ذات ليلة … في الزمان
في هذه القاعة رأيت الشاعرة لأول مرة: شقراء، طويلة جدًّا، تجاوزت الأربعين بقليل، صامتة ضيقة العينين، تنبعث منهما شيخوخة لا تناسب عمرها، وبرود وسكون لا نلحظهما إلا في عيون الجلادين والحكماء! وتعرفت عليها بعد ذلك فعلمت المزيد. فهي تقوم بتدريس اللغة التركية في قسم اللغات الشرقية بالجامعة، كما نشرت العديد من قصائدها في المجلات الأدبية، وإن كان ديوانها الأول لا يزال تحت الطبع. لقد ولدت سنة ١٩٣٦م في برلين، ولا زالت تعيش بها، وحصلت على الدكتوراه في الأدب التركي الحديث برسالة عن خلق العالم ورموز الحيوان عند الشاعر فاضل حسنود أغلاركا، ونقلت إلى لغتها عددًا من الآثار الأدبية التركية: قصائد للشاعر أراس أورن بعنوان «منفًى خاص»، وقصائد أخرى لنفس الشاعر بعنوان: «ألمانيا، حكاية تركية»، وملحمة شعرية «لناظم حكمت» هي ملحمة الشيخ بدر الدين. أضف إلى هذا مسرحية للهواة نشرتها سنة ١٩٧٧م بعنوان «عبور القديس فرانشكو» بجانب مشاركتها في الحياة الأدبية في مدينتها، وشرف عضوية إحدى الأكاديميات العلمية التي لم أعد أذكرها! ودعتنا ذات ليلة إلى مسكنها للتعرف على أصدقائها وزملائها من أدباء الشباب. وأتيح لنا في هذه الليلة أن نلمس حب القلوب الشاعرة، ونسمع قصائد القلق والشوق، ونطلع على حكايات الشباب الفخور بحريته المطلقة، ونحس سعادته بها وإشفاقه منها، ونقرأ في النهاية قصتين لنا، ونلمح أثر الخشوع والتعاطف اللذين ارتسما على وجوه المتلقين وفي عيونهم. ثم شاءت الصدفة أن أسمع في الخريف الماضي بوجودها في القاهرة، ولم يتسع وقتي للقائها أكثر من مرتين مع بعض الأصدقاء من الأدباء والشعراء، وتكرمت بإهدائي ديوانها، الذي صدر أخيرًا بعنوان «ذات ليلة، في الزمان» (لاحظت فرحة الكتاب الأول في لمعان عينيها الضيقتين الطيبتين) قرأت علينا بعض القصائد، وتولينا — صديقي الدكتور عوني عبد الرءوف وأنا — نقل معانيها للحاضرين نقلًا يؤكد صدق العبارة المأثورة: «أيها المترجم، أيها الخائن!» وأحسست منذ ذلك الحين أن شوكة «الأميرة المينوية الصغيرة» (وهي القصيدة التي ستقرؤها بعد قليل) قد انغرست في قلبي، وأن حوار الدرويش والقطة في كوة حائط بيزنطي بإحدى المدن التركية التي لا أعرفها يلاحقني حتى باب مسكني، ويتسلل رغمًا عني إلى فراش نومي، قلبت صفحات الديوان قبل أن أنام، ولمس قلبي الإهداء الذي كتبته عليه، واقتبسته من أبيات للشاعر الصوفي «إنجيلوس سيلزيوس»: «عليك أن تصبح شمسًا، أن ترسم بأشعتك بحر الألوهية الخالي من الألوان». ويبدو أنني في تلك اللحظة بدأت أتراجع عن قراري بالتوبة عن الخيانة المحتومة، أي عن ترجمة الشعر، فقد تسللت قوة خفية — في ليل صنعاء الطويل الهادئ — لتحرك يدي لنقل بعض قصائد هذه الشاعرة، وها هي الآن تدعوك لقراءتها، وها أنا ذا أمهد بمقدمة من تلك المقدمات التي يحس الإنسان دائمًا — تجاه أعمال الفن التي يجب أن نتركها تتحدث بنفسها — أنها ضرورية، وأنها في نفس الوقت سطحية ولا داعي لها.
•••
نشأت معظم قصائد هذه المجموعة أثناء زيارة قامت بها الشاعرة في خريف سنة ١٩٧٨م لجزيرة كريت. ويبدو أن وقوفها على أطلالها وحفائرها وآثارها قد حرك فيها مختلف المشاعر والأفكار التي حاولت أن تعبر عنها في صورة حية ملموسة للعين والوجدان. ومع أن معرفة التاريخ — أو بالأحرى ما قبل التاريخ — لا يلزم بالضرورة لتذوق الشعر — لأنه كما علمنا المعلم الأول يتجاوز التاريخ ويسمو عليه — فلا بد من كلمة سريعة عن «الجو» التاريخي الذي نمت براعم الشعر على أرضه، ولا بد من الإلمام ببعض الحقائق التي تقرِّبنا من روحه، وتعرفنا ببعض الأماكن والأسماء الواردة فيه. وأهم هذه الأسماء هو اسم الملك الخرافي «مينوس» الذي حكم جزيرة كريت في عصر يبدو ألا وجود له إلا في ذاكرة الأساطير، فهي تروي عنه أنه ابن «زيوس» عظيم الآلهة من زوجته أوروبا، وأنه طرد شقيقه «ساربيدن» بمساعدة رب البحار «بوزيدون»، واستولى على عرش كريت، وامتد سلطانه من جزيرة كنوسوس إلى جزر البحر الإيجي، كما يؤكد المؤرخ الإغريقي «توكيد يديس» (٤٤١) أنه عمر هذه الجزر، وطهر البحر من القراصنة. وتذكر أوديسة هوميروس (النشيد التاسع عشر، البيتان ١٧٨–١٧٩) أنه أقر القوانين الحكيمة العادلة، وأن الناس هابوه لصداقته لزيوس نفسه. وتروي عنه الأساطير أيضًا أنه تزوج سيفايا ابنة الشمس التي ولدت له أندروجيوس وأريادنه وفيدرا، وأن أرباب الأوليمب عاقبوه؛ لرفضه التضحية بثور معين، وأن زوجته وقعت في غرام هذا الثور، وأنجبت منه الوحش الخرافي «المينوتا توروس» (ثور مينوس)، الذي يعد من أشهر شخصيات الأساطير الإغريقية! وتزعم هذه الأساطير وبعض النصوص الدرامية الأثينية أن مينوس فرض على أهل أثينا بعد احتلالها تقديم أطفالهم طعامًا للوحش، حتى خلصهم منه البطل «ثيسيوس» وحكاية أريادنة، والخيط الذي مدته لهذا البطل لكي لا يضل طريق الدخول والعودة من المتاهة التي هبط إليها لقتل الوحش أشهر من أن تُذكَر، وقد كانت ولا تزال موضوع الإبداع الفني والأدبي والمسرحي والأوبرالي. وأخيرًا فقد جعلت منه الحكايات والخرافات أحد قضاة الأموات في العالم السفلي «هاديس». ولعل التاريخ الموغل في القدم لهذا الملك الأسطوري هو الذي دفع بعض المؤرخين على الربط بينه وبين الدين والطقوس برباط وثيق (كما فعل ديودوروس الصقلي في تاريخه ٨٧٤٥)، ولكن بعض الباحثين يرجحون على ضوء الحفريات التي تمت في كريت وزارتها الشاعرة التي تتحدث عنها أن مينوس كان مجرد اسم ملكي على حكَّام العصر البرونزي الذين تتابعوا على الجزيرة، وبذلك اختلفت الروايات المأثورة عنه، ولكنها تؤكد على كل حال أن كريت كانت فيما قبل التاريخ (أي حوالي سنة ٢٥٠٠ قبل الميلاد) قوة بحرية تهابها سائر بلاد الإغريق، والهيبة كما يعلم القارئ لا تخلو من الحسد والحقد! أما «كنوسوس» التي تذكرها القصائد التالية فقد كانت أهم مدن جزيرة كريت، وكان بها قصر الملك مينوس، أو مجموعة الملوك الذين حملوا اسمه. وقد ازدهرت المدينة سنة ألف قبل الميلاد، حتى دمرها الزلزال، فاحترقت وتخلت بعد ذلك بقرن من الزمان عن مجدها الحضاري لمدينة «ميكينة»، وقد كشفت حفريات كريت — التي بدأت في القرن الثامن عشر ولا تزال مستمرة حتى اليوم — أنها أقدم بؤرة للحضارة الأوروبية. ولعل زيارة هذه الشاعرة وإقبالها على معايشة آثارها أن تكون تعبيرًا عن حنينها وحنين الأدب الغربي الحديث للعودة للمنبع والأصل، والبحث عن طريق الخلاص بعد أن وصل العقل الأوروبي إلى طريق مسدود، لا مخرج منه إلا بالمعجزة أو بالموت الشامل، ولهذا يكثر تنقيب الشعراء والفنانين والعلماء أيضًا في أرض هذا العقل، والتفتيش في حفرياته وأعماقه عن الرموز الأصلية والعلامات المنسية، وأما هيركولانيوم التي يرد ذكرها كذلك في النص والتعليق، فهي مدينة رومانية قديمة في ولاية كامبانيا بإيطاليا، أحرقها بركان «فيزوف» الذي ثار سنة ٧٩ بعد الميلاد، وأغرقها تحت حممه، كما طمس معها مدينتي يوستي وستابيا بالقرب من مدينة نابولي الحالية. وقد ربط التراث الإغريقي بينها وبين البطل الأشهر هرقل، وبدأت الحفريات في الكشف عنها منذ بداية القرن الثامن عشر عندما عثر أثناء حفر أحد الآبار على جدار تبين أنه جزء من مسرحها القديم، ثم عثر فيها على عدد هائل من التماثيل والنقوش والأثاث المنزلي والملابس … إلخ، ووقع الباحثون في «فيلا البردي» على مجموعة ثمينة من التحف الفنية من البرونز والرخام وأوراق بردي يونانية تزخر بنصوص فلسفية مستوحاة من تراث المدرسة الأبيقورية. ولا تزال الحفائر مستمرة في هذه المدينة البائسة الحظ، كما أن النصوص التي تلقي الضوء على شخصية أبيقور ومدرسته لم تنشر كلها بعد، ولكن الحفائر قد كشفت على كل حال عن عدد كبير من معالمها كالسوق، والمعابد، والحمامات والملاعب الرياضية، والبوابات والتماثيل ولوحات الحائط … إلخ، ولا بد أن الشاعرة التي رأت هذا كله رأي العين قد حاولت أن تبعث بضميرها وصوتها الشعري وراء هذه الآثار لعلها تستشف المعنى الخالد وراء حياة الإنسان وموته، وسر وجوده ومصيره، بل لعلها أن تكون قد ذهبت إلى أبعد من التاريخ البشري وما قبل التاريخ لتلمس أسرار الحزن الكوني.
•••
تكشف القصائد التالية — على الرغم من عجز الترجمة وقصورها — عن بعض الخصائص المميزة لبنية الشعر الأوروبي الحديث، وهي البنية الغربية التي بدأت تتشكل على يد الشعراء الفرنسيين العظام — بودلير ورامبو ومالارميه — وما زالت تتشكل في صور أغرب عند الشعراء المعاصرين. وربما كانت أهم عناصر هذه البنية (مع الحذر من التعميم؛ إذ إن كل قصيدة بناء مستقل، مهما عكست مرآتها الصغيرة معالم البناء المشترك) هي بوجه عام التشكيل الذي يكشف عن جهد عقلي وإرادي مقصود، ولا يترك للإلهام وشطحات الوجدان سوى حيز ضئيل، التوتر والقلق اللذان يعكسان تفتت الواقع الحديث وتمزقه وانقسامه على نفسه، اعتماد القصيدة على الإيحاء لا على «التعبير» عن فكرة أو معنًى محدد، وهي لهذا تشع في عقل كل قارئ ووجدانه بإشعاعات مختلفة، تغير وظيفة الاستعارة والتشبيه والرمز نتيجة التوسع إلى أقصى حد ممكن في استغلال طاقات اللغة والخيال والبعد عن مقاييس المعقول والمستساغ التي كانت من قواعد الشعر الكلاسيكي — غربية وشرقية — وكأن الشاعر الحديث يتعمد الإدهاش والإغراب إلى حد الصدمة، ويوغل في رحلة صيده للمذهل والمستحيل، الإيجاز والاقتصاد في التعبير إلى الحد الذي تصبح معه القصيدة مجموعة من الإشارات والإيماءات، ويوشك الشاعر أن يعبر بالصمت قبل الكلام، وينقل صور الأشياء مجردة من الأفعال والصفات بقدر الإمكان، التخلي عن النزعة الإنسانية — على حد تعبير الفيلسوف الإسباني أورتيجا إي جاسيت — أي إلجام خيول العاطفة وأمواج الوجدان، وصبها في «معادلات موضوعية» من عالم الأشياء وصور الموجودات المرئية والمحسوسة بدلًا من الغرق في طوفان الذات وحميا الانفعالات التي أصابت شعر العاطفة الرومانتيكي عندهم وعندنا بأفدح الأضرار. البعد نتيجة لذلك عن سذاجة الانفعال إلى صرامة العقل، وبرودة التشكيل، فالإلهام أو الوحي — كما يقول بول فاليري — قد يسعدنا بالبيت الأول، أما بقية القصيدة، فتستلزم جهد الصنعة وتعب البناء، إعلان القطيعة مع التراث اللغوي والشعري التقليدي إلى حد التهكم عليه، والسخرية من «مقدساته»، وقيمه الجمالية رغبةً في البدء من جديد، وإنكار وصاية الآباء، وإن كان هذا لا يمنع من كثرة اللجوء إلى «تضمين» النصوص القديمة المعروفة أو الاستعانة بمصطلحات العلم والطب — «غير الشعرية» في المفهوم البلاغي الكلاسيكي — إمعانًا في الإغراب وهدمًا للحواجز الفاصلة بين «الواقعي» و«الجميل»، مما يكشف اليوم عن وجه الشاعر «العالم» أكثر من الشاعر «الموهوب»، الاعتماد على العين أكثر من القلب، وكأن الشاعر — إن جاز التعبير — يكتب بعينه أكثر مما يغمس ريشته في جراحه كما كان يزعم الشاعر القديم أو بعض شعرائنا حتى الآن، ونتيجة هذا أن تتألف القصيدة من أشياء متجاورة تتحدث بنفسها دون تعليق من الشاعر ولا ثرثرة، تلازم الشعر وفن الشعر، فالشاعر الحديث لا يكف عن تأمل عمليته الإبداعية والبحث عن «فن شعري» جديد وغزو آفاق جديدة تؤكد فرحته بالمغامرة والمخاطرة على سفن اللغة التي صار وحيدًا معها، وصارت كنزه ومنجمه الوحيد، تصوير القبيح والمقزز وعدم الاكتفاء بتصوير الجميل والسار، كما كان يريد القدماء (كان الإغريق يفرضون عقوبة قد تصل إلى الموت على من يصور القبح خوفًا من إفساد الأخلاق العامة)، بحيث تكون مع الزمن علم جمال القبح الذي يعكس بشاعة الواقع الحديث ويفضحه ويتمرد عليه، إلى آخر هذه العناصر التي شرحتها في موضع آخر.
•••
إذا التفتنا الآن إلى هذه القصائد وجدناها تحمل بعض ملامح الجديد؛ لأن من الطبيعي أن تردد أنفاسها نفس الهواء الذي تعيش صاحبتها فيه، وأن تعكس ملامحها سمات التراث الثقافي الذي امتزج بدمها. فهي تضع الأشياء بجوار بعضها، كأنها عدسة آلة تصوير كتوم. ولن يغيب عليك أن الأفعال فيها قليلة، والصفات شحيحة، وأن الصور الساكنة لا تكاد تهتز أو تعكس حركة، وإنما توشك أن تكون تماثيل سوتها وصقلتها يد نحات — بالكلمات. وهي لا تعلق على الصور بشيء، فكلماتها نفسها تتحول إلى إشارات للأشياء، كما تقدم مفردات الطبيعة والوجود تاركةً لك استخلاص معانيها وعلاقاتها. إن القصيدة توحي ولا تتكلم، تشير ولا تثرثر، تشع بإشعاعات تختلف باختلاف قرائها، بل واختلاف لحظات قراءتها، حمار مطرق، حقل زيتون، بيوت ونافذة وكوكب الزهرة، درويش وقطة داخل كوة في جدار بيزنطي، إناء فخار يدور دورة الحظ الأبدي — كما فعل قديمًا في يد صانع الفخار في كريت وطيبة، وبابل وسبأ وبلاد العرب والفرس — ويلهمها كما ألهم الشاعر الشعبي المجهول على مر العصور، فالحظ يتسرب منا في القرن العشرين كما تسرب من البشر في القرن العشرين قبل الميلاد إلى حضن الأرض الأم التي جئنا منها ونعود إليها نفس الحسرة، نفس الدورة، نفس العود الأبدي، ومن أدرى بها من شاعرة يحضر أمامها الزمن في لحظة الحاضر السرمدي، اللحظة التي يضم قوسها المتوتر تجربة ما قبل التاريخ وتجربة العصر الراهن في وقت واحد. فعين الشاعر ترى الأبدي، ومملكته هي اللامتناهي، ولكنه يستخرجهما — كالساحر القديم الذي يستدعي بتعاويذه قوى الأشياء، بل يطلق من كلماته نفسها قوى الفعل — من باطن الأشياء والكائنات العابرة المتناهية المتنوعة الألوان حواليه. وكأن كلماته وأنغامه وحدها قادرة على بعث الحقيقة الكامنة في الظواهر، واستحضار الخالد من داخل الغشاء الفاني، وما أشبه صوته بصوت المسيح، وهو يدعو لعازر للنهوض من بين الأموات.
لم ترَ الشاعرة إلا آثارًا وحفريات وحطام مدن ومعابد وملاعب وأسواق، ولكن لا بد أن خيالها قد رد الحياة إليها، واستعاد تجربة البشر الذين كانوا ذات يوم يدبون فيها ويملئُونها بضجيج أعمالهم وآمالهم وآلامهم وضحكاتهم ودموعهم. وليس قلبها وحده هو الذي يعيش هذه التجارب من جديد، فظل المعابد التي أصبحت فتاتًا يفكر هو أيضًا في حاله ويسأل: هل هذا القصر، وهو بيتي العامر، في الزمن الغابر؟ نفس الحكاية القديمة حلم الإنسان بالخلود، يضنينا اليوم كما أضنى أهل كريت قديمًا، لكن ها هو ذا يتمدد تحت الأرض، ماذا يتبقى إلا الأحجار؟ — أهي رؤية عدمية متشائمة؟ — سيكون هذا التساؤل تفسيرًا نفرضه على النص. والنص نفسه ضنين وبلا طموح. يكفي أنه يثير في أنفسنا السؤال، أن تكون كلماته حجرًا يلقى في نهر حياتنا اللاهية. يكفي أن يوقظنا لحظة من كابوس العبادة والتقليد والنسيان.
من الطبيعي أن تمد الشاعرة يدها — كما يفعل زميلها في الغرب والشرق — إلى كنز الحكايات والحواديت والأساطير، فقلبها الهرم بالحكمة لا يزال طفلًا يعشق الحياة. يتجلى هذا في أجمل قصائدها عن الأميرة «المينوية» الصغيرة. إنها تسألها عن المكان الذي كانت تلعب فيه بين أكوام الحجارة، عن دميتها وكلبها الصغير، عن الحدوتة التي كانت تحكيها لها مربيتها كل مساء. وهي لا تكتفي بهذا، بل تدخل معها في حوار، وتؤكد لها أن الناس لا تزال تجوس في نفس الموضع الذي كان يضم فراش نومها، وفي عيونهم دموع تشبه دموعها. نفس المأساة، ونفس القدر — فالحاضنة القديمة كانت تحكي لها الحواديت اللطيفة عن الملوك والآلهة والأبطال الذين راحوا يغزون المستحيل. والحاضنة الجديدة تحكي الحدوتة المروعة عن زمن الكوبلت والأسمنت، عن آلهة العلم والمال وأبطال الصناعة والرعب الذين يحطمون أسرار الذرة، ويطلقون شياطين الطاقة، ويبنون شواهق المسلح المتطاولة على السماء — أولم يتغير شيء؟ أكل هذا «التقدم» عبث؟ ألا يزال الإنسان هو نفس الكائن الذي يخاف الموت ويصنعه في نفس الوقت؟ وهل كشف التقدم عن وجهه الجدلي المظلم للشاعر الأوروبي فلاذ بكهوف الماضي وطقوس الأجداد؟ وما السر وراء اليأس الكوني المر عند هذه الشاعرة وكثير من زملائها الأوروبيين؟ (في الكون فراغ، ومحال أن يملأه شيء) أهو السأم من عالم العقل والحساب والأنظمة والآلات والمحطات النووية وشعارات الحرب والسلام والثورة والمستقبل والعلم المغرور الذي أشعل وقود حربين عالميتين، وما يزال ينذر كل لحظة بالحريق الأكبر الذي يلتهم مدن البشر ويفحم مجد حضارتهم البراق؟ أم نفذت الشاعرة إلى الأسباب «الواقعية» — الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية — التي تؤجج ضراوة التنين الغربي، الذي يريد أن يبتلع العالم، ويستعد لغزو النظام الشمسي، ويؤكد كل يوم — حتى في تعاطفه وتعاونه المزعوم — إصراره على قهر الشعوب الفقيرة وحرمانها من حقها في الكرامة والحرية والحياة، وهو السبب الأول في قهرها وفقرها؟ يخيل إليَّ أن الشاعرة بعيدة عن هذا الرأي الأخير. ومع ذلك لا أستطيع أن أقطع بشيء. والمهم على كل حال أن ظاهرة العودة للماضي الكوني والبشري، والإهابة بالرموز والأساطير والطقوس القديمة ظاهرة مشتركة بين شعراء الغرب المعاصرين، وهي كذلك قاسم مشترك بين صفوة شعرائنا المجددين (لا بين المزيفين من أدعياء الشعر الجديد الذين ظنوها استعراض عضلات ثقافي وبراعة حواة مبتدئين!) أهو في النهاية فرار من وحدة الشاعر في عالم لم يعد فيه مكان للتواصل والحب والحوار والحقيقة الحية، أم سعي للوحدة والانسجام بين أشلاء القبح والتمزق التي يتعثر فيها كل يوم؟ أم أن الشاعر — وهو ضمير العصر المثقل بالذنب — تدفعه مسئوليته التقليدية عن خضرة الأرض والحياة وتحقيق الوحدة والجمال لأن يرفع صوته بالعودة للأصل والمنبع، ومحاولة البدء من جديد، وفضح الأقنعة المعقدة التي حجبنا بها وجه الواقع؟ أسئلة لا تغني شيئًا. فكلمات الشاعر الحديث إيحاءات ونبوءات، وعليك وحدك أن تفض معانيها وتحسها كما تشاء! والمهم أن الشاعرة تلتمس الدفء والبراءة والحب وسط خرائب كريت، بعيدًا عن خرائب أوروبا العجوز الواقعة في فك الحوت — حوت التقدم والشمول والصراع على غزو العالم — أي على دماره.
•••
إن الشاعرة وهي في هذا تشترك كما قلت مع غيرها من الأصوات لا تقف عند إدانة الثورة، بل تصرح بتعبها وعجزها عنها: «هل نمضي أم نتوقف، نبني أن ننظر، نعرق أم نجلس، ونحارب أم نخلد للنوم؟ زعيم الثورة يسأل: أيهما أفضل؟ مخترع الثورة يسأل: ماذا نفعل؟ والساخر يعجب ويقول: أيهما أجمل؟» والسؤال لا معنى له أصلًا في حياتنا؛ إذ لا بديل لنا عن اختيار الطرف الأول في هذه الثنائية الفاسدة. وهي تتهكم من شعارات الثورة التي تطمح لتغيير الإنسان ليصبح غير ما هو عليه، بينما «الحياة» مستمرة بعد الثورة كما كانت قبلها (وهو موقف تجريدي يصدر عن حكمة متعالية على آلام أمثالنا): «مساء — أنت الأنت الأخرى، وبأكوام الكتب تغطي السجادة، وسريعًا سوف تنام — مع النجباء، ومع البلهاء، والثورة لن توقف زحف الليل — فسيأتي ليل آخر بعد الثورة، وستأتي معه الأحزان، ويأتي صبح آخر شاحب، وسكون فناء خلقي، حتى بعد الثورة ستكون حياة.» فهل يرضي الشاعرة أن تتخلى الشعوب المقهورة عن ثوريتها لتنام إلى الأبد مع البلهاء؟ هل خطر على بالها أن بعض أسباب القهر والفقر قد صدرت ولا تزال تصدر من ورثة حضارتها الكريتية والأفريقية والرومانية؟ إننا لا نستطيع أن نوافقها على نقدها للثورة في مثل هذه الأبيات التي ترددها؛ لأن دوافع الثورة وأهدافها عندنا مختلفة تمام الاختلاف: «ما هي حقيقة الثورة؟ كلمة فارغة، شيء رائع مجنون، شيء يفقد الآلاف رءوسهم من أجله، ويجعل الآلاف يضعون رءوسهم في الرمال، شيء يتسرب أغلب الأحوال في الرمال، الثورة أسلوب حياة، سبب من أسباب الموت.» أجل هي كذلك، أسلوب حياة لا غنى لنا عنه، وسبب من أسباب الموت والحياة أيضًا، ولن نستطيع أن ننظر إليها من قمة برج ميتافيزيقي مجرد. وإذا كان التجمد العقيدي أو الإرهاب الفكري والبوليسي قد خنق الثورية في بعض بلاد العالم، فإن هذا الخطر الذي لم تنجُ منه الثورات الحديثة لا يمكن أن يزهدنا في ضرورة الثورة نفسها بعيدًا عن التجمد والإرهاب الذي ترفضه طباعنا ويأباه تراثنا. تقول الشاعرة على لسان أحد أعضاء «اللجنة»: «الثورة ستقوم بتوزيع الخبز بالعدل، لكن هل يمكنها في الليل، أن تشفي أوجاع الوحدة والعجز؟» والجواب من القارئ غير الغربي بسيط: وهل يمكن للشلل والتخلف والجمود أن تشفينا منها؟! إنها تظن أنها تعبر عن المواطن الصغير المجهول الذي يقف حائرًا لا يدري ما يعمل لكي يكون ثائرًا، هل يواصل حياته أم يدين هذه الحياة أم يموت من الضحك عليها، هل تخرج للطرقات وتضع الأسلاك الشائكة على القضبان؟ هل نبني التحصينات؟ أم نمضي في سبيل العيش كما كنَّا نفعل حتى الآن، أم نضحك حتى تقتلنا الضحكات؟ «ولكن الثورة — وهي تقصد بالطبع تجارب لا تلزمنا — تجيب على هذا المواطن المجهول الحائر بلا تردد: «لا، هذا هو ما تعلنه الثورة، لا شيء سواه، أما الباقي فسنعلنه فيما بعد».» ولا شك أن هذا المواطن يختلف موقفه عن مواطن آخر يواجه الاضطهاد والفقر والقهر والعدوان الصهيوني وغفلة ضمير العالم وصممه ونفاقه. ويبلغ الشك عند الشاعرة ذروته في هذه السطور الفظيعة التي تذكرنا طريقة كتابتها بما يسمى اليوم بالشعر المجسم: «ملايين الأقدام المتجمدة والأجساد المدماة وملايين ملايين العيون المصابة بالعمى والجلود المتفجرة وملايين ملايين الأطفال الجوعى والحيوانات الممزقة، ملايين المتجمدين من البرد الغارقين في الدماء المصابين بالعمى المتفجرين الجائعين الممزقين، ملايين الحيوانات الأطفال البيوت العيون والأجساد الأقدام المسحوقة التي تسحق كلها خطى الهامس.» ولا يملك القارئ العربي لهذه السطور (التي يقدر صدقها من وجهة نظرها وظروف بلادها) إلا أن يسألها: وملايين اللاجئين؟!
•••
هذه على كل حال نماذج من الشعر الغربي المعاصر، ليست بأفضل نماذجه ولا هي كذلك من شاعرة عبقرية أو ذائعة الصيت، ولكنني دخلت معها في حوار؛ لأنها تردد نغمة مشتركة في نماذج غربية عديدة. وإذا استطعنا أن نتذوق بعض قصائدها ونُعجَب به، فإن علينا أن نحاذر من بعضها الآخر، ونتمسك إزاءه بحريتنا وقدرتنا على النقد.
ذات ليلة … في الزمان
خزف (١)
خزف (٢)
باخيا أموس٣
•••
حلم الخبز
كاتو زاكروس٤
أميرة مينوية صغيرة٥
خزف (٣)
جزيرة التمساح٦
تغيير في البرنامج
سارة٧
يوم بلا شعر
النهاية
غسق
صلواتك
ذات ليلة … في الزمان
اللحظة الخالدة … والحاضر السرمدي
•••
ما هو لغز الحاضر الذي حيَّر عقل الإنسان وقلبه، منذ أن عاش بين الطقوس والأساطير إلى أن أطلق مركبات الفضاء؟ كيف واجه سره الذي يتسرب منه كما يتسرب الماء من بين كفيه، وكما يفلت الهواء إذا حاول القبض عليه؟!
إنه يشعر في حياته وتجربته اليومية أن الزمن موجود. فمن منا لا يذكر ماضيه ويحن إليه؟! من منا لا يحلم بمستقبله ويخطط له؟!
مع ذلك فهو دائم القلق من زواله، دائم البكاء على ضياع عمره ومجده، والشكوى من عبث كفاحه وتعبه. لو أرهفنا السمع قليلًا، فربما هزتنا الأنَّات الآتية من أناشيد المغني الفرعوني الأعمى على قيثارته، وزفرات أيوب في العهد القديم ومن قبله «أيوب البابلي» المبتلى ظلمًا في الألواح الأربعة التي حملت شكواه وعُرفت باسم «لدلول بيل نيميقي»، سأمجد رب الحكمة، وحسرات سليمان وداود في المزامير، وبكائيات الشاعر الجاهلي على أطلال الأحباب، وأناشيد الجوقة في المسرح الإغريقي، ودعوة هوراس «اقطف يومك»، ونقوش المقابر والمعابد، وربما انتهت إلينا لعنات أبي العلاء التي صبها على الزمان، مختلطة بآهات «الخيام» و«دانتي» و«ليوباردي» و«هلدرلين» و«إليوت».
والإنسان يحاول منذ القدم أن يستمهل هذا الضيف العزيز الذي لا يزورنا إلا لكي يودعنا، كما يحاول أن يعرف طبيعته، ويحدد موقعه بين ضيف سبقه ولن يعود، وضيف سيأتي بعده ولن يقيم.
من منَّا لا يرثي أو يضحك للجهود التي بذلها المفكرون والفلاسفة لاصطياد اللحظة الحاضرة التي نحياها ولا نمسك بها، ونحاول قياسها وتحديدها فتفلت منَّا، وتسرع بها دورة الفلك وعقارب الساعة كالشبح الهارب، بينما تدوم وتتمدد في أعماق الشعور، حتى توشك أن تضم «الأزل والأبد» في ومضة واحدة؟
ومن منَّا لا يؤثر عليه سعى «فاوست» الدائب إلى لحظة الخلود التي يستريح على صدرها حين يتحد بالمنبع الخالد؟ من منَّا لا يتعاطف معه وهو يراه يجد في البحث عنها في لحظة «الحب» أو «المجد» أو «العمل النافع لشعب حر على أرض حرة»، فإذا به يتعثر في هاوية الخطيئة أو يسقط في حفرة الندم، بينما يتردد هتافه بها:
ثم من منَّا لم يعِش مع محاولات الفلاسفة لتثبيتها أو إنكارها؟! من منَّا لم يدهش لمفارقات «زينون» الإيلي العنيدة التي تلغي الزمان والحركة لتثبت الأبدية؟ ومن منَّا لا يعجب لتساؤلات «أفلاطون» عن «الآن» وجهود «أرسطو» لتحديدها، وجعلها وحدة قياس الزمان، وحيرة «أوغسطين» أمام سرها حتى هداه الله إلى أنها «توتر النفس التي تستجمع الماضي وتتأهب للمستقبل» و«مواقف المتصوفة» ومواجدهم وأشواقهم إلى جعلها بيت السرمدية، واكتشاف «ديكارت» لضوئها الخاطف وفعلها الحدسي في يقين «الأنا»، وكل يقين مترتب عليه، وفي فعل الخلق والحفظ الإلهي المتصل للطبيعة والإنسان!
ومن منَّا لم يهزه جدل «كيركيجارد» المعذب، وهو يفتش عنها داخل الزمان، فإذا بها لا «تتكرر» إلا في «الأبدية»، وإلهام «نيتشه» المحير بلحظة «العود الأبدي» التي صعد معها فكره إلى القمة الخطرة، ووجد عندها السلام والطمأنينة في «حب القدر»، وقلق «هيدجر» الذي وجدها في لحظة التصميم على مفترق الطرق إلى تحقيق الوجود الأصيل، وجمع فيها بين ماض كناه وعلينا أن نكرره فيها، ومستقبل علينا أن نصر عليه ونحققه فنحقق ذواتنا معه في وجه الموت المتربص المحتوم؟!
كلنا يحس سر الزمن. قد لا نتمكن من التعبير عنه، ولكنا نحس بزمانيتنا في كل قول وكل تجربة وكل موقف نمر به. فالزمن قدرنا، والزمن أملنا ويأسنا. وتجربة الإنسان بزمانيته هي تجربته الحزينة بزواله وانقضائه وتناهيه. فالزمان نهر متدفق أبدًا يجرف كل أبنائه معه، وشكوى الإنسان من الزمان شكوى أزلية، وأغلب الظن أنها ستبقى شكوى أبدية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تسجل شواهد التاريخ والحضارة والدين والفكر والأدب هذه الشكوى المرة في صور مختلفة.
لم يكن البحث في سر الزمان عند مفكري اليونان قضية تفلسف مجرد، بل شعورًا مأساويًّا ودينيًّا عميقًا ترددت فيه أصداء الشكوى القديمة المتجددة. وإلا فما الذي دفع «أنكسماندر» في شذرته الوحيدة الباقية إلى القول بأن الأشياء ينبغي أن ترجع لأصلها، وأن تكفر عن ذنبها وفقًا لنظام الزمان؟! وما الذي دفع «زينون» الإيلي لإلغاء الزمان ومعه التغير والصيرورة؟ ألم يكن هو البحث عن ملجأ ثابت يتيح للإنسان السكينة في حضن الأبدية، وتجربة العناق بين الفكر والوجود الذي علمته الربة المجهولة «أستاذة أستاذه بارمنيدز» أنهما متساويان وثابتان؟
«أرى هذا الفضاء الكوني المخيف الذي يحط بي، وأجد نفسي مقيدًا بركن من هذا الامتداد الهائل، دون أن أعرف لماذا وضعت في هذا الموضع دون سواه، ولا لماذا حددت هذه الفترة الزمنية القصيرة التي قُدر لي أن أعيشها في هذه النقطة بعينها لا في نقطة غيرها من الأزلية التي سبقتني أو الأبدية التي ستأتي بعدي.
لست أرى من كل ناحية إلا هذه اللانهايات التي تحبسني، وكأنني ذرة وظل لا يدوم إلا لحظة واحدة بلا عودة.»
إن السر الأول للزمان هو أنه يلتهم كل ما فيه ويلقي به في قبره الذي لا يشبع. ولهذا ارتبط الزمان بالزوال والانقضاء. فالماضي لم يعد له وجود، والمستقبل لم يكن بعد، وإذا أقبل فسرعان ما يتحول إلى ماضٍ. والماضي والمستقبل كلاهما لا وجود لهما في وجدان الإنسان، إلا من حيث هما حاضر، أي في تذكر الماضي وتوقع المستقبل. أما الحاضر فلا وجود له في تجربتنا اليومية. كلما مددنا أيدينا للتشبث به، تسربت منها حبات رمال الزمن (أو «آناته»). وكلما حاولنا أن نمد في أجل هذه اللحظة الخالية من الامتداد — في لحظات الصفاء والحب والأنس، أو في لحظات الرعب واليأس — روعتنا الحقيقة المحتومة التي تقول إن كل مستقبل يصبح فيها ماضيًا، وأن حاضرها حدٌّ وهمي أرق ملمسًا من الحد الفاصل بين نقطة البحر والنقطة التي تليها، أو نسمة الريح والنسمة الرفافة في ذيلها …
ولهذا ربما عذرنا «أرسطو» الذي أغاظه «الآن»، فأخرجه من الزمان؛ ليجعله وحدة قياسه …
أنعيش إذًا بلا حاضر على الإطلاق؟ أتكون حياتنا حلمًا؟ أنخطو على الطريق بلا أرض نقف عليها؟! أتكون حياتنا حياة الأسرى المغلولين الذين يتعثرون في الهاوية باستمرار؟!
أكتب علينا الزوال والانقضاء في كل لحظة من لحظات مدتنا المحدودة، بلا عودة ولا سبيل للرجوع؟!
أهذه هي نهاية المطاف في تفكيرنا في الإنسان؟! ألا يبقى أمامنا إلا الاستسلام للبكاء أو الوثوب فوق جواد الزمن إلى حظيرة «الأبدية» لنلتمس فيها الخلود والبقاء، ونجفف على صدرها دموع السفر والشقاء، أو نتعلل بالسعادة والهناء؟
وسر الزمن الثاني هو قدرته أن يتلقى السرمدية فيه. وما دام الإنسان بطبعه كائنًا زمانيًّا، فإنه سيكون كذلك قادرًا على المشاركة في الأبد والسرمد، بل ربما كان من واجبه أن يسعى إلى هذه المشاركة حتى يكون إنسانًا بحق … ولهذا يمكننا القول إن شوكة فنائنا هي خلودنا؛ لأن الشيء الفاني لن يؤلمه فناؤه، ولأن ما يمكنه أن يحيا فقط، سيمكنه أن يموت فقط. أما من يشعر أن كل شيء لا بد أن يفنى ذات يوم، فإن شعوره هذا يرفعه فوق ذاته وفوق الكل. كل شيء سينقضي ويزول أنا وأنت وكل ما يحيط بنا، ولكنَّ فيك وفيَّ شيئًا يزيد عن الكلِّ، ويختلف عنه، وإلا ما عرفنا عنه شيئًا …
ولكن بأي معنى نفهم قدرة الزمن على تلقي السرمدية ونفاذها فيه؟ بمعنى أننا بغير هذه القدرة لن نجد أرضًا نقف عليها، وأننا ونحن نندفع في مجرى الزمان نفسه لن نجد الحاضر الحق، الحاضر الخالص الذي يهوي إلى وادي الماضي بمجرد وصوله من قمة جبل المستقبل.
بهذا تصبح الفلسفة سعيًا دائبًا إلى الحضور الخالص، وقهرًا مستمرًّا للزمان والزمانية. وإذا كان أفلاطون قد علمنا تعريفين أساسيين من تعريفات الفلسفة عندما قال في أحدهما إنها التأمل الدائم للموت، فمن حقنا أن نغير هذا التعريف (الذي لا ينطبق إلا على مرحلة فايدون وما قبلها) فنقول إن الفلسفة هي تأمل دائم للحضور الحي. وإذا كان قد قال في تعريفه الآخر — الذي تبعه فيه فلاسفة العصر الوسيط من مسلمين ومسيحيين — إن الفلسفة هي التشبه بالله بقدر الطاقة، فبإمكاننا أن نزيده وضوحًا، فنقول: إن الفلسفة هي جهد دائب؛ لكي يتشبه الكائن الزماني بالكيان السرمدي.
لن نقف عند هذه المعاني كلها، بل سنتجاوزها إلى معنًى يتصل بوجودنا اليوم كأبناء أمة تسعى إلى اكتشاف هويتها وتحديد مكانها بين الأمم. أمة يعرف المخلصون من أبنائها أنها مهددة بالانقراض والانهيار إن لم تعِ حاضرها، وتؤدِّ واجب لحظتها، وتستوعب قيمة ماضيها وتنهض بأعبائها التي تفرضها عليها فلسفة جديدة حية للتاريخ، أي فلسفة للزمان الذي لا غنى عنه لفهم التاريخ.
ماذا أقول؟! أأقول إننا اليوم وأينما تلفت فسحب الأخطار تزحف وأهوال التحديات تنادي باليقظة للحاضر الذي ينبغي أن يكرر خير ما في الماضي من تراث، ويتهيأ لخير ما في المستقبل من أمل وعمل.
وإذا كانت الأسماء التي تكلمت عن الحضور في اللحظة الخالدة أكثر من أن تحصى أو تعد، وإذا كانت هذه الأسماء تزدحم بها شواهد التصوف والفلسفة والفن والشعر والأساطير والطقوس مما لا يجدي معه حصر للمراجع والنصوص، فلنختر أقصر الطرق وأشدها تواضعًا، ولنكتفِ بالنظر في تأملات فيلسوف معاصر لم يمضِ على وفاته أكثر من عام، نتلوها بخواطر مستمدة من واقعٍ آخر ومجال مختلف قلما ننتبه إليه، وهو واقع الشعر والأسطورة والطقوس، لنختم هذه النظرات بسطور قليلة عن الحضور في اللحظة الخالدة، لحظة نفاذ السرمدية في الزمانية، اللحظة التي يتعانقان فيها — في لمسة هي أشبه بوميض الشمعة أو لمح البرق — فنؤكد وجودنا وحاضرنا في «الآن»، ونعي ذاتنا حين نتشبث بصخرة اللحظة، ونقاوم طوفان الزمن الصاخب، ونثبت أننا جديرون بالنعمة السرمدية حين نكون أوفياء للحظة، مستعدين لتحمل مشقتها ومسئوليتها استعدادنا لترقب نورها وبريقها.
•••
لماذا ارتبط الزمان دائمًا بالوجود؟ ولماذا لا نفكِّر في أحدهما دون أن نفكِّر في الآخر؟! الوجود منذ فجر الفكر الفلسفي مرادف للحضور. والحضور يكون في أفق الحاضر، ويتكلم بصوته. والحاضر في التصور الشائع بُعد من الأبعاد الثلاثة التي تلازم تصورنا للزمن، الذي يسير على طريق لا رجوع فيه من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل. والماضي في تصورنا الشائع أيضًا هو الذي لم يعد له وجود كما أن المستقبل هو الذي لم يوجد بعد.
ونحن نذكر الزمان حين نقول: لكل شيء زمانه، فكل موجود يأتي عندما يجيء أوانه، ويذهب عندما يحين حينه، ويبقى مدة الزمن التي قُدِّرت له. ولكن هل الوجود شيء؟! هل يشبه الموجودات التي تكون في الزمن؟ وهل الزمان نفسه شيء، أم هو الذي يسع الأشياء والموجودات التي تكون فيه وتفسد، تولد ثم تموت بعضة نابه؟
عبثًا نبحث عن الوجود نفسه بين الموجودات المحيطة بنا، فليس مثلها موجودًا زمنيًّا. ومع ذلك فنحن نقول إنه «يحضر» في الزمان، يتحدد بكل ما يوجد فيه، يظهر بظهوره، ثم لا يلبث أن يحتجب ويخفي عنا سره.
عبثًا نحاول أن نلقي الزمان بين الموجودات والأشياء التي تتزمن به وتنتهي فيه. فهو نفسه ليس موجودًا ولا شيئًا. إنه ينقضي باستمرار، ولكنه في انقضائه يختلف عن كل ما يوجد فيه، والبقاء عكس التلاشي، أي هو الحضور، والحضور هو أسلوب الوجود.
هل وقعنا بهذا في شباك العبارات المتناقضة؟ هل نلجأ إلى ما تلجأ إليه الفلسفة في مثل هذه الأحوال من تصعيد للتناقض، والجمع بين طرفيه في وحدة أشمل، نسميها بعد ذلك وحدة جدلية؟! أليست هذه الوحدة التي تهدف للمصالحة بين العبارتين المتناقضتين عن الزمان والوجود، هروبًا منهما معًا ومن العلاقة القائمة بينهما؟
وما الطريق الذي نسلكه كي ننظر في موضوع كل منهما على حدة، أعني في القضية التي يطرحانها أمام الفكر؟ فلنأخذ أنفسنا بالحذر الواجب، ولنواجه هذه القضية بما يليق بالفكر من صبر وأناة.
إن الوجود يتيح للموجود أن «يحضر»، ويسمح له بأن يظهر ويكون، وإحضار الموجود بهذا المعنى يساوي إخراجه من التحجب والخفاء إلى الانفتاح والجلاء، ومِن ثَم يكون الوجود نوعًا من العطاء.
غير أن العطاء لا يزال ملفوفًا بالظلام، كما أننا لا نزال نجهل كل شيء عمَّن يقوم به. لقد حاولت الميتافيزيقا في تاريخها كله، منذ بدايتها الساذجة عند طاليس، وحتى اكتمالها في فلسفة «نيتشه» أن تفكر في الوجود من ناحية الموجود، وتفسره باعتباره الأساس لهذا الأخير. فلنحاول أن نفكر فيه من جهة «الحضور» والتكشف والظهور، أو كما قلنا الآن من جهة العطاء.
لقد كان يحضر في كل مرة في صورة يعبر عنها الإنسان بالقوة والفكر، ويلتزم بها في الفعل والسلوك، ويراها ماثلة في الكائنات المحيطة به والأشياء التي يحيا بالقرب منها، ويستخدمها أدوات في شئون معاشه.
هكذا تغيرت صور الحضور، واختلفت باختلاف المفكرين وتعاقب العصور، فكان الحاضر مرة هو «الواحد»، أو «اللوجوس»، وكان هو الجوهر والمثال والفعل، والمونادة، والتصور والإرادة، والروح المطلق، وإرادة القوة، وإرادة الإرادة في عودة الشبيه الأبدية.
هذا شيء يشهد عليه التاريخ، حتى لقد طغى الوهم بأن تاريخ صور الحضور هو تاريخ الوجود. غير أن تاريخ الوجود شيء مختلف عن تاريخ المدن والحضارات والشعوب. فتاريخية الوجود لا تتحدد إلا بكيفية حدوثه، أي بأسلوب عطائه الوهاب، وتكشفه في نفس الوقت الذي يتوارى فيه خلف حجاب. هذا العطاء نوع من «التقدير»، والوجود الذي يعطيه هو الذي نصفه بالمقدر.
كل التحولات في صورة الوجود المعطى هي مراحل في تاريخ الوجود، أو بالأحرى تاريخ حدوثه. ومن قدر هذا التاريخ أن تفسيرات الوجود عن طريق الموجود كانت تحجب «قدره» الأصلي شيئًا فشيئًا، بحيث تواري معنى الحضور والعطاء بالتدريج، وأسدل عليه ستار بعد ستار.
إن الارتباط بين الزمان والوجود يشير إلى الأخير بوصفه حضورًا، أي إلى طابعه الزمني. فلنفكر الآن في الزمان؛ لعلنا نهتدي إلى حقيقته.
كلنا يألف كلمة الزمان، ويستخدمها في تصوراته الشائعة على نحو ما يستخدم كلمة «الوجود»، ولكن ما أسرع ما نكتشف جهلنا بهما عندما نتصدى لتحديد معنيهما.
«إن لم يسألني أحد عنه عرفته، وإذا طلب السائل مني أن أشرحه لم أعرفه.»
يتبين من كلامنا إذن أن الوجود في طابعه المميز مختلف عن كل ما يتسم به الموجود، وأنه في صميمه عطاء، والعطاء قدر تاريخي أعلن عن نفسه في صور وتحولات متنوعة.
كما يتبين مما قلناه أن ماهية الزمان لا توضحها التصورات الشائعة عنه، وأن الجمع بينه وبين الوجود ربما يقربنا منه، فالوجود كما عرفناه حضور أو هو بالأحرى إتاحة الحضور.
ونحن لا نكاد نذكر الحضور حتى نذكر معه الماضي والمستقبل، أي المتقدم والمتأخر بالقياس للآن.
وبهذا يبدو «الزمان» سلسلة من الآنات المتتابعة، بحيث لا نكاد نذكر إحداها، حتى يبتلعها لتوه ويطاردها على الفور.
أين الزمان إذًا؟! أهو موجود؟ أله مكان يحل فيه؟ أهو وعاء يضم الآنات والمكان الذي شبهه أرسطو بوعاء يسع العالم؟!
إذا صح هذا، فلا بد أن يكون الزمان هو الحاضر بمعنى الحضور، ولا بد أن يختلف عن تصورنا المألوف له على هيئة سلسلة من الآنات المتعاقبة التي تخضع للقياس. وإذا صح ما قلناه أيضًا من أن الوجود حضور (تكشف وعطاء) أصبح الحاضر بقاءً وتريثًا في مواجهة هذا التكشف والعطاء، كما أصبح «الإنسان» هو الكائن الوحيد الذي يتلقاه وينتظر ظهوره، وينفتح عليه ويستجيب له. ولو لم يكن هو الذي يتلقى على الدوام هذه العطية لما بلغت إليه، ولبقي الوجود محجوبًا مغلقًا عليه، بل لما أصبح الإنسان هو الإنسان.
هل ابتعدنا بهذا عن موضوع الزمان وانصرفنا إلى الإنسان؟! الواقع أننا لم نبتعد عنه كما نتصور، بل ربما ازددنا اقترابًا منه. فطبيعة الزمان لا تتجلى إلا في الحاضر، بالمعنى الذي قصدناه من الحضور، كما أن طبيعة الإنسان لا تتحدد إلا عن طريق التعرض لهذا الحضور، وتلقي عطاء الوجود الذي يتجلى له ويتخفى عنه في نفس الوقت. صحيح أنه يخاطبه على الدوام، ولكن ما أندر ما «ينتبه» لصوته. وصحيح أنه معرض لنوره الذي يظهر في هذا الموجود أو ذاك، ولكن ما أكثر ما ينشغل بظهور الموجود فيغيب عنه نور الوجود!
بيد أن «الحضور» لا يكون بالضرورة في الحاضر وحده، بل قد يكون فيما انقضى وما هو آتٍ، أي في الماضي والمستقبل. وإذا شئنا الدقة، فإن العلاقة المتبادلة بين الآتي والمنقضي تتعانق في الحاضر، بل إن الثلاثة جميعًا تسلم أيديها إلى بعضها البعض، بحيث تحضر في وحدة الزمن الواحدة.
ولكن ما الذي تسلمه إلى بعضها البعض؟!
إن هذا الذي تسلمه ليس إلا الحضور. وهذا الأخير هو الذي يلقي الضوء على ما نسميه عادة بالمجال الزمني. غير أن الزمن هنا لم يعد سلسلة من الآنات متعاقبة الحلقات، ولا مسافة فاصلة بين نقطتين آنيتين مما نقيسه ونحسبه عندما نقول على سبيل المثال: «في مجال زمني يبلغ طوله خمسين سنة حدث كيت وكيت». فالمجال الزمني الذي نقصده الآن هو الانفتاح، أو المجال المفتوح الذي تتحد فيه أبعاد الماضي والحاضر والمستقبل الثلاثة في عناق الحضور والعطاء، بل هو الذي يسبق ما نسميه بالمجال أو المكان، ويجعله ممكنًا، كما يسبق كل قياس وحساب للزمن إلى نقط آنية تتتابع في خط ذي بُعد واحد.
في هذه الوحدة التي تتلاقى فيها أبعاد الزمن الثلاثي، يحضر كل منها على طريقته: الوافد المقبل الذي لم يصبح بعد حاضرًا، والذاهب المنقضي الذي لم يعد حاضرًا، ثم الحاضر نفسه. وقد يخطر على بالنا أن هذا البعد الزمني الأخير هو أقرب الأبعاد إلى الحضور وأنسبها إليه.
ولكننا بذلك نخطئ معنى «الحضور» الذي يتجلى في الأبعاد الثلاثة جميعًا، حتى إن «هيدجر» ليذهب إلى أن تبادل العلاقة بينها، بحيث تناول العطاء إلى بعضها البعض هو نفسه البعد الرابع للزمن.
وإذا كنا نسميه البعد الرابع، فالحقيقة أنه الأول من حيث الموضوع والرتبة، فهو الذي يحدد الحضور، ويشد الأبعاد الأخرى بعضها إلى بعض أو يباعد ما بينها.
ولهذا تقوم عليه وحدة الزمن التي نتحدث عنها، بل إننا لنستطيع أن نسميه ﺑ «القرب»: القرب الذي يقرب بقدر ما يباعد.
فهو يبقي على الماضي مفتوحًا عندما يحول بينه وبين أن يصبح حاضرًا، وهو يدع باب المستقبل مفتوحًا ويهيئ الحاضر لتلقيه. وهو قبل هذا كله يجمع بين اتحاد صور الحضور المختلفة في الماضي (الانقضاء) والمستقبل (الوصول)، والحاضر في وحدة واحدة.
علينا إذن ألا نتحدث عن كينونة الزمن أو وجوده، بل عن عطائه. هذا العطاء يتحدد بالقرب الذي يمنح ويهيئ ويضمن انفتاح مجال الزمن، يحفظ فيه ما فتح من الماضي، وحيل بينه وبين أن يصبح حاضرًا وما هيئ من المستقبل ليكون حاضرًا. وهو بطبعه عطاء ينير ويحجب، يظهر الموجود من حيث يستر الوجود نفسه.
منذ بدأت الفلسفة وهي تتساءل عن الأصل في الزمن. وكان من الطبيعي أن تهتم في المقال الأول بالزمن المحسوب الذي يتتابع في آناتٍ متعاقبة.
وعرفت الفلسفة منذ البداية أيضًا أن الزمن الذي نحسبه مستحيل بغير النفس أو الروح أو الوعي، أي مستحيل بغير الإنسان.
ولكن ما معنى هذا؟! هل الإنسان هو الذي يعطي الزمان أم هو الذي يتلقاه؟! وإذا كان التلقي هو الأقرب إلى المعقول، فكيف يتلقاه؟! هل يفعل ذلك «صدفة» بين الحين والحين؟!
إن الزمن الحقيقي هو القرب الذي يوحد بين أبعاده الثلاثة ويسلم أحدها للآخر في وحدة حضور حاضرٍ وماضٍ ومستقبل.
ليس الزمن من صنع الإنسان، ولا الإنسان من صنع الزمن. فليس هنا مجال للصنع أو الصنعة، وإنما هو عطاء بمعنى التسليم المنير الذي يتيح كل حضور في مجال الزمن المفتوح.
قلنا الوجود «يوجد» كما قلنا الزمان «يوجد». وفهمنا الفعل بمعنى الجود والعطاء. والمعطى في الحالين واحد، ولعله شيء متميز، ولكنه يظل غامضًا غير محددٍ، كما نظل إزاءه في حيرة. «فعبثًا نحاول أن نفسر العبارتين على أساس القضية العادية المؤلفة من موضوع ومحمول، عبثًا نفتش عن المجهول في العبارة الأصلية التي تنطوي على فاعل لا وجود له.»
وخير ما نفعله الآن أن نفهمه من ناحية عطائه وأسلوبه في العطاء على نحو ما تجلى في «قدر» الوجود و«تسليم» الزمان بالمعنى الذي أشرنا إليه. فالعطاء قدر، والعطاء تسليم منير. وكلاهما متصل بالآخر من حيث إن القدر يقوم على التسليم. والذي يجمع بينهما ويحفظ لهما ماهيتهما هو ما يسميه هيدجر بالحدث الذي يتم ويحتجب في نفس الوقت من خلالهما.
أيكون هذا الحدث هو المعطى الذي تعبنا في البحث عنه؟! لنؤخر هذا السؤال قليلًا، بحيث نجيب على سؤالٍ أسبق منه: ما هو الحدث؟! ولنعلم قبل الإجابة أن «الحدث» هنا لا علاقة له بالمعنى المألوف للكلمة؛ لأننا لن نفهمه إلا على ضوء ما قلناه عن الوحدة الجامعة بين «التقدير والتسليم»، وكلاهما أسلوب عطاء. بهذا نكون قد اقتربنا من الهدف الذي أخذنا ندور حوله منذ البداية: تحديد الوجود عن طريق الزمان.
وبهذا نأتي إلى العبارة الحاسمة التي اجتهدنا في إلقاء الضوء عليها: «الوجود حدوث».
هل انتهينا إلى تفسير جديد للوجود يضاف إلى التفسيرات العديدة التي قدمتها الفلسفة للوجود على أساس الموجود، كالمثال والفعل والتصور المطلق والإرادة؟!
أنكون بهذا قد خطونا خطوةً أخرى على طريق «الميتافيزيقا» الذي أردنا أن نحولها عنه؟! لن نخشى شيئًا من هذا لو فهمنا الوجود بمعنى الحضور، وفهمنا «الحدوث» بمعنى العطاء الذي يكلفه قدر الحضور.
فسوف يكون الوجود أسلوب حدوث، ولا يكون الحدوث أسلوب وجود.
ولكن ما معنى أن الوجود حدوث؟!
معناه أن الوجود والزمان كليهما يحدثان، والحدوث عطاء مقدر، والعطاء كما رأينا مرتبط بالتقدير والتسليم، وهذا بالحفظ والحيلولة والتهيئة (على نحو ما رأينا عند الكلام عن أبعاد الزمان الأربعة).
ولما كان الوجود — بوصفه حضورًا — إنما يعني الإنسان ويخاطبه، فإن جوهر الإنسان يقوم على الاستجابة له والإنصات لندائه، كما يعتمد على الدخول في المجال الزمني ذي الأبعاد الأربعة الذي يتم فيه الحضور، أي يتحقق العطاء والتسليم.
ومعنى هذا أن الإنسان مرتبط بالحدوث؛ إذ فيه وحده يعطي الوجود والزمان. بل هو الذي يعيد الإنسان إلى ماهيته وحقيقته، ولا بد له في سبيل هذا أن يتلقى حضور الوجود؛ لأنه يعنيه وحده، وأن يدخل كما قلنا في مجال «التسليم» الذي هيأه الزمن الحقيقي الموحد ذو الأبعاد الأربعة.
هكذا ينتمي الإنسان انتماءً أصيلًا للحدث، ففيه وحده يعطي الوجود والزمان. ولأن هذا الانتماء يعتمد على ما يقوم به الحدث من تأصيل (أو توحيد)، فإن الإنسان يتصل بالحدث عن هذا الطريق.
بهذا يؤكد هيدجر أننا لن نستطيع أن نضع الحدث، كما لو كان شيئًا يواجهنا مواجهة الشيء أو الموضوع. ولن نستطيع أن نتصوَّره، كما لو كان هو الشامل المحيط بكل شيء. ولهذا أيضًا يعجز العقل المفسر عن بلوغه، كما يخفق القول المعبر بالقضايا المألوفة عن الوصول إليه.
هل استطعنا أخيرًا أن ندرك طبيعة الحدث؟ هل ساعدنا النظر إلى الوجود «وقدره» والزمن «وتسليمه» على بلوغ معناه؟ هل اقتنعنا بما يفرضه على الإنسان من واجب ومسئولية؟ أم تمخض الأمر كله عن بناء فكري كسائر الأبنية التي يزخر بها تاريخ الفلسفة؟ وإن هذه الأسئلة جميعًا تفترض أن الحدث لا بد أن يكون موجودًا كسائر الموجودات. والتسليم بهذا الفرض المعكوس أشبه بمحاولة اشتقاق المنبع من النهر! إن الحدث ليس «موجودًا»، فأقصى ما يمكن قوله عنه إنه يحدث. قد تبدو هذه العبارة مجرد تحصيل حاصل. ولو حاكمناها بمقاييس المنطق لما قالت شيئًا، حتى إذا جعلناها موضوع التفكير والتأمل تبينا أنها لا تقول جديدًا، وإنما تعبر عن شيء قديم قدم الفكر الغربي نفسه، شيء منطوٍ فيما اصطلح الإغريق على تسميته «الأليثيا» أي الحقيقة بمعنى تجلي الوجود وتكشفه من طوايا التستر والاحتجاب. والتأمل في هذا المعنى الأول لا يزال يلزم كل تفكير جاد.
بهذا يكون هيدجر قد حاول التفكير في الوجود بعيدًا عن الاهتمام بالموجود، بعيدًا عن الميتافيزيقا التي ما فتئ يبذل المحاولة تلو المحاولة لقهرها وتخطيها؛ لكي يمهد للتفكير في الوجود نفسه. ولعله في هذه المحاضرة المتأخرة عن «الزمان والوجود» قد نفض يديه من الميتافيزيقا، وجرب أن يفكر في الوجود نفسه «وحدوثه»، أو حضوره وظهوره في الزمان. وهكذا وجد نفسه مضطرًّا للتخلي عن أرض الميتافيزيقا وطرح لغتها، والبحث عن لغة أخرى تعذب في تطويعها للتعبير وعذبنا معه! لقد أخذ يزيح العقبات عن طريقه وبقيت العقبة الكبرى التي لم يقوَ عليها، إذ اضطر للكلام بالعبارات والقضايا التقليدية عن موضوع لا تصلح له ولا يصلح لها؛ لأنه ليس في الحقيقة موضوعًا، بل هو الأساس لكل موضوع.
•••
عرضنا فيما سبق رأي فيلسوف معاصر، لم يمضِ على موته أكثر من عام، عن الحاضر والحضور. ولا شك أنه متصل بفلسفة صاحبه عن الوجود، كما ينطوي على قدر غير قليل من التعسف والغموض. وهو لم يصادف على كل حال ما يستحقه من عناية واهتمام، لا سيما من أصحاب العقل الذين يعولون عليه في شئون الحساب والقياس والتقدير.
لقد آمنت الأجيال السابقة كما يؤمن الجيل الحاضر بأن العلم الطبيعي والفلسفة المرتبطة به هما وحدهما القادران على الكشف عن جوهر الأشياء، وتحديد إمكانات التجربة، أي إن العقل الذي يحسب ويقيس هو وحده القادر على كشف معنى الواقع. ولا شك أن معهم الحق في هذا ما بقوا في مجال العلم والعمل وتصريف شئون التقدم والمعاش.
غير أن الإنسان كان يحس على الدوام بعالم آخر مختلف تمام الاختلاف تحرك شخصياته وصوره الوجدان، ويضفي على الوجود كله كرامة وجلالًا ومجدًا يعجز عنه البحث العلمي، ولا يكاد يعرف عنه شيئًا.
ذلك هو عالم «الشعراء» وعالم «الأساطير» و«الطقوس» عند الشعوب القديمة والشعوب الفطرية.
فلنحاول أن نفسر ظاهرة الحضور من وجهة نظر الشعر والأسطورة والطقوس تفسيرًا جديدًا.
ترددت شكوى الإنسان الدائمة — كما رأينا — من زوال وجوده وتناهيه وانقضائه، وليس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوى، وما ينبغي لها كذلك أن تتوقف. فليس من قبيل الصدفة أن يقول المتنبي:
ولم يكن من قبيل الصدفة كذلك أن تتردد شكوى الزمان على ألسنة الحساسين من الأدباء والمنشدين في الحضارات القديمة. غير أن شكوى الإنسان كانت تقابلها على الدوام معرفته بما لا يزول أو ينقضي، وإحساسه بالأبدي غير الزمني، وشعوره بسكينة مقدسة، أشبه بصخرة تتدافع حولها أمواج الزمن الصاخب وتتحطم عليها.
ولقد حرك هذا الشعور — كما رأينا — وجدان الإنسان منذ آلاف السنين، وأراد الكثيرون أن يحولوا أنظارهم عن الزمن كي يتطلعوا إلى الأبدية وحدها.
وتنافس الدين والفلسفة في سلب كل قيمة عن الزمني والمنقضي، والبحث عن الحقيقة والوجود في الأبدي واللازمني. ولقد شعر البعض بالراحة، وتنفسوا الصعداء عندما قدمت لهم فلسفة «كانط» الدليل تلو الدليل على أن المكان والزمان لا شأن لهما بوجود الأشياء ذاتها، وإنما هما من شأن الطبيعة البشرية، صورتان قبليتان للحدس أو العيان قائمتان في وجدان الإنسان.
ومهما يكن من قوة هذه الأدلة أو ضعفها، فقد احتجت التجربة الحية عند أصحاب الرؤية من الفنانين والشعراء أشد احتجاج على ما قاله «كانط» عن مثالية المكان.
أما مشكلة الزمان، فيبدو أنها كانت ولا تزال أقرب لوجود الإنسان وأغنى بالألغاز.
وهل هناك أشد إيلامًا من اليقين بأن كل ما حولنا، ونحن أيضًا، سنغوص ذات لحظة في الماضي لنصبح «خبر كان»؟ أي شيء أبعث على الحزن من العلم بأن «الميت» في هذا العالم يزيد ملايين المرات عن «الحي»، وأن وجودنا الذي يمتد الآن بجذوره في الماضي يسرع دون توقف نحو اللحظة التي سيتلاشى فيها؟!
أليس من حق الإنسان أن يلتمس العزاء في حقيقة خالدة لا تمتد إليها يد الفناء، وأن يعد الزمانية من علامات النقص في وجوده الأرضي؟!
ألم يعمد الإنسان منذ القدم إلى وصف أربابه بالخلود، في الوقت الذي كان يتبين له فيه عجز كل ما هو بشري وتبدده كالدخان؟!
غير أن هناك نظرة أخرى للعلاقة بين الزمن والسرمدية: إن السرمدية نفسها تحضر في الزمان، وأبعاد الزمن الثلاثة يمكن أن تصبح كلها حضورًا سرمديًّا في أزلية الماضي، وأبدية المستقبل، وخلود اللحظة الحاضرة.
لن تنقطع الشكوى إذن من الزوال والانقضاء، ولكن لا ينبغي لهذه الشكوى أن تتحول إلى اتهام، فيعمى المتهم عن معجزات الوجود التي يمر بها مرور العابرين، وتغفل عينه عن الحضور الذي يناديه من أعماق «النهر» الذي مضى، ومن وراء «البحر» الذي أوشك أن يظهر السفين، ومن قلب الواقع الذي يكشف الأقنعة لكل من يريد أن يرى وجهه الخاطف البريق.
وماذا يكون حال الوجود إن خلا من جلال الماضي، وانتظار المستقبل، ونشوة الحاضر؟ هل يمكن أن تنعكس عليها جميعًا روعة الحاضر؟!
يقول الشاعر «شيلر» في حكمة على لسان «كونفوشيوس»:
ولعل «شيلر» كان يردد نفس الدعوة التي عبر عنها قبله شاعر الرومان «هوراس» عن رغبة الناس في الاستمتاع بيومهم قبل أن يتحسروا عليه:
ومع ذلك فقد كان الإنسان يشعر على الدوام بأن الماضي لا يزال موجودًا، وإن يكن كل شيء قد انقضى. وكانت تجربته العريقة تعلمه أن الماضي لم يزل له وجود (من حيث هو ماضٍ لا من حيث النتائج التي ترتبت عليه).
والأهم من هذا أن الإنسان جرب الخلود، وعرف الأبد في هذا الماضي. لم تأتِ تجربته أو علمه من عالم آخر أو قوة أخرى، بل جاءت من الزمان نفسه. فاللازمني أو الخالد ليس غريبًا عن الزمن كما نتصور، بل كلاهما متعلق في وجوده بالآخر، وكلاهما ينبع من الآخر باستمرار.
وخطوة الزمن الثلاثية التي ذكرها «شيلر» في حكمته الشعرية تؤكد لنا بالصورة الموحية ما تعجز مفاهيم العقل عن إيضاحه: إن أنواع الوجود الثلاثة في خطى الزمان تكشف جميعًا عن اللازمني أو السرمدي.
كان يقين الموت المحتوم ولا يزال هو الشاهد القاسي على أن كل شيء يمضي، وأن كل وجود على الأرض يفنى ويزول. وترددت أقوال الأدباء والمفكرين التي لا يجدي حصرها عن أن «ساعة الميلاد هي ساعة الموت»، و«أن الطفل يولد شيخًا ناضجًا للموت»، «ولما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد.»
وعبر «هيجل» عن هذه الأفكار أفضل تعبير حين قال على طريقته:
«إن وجود الأشياء المتناهية، من حيث هو كذلك، ينطوي على بذرة الفناء يوصفها وجودها في ذاته، فساعة ميلادها هي ساعة موتها.»
وسرت نغمة الوجود للموت في فلسفة الوجود المعاصرة مسرى النار في الهشيم، تغذيها فظائع حربين عالميتين، وأخطار حرب متوقعة في كل لحظة، وأهوال الظلم والعسف التي تثقل على صدر عالمنا البائس.
غير أن هناك صوتًا قديمًا لم يقدر له الارتفاع فوق هذه الأصوات الناعية المكتئبة، وإن لم يكن أقل منها حرارة ولا صدقًا، صوت لا يوافق على أن الموت هو الرعب الجاثم فوق صدر الطبيعة، ولا يملأ القلوب بالقلق والقتامة، ولا يزعم أيضًا أن الموت هو المحرر الأكبر الذي يفتح لنا أبواب السعادة الأبدية. فليس الماضي في رأيه عدمًا، ليس شيئًا فات وانقضى إلى غير رجعة، ولم تبقَ منه — إن بقي شيء — سوى آثاره، وإنما هو عنده كيان مقدس، لا يقل في الوجود عن الحاضر أو المستقبل.
إنه يعبر عن تجربة القدماء والأسلاف بأن الأجداد حاضرون في الأحفاد، وأن الماضي ترفعه الذكرى وتصفيه وتعلي قدره.
فالموت وكل ما مات يبعث في النفس الخشوع. وربما صور لنا العلم أو ما نتوهم أنه علم أن ما نسميه بعبادة «الموتى الأسلاف» شيء تفسره حاجة الإنسان وعجزه وخوفه ووحدته في هذا الكون، ولكن الشهادة التي يقدمها تاريخ الشعوب من آلاف السنين أقوى من كل دليل. فكم من أساطير وكم من عادات وتقاليد عريقة قامت على وجود أولئك الذين عبروا بوابة الموت، وهو وجود رفيع القدر لا يقاس به وجود الأحياء.
صحيح أن الأسلاف عند من نسميهم بالشعوب البدائية أو الفطرية قد ماتوا وذهبوا، ولكنهم كأموات لا يزالون موجودين وجودًا واقعيًّا يفوق كل وجود. إنهم يرجعون إليهم في كل احتفال، ويهيبون بهم في كل موقف تكشف فيه الحياة عن أعماقها الأصيلة في الموت والميلاد والزواج، في الزرع والحصاد، والخصب والجفاف. هم الغائبون الحاضرون على الدوام، وجوههم تطل عليهم، وأصواتهم تباركهم وتشد أزرهم، أو تلعنهم وتحذرهم.
هل نحن بحاجة إلى شواهد عن هذه العقيدة الأصلية التي تستند إلى التجربة الأولى للإنسان؟ هل يكفي أن نذكر أسماء الأبطال وهم حالة واحدة من حالات الفناء الذي يسري قدره على كل الأشياء وينقلها إلى وجود آخر هو الذي نسميه الماضي؟!
أليس هذا وجودًا ساميًا رفيع القدر، يصل عند بعض الشعوب إلى رتبة الوجود الإلهي نفسه، وإن لم نكد نفهم عنه اليوم شيئًا، نحن الذين نحيا على السطح، ونلهث وراء المنفعة، ونكبر من شأن العقل الذي يحسب ويقيس ويغفل عن نبض الواقع الذي اتصل به قلب الإنسان منذ القدم؟!
ألا يكفي أن ننظر لحياة الفلاح المصري والعربي، وحياة الكادحين في بلاد النهرين لنرى كيف يحددها ويسيطر عليها وجود الآباء والأجداد والأولياء، بل قبورهم التي لا يكفون عن زيارتها والتبرك بها؟
عرفت أساطير الإغريق عالم الموت السفلي، ونسب شاعر الأوديسة للأموات وجودًا في «هاديس» أقرب للظلال، وإن يكن وجودًا على كل حال؛ لأن الحياة الحقة عنده وعند سائر اليونان هي الحياة تحت الشمس.
ولكن أقدم أساطيرهم وعقائدهم الشعبية تكرم الموتى، وترفعهم إلى مصاف الأبطال، بحيث أصبحت صورة البطل الإلهي جزءًا لا يتجزأ من الديانة الإغريقية.
والعهد القديم يصف «صمويل» الذي بعث حيًّا من بين الأموات بأنه «إلوهيم» أي بنفس الكلمة العبرية التي تدل على الله.
الماضي موجود إذن في عقيدة الإنسان وتجربته الأصلية، بل إنه ليتحول في ذاكرة الأحياء ذلك التحول الذي تصفه أنشودة «آرييل» في مسرحية «العاصفة» لشيكسبير، وهي الأغنية التي نقشت كلماتها على قبر الشاعر الغريق «كيتس» في روما:
والأعجب من هذا التحول نفسه هو ما تمخض عنه، وهو الكلمة. كان الشعر هو الثمرة التي ازدهرت على شجرة الماضي المقدس، كانت الكلمة هي ابنته المقدسة. وهل كان في مقدور الروح أن تبتدع ما أبدعت من روائع القصيد لو لم يكن للماضي وجود أقوى من كل وجود؟! ألم يكن الشاعر القديم — في أدبنا وأدب غيرنا — يفتخر بقدرته على أن يمنح بغنائه الخلود لمن يشاء، وينزل اللعنة الأبدية على من يشاء؟!
ونخطئ لو تصورنا أن الشاعر الحق يتغنى بالجميل والجليل ويخلده؛ لأنه شيء فريد فحسب، فعالم الماضي كان يتشابك بألحانه العديدة في أغنية الشاعر التي نتعلم منها معنى الخلود.
في وجود الماضي، وفيه وحده، يسطع نور السرمدي، هنا أيضًا نجد أصلًا من أصول الخلود الأبدي، وهو شيء مختلف كل الاختلاف عن اللازمانية أو لا نهائية الزمان.
إن طقوس العبادة لدى الشعوب القديمة هي في صميمها طقوس تذكر وتكرار دقيق لما قامت به الآلهة نفسها في الأزمنة السحيقة من أعمال. صحيح أن هذا جانب واحد من حقيقة هذه الآلهة التي تنجلي كذلك — كما سنرى فيما بعد — من جهة الحاضر والمستقبل، لكن الحديث عن الرب الخالد منذ الأزل وتسميته بالأب القديم أمر عرفه الإغريق والرومان (الذين وصفوا الآلهة القديمة بالآباء)، كما هو معروف عند الشعوب الفطرية حتى يومنا الحاضر، مما يؤكد أن التفكير في الألوهية وفكرة الخلود نفسها مرتبطة بالماضي بأوثق رباط.
وليس من قبيل الصدفة أيضًا أن تصف المسيحية بأنه «الآب»، ولا أن يجمع شاعر أوروبي حديث هو «جوته» بين هذا التصور المسيحي وبين أقدم الأساطير والمعتقدات في قصيدته المشهورة التي تذكر الإنسان بالحد والاعتدال، وتحذره من أن يقرن نفسه بالآلهة:
هذه الملاحظات التي سقناها عن الشعوب التاريخية القديمة، أو شعوب ما قبل التاريخ، تبين لنا أن الإنسان كان يحيا في الماضي، ويغترف من نبعه الأصلي بمقدار ما يزداد قربه من الطبيعة الأم. من هنا استمدت الشعوب القديمة ثباتها وصمودها.
لم تكن آلهتها تبشرها بالمستقبل أو تحمل لها الوعود، بل كانت تهبها الحقيقة وثراء الأصل.
أما الاتجاه الحاسم للمستقبل فهو شيء جديد وطارئ، لم تعرفه أوروبا إلا في مطلع العصر الحديث.
لقد ظلت تحلم بالمستقبل وتصوره في «يوتوبيات» (مدن مثالية) على لسان أدبائها ومفكريها منذ عهد أفلاطون، وربما قبله إلى يومنا الحاضر. ولكن هل عاشت في حضور المستقبل الذي يتجلى في السرمدية، أم ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو عليها الأشياء في صورة أكمل، سواء أكانت دنيوية أو لاهوتية، علمية أو اقتصادية؟
فلما تبددت هذه الأحلام ولم ينتهِ العالم ولا اكتمل، ظهرت من جديد في صورة فكرة التقدم التي تحولت أشكالها منذ فلاسفة التنوير حتى المذاهب الفلسفية والاقتصادية المعاصرة. وابتعد الإنسان عن الطبيعة، وأوغل في الصنع والتصنيع، وفقد القديم خلوده، وزالت عن الماضي قداسته.
•••
رأينا من تجربة الإنسان الأولية في الشعر والأسطورة والحس الفطري أن الماضي لا يزال حاضرًا، وأن حضوره يتخذ صورة الوجود الذي يحوطه الشرف والجلال. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن المستقبل. فهو حاضر على الدوام في وجود عجيب يظهر في أشكال وظواهر لا حصر لها، تفطن أعين البشر إلى بعضها، ويختص قليل منهم بكشف السر عن بعضها الآخر. ولقد عرفت الشعوب القديمة أن العلم بالمستقبل يحتاج لموهبة أو إلهام مخصوص، فراحت تغدق على أصحاب الرؤية ألوان التكريم والتعظيم. وهدتها الخبرة الطويلة إلى أساليب مختلفة للملاحظة والتفسير والكشف والتنبؤ بما يأتي به الأيام. ومراقبة أسراب الطير (زرقاء اليمامة) وظواهر الخسوف والكسوف والرعد والبرق وأحشاء الذبائح والأضاحي والأوبئة والحروب والمجاعات … إلخ عند العرب والإغريق والرومان أشهر من أن نتحدث عنها. والدور الذي يشغله الكاهن والمتنبئ والعراف والمنجم والساحر والرائي عند هذه الشعوب أو غيرها ولا يزال يحتل مكانه في أعماق شعورنا أشهر من التعرض له. ومهما يكن من أمر التفسيرات والشواهد، فإنها جميعًا تقوم على هذه الظواهر الأولية أو هذه التجربة الأصلية للمستقبل علامات وإشارات تسبقه، ولا يستطيع فهمها وقراءة حروفها إلا الموهوبون من أصحاب الرؤية والبصيرة. وحتى ظواهر «الكشف» المختلفة التي يدرسها اليوم علماء النفس تشهد بأن المستقبل حاضر بالفعل، وقد ترك آثاره حولنا، مهما تكن ضآلة هذه الآثار.
إن تجربة اللقاء بالمستقبل تثير في النفس شعورًا عجيبًا. ليس من الضروري أن يكون هذا المستقبل المتوقع خطيرًا، ولا أن يحمل في أحشائه النعمة أو النقمة. فالمهم أن يصبح حقيقة حية. وكلنا يشعر أن فرحة الانتظار أصفى وأجمل من سعادة التحقق. وكلنا يدعو الله في سره أن يحميه من ألم الرغبات المتحققة، ويحييه على أمل الوعد والرجاء …
وسعينا الدائب إلى المعرفة يستمد حرارته وإخلاصه من وجود المستقبل. والأمل في العدالة والسعادة والمحبة والخير، تجربة يعيش عليها الأدب والفن والفكر والحياة اليومية؛ لأن الإنسان بطبيعته حيوانٌ آملٌ، ولو فرض أن تحققت هذه المثل والقيم والآمال لتوقف الزمن، وامتنعت الحياة. وستظل كلمة الأديب الناقد الألماني «ليسنج» تتردد في الآذان ككل الكلمات الصادقة:
«ليست الحقيقة التي يملكها إنسان أو يتصور أنه يملكها هي التي تجعل له قيمة، بل الجهد الصادق الذي بذله في التماسها والسعي إليها. فليس تملك الحقيقة هو الذي ينمي قواه وطاقته، وإنما البحث عنها هو الذي يعمل على تفتحها، وفيه وحده تكمن قدرته على الاستزادة من الكمال. إن التملك ليجعل الإنسان كسولًا ساكنًا مغرورًا. ولو أن الله وضع الحقيقة كلها في يمناه، وترك الدافع الوحيد الذي يحرك الإنسان إلى طلبها في يسراه، ومد نحوي يديه المضمومتين وهو يقول: «اختر بينهما» لركعت أمامه في خشوع وهتفت وأنا أشير إلى يسراه، رب أعطني هذه، فالحقيقة الخالصة ملكك أنت وحدك!»
غير أن وجود المستقبل لا ينطوي على الأمل والوعد فحسب، بل قد ينذر بالهول والدمار. هنالك يسيطر على كيان الإنسان، بحيث يصبح بصورة من الصور هو هذا الوجود نفسه. كذلك كان العرافون والعرافات (السبيلا) والمتنبئون وأصحاب الرؤية، بل كذلك يكون العبقري الذي وصفه «هلدرلين» في أنشودته عن «روسو»:
قد يكون صوت المستقبل متوعدًا أو واعدًا، قد يكون وجوده رائعًا أو مريعًا، فإشارات المستقبل على الدوام تلفها هالة إلهية، ولهذا كانت وستبقى محفوفة بالرهبة والجلال. وهي تحمل على كل حال أثرًا من آثار «معجزة الأصل» و«تجربة المنبع». ولكن هذه المعجزة وهذه التجربة ليستا سرًّا غيبيًّا لا يفهمه إلا الصفوة. إنها ماثلة في الطبيعة المحيطة بنا، وإن كانت تحتاج إلى العين المندهشة لتراها خلف سطوح الأشياء:
في الطفل المولود الذي يختبئ فيه المستقبل، وكل ما يحيط به من رهبة ورعشة وأمل وخوف، في جمال الصبي أو فتنة الفتاة التي تبعث فينا الحب النقي الخالص، في ابتسامة الأم الشابة التي تبتسم لوليدها، فيرتفع بها صفاء الابتسامة من المرأة المحدودة إلى الأصل الراسخ البعيد، إلى المرأة والأم والربة إيزيس والأرض الأم التي ولدت الابن السماوي. وتصبح الأم الصغيرة رمزًا للميلاد الخارق الذي سجلت به الأسطورة، وشعائر الطقوس القديمة رؤيتها للمستقبل في مولد البطل الرب، أو الرب البطل. هكذا تحدث المستقبل منذ القدم للإنسان، هكذا كشف له عن وجهه الرهيب أو وجهه الحبيب.
في كل هذه الرموز والأحوال «يحضر» المستقبل، نقف منه موقف الحب والشوق كما وقفنا من الماضي وقفة الخشوع والإشفاق.
صحيح أن شوقنا إليه أو إشفاقنا منه لا يخلو من الحاجة أو المنفعة، والرغبة أو الرهبة، ولكن الشاعر الحق هو الذي يملك الرؤية الخالصة، ويتحدث إلى المستقبل حديثه لوجود لا محدود يحس دبيب خطواته، ويشعر بنبضه، وينفتح على وجوده، ويعين القلوب على الإحساس به. فالشاعر يسكن سكنًا شعريًّا فوق الأرض، وهذا الشاعر الذي اقتبسنا بعض أبياته منذ قليل هو الذي يختم قصيدته إلى العروس بهذه الأبيات:
لكن هؤلاء الحالمين المساكين هم الذين يحيون في ماء النبع الأصلي. وهم الذين يعيشون تجربة الحضور، سواء أكان حضور الماضي الرهيب أم حضور المستقبل المحبوب. وليس هذا مقصورًا عليهم أو على واحد منهم ذكرناه. فالإغريق كانوا يحتفون بالربة «خاريس»، ويعدونها ربة النعمة الماثلة في كل ما يزدهر ويوحي بالأمل.
عرفوا أنها هي الروح التي توقظ الغناء، لا بالماضي وخلوده — ومنه يتدفق كل شعر عظيم — بل بالحب والمعرفة بالمستقبل، بحضوره غير المحدود. وليس من قبيل الصدفة أن كان للعراف والعرافة في أدبهم كل هذا الشأن.
أراد «زينون» الإيلي أن يؤيد فلسفة أستاذه بارمنيدس بكل وسيلة، فراح يثبت بمفارقاته العجيبة أن الزمن يتألف من آنات. وعبثًا حاول «ديوجينس الكلبي» أن يفند مهزلته الحزينة عندما نهض واقفًا من بين المستمعين الذين التفوا حوله، وأخذ يذهب ويجيء على مشهد من الجميع، لعل صاحبنا يقتنع بأن الحركة موجودة، وأن الزمان تبعًا لذلك موجود! وبدت المفارقة — حتى عهد قريب عندما فك عقدتها برجسون والرياضيون المحدثون — كالصخرة العنيدة التي يتحطم عليها كل سفين. وبدا كأن الناس لا تجرب حياتها إلا في آنات تعقبها آنات، وكأن صاحبنا القديم قد جمع أبعاد الزمن كلها في هذه «الآن». لكن الواقع يشهد بأن الإنسان يقضي حياته في الماضي أو في المستقبل، وأن تجربة «الآن» من التجارب النادرة في حياته. فإذا أراد أن يجرب الحضور الحق في اللحظة فلا بد أن تنبهه الأشياء وتوقظه بقوة، ولا بد أن يملك القدرة على رؤية الأعماق الكامنة وراء السطح، والكشف عن الأقنعة التي خلقتها العادة. هنالك يكشف الواقع عن وجهه الملكي أو وجهه الإلهي. ولهذا لن يدهشنا أن نجد المتصوفة من أصحاب الرؤية في الشرق والغرب على مر العصور هم أول من يحدثنا عن تجربة «الحضور الكامل»، وعن اللحظة الخالدة، أو تجربة «الآن» الخارج عن الزمان.
الطبيعة كتاب مفتوح لكل من له عين. وكلما ازدادت العين حدة والنظرة نفاذًا تفتحت لنا الطبيعة، وأعطتنا كل كنوزها. غير أن الإدراك الحسي لا يكفي، وأعضاء الحس لا تمكننا من إدراك اللب والجوهر، ولا غنى لنا عن رؤية الروح كي نتأمل ونشاهد ما لا نراه بعين الجسم.
ولا بد أن يرتفع وجودنا نحن كي نلمس حقيقته، وكلما ازداد حظنا من العظمة، كشف لنا العالم عن عظمته. فاللحظة التي تنكشف فيها روعة الواقع هي نفس اللحظة التي ترفع وجودنا إلى السمت، هنالك نتطلع برعشة السعادة المجهولة إلى المجهول الرائع وجهًا لوجه. قد يكون شكلًا من أشكال الطبيعة، حادثًا عاديًّا مما يجري في حياة العالم أو حياة الناس، فسيعلن اللامحدود عن نفسه في كل مرة، سندرك الكل بنظرة واحدة، سيتجلى الإله في كل ما هو أرضي، سيطل علينا في اللحظة السرمدية، اللحظة التي يتوقف عندها الزمن، أو التي أوقفت الزمن حتى يتم اللقاء بأنفسنا والآخر.
عندها نجرب الحضور الكامل، الحضور السرمدي. عندما لا يعود «الحاضر» شكلًا من أشكال الزمان، ولا بُعدًا من أبعاده، بل الخلود اللازمني الذي أتيح لنا أن نقبس لمحات من برقه ونلمس ومضات من ناره.
إن كل ما قلناه عن الماضي والمستقبل، وما نقوله الآن عن الحاضر تؤكده تجربة «جوته» في شيخوخته بعد أن بلغ الثمانين من عمره وكتب إحدى قصائده الفلسفية المتأخرة بعنوان «وصية» (١٨٢٩م):
إن الحاضر الحق يشبه دائمًا أن يكون كيانًا ينظر للإنسان، عينًا تصيب وجوده وتغوص به في أعماق وراء أعماق. ولا بد في هذه الحالة أن تستجيب «أناه» للأنت التي تخاطبه. ولا بد أيضًا أن تكون أقصى درجات الحضور هي درجة «الجذب» أو «الوجد» — أو ما شاء أن يسميه أصحاب الرؤية من أفلوطين إلى اليوم — حين يتم حضور الواقع الحق، وتتعانق «الأنا» و«الأنت»، بحيث لا يبقى في النهاية إلا الوجود اللانهائي.
ليس من قصدنا أن نطرق باب هذه الحضرة بكلمات اللغة وتصورات الفهم العاجزة بطبعها عن ولوجه. ولن نتخذ موقفًا من الخلاف بين أهل البصيرة حول هذا اللقاء أهو إثبات للأنا أم اتحادها في الآخر وتلاشيها. فكل ما يهمنا هو أن نشير إلى معجزة الحضور في اللحظة الخالدة، حيث يجد الإنسان نفسه، ويكون لقاء الأنا مع الأنت هو في نفس الوقت لقاء الأنا مع ذاتها.
في تجربة اللحظة الخالدة يكتمل وجود الإنسان كما يكتمل الوجود نفسه. تبقى نظرة عين واحدة — كالشمس — تحاول أعيننا أن تتملى فيها، حيث نشارك في الأبد الخالد، أو نصبح نحن الأبد الخالد. وليس أقدر من «الحب» على التعبير عما نعجز عن التعبير عنه. وشواهد الحب ماثلة في حياتنا اليومية مثولها في قلوب المحبين الخالدين. فلننظر إلى ما يقوله الشاعر «جوته» على لسان الحبيبة في قصيدته «الحبيبة مرة أخرى»:
لقد اعتاد الناس أن يمروا ببعضهم البعض مرور العابرين دون أن يرى أحدهم الآخر رؤية حقة. ويظل الحال كذلك حتى تصيبهم النظرة الخالدة، ويسطع الحاضر سطوع البرق، (تجربة الحب الحقيقي عند المحبين الحقيقيين) وقل نفس الشيء عن لقائنا المعتاد بالسماء والأرض، بأشكال الوجود المختلفة، بالأحداث الكبرى والصغرى، فكلها يمر بنا ويعبرنا. وإذا التفتت إلينا أو التفتنا إليها، نظرت إلينا من خلف قناع. وبينما نحن تائهون عنها في حلم أو كابوس لا نفيق منه، إذا باللقاء يتم فجأة، تشرق الحقيقة، يتفتح الوجود، ندخل تجربة الحضور. فإذا توافر للتجربة العمق، ولعين الروح الدهشة والصدق، بدا كأن إلهًا يمعن النظر فينا من خلال لقائنا بالأحباب والأعزاء ومختلف الصور والأشكال والأحداث مهما تكن ضئيلة أو تافهة الشأن في عين الحياة اليومية والعملية.
«كن نفسك» تلك هي الحكمة التي لم يكف عن ترديدها الحكماء. وفي «المواجهة» و«اللقاء» يكون الإنسان هو نفسه، وحين يفنى في الآخر يكون بكليته. والعكس صحيح.
«من عرف نفسه فقد عرف الله.» هكذا يقول الحديث الشريف.
«كوني أنت نفسك أكن لك.» هكذا يخاطب الله نفس الإنسان على لسان «نيقولا الكوزاني» (١٤٠١–١٤٦٤م)، وعندما يرى الإنسان بحق ويخاطب بحق، أي عندما تصيبه نظرة الآخر أو كلمته في الصميم، يصبح هو نفسه. عندئذٍ تتم معجزة الحضور، معجزة التحرر من الوسائل والأهداف، والهموم والعادات، من سيطرة الرغبة، من كل ما ليس وجودًا خالصًا وحقيقة محضة. عندئذٍ يتحول الجسد والروح إلى كيانهما الخالد، يستجيبان لحضور كيان رائع. يجد الجسد نفسه فيرقص استجابة لمعجزة الحضور (فينطلق بالغناء المعبر عن روعة الكيان الذي حل فيه وتملكه، كما نجد في الشعر الغنائي عند كبار المحبين عندنا أو عند غيرنا).
كذلك يخطو الإنسان الذي مسته روح الإله، وهو يؤدي الطقوس أو بالأحرى يتركها تؤدي نفسها فيه. ويصبح هذا الحضور الكامل علامة على حضور الإله، بالخطوة الخفية، والإشارة الرائعة، والإيماءة المهيبة، بوقفة التعظيم والإجلال. هنا مهد الدراما والشعر البطولي، فلم يكن كلاهما سوى الترحيب بالإله.
وأخيرًا نقول إن الحضور ليس مقصورًا على الطقوس وحدها. إنه يمتد إلى أشكال الوجود وكل مواقف الوعي الحاسمة في تاريخ الإنسان في فعل الخلق المبدع، في لحظة حسم ثوري، في كل لقاء حق، ساعة يولد طفل أو يُحتضَر الشيخ، في لحظة العلو فوق الكل، ولحظة التحدي للفناء والزوال، في لحظة القرار والاختيار، لحظة استغراق في فضاء الكون الظاهر أو الباطن، في خيبة الأمل أو نشوة النصر، فيما نسميه اليوم بالمواقف الحدية … إلخ.
ولقد عبر الأب العظيم ولا يزال إلى اليوم يعبر عن أشكال الوجود الأصيلة التي تجسدت قديمًا في الأسطورة والطقوس.
وكان الشعر وسيظل أقدر من غيره على التعبير عن تجربة الحضور السرمدي التي يكشف عنها الماضي والحاضر والمستقبل. وتصبح «الخطوات الثلاث» التي تغنى بها شيلر ثلاثة وجوه للخلود والسرمدية. إنها لتفقد أشكالها الزمنية التي طالما اختلفت حولها العقول، وطالما حاولت قياسها كما يقاس المكان، ومدت لها حبال الديمومة في التذكر أو الانتظار، ولو التقى بها الإنسان كما ينبغي أن يكون اللقاء لأصبحت كلها حاضرًا ممتدًّا في وعيه، ولأصبح وعيه الباطن هو وعاء الحاضر السرمدي (فأن تكون واعيًا معناه أن تكون خارج الزمان، على حد قول إليوت في رباعياته الأربع …) عندئذٍ يعي الموجود نفسه، كما يتم وعيه بالآخر وبوجوده هو نفسه وكيانه. عندئذٍ تتكشف له معاني كلمات نسمعها كل يوم، يثرثر بها معظمنا، ويسعى أقلنا إلى فهمها والعمل بها، كالحرية، والتفتح، والشخصية، والمعنى، والواجب، والمسئولية، والخلق، والإبداع، والقلق، والشجاعة، والحب، والتفاني، والصدق، والأصالة … إلخ.
عندئذٍ ترجع النقطة إلى البحر الذي انبثقت منه، أو قل تصبح هي البحر، يصبح ماضي العالم والإنسانية ومستقبلها حاضرًا حيًّا في اللحظة.
عندئذٍ تُكشَف كل الأقنعة ونسكن بيت الأبدية، نلمس نور البرق الخاطف أو يلمسنا … نحيا اللحظة أو تحيانا.
عندئذٍ تصبح هي الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان.
وعندئذٍ نلمس السرمدية، أو نكون نحن جزءًا من السرمدية، في لحظة وعي فوق الزمن.
Bruno Snell: Leben und Meinungen der Sieben Weisen. München, Tusculumm, 1952.
Paul Tillich, The shaking of The foundations, Penguin Books, 1949, p. 42–45.
انظر إن شئت كتابي «نداء الحقيقة»، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٧٧م، وراجع كذلك محاضرة لهيدجر ألقاها سنة ١٩٦٢م بعنوان «الزمان والوجود»، Zeit und sein ونشرت في كتابه قضية الفكر، توبنجن، ١٩٦٩م، ص١–٢٥.
Heidegger, M.; Zur Sache des Denkens, Tübingen, Max Niemeyer Veriag, 1969.
W. F. Otto; Die Zeit und das Sein. In: Anteile, Martin Heidegger Zum 60. Geburtstag — Frankfurt/M, V. Klostermann, 1950.