أميرة عربية تؤلِّف للمسرح عام ١٨٩٩
- أوَّلًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» هو نص مخطوط، لم يُنْشَر منذ كتابته عام ١٨٩٩، وبالتالي فإن طبعته في سلسلة «نصوص مسرحية» تُعتبر الطبعة الأولى!
- ثانيًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» يُعتبر من الآثار المجهولة للأديبة إسكندرة قسطنطين الخوري، حيث تجنَّبت ذِكْرَهُ مُعْظَمُ المراجع التي كَتَبَتْ عن هذه الأديبة، إلا عندما أشار إليه الأديبان أحمد محرَّم ووَلِي الدين يكن عام ١٩١٥.
- ثالثًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» هو نص مسرحي مؤلَّف عام ١٨٩٩، وبالتالي فهو من النصوص المسرحية المؤلَّفة النادرة، في زمن كانت الترجمة والتعريب من أهم الصفات الغالبة عَلَى النصوص المسرحية.
- رابعًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» نصٌّ مؤلَّف من قبل امرأة عربية، وبالتالي فهي تاريخيًّا تُعتبر ثالث امرأة عربية تؤلِّف للمسرح، بعد أن ألَّفت لطيفة عبد الله مسرحية «الملكة بلقيس» عام ١٨٩١،١ وبعد أن ألَّفت زينب فوَّاز٢ مسرحية «الهوى والوفاء» عام ١٨٩٣.
- خامسًا: أن مؤلفة نص مسرحية «أمانة الحب» شخصية غير عادية، فهي أديبة كان لها شأن كبير في زمنها، وهي أيضًا أميرة عربية تحمل لقب «برنسيسة» بصورة رسمية وقانونية.
- سادسًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» يحمل من القصائد ما يؤلِّف لصاحبته ديوانًا شعريًا يُعتبر بديلًا لديوانها المفقود.
- سابعًا: أن نص مسرحية «أمانة الحب» يُعتبر دليلًا عمليًّا لقيام المرأة بتأليف ما يُسمَّى بالمسرحية النسائية، كما يُعْتبر باكورة الاهتمام بما يُسَمَّى بالأدب النسائي.
وقبل أن نتحدث عن هذه الأمور، أو عن مسرحية «أمانة الحب» نفسها، نلقي الضوء عَلَى مؤلفة المسرحية التي تحمل ثلاثة أسماء، هي: إسكندرة قسطنطين الخوري، أو ألكسندرة ملتيادي أفيرينوه، أو البرنسيسة ألكسندرة أفيرينوه فيزنيوسكا.
الأميرة إسكندرة
بسم الله الفتاح … الحمد لله الذي جعل المرأة مرآة الجمال، ومرقاة الكمال، وزانها بالحِلْيَتَيْن الحُسن والإحسان، وجعلها مصدر الحب وزهرة الإنسانية، وريحانة النفوس في كل زمان. والذي سوَّل لها في هذا العصر الوصول إلى مباراة الرجال، باجتناء العلوم وإتيان كل مفيد من الأفعال. وبعد …
أمَّا موضوعات مجلة «أنيس الجليس»، فكانت تتعلق بكل ما يختص بالمرأة، ومن هذه الموضوعات عَلَى سبيل المثال: المرأة في الشرق، نساؤنا والقراءة، ضحايا النساء، واجبات الزوجة، النساء والدراجات، نصيحة للسيِّدات، نساؤنا والقمار، مصيبة المرأة، عادات الطلاق، تعليم الفتاة، الطلاق وتعدُّد الزوجات، الوطنية والمرأة العثمانية، النساء والحرب، بسمارك والنساء، المرأة الأميركانية، النساء والطب، المرأة وتأثيرها عَلَى الرجل، المرأة والسياسة، امرأة اليوم وامرأة الأمس.
وفي المقالة نفسها أشارت إسكندرة إلى مجموعة كبيرة من الكُتَّاب الغربيين، ممن سيساهمون في تحرير مجلة «اللوتس» الفرنسوية، ومنهم: جول كلارتي، جون ليمتر، إميل دشانل، جان رشبين، البرنس لافورج، البارونة ستاف، البرنسيس فيزنيوسكا، جورج أونيه، الكونتيس مونتيين، فرانسوا كوبه.
ولم تكن مجلة «اللوتس» النتيجة الإيجابية الوحيدة لحضور إسكندرة مؤتمر السلام بباريس عام ١٩٠٠، بل كانت هناك نتيجة إيجابية أخرى، لا تقل أهمية عن إصدار اللوتس. وهذه النتيجة تمثَّلت في إعجاب الأميرة فيزنيوسكا بشخصية إسكندرة، ذلك الإعجاب الذي وَصَلَ إلى حد التبنِّي، حيث إن الأميرة لم يكن لها ذرية.
وإذا كان ديوان إسكندرة الشعري مفقودًا حتى الآن، إلا أنني استطعت بعد جهد كبير، أن أحصل عَلَى مسرحيتها المخطوطة «أمانة الحب»، التي كانت مفقودة منذ كتابتها في عام ١٨٩٩!
مخطوطة المسرحية
إذا نظرنا إلى مخطوطة مسرحية «أمانة الحب»، سنجدها مكتوبة في أوراق من القطع المتوسط، عَلَى شكل كراسة. وهذه الأوراق مسلسلة الترقيم حتى رقم ١١٥، وهو مجموع صفحات المسرحية. أمَّا الخط فهو مكتوب بصورة مقبولة للقراءة، من خلال الريشة والمداد، كما هو متَّبع في الكتابات المخطوطة المُكتشفة في هذه الفترة.
والصفحة الأولى للمخطوطة، أو غلافها الخارجي، مكتوب عليه الآتي: «نسخة بقلم الفقير السيد محمد الأزهري، أحد رجال جوق مصر العربي، إدارة إسكندر أفندي فرح، في ١٧ أغسطس سنة ١٨٩٩.» وهذه المعلومات تُثْبِت لنا أن خط المخطوطة هو خط السيد محمد الأزهري، وليس خط الأميرة إسكندرة، وتُثْبِت أيضًا أن هذه النسخة، كانت تخص فرقة إسكندر فرح المسرحية. وهذا يعني أن فرقة إسكندر كانت تستعد لتمثيل هذه المسرحية أمام الجمهور عام ١٨٩٩!
أمَّا موقف فرقة إسكندر فرح من تمثيل مسرحية «أمانة الحب»، فمن الثابت لدينا أن الفرقة لم تمثِّل هذه المسرحية مطلقًا، بل ولم تمثِّلها أية فرقة أخرى. وإذا نظرْنا إلى تاريخ نسخ الفرقة لهذه المسرحية، سنجده في شهر أغسطس ١٨٩٩، أي إن الفرقة كانت تنوي تمثيل هذه المسرحية في هذا التاريخ أو بَعْدَه بقليل. فما هي ظروف فرقة إسكندر فرح في هذا التاريخ؟!
عادة كانت الفرق المسرحية تأخذ إجازة من العمل لمدة ثلاثة أشهر، هي يوليو وأغسطس وسبتمبر؛ حتى تستعد للموسم الجديد الذي يبدأ عادةً في أكتوبر. وفي بعض الحالات كانت الفرق تَعْرِض أعمالها المسرحية في الأقاليم، أثناء هذه الإجازة، كما كانت بعض الفرق تبدأ موسمها الجديد في نوفمبر أو ديسمبر تبعًا لظروفها الإدارية والفنية.
ولعل القَدَر وَقَفَ بالمرصاد أمام مسرحية «أمانة الحب»، كي لا ترى النور، وتُعرض أمام الجمهور. فبالرغم من أنها مسرحية جديدة، لم تمثَّل من قبل، وكانت الفرقة تستعد لِعَرْضها لتبدأ بها موسمها الجديد، خصوصًا وأن إسكندر فرح قام بتجديد مسرحه الشهير بشارع عبد العزيز — سينما أوليمبيا الآن — إلا أن الظروف حالت دون عَرْضها.
ففي ٢٧ / ١٠ / ١٨٩٩، قالت جريدة «الأخبار» تحت عنوان «مرسح جديد»: «إن حضرة إسكندر أفندي فرح مدير الجوق العربي المصري، قد شرع في إصلاح مرسح عبد العزيز وترميمه، وجَعَلَهُ لائقًا لاستقبال العائلات وكرام القوم. وقد شاهدْنا أمس هذه الإصلاحات، فصحَّ لنا القول بعد الاطِّلاع عليها: «إن حضرة المدير الفاضل قد أنشأ مرسحًا جديدًا، لا أنه أصلح ورمَّمَ. فإنه قد هدم البناية القديمة بأكملها، وأنشأها عَلَى أساسات جديدة وهندسة، اقتدى بها بهندسة الأوبرا الخديوية، واشترى المخازن الواقعة أمام المرسح عَلَى الشارع، وسيشرع في هَدْمها، ويجعل المدخل الأكبر في محلها. وأوصى عَلَى فَرْش جميل من القطيفة في فيانا (فيينا)، وسيصل إلى مصر في أوائل الشهر القادم. وجعل التنوير كله بالكهربائية، بفوانيس مختلفة الألوان. أمَّا القاعة العمومية فتسع ٣٦٠ كرسيًّا، وقد أكثر من الشبابيك والمنافذ مراعاةً للقواعد الصحية، وسيفرغ منه في النصف الأول من الشهر القادم ويبتدئ بالتمثيل فيه.»
وعن هذا العرض قالت جريدة «الأخبار» في ٢٢ / ١٢ / ١٨٩٩، تحت عنوان «المراسح العربية»: «غص أمس المرسح العربي في شارع عبد العزيز بجموع الذين ضاقت عنهم باحته، عَلَى رحبها وسعة أرجائها، وازدحم عَلَى المدخل خَلْق كثيرون. أمَّا الرواية … فهي من نخبة مؤلَّفات كورنيل الشهير، وقد سبكها المرحوم الشيخ نجيب الحداد في قالب عربي فصيح. وكان الشيخ سلامة يُنْشِد الأناشيد الشجية فأطرب وأبدع. وقد أجاد الممثل الذي قام بدور أغسطس قيصر، فكان وقورًا جليلًا، عليه مسحة حلم الكبار، وسعة صدورهم. وأثنى الحضور أيضًا عَلَى الذي قام بدور مكسيم؛ لأنه أحسن الإلقاء والإيماء. واتفق الجميع عَلَى أن ما ذَكَرْنَاه فيما مضى عن تحسين هذا المرسح وتزيينه لم يكن فيه مبالغة ولا مغالاة.»
وإذا عُدنا إلى مخطوطة المسرحية مرة أخرى، سنجد الصفحة الثانية أو غلافها الداخلي مكتوب عليه الآتي: «رواية «أمانة الحب»، ذات خمسة فصول، «تأليف» إسكندرة أفيرينوه كريمة المرحوم قسطنطين الخوري، جرت في إسبانيا في القرن السادس عشر للمسيح، «توقيع» السيد محمد الأزهري ١٧ أغسطس سنة ١٨٩٩.»
أمَّا كلمة «تأليف»، فإنها تدل عَلَى أن إسكندرة ألَّفت هذه المسرحية، في زمن شاعَتْ فيه النصوص المسرحية المترجمة والمُعرَّبة، أي إنها من رائدات التأليف المسرحي، مثلها مثل لطيفة عبد الله وزينب فواز. وعبارة أن المسرحية أحداثها «جرت في إسبانيا في القرن السادس عشر للمسيح»، فإنها تدل عَلَى أن إسكندرة، تبعًا لثقافتها الأوروبية، استوحت مسرحيَّتَها من حادثة إسبانيَّة، وهذا الأمر كان شائعًا في تلك الفترة. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لماذا أقدمت إسكندرة عَلَى تأليف هذه المسرحية؟
إسكندرة والتأليف للمسرح
وبالرغم من ذلك، فقد وَجَدْنا مقالة مسرحية مهمة، كتبَتْها إسكندرة، ونشرَتْها في مجلتها «أنيس الجليس»، تحت عنوان «ملاعبنا العربية والروايات». وهذه المقالة كانت السببَ المباشر في إقدام إسكندرة عَلَى تأليف مسرحيتها الوحيدة «أمانة الحب»! فقد نُشِرَتْ هذه المقالة في العدد السادس من السنة الثانية بتاريخ ٣٠ / ٦ / ١٨٩٩، أي قبل كتابة المسرحية بشهرين تقريبًا.
إننا نجد الرجال لا ينفكُّون عن مطالبة الحكومة بكل ما يُفْضِي إلى مسرَّتهم واكتمال لهوهم، فهم يطلبون إنشاء المتنزَّهات، وتحسين المجتمَعات، ويبالغون في ذلك كثيرًا، إرادةَ سرور ذواتهم. ولكنْ دون أن ينظر منهم أحد إلى هذه المرأة المسكينة في بلادنا، فإنها لا تَعْرِف في مُدُنِنا إلا منزلها أكثر العمر، وبعض شوارع تمر بها مرة كل شهر، وما عدا ذلك من مجتمعات ومتنزَّهات، فلا حظَّ لها منه بالإطلاق. بل إن النساء في بلادنا بالعموم يُشْبِهن الدجاج، كل يومهن النهار، ولا يعرفن من الليل إلا حلوكته وظلامه، مع أن هذه المرأة بشر كالرجل، ولها حق اللهو والسمر، والمشاركة في عطايا الطبيعة والصناعة. فإذا كان لا يليق بمرأتنا الشرقية، أن تجلس في قهوة تلعب بالنرد والشطرنج، ولا أن تجلس في دار طرب، تجلو بها صدأ القلب، فتستريح في ليلها من عناء النهار وشغله، فإنه يليق بها أن تحضر ملاعب التمثيل، تستمع فيها أطايب الألحان، وتتفكه بأحاديث الماضين، وصور حالاتهم. وعلى الجملة، فإننا لو اعتبرنا شأن التمثيل، لوجدنا أن من حق المرأة أن يكون أكثره منصرفًا إليها، إذ هو ناديها الليلي الوحيد، ولا سيَّما في مثل هذه البلاد، التي ضايقت عاداتها المرأة كل المضايقة؛ ولذلك نَعُدُّ من أكبر واجبات حكومتنا أن تلتفت إليها، وترى فيما يوجب بعض سرورها، ولا سيَّما في هذا المطلب الأدبي المفيد.
إن لِفَنِّ الروايات التمثيلية تمامَ الفائدة الأدبية، إذا أنكرت علاقته بالفائدة المادية، وهو أن الشاعر أو الكاتب لا تؤهِّله حالاته الدنيوية لأن يتعرض لكل شيء، ويكتب في كل فن. فقد تكُون له أفكارٌ ومعانٍ سامية في موضوع الإنذار والتحريض مثلًا، ولكنه لا يَتَّفِق له إظهارها في أثناء حياته، فإذا لم يُودِعْها الرواية ضاعت معه. وقد تَكُون له معانٍ حسنة في العشق وذِكْر الوجد، ولكنه لا يصح له ذِكْرها لغير داعٍ، أو لا يحب أن يُنْسَبَ إليه ذلك الداعي، فيُودِعها الرواية. وكذلك قد تكون له أفكار في الثورة والحماسة، وأشباه ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يُظْهِر منها شيئًا. فإذا عُرِضت له الرواية ذَكَرَ فيها كلَّ شيء؛ لأن مجال القول يكون ذا سعة، فضلًا عن أنه يكون متكلِّمًا بلسان غيره، فيتم له بذلك حجاب كثيف بين حقيقة الحال وبينه، ولا تكون له إلا الحقيقة الأدبية المحضة. ولو تَفَقَّدَ الناقد شِعْرَ مؤلفي الروايات ومعرِّبيها؛ لوَجَدَهُ فيها أَجْوَدَ من شعرهم في أغراضهم الأخرى الخصوصية؛ لأن طَبْعَهُمْ قد لا يكون مائلًا إلى الرثاء أو المديح، فيخرج غَيْرَ حَسَنٍ. وأمَّا في الرواية فإذا فاتهم غَرَضٌ لم يكن من طبعهم الإجادة فيه، لم تَفُتْهُم سائر الأغراض، أو واحد منها، فيبدو شِعْرهم على أجود ما يمكن. وعلى الإجمال، فإن فَنَّ الروايات التمثيلية قد حسَّن الآداب كثيرًا وأكثر فروعها، وأوجد فيها فنونًا لم تكن تتسع له وحدها، بحيث كان هذا الفن كحياة جديدة جاءت للآداب؛ لأن النظم والإنشاء في طرقهما المعروفة، قد ملَّها الشعراء والكُتَّاب، وأمَّا الروايات فلا يملها أحد.
وهذا التصور لتأليف المسرحيات هو نفسه التصور الموجودة في مسرحية «أمانة الحب»! وكأن إسكندرة أفيرينوه أرادت أن تُطَبِّق تصورها في التأليف المسرحي بصورة عملية، فألَّفت مسرحية «أمانة الحب» بعد شهرين فقط مِنْ نَشْرها هذه المقالة.
ومسرحية «أمانة الحب» تدور حول عِشْق إيميليا لأمير إسبانيا، الذي رأته مرة واحدة فوقعت في حبه. ومن ثَمَّ أرسلت له مع خادمها خطابًا موقَّعًا باسمها، تَعْتَرِف فيه بحبِّها له. ولكن الأمير ردَّ على هذا الخطاب بعبارة واحدة، قال فيها للخادم: «ليس له عندي جواب!» وعاشت إيميليا لحظات حالكة أمام رد الأمير، حتى جاءها خطاب موقَّع باسم «عاشق أمين»، يعترف فيه صاحِبُه بحبه الشديد لها، رغم عدم معرفته باسمها، ولكنه أحبَّها منذ أن شاهدها للمرة الأولى على شاطئ البحر. ولكن إيميليا أجابت على خطابه بنفس عبارة الأمير: «ليس له عندي جواب!» وكأنها تنتقم من الأمير في صورة هذا العاشق. ومع توالي الأحداث نكتشف أن هذا العاشق، ما هو إلا أمير إسبانيا نفسه، وتنتهي المسرحية بزواجه من إيميليا.
وهذه المسرحية عبارة عن مناجاة شعرية، تَعْكِس لنا لواعج وخلجات نفسيةِ المرأة في عِشْقها وحبها وخيالاتها وآمالها وأمانيها … إلخ هذه المشاعر. وكأن المسرحية كما قلنا عبارة عن تطبيق عملي لتصوُّر إسكندرة للتأليف المسرحي كما أَوْضَحَتْهُ في مقالتها السابقة.
ومن الجدير بالذكر أن إسكندرة في هذه المسرحية كانت رائدة في كتابة المسرحية النسائية — نسبةً إلى الأدب النسائي، إن صح التعبير — حيث إن المؤلفة امرأة، وبطلة المسرحية امرأة، وموضوع المسرحية يدور حول امرأة. وهذا الأسلوب — من وجهة نظري — كان السببَ الخفي في إحجام فرقة إسكندر فرح عن تمثيل هذه المسرحية!
فمن المعروف أن عماد فرقة إسكندر فرح في هذه الفترة كان الشيخ سلامة حجازي، وهذا يعني أنَّ كلَّ مسرحية لا بُدَّ أن يكون بَطَلها ومطربها الأول الشيخ سلامة، ولكن مسرحية «أمانة الحب» كانت البطولة المطلقة فيها لامرأة، وأن معظم الأشعار الموجودة في المسرحية كانت تُلْقِيها هذه المرأة. أما الرجل في هذه المسرحية فكان محدودَ الدور، سواء كان الدور لشخصية أمير إسبانيا، أو لشخصية البارون مزاحم الأمير في حب إيميليا. أي إن فرقة إسكندر فرح إذا أرادت أن تمثِّل هذه المسرحية، فكان لا بدَّ لها أن تنحِّي الشيخ سلامة جانبًا، أو أن تعطيه دورًا لا يليق به ولا يليق بمكانته كبطل للفرقة؛ ولهذا تراجَعَت الفرقة عن تقديم مسرحية «أمانة الحب».
وسيلاحظ قارئ هذه المسرحية أن إسكندرة أَفْرَطَتْ كثيرًا في قول الشعر، بالمقارنة بحجم القطع النثرية الموجودة. وهذا الشعر تغنَّت فيه إسكندرة عن الطبيعة والجمال والمشاعر النفسية والعشق والغزل العفيف … إلخ. وهذا الجانب يُعْتَبَر مجهولًا في حياة إسكندرة نَفْسِها، ونادرًا بالنسبة لأشعارها القليلة المنشورة في مجلتها «أنيس الجليس»، والتي تدور حول مديح الملوك والأمراء، وبالأخص الخديو عباس.
- أوَّلًا: لاحظنا أن شخصية «جوليا» صديقة إيميليا منذ بداية أحداث المسرحية، وفي ثنايا كلماتها تُظْهِر روح التآمر والحقد والحسد تجاه إيميليا، لدرجة أن القارئ يشعر منذ البداية أن هذه الصديقة سيكون لها شأن كبير في تتابُع الأحداث وتشابُكها والصعود بالصراع إلى ذروته. ولكن المسرحية تنتهي دون أن يحدث شيئًا من هذا!
- ثانيًا: لاحظنا أن إيميليا، بعد أن فاتحها الأمير في أَمْر زواجه منها، تقول له: «ألا تخشى من معارَضةٍ في قصرك؟!» … وهذا القول يُشعر القارئ بأن هناك أمرًا ما سوف يقف أمام هذا الزواج، خصوصًا وأن هذا المعنى تَكَرَّرَ مرة ثانية، عندما قال كاتم الأسرار للأمير بأنه تَعَجَّلَ في أَمْر الزفاف! ثمَّ تكرر مرةً ثالثة، عندما اعترف الأمير أمام رجال حكومته بأنه خَالَفَ المألوف، عندما اختار زوجته من عامة الشعب، لا من الأميرات الأجنبيات، كما هو متَّبَع! وبالرغم من ذلك، فقد انتهت المسرحية بزواج الأمير من إيميليا، دون أي اعتراض يُذْكَر، ودون حدوث ما يُعَرْقِل أو يؤخِّر هذا الزواج!
- ثالثًا: جاء في المسرحية أن الأمير أراد أن يتمَّ زفافه بصورة سريعة، كي يستطيع أن يسافر متنكِّرًا لبضعة أيَّام! ولكن المسرحية تنتهي، دون أن نعلم السبب في ذلك التنكر أو سبب السفر!
هذه بعض الأمثلة التي تدل على أن إسكندرة لم تهتمَّ ببناء المسرحية فنيًّا، بقدر اهتمامها بصياغة أشعارها. ولعل الفترة الزمنية القصيرة بين كتابتها لمفهومها عن التأليف المسرحي وبين تطبيقها العملي المتمثِّل في كتابة هذه المسرحية، كان السببَ الأساسي لخروج هذه المسرحية بهذه الصورة.
ومهما يكن من الأمر فإن مسرحية «أمانة الحب» تُعتبر كشفًا أدبيًّا يُثْرِي المكتبة العربية، وبالأخص تراث المسرح في القرن التاسع عشر، ذلك القرن الذي ما زال تراثه الأدبي مجهولًا، يَنْتَظِر من يكتشفه وينفض عنه غبار السنين، ليظهر جليًّا شامخًا، ليحتل مكانه الحقيقي، الذي لا يعرفه الكثيرون!
القاهرة في: ٢٥ / ٧ / ٢٠٠٢
رئيس قسم الدراسات الأدبية
كلية دار العلوم – جامعة المنيا