أمضي كل الأيام
الأغنية التي قرأناها أغنية لم تتم، فقد اختنقت في صدر الشاعر مع غصة الفراق. إنه يتلفت بقلبه وعينيه إلى حيث تقيم المحبوبة، ولكنه لا يستطيع أن يخدع قلبه ولا يعنيه عن بعد الشاطئ واستحالة اللقاء. ومع ذلك فهو لا يزال يناجيها ويتعلق بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. كيف يصدق أن حبيبته «ديوتيما» التي جسدت حلم حياته بالجمال الإغريقي وعالم الآلهة المباركين، بل أوشكت أن تتمثل أمامه واحدة من تلك القوى العلوية التي طالما حن إليها، وناشدها العودة إلى الأرض المعذبة والبشر الفانين، كيف يصدق أنه حُرم منها إلى الأبد، وأنه سيهيم بعدها كما تهيم الظلال:
هل ستفعل «ديوتيما» ذلك حقًّا، فتدب فيه الحياة، ويحلق جناحاه، ويهتف بفرحته لعودة الربيع واخضرار الأرض، أم تتركه في يأسه وحيرته، يحاصره شتاء الاكتئاب، وتطبق عليه جدرانه المظلمة الخرساء، في سجن الجنون الذي سيبقى فيه طوال الأربعين سنة الأخيرة من عمره؟ ولكن مَن هي هذه المحبوبة التي أطلق عليها الشاعر اسم الكاهنة الإغريقية القديمة «ديوتيما» التي أجرى أفلاطون الحكمة على لسانها في محاورة «المأدبة»، وجعلها تعلم سقراط ما لم يكن يعلم من أسرار الحب الفلسفي؟ ومن هو هذا الشاعر الذي ساقه القدر إلى طريقها كما ينساق المتجول في النوم، واندفع إليها حين تصور أن الرؤيا تتحقق والنبوءة والحلم؟ إنه فريدريش هلدرلين (١٧٧٠–١٨٤٣م) الذي وهب الشعر كل شيء، فأعطاه بعض أسراره الغامضة. شاعر الغربة الذي عاش غريبًا في عصره وبين أهله وعلى الأرض التي اغترب عنها الآلهة الخالدون، فراح يتغنَّى بهم، ويحتفل بموكبهم المنتظر، ويناشدهم العودة للبشر المعذبين، وينشدهم ما ألهموه من أشعار مثقلة بالرموز والتنبؤات والإشارات، فاجتمع في شخصه ما اصطلح القدماء على فهمه من كلمة الشاعر؛ فهو الذي باركته الآلهة بوحيها، فأصبح العراف الناطق بلسانها، والوسيط بينها وبين الفانين من أبناء الإنسان، وهو الساحر والمتنبئ بالمستقبل والمنشد بصوت الشعب وآلامه، ولهذا لا نعجب أن سماه البعض شاعر الشعر أو شاعر الشعراء.
•••
ولد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة ١٧٧٠م في بلدة «لاوفن» على نهر «النيكر» في منطقة «أشفابن» المعروفة بغاباتها وجبالها الغامضة التي غرست في سكانها حب الوطن والحنين الدائم إليه مثل حنينهم الصوفي إلى عالم مثالي موغل في البعد والخفاء والطموح.
مات أبوه وهو طفل صغير، وتردد على مدارس الأديرة قبل أن يدخل المعهد الديني في مدينة «توبنجن» تحقيقًا لرغبة أمه الطيبة المسكينة. واحتمل مرارة الحياة الخشنة الصارمة بين جدران هذه الزنزانة اللاهوتية التي تعرَّف فيها على صديقَي صباه وفيلسوفَي المثالية الألمانية الكبيرين هيجل وشيلنج. ولم تلبث الصداقة والمحبة أن جمعت بين الثلاثة، كما جمع بينهم الطموح إلى عالم مثالي تتحقق فيه الحرية، ويتم الخلاص من الظلم والركود والاستبداد الجاثم على صدر شعبهم. واشترك الأصدقاء في قراءة أفلاطون وروسو وكانط وشيلر واسبينوزا الذي عبرت الكلمة اليونانية القديمة «الواحد والكل» عن مذهبه في وحدة الوجود، وأثرت بعد ذلك على حياة هلدرلين، وظلت هي شعاره الناطق بحضور الإله في كل ما يتجلى لعينيه. وكان من الطبيعي أن يتأثر الشاعر مع شباب جيله بالثورة الفرنسية التي تأججت نيرانها فجأة، فبدت كأنها فجر الخلاص والأمل في الحرية والتقدم والكرامة، وأن يتأثر كذلك بحركة بعث الروح الإغريقية ومحاكاة روائعها محاكاة خلَّاقة. لقد كان مؤرخ الفن القديم «فنكلمان» هو باعث هذه الروح التي تمثلت فيها «البساطة» النبيلة والعظمة الساكنة. ثم ازدهر الأدب والفلسفة الألمانية على يد «ليسنج» و«هيردر» و«كانط» و«جوته» و«شيلر»، فأمدتها بدماء جديدة، وأكدت مثلها الأعلى الذي تراءى لعيون هذا الجيل، وهو الإنسان الحر الجميل، المتحد بالطبيعة والآلهة والأبطال الأسطوريين في وحدة حية متجانسة لم تجرب التمزق والتصدع الذي كانوا يعانونه. وقد كان هلدرلين أكثر أبناء جيله انفعالًا بهذا العالم المقدس الرائع، وكان أشدهم حنينًا إليه في كل أناشيده وأغانيه … تغلغلت هذه الرؤية الدينية والكونية في أعماقه يومًا بعد يوم، وراح يغوص في متاهتها، ويستغرق في أسرارها مع كل تجربة جديدة تؤكد عجزه، وإخفاقه في الحب والحياة. ومع كل يوم يزداد بعدًا عن الوعي وعن الناس، ومع كل عذاب تزداد لغته كثافة وغموضًا، وتصبح كلمته الشعرية كإشارات الوحي المثقلة بالرهبة والجلال والجمال، وتشتد قسوة قدره المعذب الوحيد، فينحني له راضيًا مطمئنًا، وتستجيب له نفسه الوديعة في خشوع وانكسار:
«أيتها الروح! أيتها الروح! أنت يا جمال العالم! يا من لا تتحطمين! أيتها الساحرة الفاتنة بشبابك الأبدي! أنت حية باقية، وما الموت وكل عذاب البشر إذا قورن بك؟ آه! كثيرة هي الكلمات الجوفاء التي صنعها هؤلاء المدهشون. ومع ذلك فكل شيء يصدر عن الفرح، وينتهي إلى السلام. وما مظاهر الشذوذ في العالم إلا كالخلاف بين الأحباب. إن الصلح قائم في قلب التنازع والشقاق، وكل ما تفرق سيلتقي من جديد. والشرايين تتشعب، ثم تعود فتصب في القلب، وتظل الحياة الواحدة الخالدة المتوهجة هي الكل.»
تخرج هلدرلين في المعهد الديني سنة ١٧٩٣م، وقرر أن ينفض عنه أغلال اللاهوت والوظائف الكنسية ليتفرغ لموهبته الشعرية. واضطره ذلك أن يعيش عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت لبيت في سبيل لقمة العيش. كانت مهنة التعليم وإعطاء الدروس الخصوصية لأبناء الأسر الثرية هي الباب الوحيد الذي يمكن أن يطرقه المثقفون والأدباء الذين بخل عليهم الحظ، فلم يرعهم ملك ولا أمير. وكان عليهم في كثير من الأحيان أن يتحملوا المهانة والهوان، ويُعامَلوا معاملة الخدم والأتباع. وتوسط له الشاعر «شيلر» للعمل في أحد هذه البيوت المرموقة التي كانت على صلة بالحياة الأدبية، ولكنه أخفق في مهمته التربوية، وتأكَّد له إخفاقه في الحياة العملية عندما حاول بعد ذلك أن يستقر في مدينة «يينا» — كعبة المثالية في ذلك الحين — ويعمل بتدريس الفلسفة في جامعتها. وتبيَّن له عجزه عندما سعى للاتصال بفشته — رائد المثالية وباعث القومية — والتقرب من «جوته» أمير الشعر وعملاق الأدب، فتجاهله الفيلسوف، وأعرض عنه الشاعر، ولم يستطع أن يقدر موهبته التي اتهمها بالغموض والاضطراب. ولم يبقَ له غير مواطنه شيلر الذي كان مثله الإنساني والشعري الأعلى. وقد أشفق عليه الشاعر في البداية ورعاه، ونشر له الصيغة الأولى من روايته «هيبريون» في مجلة «ثاليا» التي كان يصدرها، ولكنه لم يلبث أن ضاق به وانصرف عنه. وكانت هذه التجربة من أمر التجارب التي ذاقها في حياته. وعاد يجرب حظ المعلم الخصوصي البائس، فالتحق سنة ١٧٩٦م ببيت رجل من رجال المال والأعمال والبنوك يدعى جونتار في مدينة فرانكفورت. هنالك لقي من المهانة ما لا تحتمل نفسه الحية الوديعة، وصبر ثلاث سنوات على النزيف المستمر من جرح الكبرياء، ولكن القدر عوَّضه عن ذلك بالنعمة الوحيدة التي عرفها في حياته الوحيدة. أحب ربة البيت «سوزيته جونتار»، وبادلته السيدة الرقيقة حبه اليائس، ومدت يدها الحنون إلى روحه الغريقة في ظلمات الاكتئاب. وجد فيها مثال الإنسانية الجميلة الطاهرة التي قربته من الروح الإلهي الخالد، بل جعلته يشعر بأنه تجسد حيًّا فيها. إن الروح الإلهي لا يؤمن به إلا من كان هو نفسه إلهيًّا.
وهو لا يتمثل له فحسب في الطبيعة الحية، والسماء والأثير، والأرض والنهر، بل يحيا كذلك في «ديوتيما» التي يعيش الآن بقربها ويعبدها ويقدسها. كانت «سوزيته» هي مثال الجمال والانسجام والحكمة الذي طالما داعب أحلامه ورؤاه، وكانت هي الروح الإغريقية نفسها التي اشتاق إليها، وانتظر ميلادها وتعزَّى بها عن محنة وجوده وسط الظلم والتجاهل والفساد والطغيان، ولكنه اضطر أن يغادر البيت الذي تحققت فيه الرؤيا، غادره مهانًا مدحورًا، وافترق عن المحبوبة التي لم تجد حيلة في الفراق، فحبست حبها في صدر عشش فيه السل، وافترس حياتها بعد ذلك بسنوات قليلة. ها هو ذا يناجيها بعد رحيله عنها في قصيدة عنوانها «ديوتيما»:
لكن ديوتيما قد غابت عنه إلى غير رجعة، وصار الفراق عنها هو مأساة وجوده كله:
بدأ الشاعر طريق العذاب. لم يعزه قليلًا عن فراقه عن حبيبته إلا قدرته على الحب والأمل والعرفان، أي قدرته على قول الشعر. ففي هذه الفترة التي امتدت من سنة ١٧٩٨م، حتى حوالي سنة ١٨٠٤م، ولم تكد تزيد على الخمس سنوات كتب عددًا كبيرًا من أناشيده الغنائية الكبرى، وأتم روايته الوحيدة «هيبريون»، وترجم مسرحيتي سوفوكليس «أوديب ملكًا» و«أنتيجونا»، وعددًا من قصائد بندار الأوليمبية ترجمة شاعرية رائعة. كما عكف على مسرحيته الشعرية «موت أنبادوقليس». والواقع أنها ليست مسرحية تصلح للتمثيل، بل هي قصيدة درامية عن ذلك الفيلسوف الطبيعي والكاهن والساحر والطبيب والمصلح الثائر الذي ولد في مدينة أجريجنت عاصمة صقلية حوالي سنة ٤٩٠ قبل الميلاد، ثم طرده أهلها بعد أن أوشكوا أن يؤلهوه ويتوجوه على عرش مدينتهم، ونسجوا عن موته تلك الحكاية العجيبة التي ألهمت العديد من الشعراء. فقد رووا عنه أنه ألقى بنفسه في فوهة بركان «أتنا» وترك حذاءه بجانبها ليدل على موته أو انتحاره الأعجب، هل استجاب الفيلسوف لنداء الأرض الأم فاتحد بالطبيعة الإلهية، أم لجأ إلى حيلة ماكرة أراد منها تخليد اسمه وذكره؟
لقد كتب عنه هلدرلين إحدى قصائده قبل أن يكتب المسرحية. وهو يمجده فيها ويتمنَّى لو يتبعه إلى أعماق الأرض لولا أن قوة الحب تمنعه:
لكن الحب ومعه الرؤيا والتجربة الكبرى قد انهار، والانتحار البطيء باسم الاكتئاب يفترسه ليل نهار. وبعد أن كان هبوط الفيلسوف القديم في فوهة البركان تكفيرًا عن ذنبه عندما وضع نفسه في مصاف الآلهة، أصبح في الصياغة المتأخرة للمسرحية تعبيرًا عن شوق صوفي إلى رحم الأرض، وحنين إلى أحضان الطبيعة المباركة والأصل المقدس:
وبدأ هلدرلين يغوص في هاوية اللهب الأسود المقدس، وراح الاكتئاب المميت يحاصره من كل ناحية، ويضطره للتسليم. ولكم حاول أن يتشبث بذكرى الحب ورؤياه الشعرية لتحميه من السقوط. فطفق يناجي القوى السماوية، ويستنجد بها من لعنة الوحدة التي تطبق عليه:
أخذ الشاعر يندفع إلى الهاوية الغامضة التي لن يخرج منها. وبدأ ظلال الجنون تلتف حوله يومًا بعد يوم. وعاد يهيم في البلاد بحثًا عن لقمة العيش، فعمل فترة قصيرة في سويسرا، ثم هجرها وقام برحلته الأخيرة إلى مدينة «بوردو» الفرنسية ليتولى تعليم أبناء القنصل الألماني المقيم فيها، ولكنه لم يلبث أن ترك عمله وعبر الحدود على قدميه، حتى وصل إلى وطنه، وقد ظهرت عليه أمارات الاضطراب النفسي والعقلي. هل تعرض في أثناء رحلته لضربة صاعقة من رب النور «أبوللو»؟ أم انفجر فيه جرح الحب الذي ظل سنوات ينزف في صمت؟ هل تأكد له أن العالم الذي يحيا فيه قد صار حطامًا لا موضع فيه للتجانس والجمال، وأن السماويين المباركين قد تخلوا عنه إلى غير رجعة؟ لقد صور له الأمل أو الشعر أنه يمكن أن يحلم بهم على الرغم من قسوة الواقع، وأن يناجيهم ويتغنَّى بهم ويتحدى القبح المتفشي من حوله، فهل اقتنع الآن بما قاله في أشهر قصائده المتأخرة وهي قصيدة «الخبز والنبيذ»:
ولهذا يسأل قبل ذلك مباشرة:
وكأنه قد تشكك في جدوى الشعر والشعراء في زمن المحنة، بعد أن آمن بهما من قبل، وقال بيته المشهور:
لا لم يعد في طاقته أن يأمل أو يتشبث برؤياه، حاصره الشتاء، وها هو ذا يعلن صرخته للريح:
كان المريض الذي عبر جبال الألب على قدمَيه قد لجأ إلى أمه، وعاش معها في بلدته الصغيرة «نورتنجن» حتى سنة ١٨٠٤م، لكن المرض ألح عليه، فغادر البيت وعاد يتنقل بين البلاد، حتى استقر في مصحة الأمراض العقلية في مدينة «توبنجن». ولما يئس الطب من شفائه تسلمه نجار طيب آواه في بيته، فعاش فيه نصف عمره الأخير أشبه بالظل الهادئ والشبح الهائم في الليل الطويل:
وأقبل الموت فخلصه من حلمه أو من رؤياه في اليوم السابع من شهر يونيو سنة ١٨٤٣م.
وتمت دورة الحياة التي غناها قبل ذلك بأكثر من أربعين عامًا، فقال: