الفصل الأول
الزمان والمكان صدر المقولات
حين وضع المعلم الأول أرسطو القاطيغوريات
Categories, Katnyopia، أو المقولات العشر التي هي أعم أجناس الوجود، جعلها أولًا:
الجوهر، ثم أعراضه التسعة: الكم، والكيف، والإضافة، والزمان، والمكان، والوضع، والحالة
والفعل، والانفعال. إن أرسطو — بفلسفته المنصبَّة على الوجود، التي دعمت الفلسفة طوال
العصور الوسطى ودعمتها هي كذلك — كان لا بد أن يجعل الجوهر «القائم بنفسه، والمتقوم بذاته،
والمتعين بماهيته، والذي تقوم به الأعراض والكيفيات»،
١ هو المقولة الأولى، فالوجود أو الكون واحدي؛ أي حقيقة واحدة لا تكثر فيها؛ أي
جوهر كلي. وما نراه من اختلافات ليس إلا صفات تُحمَل على الجوهر، والمنطق هو الأورجانون
Organon أو أداة الفكر لأحكام هذا الحمل؛ لذا كان
المنطق قياسيًّا، حمليًّا، استنباطيًّا، وكل مقدماته ونتائجه قضايا مكونة من موضوع
ومحمول.
وكانت فاتحة الحضارة الحديثة، وبدء طريق العقل الحديث في العصر الحديث، حين نقل ديكارت
الفلسفة من محور الوجود إلى محور المعرفة، فأصبحت من رأسها إلى أخمص قدميها فلسفة منصبة
على
المعرفة وتدور حولها؛ مما هيأ المناخ الغربي لنشأة العلم الحديث ونموه. وقد كان هذا مرتهنًا
بالافتراق عن طريق أرسطو
٢ ومنطقه وجوهره. وبتنامي بنية الحضارة الحديثة، وسيرها قدمًا في طريقها، كان
الجوهر الأرسطي يتوارى ويضؤل شيئًا فشيئًا، حتى تلاشى نهائيًّا بنشأة المنطق الحديث على
يد
جورج بول
G. Boole (١٨١٥–١٨٦٤) مؤسس جبر المنطق، وأبي
المنطق الرياضي أو الرمزي.
وإذا كان المنطق الأرسطي هو منطق الحمل الذي لا يعرف إلا القضية الحملية، فإن المنطق
الرياضي الحديث هو منطق العلاقات، والقضية فيه قد تكون لزومية شرطية أو انفصالية أو عطفية
أو تركيبية من هذا وذاك. والحق أن منطق العلاقات هذا يُعَدُّ من أعظم إنجازات الفلسفة
المعاصرة، فقد جعل من الممكن صياغة مشكلات قديمة بطريقة جديدة، وكان له دوره العظيم في
إثراء الفكر الفلسفي المعاصر، وتطوير الرياضيات البحتة. والذي يهمنا الآن فيه أنه يتسق
مع
النظر إلى الكون على النحو الذي ينظر به العلم الحديث إلى الكون؛ أي: بوصفه ليس واحديًّا
بحال، بل بوصفه تعدديًّا. وكل الفلسفات ذات الطابع العلمي والعقلاني لا بد أن تسلم الآن
بالتعددية.
وقد بلغت هذه التعددية ذروتها بفلسفة الذرية
المنطقية Logical Atomism مع أعظم فلاسفة العصر وصاحب الفضل الأول في تطوير المنطق الرياضي
برتراند رسل B. Russell (١٨٧٣–١٩٧٠) وتلميذه ورفيقه
لودفيج فتجنشتين L. Wittengstein (١٨٨٩–١٩٥١).
والذرية المنطقية كانت بمثابة رد فعل لواحدية برادلي خصوصًا والميتافيزيقيين عمومًا،
كما
كانت في الوقت نفسه انعكاسًا لكشف العلم للطبيعة الذرية لكل شيء،
٣ وخلاصتها أن العالم على النقيض تمامًا من فرضية الواحدية، كثرة متكثرة من
الوقائع التي ترتبط بعلاقات. والواقعة
Fact هي شيء معين له
كيفية معينة، أو أشياء معينة ذات علاقات معينة، والواقعة ترسمها أو تصورها القضية الذرية،
التي تعبر عن ذلك الشيء الواحد الكائن في آنٍ مُعيَّن من آنات الزمان، ونقطة معينة من
نقاط
المكان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر، فإن القضية التي ترسمهما — أو ترسمها — هي القضية
الجزيئية،
٤ وهذه الذرية المنطقية شاعت في الفلسفة المعاصرة، واتخذها التيار التحليلي بأسره
أساسًا أنطولوجيًّا له، واتخذتها مذاهب أخرى متعددة، كبراجماتية وليم جيمس
W. James (١٨٤٢–١٩١٠) الذي جعل التعددية المتطرفة
الرافضة جدًّا للواحدية هي هندسة بنائه الأنطولوجي، وكانت التجريبية الراديكالية أو الجذرية
هي مادة هذا البناء. لقد قال جيمس ما كان يحتاج تمامًا إلى الصياغة المنطقية للتعددية
التي
نجدها في الذرية المنطقية، والغريب حقًّا أن جيمس، وهو عالم ذو باع كبير في الفسيولوجيا
وعلم النفس، وفيلسوف من الطراز الأول، وقد اشتهر بعدائه الغريب للمنطق، حتى إنه قد قال
عن
برتراند رسل العظيم؛ لكونه منطقيًّا: تبًّا له من حمار!
٥
وسواء أخذنا بالذرية المنطقية أو رفضناها، أو حتى رفضنا التيار التحليلي بأسره، وأيًّا
كان الموقف من مسلمة التعددية المعاصرة وإطلاقها أو كبح جماحها، فالذي لا جدال فيه أن
الجوهر الأرسطي الآن، من أية زاوية ومن أية وجهة للنظر قد انزاح تمامًا؛ فنستطيع إذن
أن
نعيد الأمور إلى نصابها، ونجعل المقولة الأولى، أو ما يتصدر أعم أجناس الوجود، ليس الجوهر،
بل مقولتي الزمان والمكان.
إن الزمان والمكان هما القالب الذي صُبَّ فيه هذا الوجود جملة وتفصيلًا، وانتظم بفضلهما
على هيئة كوزموس Cosmos؛ أي: كون منتظم. والكوزموس أو
الكون الذي تتعامل معه الفيزياء الحديثة هو المادة تتحرك عبر المكان خلال الزمان. والنظرية
الفيزيائية العامة هي التي تُحدِّد قوانين هذه الحركة؛ أي: حسابات الانتقال من نقطة إلى
أخرى في المكان بسرعة معينة؛ أي: خلال مدة من لحظة إلى أخرى في المكان بسرعة معينة، أي:
خلال مدة من لحظة إلى أخرى في الزمان. ونظرًا لعمومية الفيزياء وشموليتها وتربعها على
قمة
نسق العلوم الإخبارية، فإن سائر أفرع العلم الأخرى — سواء الطبيعية أو الحيوية أو الإنسانية
— تسلم بمسلمات الفيزياء؛ فعوالمها مجرد زوايا أكثر خصوصية في عام الفيزياء، الذي هو
مادة
متحركة في الزمان والمكان. ومن ثم، فإن الزمان والمكان صلب عالم العلم، أو الوجود الذي
يتعامل معه العلم.
وحتى قبل نشأة العلم الحديث بقرون عدة، كانت الفلسفة قد صاغت نظريًّا ما هو معطى
للحس
المشترك، فذهبت إلى أن العالم الخارجي أو الكون كوزموس، سلسلة من الظواهر يستحيل منطقيًّا
حدوث أيها خارج نطاق الزمان والمكان. وقديمًا أشار هيراقليطس إلى أنه لا وجود خارج إطارهما،
حين قال: لا شيء في هذا العالم يستطيع أن يتجاوز مقاييسه، وهذه المقاييس هي الحدود المكانية
والزمانية. أما الفيثاغورية فقد رأت أن «العالم قد وُجِدَ (أصلًا) بفضل ما له من حدود
زمانية مكانية.»
٦ والخلاصة إذن أنهما إطار الوجود الذي عهدناه.
والأمر كذلك تمامًا على مستوى المعرفة، فهي أيضًا لا تتم إلا في إطار الزمان والمكان.
والمقصود بطبيعة الحال المعرفة بهذا الكون، أو على الأقل بظواهره، وهي التي تعهدت الفلسفة
برؤاها ومبادئها ومسلماتها ومناهجها، حتى تسلمها العلم الحديث إبان نشأته في القرن السادس
عشر وهي مهيأة لتنامٍ وتعملق ما كان يخطر على بال.
إن الزمان والمكان كما أشار إيمانويل كانط I. Kant
(١٧٢٤–١٨٠٤) إطاران مفطوران في صلب العقل الإنساني الذي يقوم بعملية المعرفة، شكلان قبليان
للحساسية، يتم وفقًا لهما ترتيب معطيات هذه الحساسية ومضمون خبرة الإنسان بالعالم الخارجي،
أو تجربته الخارجية. فالزمان والمكان إذن صورتان قبليتان أو شرطان للمعرفة، مثلما هما
— كما
رأينا — إطاران للوجود.
والمعرفة والوجود — أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا — هما في خاتمة المطاف المحوران
النهائيان اللذان لا بد أن يدور حول أحدهما أي جهد للعقل البشري. أما القيمة — الأكسيولوجيا
— المحور الفلسفي الثالث والأخير، فمحض تقاطع بين المحورين الأولين، وتمثيل لعلاقة الذات
العارفة بهذا الوجود ورؤيتها له وإسقاطاتها عليه.
من هنا كان الزمان والمكان بوتقة لمطلق قدر الإنسان، مطلق حدود عالمه وآفاق عقله.
ويرى
صمويل ألكسندر
S. Alexander (١٨٥٩–١٩٣٧) أنهما الأصل
الهائل أو الحقيقة المبدئية التي نشأ عنها العالم، هيولى أولى أو جوهر أصلي أو خامة
Primal Stuff صدرت عنها كل الوجودات بالانبثاق، فعن
الزمان والمكان انبثقت أولًا المادة، وبالتدريج انبثقت الحياة، ثم الوعي، وأخيرًا الألوهية،
بل إنهما يظلان أيضًا ماهية الموجودات بعد انبثاقها عنهما، فتظل كل الأشياء مثل مصدرها
زمانية مكانية،
٧ ونجد أرنست كاسيرر
E. Cassirer (١٨٧٤–١٩٤٥)
بفلسفته للأشكال الرمزية يعرف الإنسان بأنه حيوان رامز، فالرمز — لديه — هو الحد الفاصل
لإنسانية الإنسان، وهو المفسر لجميع فعالياته؛ كالأسطورة، والدين، والأخلاق، والبناء
الاجتماعي، أو السياسي، والفن، والفكر، والعلم … إلخ. وكل هذه الفعاليات المتباينة يصهرها
في بوتقة الإنسانية اشتراكها في شيء واحد؛ هو صلتها بالزمان والمكان. وأكثر من هذا يوضح
كاسيرر أن الزمان والمكان في الفكر الأسطوري لم يكونا محض شكلين فارغين أو خالصين، بل
كانا
يُعَدَّان القوتين العظميين اللتين تحكمان كل شيء وتُصرِّفان حياتنا الفانية وحياة الآلهة
أيضًا وتحدِّدانها.
٨
•••
من هذا التصور الأسطوري يتضح أنه إذا كنا قد أزحنا الجوهر الأرسطي وجعلنا الزمان والمكان
في صدر المقولات والفكرتين الأوليتين، فإن هذا ليس كشفًا حديثًا، بل هو مجرد وضع الأصبع
عليهما، أو بلورة ناصعة لما هو كائن منذ أن كان الإنسان، وفلسفة أرسطو ذاتها عُنِيَتْ
عناية
بالغة بالزمان والمكان.
إن تقولب كل وجود في قالب ما من الزمان والمكان هو بؤرة من بؤر الوعي الإنساني في
كل
مستوياته: من الحس المشترك إلى التفكير العلمي إلى الفكر الفلسفي.
وفي كل عهوده، منذ العصر الأسطوري الذي يتسم باضطراب خط الزمان والمكان؛ حيث تقع حوادث
الأسطورة في إطار زماني غير منطقي، وتنتقل عبر أمكنة لا يمكن تصور الانتقال بينها، وحتى
عصر
النسبية بمتصلها الزماني-المكاني (أو الزمكاني) الذي يبلغ درجة مبهرة في تعيينهما بدقة
متناهية تنطبق على الكوكب وهو يتحرك في السماء، كما تنطبق على الإلكترون وهو يتحرك حول
نواة
الذرة.