراشة» الذي صدر بعد ذلك بحوالي العشرين سنة (فرتز شتيبات عميد معهد الدراسات الإسلامية اليوم في جامعة برلين الحرة الذي لم أعرف أحدًا أقدر منه على الحب والحنو والعطاء)، أما المنادى عليه، فكان هو التلميذ الهزيل الخجول الذي كان قد شرع قبل سنوات قليلة في نشر قصصه ومقالاته في بعض المجالات الأدبية. وكان أن فتحت طاقة صغيرة في السجن الأزلي، نفذت منها إلى ألمانيا لأبقى هناك خمس سنوات، وأملأ رأسي حتى التخمة بزاد الجرمان. هل أصبحت بعد عودتي — قبل عشرين سنة بالتمام — مثل ساعي البريد الذي عفر قدميه، ونزف عرقه، وهو يوزع رسائل البريد المحمل بها، ونسي في زحام الجهد والتعب رسالته الشخصية أو رسائله الخاصة؟ ربما يكون الأمر كذلك، وربما أكون اكتشفت هذه الغلطة الكبرى قبل سنواتٍ قليلة تحت سماء صنعاء الطيبة الهادئة، وفي ظل خيمتها العريقة التي أفاءت على السكون، الذي طال حرماني منه، وأتاحت لي فيما أتاحته الحرية الوحيدة الممكنة في عالمنا العربي الموبوء باللاحرية، ألا وهي حرية البكاء!
وأخيرًا تسألني عن الفلسفة العربية. أوجز فأسألك بدوري: وهل لدينا حياة عربية؟ أعني الحياة السوية التي يزدهر فيها الإنسان، ويجرب الحرية والكرامة ويغامر بالفعل والإبداع والخلق؟ الحياة التي تنمو فيها أشجار العلوم المختلفة من طبيعية وتطبيقية وإنسانية، فتحتاج في النهاية للفيلسوف (أو لنقل للمتفلسف العربي الذي يعد لفيلسوف لم يولد بعد!) لكي يبلورها في جهد أو اجتهاد فلسفي نظري، وينفدها ويقومها ويربط جذور ماضيها بأغصان حاضرها وثمار مستقبلها؟ الحياة التي توفر الحوار الحي القائم على التقدير المتبادل، وتبتعد عن التعصب للرأي الواحد، وفر هذه الحياة الديمقراطية الحرة أولًا، ثم اسأل عن فلسفة أو فلسفات، عن اجتهاد أو اجتهادات نظرية. هناك بالطبع جهود طيبة مشكورة لأسماء نعتز بها جميعًا على الساحة العربية، قد تكون لي بعض الملاحظات النقدية عليها أو على بعضها (وهذا في حد ذاته تفلسف أو اجتهاد نقدي) وقد أذكر لك عددًا منها (مثل زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا والحبابي وعبد الله العروي والجابري وصادق العظم وأبو بكر السقاف وغيرهم وغيرهم)، لكننا لا نزال نفتقد الأرض الطيبة التي نقف عليها ونتحاور، فتنشأ المدارس والاتجاهات المتعارضة في ظل وحدة الهدف والمصير. ولا يزال إسهامنا في الحقيقة الفلسفية المتخصصة ضئيلًا يقتصر على التمثل والاستيعاب (وهما مشرفان ومشكوران لو تمَّا بالأمانة الكافية وعن علم كافٍ) ولا تزال حياتنا الفكرية تعاني من الأصوات العالية والكتابات «المعقربة» والتعصب لموجات تذهب وتجيء، ولا نخضعها للنقد الواجب، وتصل لشواطئنا متأخرة في العادة عشرين سنة عن أوانها، وبعد أن تكون قد ذابت في رمال الأرض التي نشأت فيها، (كما حدث مع الوجودية والبنيوية مثلًا في السنين الأخيرة) علينا أن نتعلم ونتفتح لكل جديد. هذه ضريبة المعاصرة التي لا بد من دفعها، ولكن علينا أيضًا ألا ننسى هويتنا (إن كنا قد اكتشفناها أو حاولنا اكتشافها) وأن نسلط ضوء عقولنا وقيمنا المميزة لنختار ونواجه مواجهة الأحرار. إن هذا في حد ذاته تفلسف، ولعل التفلسف العربي لن يبدأ إلا بنقد العقل العربي لنفسه، واقتلاع جذوره البدوية ورواسبه القبلية والخرافية وتحريره من معوقات التفكير النقدي التي نصطدم بها كل لحظة في مجتمعاتنا المصرة حتى الآن على التخلف، وإطلاق الصوت الواحد وخنق الحوار الحر … فهل تمتد أيدينا إلى هذا العمل المشترك (بجانب معرفة تراثنا الذي لا يزال مجهولًا، والعلم بالتراث الحديث والمعاصر الذي لا نزال نحبو ونتعثر على أرضه، ونرتدي أزياءه، ونتحمس لأقنعته دون أن نغزل خيطًا واحدًا في نسيجه؟!) ما أحوجنا إلى البدء من الصفر. في زمن المحنة لا بد من بداية جديدة. هكذا فعل كبار الفلاسفة، فبدءُوا التفلسف، وكأن لم تكن قبلهم فلسفة، والمتفلسف العربي يتحمل القدر الثقيل عليه أن يجمع في إهابه المصلح، والثائر الغاضب، والكاتب الذي يجذب الجماهير المشغولة عنه. عليه أن يكون المرضع والمربي والسياسي والفلاح والثائر وعامل رصف الطرق والبناء والهدم في وقت واحد، فكر معي أيضًا في المجتمعات والحضارات التي نشأ فيها التأمل العقلي والتفكير النظري الحر في أثينا بركليس في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، وفي روما أوغسطس وبغداد الرشيد والمأمون وبندقية آل المديتشي في القرن السادس عشر وإنجلترا وفرنسا وألمانيا في القرون الثلاثة الأخيرة، وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين، بل فكر في بلادنا العربية في العشرينيات والثلاثينيات من هذا القرن عندما تفتحت زهرات الإصلاح والتجديد في الدين والحكم والعلم والأدب والفن والغناء. إن قدرًا معقولًا من الحرية ولكرامة الإنسانية لا بد أن يتوفر للناس قبل أن ننتظر منهم شعاعًا واحدًا من قبس السر الأكبر الذي نسميه الإبداع. والإنسان العربي الذي شوه وفقد إنسانيته طوال قرون ستة من الانحطاط الحضاري — منذ إحراق التتار لبغداد إلى حملة الفرنسيين على مصر، هذا الإنسان الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر في إقامة الجسور بين دينه ودنياه، بين طبيعته الشرقية والإسلامية المتمسكة بقيم الماضي ونموذج العلم والتحضر الغربي الذي زحف عليه بشره وخيره، وهدد بسيادة العالم وغزوه — هذا الإنسان الذي سجلت «نهضته» قصة كفاح طويل لاكتشاف ذاتيته والدفاع عن عقيدته ووطنه ووحدته العربية، كفاح طويلة مضن تعثر كثيرًا في حفر التردد والتوفيق والازدواجية، ولم يبلغ شيئًا مما بلغته النهضة الأوروبية — هذا الإنسان الذي كان بغير شك على الطريق — لماذا نكب وانتكس وشُوِّه وخُصيت رجولته في السنوات الأخيرة؟ لماذا تتردى أحواله من سيئ إلى أسوأ؟ ولماذا يعجز عن مواجهة الحقيقة مهما كانت مرة (ما دامت الحقيقة هي الطريق والغاية)؟ ولماذا يهزم من الداخل قبل الخارج — إن إنقاذه من الذئاب التي تحاصره في ظلام النفس والعقل والمجتمع والنظم والقيم الفاسدة قد يكون أو خطوة نحو التفلسف العربي، أي نحو الحرية والتكامل والوحدة. وإذا لم نؤمن بالعلم منهجًا والحرية طريقًا وأسلوب حياة، والديمقراطية وسيلة وغاية وشرط وجود — إذا لم نحققها ونتحقق بها، فكيف يمكن أن نسأل عن إمكان قيام فلسفة أو فلسفات عربية أو عدم قيامها؟ ألن يكون السؤال لونًا من الهذر الذي يحتل مساحات شاسعة من صحفنا وأجهزة إعلامنا ووقتنا المضيع منذ سنين عن «عالمية» فننا وأدبنا وغنائنا … إلخ لنبدأ بإنقاذ هذا الإنسان العربي المشوه من الأغلال المفروضة عليه، ثم نسأل بعد ذلك عن العلم والفن والفلسفة. ليكن سبيل الإنقاذ الوحيد هو العلم والحرية. ولنثق بأن هذا الإنسان لا يزال بخير رغم كل شيء (ولا ضرورة للتصريح بأكثر مما صرحت!) إنه بحاجة ماسة إلى فصد دمه الفاسد على حد تعبير الكاتب المسرحي الكبير سعد الله ونوس.
لأترك الحكم على حياتي للآخرين، فلا بد أن ما انجرفت إلى قوله غرور يقشعر منه حتى النور، ولأحكم بمقياس هذا النور على أعمالي. هل انعكس منها شعاع واحد على وجدان واحد من الناس؟ ولكن ها أنا ذا أقع في الدور من جديد. فلأترك هذا أيضًا للناس، لأقل مباشرة وليؤيدني النور وواهب النور أنني كتبت معظم ما كتبت بصدق النور وعفته وصفائه. لم أطلب — علم الله — من ورائه مالًا ولا شهرة ولا اسمًا، ولا زلت لا أتمنى منها شيئًا. انسكب نور في داخلي من مؤلفين عديدين من أموات أحياء (من الكلاسيكيين) أحببت عشرتهم وأنست لهم أكثر من كثيرٍ من الأحياء الأموات الذين يعذبونني ويحاصرونني ليل نهار. وكنت ساعي الخير الذي يحاول أن يعكس قبسًا من هذا النور في وعي القارئ المجهول ووجدانه. هذا تفسيري لمعظم ما كتبت حتى الآن للشعراء الذين فاض نورهم عليَّ، من سافو شاعرة اليونان إلى جوته وهلدرلين وبرخت ومعظم شعراء الغرب المعاصرين، للكتاب الذين أحببتهم وتمليت نورهم من جوته أيضًا إلى تشيكوف وبيراندللو وبشنر والتعبيريين وكامي، ولكن ماذا أقول عن الفلاسفة، من أفلاطون وأرسطو إلى ليبنتز وكانط وهيدجر؟ وهل كان الأمر هنا وهناك مسألة أداء واجب ثقافي ودفع ضريبة لغة نادرة تصادف أن عرفتها وتقيد بها اسمي ومصيري لبلائي أو لعزائي كما سبق أن قلت؟! ثم ماذا أقول عن النور الذي يفيض من النبع الداخلي أو شمس الباطن الحقة، ولا يتدفق عليَّ من شلال خارجي أو من شمس يمكن أن تغيم وتحجبها أسراب الغربان؟
أما القصة القصيرة فنعم، وسأظل أكتبها وأحاول أن تكون كل واحدة منها مخلوقًا لا يشبه غيره. ما أكثر المتعة والعذاب في القصة القصيرة، لكنني أتحول بالتدريج نحو البناء المعقد المترامي الأطراف، ولهذا اتجه نحو المسرحية والرواية، وأتمنى أن أشرع فيهما عن قريب. أما الشعر فأشهد رباته وشياطينه أنني لا أقوله ولا أدعي قوله ولن أدعيه. إنما أدرسه وأترجمه لقومي (وحسبك بما في ترجمة الشعر من جناية أو خيانة لا يغفرها إلا علام القلوب) وإذا تصادف أن سلس معي الإيقاع، فإنما يأتي ذلك صدفة أو استجابة لشعر مقروء أو لروح قديم سكن ضلوعي زمنًا، ثم خرج بلا عودة! لست شاعرًا يا صديقي. لا أملك الموهبة الحقيقية، ولا الصوت المتميز الأصيل، ولا القدرة الفطرية على التفكير بالصورة ونسج البناء الموحد الحي الرقيق. ربما لاحظت «شاعرية» في نثري المكتوب. ألا تترك الأسماء المنقرضة آثار حياتها الماضية على الصخر؟ أسرع وطمئن أصدقاءك الشعراء، فلم يزعج مملكتهم متطفل جديد! أجل أحب الشعر، وهو الأقرب للنفس وللقلب. اقرأه ولا أكف عن قراءته، بل ربما كنت أحياه وفي حركاتي وسكناتي أجسده، لكن معرفة الحد أولى. وأنا رجل يعرف الحد ولا يتخطاه، طمئن نفسك وأصدقاءك. يكفيني أن أسمع منكم ما يخضر له غصني اليابس، أو تبتل به صحرائي، يكفيني أن يعجبكم أو يرضيكم أو يلهمكم ما ترجمت من الأشعار، يكفيني أني تركت لكم ثورة الشعر الحديث الذي طويت فيه ستًّا من أفضل سنوات العمر. حبًّا للشعر وللشعراء، وحبًّا في صلاح عبد الصبور وليبقى جزائي أو غفران ذنوبي عندك يا ربي. أيدني يا نور النور، فالعالم وحل وظلام.
تعارفنا في أواخر الخمسينيات، بالتحديد سنة ١٩٥٧م كنا زملاء في الفرقة الأولى بكلية آداب القاهرة، نحيلين فقيرين حالمين. ربما لم ألاحظ وجوده، أو يلاحظ وجودي، حتى كان يوم لا أنساه. كنت كعادتي متجهًا إلى المكتبة العامة للجامعة. ووضعت قدمي على أول سلالم الدرج والخجل الفطري يمنعني من التلفت إلى مجموعة صاخبة من الشباب تضحك وتدخن وتستعرض الثقافة والذكاء. ورن في أذني اسم نيتشه، وكنت أيامها غارقًا فيه وفي كافكا وكامي وغيرهم من فرسان الوجودية الوافدة بضجيجها وغموضها. ولم تلبث الكلمة المخيفة عن «موت الله» أن طرقت سمعي. وتدخلت لأصلح ما بدا لي سوء فهم لفيلسوفي المفضل. ودار حوار أدركت من ضحكاته العذبة القوية، ولمحاته الشاعرية أننا لن نفترق بعد ذلك أبدًا. وتعرفت بعدها بأيام على صديقنا المشترك فاروق خورشيد، ثم على بعض رفاق الحياة والجمعية الأدبية المصرية في الندوة التي كانت تقام في الكلية، ويحضرها فرسان الشعر والقصة المحزونون وأحفاد «جيل الديوان»، وأبوللو وعشاق علي محمود طه، ورواة محمود حسن إسماعيل وناجي ومقلديهما … كنت أحضر ولا أشارك. وكان من أهم ما استلفت نظري «كمان» صديقنا الروائي والمسرحي الأسمر عبد الرحمن فهمي. فقد كان — ولا يزال — يقرأ قصصه ويعزف كمانه، ولا زلت إلى اليوم أحرص على زيارته وسماع كل جديد يكتبه على أنغام العود والكمان.
وعرض عليَّ صلاح وفاروق أن أحضر لقاء في بيت أستاذنا محمد كامل حسين أستاذ الأدب الفاطمي، عليه رحمة الله، سبقه لقاء في ندوة الأمناء حضرته كالطيف المعتذر، ورأيت وسمعت ذلك الفارس العظيم والمعلم الذي طالما ربى العقول، وحطم الأصنام والأوهام، أمين الخولي الذي صنع جيلًا من «الأمناء» يتوسطهم كالقمر الذي تلتف حوله النجوم. وبدأت أواظب على حضور اللقاءات، وأسمع قصص الأصدقاء وقصائدهم، وأتحرر شيئًا فشيئًا من الغيبوبة الفلسفية وأحلامها وكوابيسها الأكاديمية، وألمس ذاتي الأدبية المطمورة تحت ركام أشكال القياس ونظرية المثل وكوجيتو ديكارت ونقد كانط، وأتنفس قبل كل شيء عطر المحبة والوفاء والصعلكة الفنية التي ستجمع بيننا لأكثر من ثلاثين عامًا. في هذه اللقاءات في بيت المرحوم محمد كامل حسين، ثم في قاعةٍ صغيرةٍ من قاعات نادي المعلمين بميدان الأوبرا (أهدانا إياها ذلك الأب والمعلم القادر على الحب قدرة رجال ذلك الزمان، وهو محمد فريد أبو حديد رحمه الله) في هذه اللقاءات سمعت معظم قصائد صلاح عبد الصبور الأولى، وهي تخرج دافئة كالأرغفة الطازجة الفواحة بعبير الأرض والشمس لحن وأبى وهجم التتار ورحلة في الليل وغيرها من قصائد «الناس في بلادي». كما سمعت قصص فاروق خورشيد وعبد الرحمن فهمي وأحمد كمال زكي وقصائد عز الدين إسماعيل التي لم يحرص للأسف أبدًا على جمعها في ديوان حتى الآن، وتعقيبات شكري عياد وعبد الحميد يوسف وحسين نصار مد الله في عمرهم جميعًا. فتحت عيني على عالم نقي ظللت وفيًّا له وظل وفيًّا لي أكثر من ثلاثين سنة تعلمت منهم، وشاركت ببعض قصصي، وأرغمت على تحضير تعقيباتي، والغوص قليلًا في بحر الأدب العربي الذي كنت ولا زلت أقف على شاطئه، وأشغل نفسي عنه بأدب الغرب والشرق. هل أصف لك جلساتنا الصاخبة أو الهادئة أمام ألواح الشطرنج في نادي المعلمين وندوة أمين الخولي ومقر الجمعية الأدبية في الدور الأول من بيتٍ قديمٍ بسلالم متآكلة في شارع قولة بحي عابدين، ثم في الدور الثامن من بيت من شارع عرابي أمام قهوة أم كلثوم؟ أم أحدثك عن مئات الليالي التي التأم فيها شمل الجمعية ومئات الندوات والمحاضرات والمناقشات التي أقبل عليها أدباء اليمين واليسار، وسهراتنا في مكتب صديقنا فاروق خورشيد «موتور» الجمعية، وقلبها النابض، أم عن تولينا إصدار الأعداد السبعة الأخيرة من مجلة «الثقافة» المحتجبة (سنة ١٩٥٢م)، ومشاركتنا في «الأدب» التي كان يصدرها أستاذنا أمين الخولي وفي غيرها من المجلات؟ إن الأهم من ذلك النشاط العملي هو الحب النادر الذي لم شملنا وشد أزرنا طوال العمر، ولا يزال هو النور الذي لا ينطفئ من ذكرى شبابنا المظلم التعس، وحياتنا التي حرمت الحرية والديمقراطية، وجوعنا الذي لا يشبع للقراءة والدرس والفهم والإبداع والتجريب.
تاريخ مشترك ورحلة عمر مشتركة. كيف تصلح الكلمات لاحتواء لحظات الحب والشوق والغضب المتكررة كل ليلة، أو على الأقل ليلة كل أسبوع؟ فلأتركها لمجالٍ آخر، فما أكثر ما فيها من أفراحٍ وأحزان، وعتابٍ وخصامٍ وفراق ولقاء من حياة لم تتوقف ولن تتوقف إلا بعد أن نغيب جميعًا بخيرنا وشرنا.
-
لا بد أنك قرأت المراجعة النقدية التي كتبها في بداية حياته الأدبية عن عطاء طه حسين والمازني والحكيم والعقاد وجعل عنوانها هذا السؤال: ماذا يبقى منهم للتاريخ؟ ولو سألت اليوم: ماذا يبقى من صلاح للتاريخ؟ لقلت لك: لا أستطيع أنا ولا غيري أن نتنبأ بالمستقبل أو نتحول إلى منجمين. فلكل عصر كتابه وشعراؤه. والمشاهير في عصرٍ قد يخبو بريقهم في عصرٍ آخر، ومن يظن أنه يكتب «للخلود» يضاجع وهمًا وحلمًا مطلقًا مستحيلًا، ولكن يبقى المحك الذي لا يخطئ، والمقياس الذي لا يخيب أن أصدق الكتاب والشعراء تعبيرًا عن عصره هو الذي يكتب له البقاء (النسبي في كل الأحوال). عاش مع المتنبي مئات الشعراء، فلماذا بقي شامخًا واندثروا؟ لماذا بقي نجم شيكسبير ساطعًا، وخبت نجوم أخرى لم تخل من الموهبة؟ إن شعر صلاح بوجهٍ خاص شهادة أمينة وحزينة على جيل تعس وحزين، ويقيني أن اسمه سيسلك في عقد الشعراء العظام من كل العصور والآداب عندما ينجلي غبار المعاصرة وحجابها، وينصف الزمان الذي لا بد أن ينصف الصادقين.
-
تحمل صلاح عبء الكلمة، وكان إيمانه بالكلمة مبرر حياته. وبقي سؤاله الذي يعذبه: متى وكيف تصبح الكلمة فعلًا؟ لعلك تذكر الأبيات المشهورة في مأساة الحلاج: ماذا أصنع؟ لا أملك إلا أن أتحدث، ولتنقل كلماتي الريح السواحة، ولأثبتها في الأوراق شهادة إنسان من أهل الرؤية، فلعل فؤادًا ظمآنًا من أفئدة وجوه الأمة، يستعذب هذي الكلمات، فيخوض بها في الطرقات، يرعاها إن ولي الأمر، ويوفق بين القدرة والفكرة، ويزاوج بين الحكمة والفعل. هل كان يحلم حلم أفلاطون بالملك الفيلسوف أو «منقذ» المدينة الذي يجمع في شخصه بين الفكرة والقدرة، والحكمة والقوة؟ أم كان يعبر عن الشوق — الأبدي المهزوم — إلى العدل، في زمن طغى فيه الاستبداد وتأله الجلاد؟ أم ينفض ما في صدره من سخط من ضياع الكلمة وامتهانها والتجارة بها في سوق الكذب والانتهازية والنخاسة ولعق أحذية القابضين على الصولجان؟ أم في النهاية عن يأس من تشردها وهوانها ويتمها وضيعتها في أمة الشعر التي فقد فيها الشعر بداهته وقوته الموروثة، وتحول إلى ثرثرة أو طنطنة أو اجترار أحلام مريضة؟ وحتى لو كانت هذه الأمة لا تزال تهتز للشعر، فكيف ينفذ إليها من سدود الأمية والذل والفقر، وخصوصًا إذا كان شعرًا حديثًا يحتاج إلى ثقافة لا يملكها أكثر المثقفين؟ لقد ظل صلاح يتعذب بهذه المشكلة التي هي في الحقيقة مشكلة الإنسان العربي في هذه المرحلة التاريخية الانفصام بين الكلمة والفعل، إطلاق الأصوات الفارغة من المعنى ومن قابلية ترجمتها إلى أعمال. ولهذا رأى الأيام بلا أعمال، وصرخ صرخاته المدوية على لسان النبي المهزوم الذي يحمل قلمًا، وينتظر نبيًّا يحمل سيفًا: يا أهل مدينتنا! هذا قولي: «انفجروا أو موتوا». وتعذب بالمشكلة إلى حد الاختناق بالصمت، وتخلي الشعر عنه، أو تخليه عن الشعر في السنوات الأخيرة من حياته، فتحولت ثورته المحيطة إلى الداخل، وتحول الثائر اليائس من جدوى الكلمة إلى صوفي صامت وحكيم محزون، فقد صلته بالواقع المريض والعالم المختل من حوله، ولم يعد أمامه إلا «الإبحار في الذاكرة» التزم الحلاج بأن يقول كلمته ودفع الثمن من دمه. والتزم صلاح بكلمته، وحمل عبئها، ودفع الثمن من حياته. لا أظن أن شاعرًا غيره قد عبر عن أشكال الشعر في العصر الحاضر وأشكال أمة الشعر التي لم تعد تشعر، وأمة اقرأ التي لم تعد تقرأ أو تعي مثلما عبَّر صلاح عبد الصبور.
-
يتهم صلاح بحزنه ويدان على حزنه. وقد ناقش هذه القضية في سيرة حياته وكفاحه مع الشعر (حياتي في الشعر)، وأكد أنه شاعر متألم لا شاعر حزين، والواقع أن حزنه هو حزن جيله كله، الجيل الذي خرج من عباءة الرومانتيكية العربية، من حزن المنفلوطي وجبران وناجي وجماعة أبوللو، وحزن المواطن الصغير الذي نشأ في أحضان الطبقة المتوسطة الدنيا، مكبلًا بضعفها وتعاستها وقيمها البالية وطموحها المادي والطبقي البائس، فاتجه بآماله وعواطفه إلى الثقافة و«العلم» و«الفن» ينشد فيها خلاصه. ولما يئس من جدوى الكلمة وعجزها عن تغيير الواقع، وتفجير صخرة البنية الاجتماعية والسياسية المتحجرة أيقن أن الثائر الحق هو الحكيم المحزون، وأصبح حزنه هو ثورته المهزومة في أعماقه. واستحال الحزن الذاتي — بعد أن سلم به، ونفض يديه من شهوة إصلاح العالم، وبعد أن كسرت راياته ولم تنفعه فلسفته، وداس الأوغاد على فؤاد «الفارس القديم» — استحال هذا الحزن الذاتي إلى حزن كوني، وموقف عام من الوجود، وحالة وجدانية لا مهرب منها إلا إليها، ها هو ذا يخاطب أوغاد العصر وفرسانه المهزومين في «حكاية المغني الحزين»:
«لعلكم لا تعرفون الحزن يا سادتي الفرسان(وإن عرفتموه فهو ليس حزني)،حزني لا تطفئه الخمر ولا المياه،حزني لا تطرده الصلاة،قافلة موسوقة بالموت في الغرار،والأشباح في الجرار … والندم،حزني لا يفنى ولا يستحدث.»هذا هو حزن جيل وعصر لا حزن شاعر ذاتي أو حكيم متفلسف. وعندما يكتب تاريخ هذا الجيل، وتكشف الأسباب الاجتماعية والسياسية والنفسية التي قيدته بحزنه، وجعلت هذا الحزن إطارًا وجدانيًّا لحياته، عندما يروي تاريخ الهزائم التي مني بها — على الرغم منه — في الثلاثين سنة الأخيرة، فشوهت إنسانيته وحرمته البراءة والكرامة والحرية والعدل، عندما نقرأ يوميات الصوفي بشر الحافي الذي هرب مذعورًا من مدينته بعد أن وجد أن الإنسان الإنسان عبر، من أعوام، ومضي لم يعرفه بشر، حفر الحصباء ونام، وتغطى بالآلام عندما يكتب هذا التاريخ سنعرف في أي الأيام الموبوءة عاش صلاح وجيله (اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر)، وسنتبين من منطق هذا التاريخ المشوه المهزوم لماذا نهدد اليوم بالإبادة بعد أن حكم علينا بالموت والانقراض أو بالأحرى بعد أن قضينا على أنفسنا بالانتحار …
إن حزن صلاح عبد الصبور هو وثيقة إدانة لعصره ورجاله الجوَّف. وهو جزء لا يتجزأ من تاريخنا الاجتماعي والسياسي الحديث الذي أصبحت فيه الكوارث هي زادنا اليومي. والأولى بنا هو دراسة هذا الحزن لا اتهامه، وبدلًا من أن نسأل الشاعر: لم أنت حزين؟ علينا أن نسأل أنفسنا وواقعنا: ما الذي سبب له كل هذا الحزن؟ من أين جاء كل هذا الظلام؟ وكيف السبيل إلى الإنسان العربي، الإنسان قبل أن يفوت الأوان؟
-
أعتقد أن أهم ما يميز شعر صلاح هو «إيقاعه». لا أتحدث عن تجديده في البناء والصورة والموسيقى، عن درامية معظم قصائده وبنيتها القصصية، عن لغته التي تجمع بين الموروث الشعبي ومفردات الواقع المحسوس والحياة اليومية، عن النزعة التشكيلية التي تقربه من النحات والرسام في بعض قصائده الأخيرة … إلخ لا أتحدث عن شيء من هذا، فغيري أقدر مني على وصفه وتحليله. إنما الإيقاع هو الذي أريد أن أتحدث عنه ولا أستطيع. هذا الإيقاع الممدود الثقيل الخطى، الحزين الساخر في وقت واحد، الإيقاع الذي اختار له الشاعر أو اختار لنفسه في معظم الأحيان بحر المتدارك والرجز، وظل يتماوج كالمناجاة مهما تعددت الأصوات (والحلاج مناجاة شعرية موزعة على عدة أصوات)، ويكتم أكثرها مما يبوح به، هذا الإيقاع البطيء الثقيل المجروح — كخطى جيش مهزوم أو راقص متعب — هو في تقديري أكثر ما يشدنا إلى شعره ويؤثر فينا. لا شك أن دارس الشعر أقدر مني على إثبات أن هذا الإيقاع الداخلي هو الذي يجتذب صوره وكلماته وأنغامه، وهو في النهاية كان أقدر من عناصره الأخرى على التأثير على عددٍ كبيرٍ من شعراء الشباب. أذكر من حوار قديم مع صلاح أننا اتفقنا على أن الإيقاع هو أخص ما يميز الشاعر الحقيقي، وأننا خرجنا من قراءاتنا المشتركة في أول العمر «لإليوت» بأن أعظم ما فيه هو إيقاعه. قد نرفض فكره وتشاؤمه وحنينه إلى عصرٍ وسيطٍ تباركه الكنيسة، وقد نشك في أسلوبه وتضميناته الكثيرة وثقافته الواسعة التي يحتال بها أحيانًا لرتق ثوب موهبته المهلهل! بل قد نشك في حبه للبشر، وقدرته على التعاطف معهم، ولكننا لا نستطيع أن نفلت من سحر إيقاعه الممدود الهادئ الذي يشدنا إلى عالمه. أقول هذا الكلام الذي لا يغني عن الدرس المتأني، وتقصي أسباب هذا الحزن الموقع وبواعثه ومكوناته الفنية والنفسية والاجتماعية. لقد صار تراث صلاح ملك الجميع، فمتى نتحرك قبل أن يخجلنا الأجانب والمستشرقون؟!
-
وأخيرًا فإن غياب صلاح وهو على قمة نشاطه وعطائه الشعري والثقافي مأساة ينبغي أن ينتبه لها الغافلون. وإذا كانت كابوسًا ثقيلًا، فهي في النهاية جزء من الكابوس العربي العام. ها هو ذا شاعر تتربص به نصال الخسة والغدر على مدى ربع قرن، حتى تطعنه في النهاية. انهالت عليه الضربات من اليمين الجاهل واليسار الثرثار، حتى سقط من ذا الذي يعوضنا عن إنسان وشاعر عظيم. وإلام يطغى الحطابون الفقراء من الموهبة على أصحاب الموهبة ويسمون حياتهم؟ ومتى ننصف المبدعين أو نتركهم على الأقل في حالهم بدلًا من أن نذيقهم مرارة الجحود والحقد الأسود؟ أهو فصل من فصول تعذيب الذات الذي تعيش فيه أمتنا منذ سنين وسنين؟ أم ظاهرة من ظواهر الانتحار الذي نقبل عليه بكل قوانا البدوية والقبلية الموروثة؟ أحرام أن نوفر للمبدعين في كل الميادين جوًّا يساعدهم على التنفس؟ هل أصبحنا نكره كل من يقول لنا الحقيقة، مع أن الحقيقة وحدها هي القادرة على تحريرنا؟ لقد شقى صلاح كما يشقى كثيرون من زملائه الواقفين في الصف نفسه الذي وقف فيه، وينتظرون دورهم. شقى بالانقسام والتمزق بين شخصيته كمواطن وموظف وشخصيته الحقيقية كمبدع. فهل كثير على أمة النفط والشعر أن ترعى أبناءها الشعراء والمفكرين وتحميهم من نفسها؟ إن الشعر الحديث — في أصواته الرائدة الأصيلة — هو النور الوحيد في ظلام حياتنا الثقافية المعاصرة، وهو الذي حمل العبء عن الفلسفة العاجزة والعلم المشلول والنقد السطحي الثرثار، وهو الذي عانى آلام السقوط العربي، وارتفع صوته بالثورة والاحتجاج وبالكرامة والحرية والعدل. فلماذا نكره شعراءنا الصادقين إلا إذا كنا نصر على كراهية أنفسنا ونسرع بأنفسنا إلى نهايتنا؟ إنها مأساة وقضية، ويا ويل أمة لا تتعلم من مآسيها.
هل تذكر «مشارف الخمسين»؟ لقد بدأ الحبيب الحاضر الغائب صلاح عبد الصبور في نشرها حوالي سنة ١٩٧٩م، وكنت قد بدأت في شتاء العام نفسه — ربما بنوعٍ من التعاطف الوجداني أو تلاقي الخواطر عبر المسافات — بدأت بكائياتي (التي قدر أن تكون أخراها إليه)، ولا أحب أن أضيف شيئًا عنها؛ لأن الفن كما قلت يحب الكتمان. تابع صلاح ذكرياته الحزينة، ونفض أشجانه وخيبة أمله وأمل جيله السيئ الحظ. وكانت الحلقة الأولى منها رثاء للنفس، وبكاء على العمر لا أعرف في كل ما قرأت في هذا الباب أصدق منه. أهو إلهام الشاعر المتنبئ سلسل الساحر والكاهن والعراف الناطق بلسان الغيب؟ أم أن الأمر لا يحتاج لسحر ولا تنبؤ ولا عرافة بعد أن أصبح الجاهل والعالم، والمخلص لأمته، والمتاجر بأوجاعها يتحدثون جميعًا في الشارع والصحيفة وأجهزة البث الإذاعي والمرئي عن ظواهر التمزق والانهيار التي لم تعد خافية، ويحسون الخطر الأكبر الذي يتهددنا كل يوم (أكتب هذه الكلمات بعد أيام من الهجمة البربرية المجنونة على لبنان، أكتبها وبيروت الحرة الجميلة تخرب وتدمر وتحاول أن تحمي لحم أبنائها ودماءهم المتناثرة، بينما العرب يثرثرون ويتسكعون وينتهزون فرص إثبات البطولة الكاذبة) فهل يستغرب علينا وعلى عدد كبيرٍ من الأمناء على الكلمة أن يرثوا أنفسهم وأمتهم بعد أن أصبح الكلام لا يجدي، وسقطنا مفتوحي الأعين في الهاوية أو المستنقع؟ نحن لا نملك إلا أن نتكلم. لا نملك إلا تعذيب أنفسنا ورثاءها والبكاء على الكلمة التي لا تنقذ حضارة وعلى الحضارة الآفلة التي لم تحول الكلمة إلى فعل، لكن البكاء ورثاء النفس وتحذير الأهل والقوم هو في النهاية أدب وكلام مهما يكن جميلًا وصادقًا، فهو لا يغني ولا يغير ولا يقتل عدوًّا يحاصر سور المدينة المحاصرة. وتبقى رصاصة الفدائي الذي تخلى عنه الجميع هي الفعل الحاسم الوحيد. فهل نهب لنجدته والوقوف بجانبه؟ هل نسترد رجولتنا في لحظة تاريخية تندثر فيها شعوب وتحيا شعوب، وهل نتجاوز أحقادنا القبلية والبدوية ونفصد دمنا الفاسد لعلنا نخرج من طوفان الدم مطهرين؟ هي تبعث العنقاء العربية من الرماد أم نتخبط في الأنقاض وفي العار؟
كل ما يتجرعه الكاتب من مرارة يهون بجانب هذه المرارة أن يصبح بومة تنعب على أطلال أمته. ولقد حذر إيبور وأنذر لم يمنع التحذير والنذير من سقوط الحضارة الفرعونية، وتنبأ نيتشه بليل العدمية، ورأى أشباحها تجوس في ربوع أوروبا. وجاءت العدمية مرتين في حربين عالميتين، لكن أدباء آخرين لم يجدوا الوقت للبكاء أو الرثاء. تذكروا أنهم مواطنون أحرار وحملوا السلاح. فأين أنت أيتها الاتحادات الأدبية الموقرة؟ أين لتوحدي الأدباء وتنصريهم على أنفسهم وتوجهيهم لقصائد وملاحم تتحدث بصوت الرصاص؟
ليست كارثة لبنان هي أول كارثة تمر بنا. لقد أصبحنا نألف عشرات الكوارث بالنهار، ونحتضنها في أحلامنا وكوابيسنا بالليل. هل «رعب أكبر من هذا سوف يجيء» كما قال صلاح على لسان النبي المهزوم الذي يحمل قلمًا؟ هل يتمخض ليل الأوجاع عن صباحٍ نشهد فيه مجتمع الحرية والعدل ومدن الرؤية المضيئة التي تعانق الشمس الأطفال؟ وهل سنظل متفرجين أم نقوم أخيرًا بأدوارنا ونمضي إلى المصير باختيارنا؟ وإذا تحتم أن نغرق ونسقط، فلماذا لا نسقط كرجال؟ أليست هذه اللحظة التي يمكننا أن نقول فيها للموت إننا نموت ونحن نحتقرك ونثبت لك أننا لا نستحق الاحتقار. وإذا تركنا اللحظة تفوت كما فات غيرها، فكيف سننظر إلى وجوهنا؟ وماذا سنقول لأولادنا وأحفادنا؟ أسئلة وأسئلة وأسئلة. أبكي نفسي وعصري وأمتي، وأعلم أن الدموع ذليلة لا تقدم حلًّا ولا عزاء. ليس في يدي برنامج إصلاح، ولا أملك نظامًا مغلقًا من القيم والمبادئ والأخلاق، فأمام البيت المتداعي تتساقط القيم والنظم والشعارات. ومن السفينة الغارقة تهرب فيران الحكمة والفصاحة والشعر، ولا يبقى إلا شجاعة الربان وصمود الملاحين. فهل نتشجع ونصمد؟ هل يظهر من طوفان اللحظة أبطال ورجال؟ وهل نغرق (حتى لو عشنا بالملايين، فنحن الأموات المحتقرون) أم ننجو ونطهر بيتنا ونفوسنا؟ هل يسترد الإنسان العربي إنسانيته واحترامه أم يظل القطيع تحت سكين الذئب المغرور؟ تحركوا أيها الرعاة. إن الكلمة عاجزة لا تجدي. الكلمة طبل أجوف أو صيحة ندابة. والكلمة تنتظر الفعل، وأن تصبح فعلًا لا يرحم. إن القبيلة المفترسة تهدد الحضر المترف، لكن من يتذكر ابن خلدون؟ والمغول والتتار على الأبواب يتربصون وسوف يتربصون لأجيال. من يضع السيف في يد النبي المهزوم؟ متى يفزع الحكيم المحزون إلى البندقية، وتخرج ثورة الباطن إلى الخارج، وينتهي الطلاق العربي بين الكلمة والفعل؟ متى ومتى وكيف؟
حيرتي هي مكاني المطلق. وأنت تستدرج مجهولًا ليناجي المجهول. تسألني عن رأيي وأنا أسألك أمام الأطلال المتداعية على ساحتنا، أسأل نفسي، أسأل قراءك: ماذا نفعل؟