الفصل الرابع
فض متاهات إشكالية الزمان
لقد اتضح الآن كيف يمثل الزمان إشكالية تحتمل النظر من ألف زاوية وزاوية؛ لنخرج بألف
وجهة
للنظر ووجهة، وقد بدت الصورة الآن تنذر بمتاهة لا مخرج منها. حقًّا؛ إننا حاولنا أن نحسم
كل
تشعب للمتاهة في حينه، ولكن مدى تعدد وجهات النظر ما يزال واضحًا.
وتتفاقم أحابيل الإشكالية حين نتكفل بها في الفلسفة والعلم معًا، جملة وتفصيلًا، إنهما
نقطة التقاطع والإطار الضامُّ لمجمل جهود العقل البشري.
ولعل أمر العلم الحديث هيِّن، فعمره قصير، ورؤاه محدَّدة بعالم الظواهر، وبقواعد منهجية
بيِّنة، وهو لم يمر حتى الآن إلا بمرحلتين: المرحلة الحديثة من القرن السادس عشر إلى
نهاية
القرن التاسع عشر التي تتوجها نظرية نيوتن ذات التصور المطلق للزمان، ثم المرحلة المعاصرة
في القرن العشرين، وتتوِّجها النظرية النسبية بمفهومها النسبي المتغير للمتصل
الزماني-المكاني، والنسبية ذروة ما وصل إليها العقل البشري في استكناه هذا الكون وفهمه
بزمانه ومكانه ومادته.
ولكن المفهوم العلمي — مأخوذًا على حدة — هو تناول سطحي ومبتسر؛ فلا بد إذن من التعمق
الفلسفي. وحتى بالنظر إلى فلسفة عالم الظواهر فحسب، ربما كان الفكر الفلسفي صورة مبدئية
—
ولعلها فجَّة — للتفكير العلمي الناضج. ولكن فلسفة العلوم — أحدث وأهم فروع الفلسفة
المعاصرة — هي على وجه الدقة التفكير العلمي، وقد أصبح راشدًا مسئولًا بإزاء كل مقولة
أو
مفهوم أو مبدأ منهجي يُقام عليه نسق العلم. والتناول المثمر الجدير بإشكالية محورية ومهمة
من قبيل إشكالية الزمان، لا بد أن يتعقبها منذ بدئها في الفكر الفلسفي؛ أي: في الفلسفة
اليونانية (كما هو معتمد أكاديميًّا، وليس يتسع المجال الآن للخوض في قضية الفكر الشرقي
القديم وكونه المقدمة الضرورية)، ولا بد أن يتتبع نموها وسيرها حتى يصل إلى العلم الحديث.
إن الفلسفة تملك المقومات الجذرية التأصيلية العميقة، والنظرة الشمولية الاستشرافية الرحيبة
لمجمل تجربة العقل الإنساني، إن لم نَقُل الحضارة الإنسانية بمختلف المناشط ومختلف
المنطلقات والبواعث والأهداف، ومن الفلسفة دون سواها، يكون المدخل المحدد المعالم والمخرج
المفتوح الآفاق للمناشط العقلية الأخرى على العموم، وللعلم على الخصوص، أقرب الأقربين
إلى
الفلسفة، ورفيقها المظفر، في حل المشكلة الأبسمتمولوجية/الأنطولوجية. ملاك القول إنه
لا بد
من تناول فلسفي شامل يضم التناول العلمي بين شطآنه.
وإشكالية الزمان بكل ما رأيناه من رحابة آفاقها وتعدد أبعادها، قد مثلت واحدة من أمهات
المشاكل الفلسفية التي تظل عتيقة وغضة ناضرة، تفتح آفاق دائمة لتناولها مجددًا؛ لذلك
دأب
معظم الفلاسفة على طرح رؤاهم التجديدية لإشكالية الزمان، والمحصلة ركام هائل من نظريات
تخلقت طوال تاريخ الفلسفة. ومن ثم يبدو بحثنا هذا — بعد أن قطع نصف الطريق — قد غرق في
لجة
لا مخرج منها، إذا أراد أن يكتمل بوضع تصور عام لإشكالية الزمان، وبدئها ومسارها في بنية
العقل وتاريخه؛ أي: لمجمل معالجات الإشكالية في الفلسفة، ثم في العلم الذي هو امتداد
خاص
لها، استقل ونما، ثم تعملق. يبدو هذا الآن مغامرة غير مأمونة العواقب، إذا كان السير
المنهجي النسقي فيها متاحًا أصلًا، وسط هذا الخضم الهائل من النظريات التي يحتاج حصرها
لمجلدات.
لكن الحصر والتعداد الآلي أسلوب ساذج وبدائي، وليس من المقبول ولا المشروع، أن يبدأ
بحث
فلسفي ما لم يكن مسلحًا بأسلوب أكثر حصافة، إن لم نَقُلْ مبشرًا بالجديد المبتكر.
وبالتفكير مليًّا في الأمر، تبيَّن أنه من الممكن حصر التناول الفلسفي والعلمي لإشكالية
الزمان؛ لنخرج بصورة عامة مستوعبة لمجمل مسارها، وذلك فقط إذا تسلحنا بمفتاح من مفاتيح
الفكر الفلسفي، ينفذ إلى الصميم فتنفضُّ معه كل المغاليق، الظاهر منها والباطن، البارز
والغائر، المكشوف والمستور، فيمكننا من الإحاطة بالفكر الفلسفي، في معالجاته للإشكاليات
الواسعة النطاق من قبيل إشكالية الزمان.
والمفتاح المقصود هو أنه بالنظر المتعمق للفلسفة، نجدها عن بكرة أبيها يتنازعها تياران
يمثلان منها اللحمة والسدى، هما تيارا العقلانية واللاعقلانية.
العقلانية هي — ببساطة — الإيمان بالعقل باعتباره القوة المدركة التي يمتلكها الإنسان
والقادرة على الإحاطة بكل شيء، وإليه يرتد كل شيء، والمذهب العقلاني المعتدل — وهو مذهبنا
—
«يؤمن بالعقل، ويؤمن بالوجود، وبقدرة العقل على تعقل الوجود.»
١ وبالعقلانية يرتد الزمان، كما ترتد كل إشكالية أخرى إلى الوعي التصوري، الذي
يتناول موضوعه بردِّه إلى تصورات أو مفاهيم، هي حدود أو أطراف تربطها علاقات منطقية.
إنه
إذن تناول موضوعي
Objective، أو بمصطلح معاصر أكثر دقة
وصوابًا نقول إنه تناول بين-ذاتي
Inter-subjective؛ أي:
يمكن للذوات جميعًا أن تدركه بنفس الصورة. وغني عن الذكر أن العلم يتربَّع على عرش من
عروش
مثل هذا التناول.
واللاعقلانية تعني نقيض هذا، أن العقل قاصر، وأن عملياته التصورية متناهية، ومحدودة
بأطراف وعلاقاتها. إنه إذن عاجز عن إدراك اللامتناهي، وعن إدراك الزمان بهذا المنظور
المنطلق. ويغدو الحدس لدى هذا المنظور هو الطريق الوحيد لإدراك الحقيقة الكامنة من وراء
(أو
بعد أو خلف أو داخل) عالم الظواهر الخارجية، الحقيقة المغلقة في وجه العقل التصوري، والأرحب
من آفاقه، والأشد حيوية وخفقانًا من أن تنحصر بين قواعد المنطق الباردة الجافة، ولا سبيل
إلى إدراكها «إلا عن طريق الحدس وحده، ذلك الحدس الذي يتم فيه تجاوز كل تفرقة بين الذات
والموضوع.»
٢ ويغدو كل موضوع ذاتيًّا وكل حقيقة ذاتية. والزمان كذلك ليس حقيقة موضوعية
خارجية كما يتوهم الفلكيون والعلميون والفلاسفة العقلانيون، بل هو ديمومة داخلية ذاتية،
لا
ينفذ إلى جوهرها العقل. والحدس يشير إلى قوة أخرى أكفأ من العقل وأكثر فعالية، وتختلف
أسماء
هذه القوة باختلاف مذاهب الفلسفة اللاعقلانية، وهي عادة هروب من هذا العالم المتموضع
المتشيئ، الذي بلغ غاية التشيؤ مع العلم النيوتوني الميكانيكي، إلى عالم آخر أرحب وأخصب
وأليق بالإنسانية المأمولة للإنسان، فيجد فيه كل ما ينشده ويتمناه، كالحرية والخلود،
فيرضي
عواطفه ومشاعره، ويهدهد أحاسيسه. وبديهي أن الدِّين يتربَّع على قمة اللاعقلانية.
والاتجاهان بعموم حيثياتهما كائنان دائمًا في الفكر الإنساني، ليس فقط منذ بدء الفلسفة
مع
الإغريق، بل من قبل في الفكر الشرقي القديم بكل خصوبته وثرائه. فمثلًا، ثمة اتجاهات عقلانية
واضحة في الفكر الصيني القديم مع هان-فاي-تسو زعيم المدرسة التشريعية، وثمة عقلانية في
فكر
كونفوشيوس، وخطوط لاعقلانية واضحة في الفكر الهندي القديم، ومزج رائع بينهما في الفكر
الفرعوني، على أن الاتجاهين ظلَّا متداخلين، وقد كانا هكذا في فلسفة هيراقليس؛ حيث نجد
عقلانية شديدة يجسدها اللوجوس Logos (الكلمة/العقل) كما
نجد لاعقلانية واضحة. هكذا نجد بدايات عقلانية ولاعقلانية أيضًا، وقد يتداخلان معًا وتقترب
اللاعقلانية إلى حد التصوف، كما هو الحال مع الفيثاغورية. والأمر كذلك بالنسبة لأفلاطون؛
إذ
تتداخل خطوط لاعقلانية في قلب العقلانية، ويمكن اعتبار الجمع والتوفيق بينهما محور الفكر
في
العصر الوسيط، من حيث كان انشغالهم الأساسي بالتوفيق بين الفلسفة والدين، أو الفكر والوحي،
أو العقلانية واللاعقلانية. إنهما كانا يسيران معًا جنبًا إلى جنب، ولم تكن المواجهة
بينهما
واضحة أو صريحة.
ومع الإيغال في قلب العصر الحديث، أصبحت المواجهة الصريحة بين العقلانية واللاعقلانية
أوضح من شمس النهار، ومركزًا من المراكز التي تتوجه منها البنى الفكرية، فقد ظهرت نظرية
نيوتن لتعني اكتمال نسق العلم، وأنه فقط في حاجة إلى رتوش لكي تكتمل الصورة العقلانية
المحكمة المغلقة لهذا الكون، وأنها صورة لآلة ميكانيكية عظمى، تروس وقضبان، محض قطع من
المادة في الزمان والمكان المطلقين، تتحرك تبعًا لقوانين رياضية دقيقة، لتسير بحتمية
صارمة
لا تفلت منها كبيرة ولا صغيرة، لا في الأرض ولا في السماء.
وفي هذا العالم النيوتوني يتلاشى الإبداع والجديد والمستحدث، وكذلك يتلاشى التفرد
والمسئولية الخلقية، من حيث تتلاشى الحرية الإنسانية، تحت وطأة جبروت الحتمية العلمية،
فيصبح الإنسان مجرد ترس في الآلة الكونية العظمى، يسير معها في المسار المحتوم. وبتوالي
النشأة الناجحة لبقية فروع العلم، الحيوية والإنسانية — على هدى من مثاليات نيوتن — تعاظمت
قسوة الصورة العقلانية التي رسمها العلم للعالم.
٣
صحيح أن هذه الصورة الحتمية الميكانيكية قد اندثرت تمامًا في القرن العشرين، تحت
وطأة
العلوم الذرية، ونظريتي الكوانتم والنسبية،
٤ إلا أن العلم وهو النجيب المعجز الأثير لدى العقل كان قد أحرز أولى ذراه
الشاهقة بنظرية نيوتن. إنها أول محاولة ناجحة لبناء نسق شامل للعلم بالطبيعة، بالوجود
الذي
نحيا فيه، ويوازيها نجاح الفلسفات العقلانية في بناء أنساق شامخة، تتمكن من استيعاب الوجود
بأسره في قلب فئة من التصورات. فكان الإيمان المطلق بالعقل، والارتكان إليه لتحقيق القول
الفصل في كل أمر، وساد القرن الثامن عشر ما يُعرَف باسم عصر التنوير، عصر الإيمان بقدرة
العقل، والعقل فحسب، على فض كل مغاليق هذا الوجود.
وكردِّ فعل متوقع للعقلانية التنويرية المتطرفة، أشرق القرن التاسع عشر في أحضان الحركة
الرومانتيكية؛ لتتطرف في الاتجاه المضاد، وتعمل على إحياء العاطفة والإحساس والخيال على
حساب العقل والمنطق والعلم، وتحاول تأكيد حرية الإنسان في مواجهة مد الحتمية العلمية
الساحق
الماحق، التي سادت أيما سيادة آنذاك.
وقد كانت الرومانتيكية، أساسًا، رؤية فنية ونزعة أدبية تعني الاتجاه المقابل للكلاسيكية،
ومن ثم الرافض لأسس علم الجمال الثابتة، ومعايير العمل الفني الراسخة. إن الاتجاهات الحديثة
في الآداب والفنون؛ كاللامعقول والعبث والتجريد والتكعيبية والسيريالية … امتداد لها.
ولكن
جذرية الرومانتيكية وشموليتها، وتواتر شعرائها العظام وأقطابها المتمكنين؛ أمثال: كولريدج،
وشيلي، ووردزورث، ووليم بليك، وتوماس كارليل، وأيضًا العملاق جوته. كل هذا جعل الرومانتيكية
تخرج من حدود الآداب والفنون، وتأتي بمعانٍ ورؤى لمقولات الفلسفة الأساسية: الحق، والخير،
والجمال. وكان لها أيضًا شعاب في التاريخ والسياسة، تقوم على الاعتقاد بلا نهاية التقدم
في
التاريخ، ونجعلها مسئولة عن نمو النزعات القومية التي تُعَدُّ سمة مميزة للعصور الحديثة.
وهكذا أصبحت الرومانتيكية حركة شاملة.
وقد تميزت طبعًا بالعداء المتأجج للعقل وأحكامه وتحليلاته، واتجهت إلى الارتكان إلى
الخيال والعاطفة ومشاعر القلب وحدوس الوجدان، وإطلاق الموقف الفردي، وتأكيد الحرية
والاستقلال والبحث المشبوب عن اللامتناهي وعن الجدة والإبداع، والاشتياق لكل ما هو متميز
وفريد وأصيل يأتي على غير مثال، والأنفة من المعتاد والمألوف والرتيب، والرفض لكل ما
هو
نمطي قانوني صوري نسقي … ومنبع كل هذا إحساس الرومانتيكية الدافق بالحياة الخفاقة في
الصدور، لا المتجردة في العقول كما تُصوِّرها قوانين العلم الخاوية، وأنساق الفلسفة
العقلانية الباردة.
الرومانتيكية إذن أقوى تمثيل وأوضح بلورة للاعقلانية التي تتوغل جذورها على الخصوص
في
نزعات التصوف الفلسفي والديني، المعتمدة على المواجيد والمزدرية لأحكام العقل وشهادة
الحواس، أما الامتداد الساطع للرومانتيكية في الفلسفة المعاصرة، فهو في الفلسفتين
البيرجسونية والوجودية التي قامت لتأكيد حرية الإنسان وفردانيته من حيث هو جزئي عارض
عيني
متشخص، لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلانية.
٥
•••
وبالعَوْد إلى إشكاليتنا، إلى الزمان، نجده — كما أوضحنا — يتوغل في منتهى الموضوعية
في
صلب عالم العلم والوجود كما يتصوره العقل، وفي الآن نفسه يتوغل في منتهى الذاتية في قلب
التجربة الداخلية، ووعي الإنسان الشعوري بديمومته وتناهيه، وبحثه التوَّاق عن السرمدية
في
الآفاق الأبدية المترامية وراء حدود العقل التصوري. الزمان إذن محور أكثر من مثالي لتطبيق
التناول الذي يحصر المتغيرات من خلال تياري العقلانية واللاعقلانية.
ويبدو فض متاهات معالجات إشكالية الزمان على هذا النحو مسألة ملائمة للغاية، إن لم
نَقُلْ
إنها ضرورة تفرض نفسها، حين نلاحظ الخلط الذي حدث بين الزمان والأبدية، وتصور الأبدية
على
أنها مجرد لا نهائية زمانية؛ أي: صفة لامتداد الزمان الطبيعي الفلكي بغير حدود وبغير
نقطة
بداية محددة، «فقد أخذ أرسطو بهذه النظرة التي لا تُفرِّق بين مستويين من مستويات الوجود.»
٦ والواقع أن الأبدية التي ينتفي منها الماضي والحاضر والمستقبل، والبداية
والنهاية، وتخلو من التغير والزوال والفناء، وتنتمي إلى وجود مغاير تمامًا للوجود الذي
ينتمي إليه الزمان الطبيعي الفلكي القابل للقياس والتكميم الرياضي، سواء أكان متناهيًا
أم
لا متناهيًا. بل إننا إذا صوَّبنا الأنظار على الزمان بهذا المنظور الطبيعي الرياضي؛
لأمكننا القول إن الأبدية تعني ببساطة اللازمان، حتى قال ت. س. إليوت:
إنما الشغل الشاغل للقديس أن يدرك
نقطة تلاقي الزمان واللازمان.
٧
فقد يبدو أن الواحد منهما يتناقض مع الآخر، ولكن هذا التناقض يحدث فحسب نتيجة للخلط
بين
النظامين وحين يُقحَم أحدهما في الآخر، لا بد أن ينشأ تناقض.
٨
وقد أتى هذا التناقض، وهذا الخلط بين الزمان والأبدية، من جراء عجز العقل في العصور
السابقة عن تناول المتصل اللامتناهي؛ مما جعل قدمه تزل في الحدود اللاعقلانية، ليخلط
بين
اللانهائية الميتافيزيقية الكيفية للأبدية، وبين اللانهائية الفيزيقية الكمية للزمان
الطبيعي. وظل هذا الخلط يعرقل نمو التفكير في إشكالية الزمان، حتى تطورت الرياضيات البحتة
في العصور الحديثة، ونما حساب اللامتناهي بفضل علماء كثيرين نذكر منهم جورج كانتور G. Cantor (١٨٤٥–١٩١٨) فأمكن معالجة لا تناهي الزمان،
كما نعالج أي متصل لا متناهٍ، بصورة رياضية — أي عقلانية — لأقصى الحدود، بلا خلط ولا
اضطراب، تغمض معه المفاهيم، وتغيب الحدود بين العقلانية واللاعقلانية.
وبالتسلح بهذا الإنجاز الحديث، يمكن أن نستوعب قول نيقولاي بيرديائيف بشغفه الوجودي
التوَّاق إلى الفرار من أطر الزمان الفيزيقي العقلاني، إلى آفاق الزمان اللاعقلاني الممنوحة
بسخاء في الأبدية، يقول بيرديائيف: «تتعارض فكرة الأبدية مع كابوس الزمان النهائي
واللانهائي على السواء، فهناك نوعان من التناهي أحدهما كمي والآخر كيفي. اللاتناهي الكمي
فانٍ لكنه يؤكد وجود الزمان اللامتناهي، واللاتناهي الكيفي ينتصر على الموت، ويؤكد الطابع
اللامتناهي للزمان، والقدرة على معالجة شر الزمان. والأبدية هي — على وجه الدقة — هذا
اللاتناهي الكيفي، وهي وحدها التي تُقدِّم حلًّا لتناقض الزمان.»
٩
يقول أيضًا: «العالم الموضوعي إذن هو عالم الزمان الرياضي، عالم اللامتناهي الرياضي
… هذا
الزمان الذي نقيسه بالساعة يختلف كل الاختلاف عن مصير الإنسان الداخلي … بيد أن المصير
الإنساني يتم التعبير عنه في العالم الموضوعي بحيث يصبح عبدًا للزمان الرياضي المنقسم.
والحياة الروحية وحدها هي التي يمكن أن تتحرر حقًّا من الزمان العددي؛ فثنائية الزمان
يمكن
الكشف عنها بوضوح في اللحظة الحاضرة. ولهذه اللحظة دلالة إذا نظرنا إليها بطريقتين
متباينتين تمامًا؛ أولًا: أن اللحظة جزء دقيق من الزمان، فهي صغيرة من الناحية الرياضية
ولكنها منقسمة بدورها، ومندرجة في تيار الزمان، بين الماضي والمستقبل. ثانيًا: هناك أيضًا
اللحظة الحاضرة للزمان فوق العددي غير المنقسم، اللحظة التي لا يمكن أن تنحل إلى الماضي
والمستقبل، لحظة الحاضر الأبدي التي لا تنقسم، وهي جزء متكامل مع الأبدية.»
١٠
وبمعالجة أكثر موضوعية، تقول أميرة مطر في بحث عميق عن الزمان عند اليونان، أفادنا
كثيرًا: «الأبدية إذا نظرنا إليها من وجهة نظر روحانية، فإنها لا يمكن أن تنشأ من الزمان؛
لأنها من صنف آخر، ووجودها متعالٍ على الوجود الحسي، فظننا بأن المطلق يمكن أن يوجد في
النسبي هو نوع من الوهم. فالزهرة مثلًا لو كانت تعي كما يعي الإنسان ويظن لظنت البستانيَّ
خالدًا، ولكن تفسير الأبدية بالعلاقات المجردة هو تجريد يسلبها الصورة الحية لها والوعي
النابض بها؛ لذلك فقد ذهب البعض إلى وصف الأبدية بأنها حاضر مستمر، ولا ينبغي أن تنتسب
إلا
للعالم الروحاني أو الألوهية المتعالية. وكذلك نرى أن علاقة الأبدية بالزمان ليست علاقة
أفقية؛ إذ لا توجد قبل الزمان ولا بعده، وإنما هي عمودية
Vertical بل يمكن أن نقول إن أجسادنا في الزمان وأرواحنا في الأبدية.»
١١ هكذا نجد أنفسنا بإزاء تيارين متمايزين للإشكالية، إنه عين التمايز بين تياري
العقلانية واللاعقلانية. وإذا أخذنا في الاعتبار أن انفراج التيارين يرتدُّ إلى «تصور
بُعْدَيْن متمايزين من الوجود، أو نظامين مختلفين من الوجود، ألا وهما نظام الزمان ونظام
الأزل.»
١٢ تأكد لنا أن إشكالية الزمان قد سارت حقًّا طوال تاريخ العقل الإنساني وفي صميم
بنيته خلال تيارَي العقلانية واللاعقلانية.
•••
هذا عن المسار، فماذا عن البداية؟
قال العالم الرياضي الكبير والفيلسوف البارز الفرد نورث هوايتهد قولًا شهيرًا مؤداه
أن
مجمل تاريخ الفلسفة لا يعدو أن يكون هوامش على فلسفة أفلاطون. وقد ظلت إشكالية الزمان
في
الفكر الشرقي القديم وفي الفلسفة قبل السقراطية، ظلَّتْ موضوعًا لرؤى مبتسرة وشذرات
متناثرة، حتى جاء أفلاطون العظيم في المحاورة التي كرَّسها للعالم الطبيعي وتفسير نشأته،
١٣ ليفرق بين الزمان والأبدية، وعندئذ بدأت المعالجات النظامية للإشكالية من خلال
مفهوم الزمان ليمثل التناول العقلاني، ومن خلال مفهوم الأبدية ليمثل التناول
اللاعقلاني.
وفي المحاورة المذكورة، طيماوس، نجد أن الزمان لم يكن موجودًا حتى خلق الله العالم،
أو
بالتعبير الأفلاطوني حتى صنع الصانع هذا العالم؛ أي حين شكل الهيولي الأولى أو المادة
التي
كانت في حالة كاؤس Chaos شكلها في صورة عالم حي على غرار
النماذج الخالدة في عالم المثل. لقد وُجِد الزمان في نفس اللحظة التي وُجِد فيها هذا
العالم، أما قبل خلق السماوات فلم يكن ثمة نهار ولا ليل ولا شهور ولا أعوام، بل فقط الأبدية
التي لم يكن من السهل — كما تخبرنا طيماوس — أن تحل في العالم الحادث، وحتى يشابه العالم
الأصل الذي يحاكيه الصانع، خلق له الزمان صورة ومحاكاة لمثال الأبدية، تبعًا لنظرية أفلاطون
الشهيرة التي تجعل كل شيء في العالم المحسوس محاكاة لنموذجه الخالد في عالم المثل.
هكذا يميز أفلاطون بين مفهومين مختلفين للزمان، تبعًا لمستويين متمايزين للوجود،
والزمان
الطبيعي الفلكي تبعًا للتعريف الأفلاطوني مجرد «صورة متحركة للأبدية، وعلاقته بالأبدية
علاقة العدد بالوحدة، وتكراره وسريانه المنظم يعكس ثبات الأبدية، ويصبح الزمان هو عالم
المحسوسات المتغير، أما الأبدية فلا يجوز عليها الماضي والحاضر والمستقبل ولكنها في حاضر
مستمر. إنها تتصف بالثبات البادي في العلاقات الرياضية والنسب العقلية التي يتصف بها
عالم
المثل، وما دام الزمان قد وُجِد فلا بد وأن يصاحب وجوده الأجسام المحسوسة ذات الحركات
المطَّردة التي هي مقاييس له؛ فقياس الزمان يستدعي وجود الشمس والكواكب التي تدور حول
العالم.»
١٤ هكذا يوحد أفلاطون — كما سبق أن فعل الفيثاغوريون — بين الزمان وحركة الأفلاك،
حتى إنه يسمي الكواكب في المحاورة المذكورة طيماوس آلة الزمان؛ فالخالق خلق الكواكب السبعة
السيَّارة (القمر، والشمس، والزهرة، وعطارد، والمريخ، والمشتري، وزحل) لتدور في أفلاكها،
فنحسب الزمان بحركتها.
•••
المهم الآن، أنه بهذا التأسيس الأفلاطوني، انطلقت إشكالية الزمان، وتنامت وتطورت —
كما
سنرى — عبر طريقين:
-
أولًا: طريق الأبدية الخاص بعالم الوعي المنطلق، نسيج الميتافيزيقا ومجال الألوهية
وخلود النفس، زمان لا يقبل التكميم والقياس، فهو زمان الكيفية الذي أصبح في
العصور الحديثة زمان التوتر والخلق الجديد والانبثاق والإبداع، زمان ذاتي داخلي
يرتبط بالحركة الداخلية للنفس، أما حركة النفس الكلية الكونية في الفلسفة
اليونانية، لنجد الزمان هو الأبدية هذا المفهوم الأليق بالألوهية، وأما حركة
النفس الجزئية المتشخصة، خصوصًا في الفلسفات اللاعقلانية الحديثة والمعاصرة،
وأهمها — كما ذكرنا — الوجودية والبيرجسونية، وها هنا نلقى مفهومًا آخر للأبدية
أليق بالإنسان، أهم صوره ديمومة بيرجسون.
-
ثانيًا: طريق الزمان الخاص بالعالم المحسوس، المتموضع بأحداثه الجارية، خارج الذات
الإنسانية، عالم الأجسام المتشيئ الظاهر، زمان يدخل في نسيج الفيزيقا، كدفعة
سيالة أو مجرى متحرك، تيار مستمر هو الوسط الذي تحدث فيه الحوادث، كزمان سقوط
الجسم أو قطع المسافة. فهو يرتبط بحركة العالم الطبيعي، خصوصًا حركة الأفلاك
التي تُعَدُّ مقياسًا له، حتى إنه — على وجه الدقة — الزمان الفلكي، فيغدو زمان
النظامية والرتابة وربما الآلية. فهو زمان موضوعي متجانس، قابل للقياس والتكميم
الرياضي الدقيق.
على الإجمال لدينا زمانان:
وأهم موضع يلتقي ويتفق فيه تيارا أو صورتا الإشكالية، إنما هو ربط الزمان بالحركة،
إنها
قضية تباري الفلاسفة من التيارات المختلفة في تأكيدها بصورة أو بأخرى. فقد رأينا أفلاطون
يربط الزمان بحركة الأفلاك، وكانت الحركة ماهية الزمان عند أرسطو؛ فهو «يتجدد باستمرار
تبعًا لاستمرار الحركة.»
١٥ وعرف ابن سينا الزمان بأنه مقياس الحركة الدائرية المتصلة من جهة السابق
واللاحق، بدلًا من جهة المسافة. أما صمويل ألكسندر فقد تمادى أكثر، ورأى أن الزمان لا
كيفية
له إلا الحركة التي تأتي بفعله وبدخوله على المكان، على أنها الحركة الجوهرية الأصلية
التي
ليست مجرد علاقة بين أشياء سابقة ولاحقة، بل حركة أسبق من كل الأشياء التي انبثقت عن
الزمان
والمكان، ومتغلغلة في كل شيء، فلا يوجد أي شيء ساكن في الكون؛ لأن الزمان والمكان هما
بوتقة
كما أوضحنا في حينه، ومجرد اكتشاف الزمان يعني تخليص عقولنا من أية نظرة سكونية لأي شيء.
ويتمادى نيقولاي بيرديائيف أكثر وأكثر، فيؤكد أن الحركة لم توجد لأن الزمان موجود، بل
الزمان هو الذي وُجِدَ لأن الحركة وُجِدَتْ؛ لذلك اعتبرنا نفي الحركة عن الزمان وربطه
السنسكريتي بالثبوتية والسكونية.
وإن كان قد وُجِدَ في الفلسفة بصورة ضمنية مع الأيليين فإنه نغمة نشاز ولا حيثية لها.
والواقع أن الأيليين لم ينكروا ربط الحركة بالزمان، بل أنكروا الحركة أصلًا والزمان معها
وكل شيء؛ ليبقى الوجود كتلة مصمتة ساكنة. والزمان من حيث هو زمان يرتبط في كل وضع وفي
كل
مذهب بالحركة، ولكن مع فارق، هو أن التيار اللاعقلاني يربطه بالحركة الداخلية للنفس،
إما
النفس الكلية وإما النفس الفردية الجزئية، أما التيار العقلاني فيربط الزمان بالحركة،
بحركة
العالم الطبيعي الخارجية، خصوصًا الأفلاك.
أما عن أبرز نقاط الاختلاف، فهي ارتباط الزمان العقلاني بالمكان، وانفصال الزمان
العقلاني
تمامًا عن المكان. إن الزمان والمكان في التصورات العقلية متعضونان معًا كقالب للوجود
والمعرفة، ولا انفصال للزمان عن المكان ولا إمكانية لقياسه بمعزل عنه، وهذا الارتباط
بلغ
حدًّا يتمثل في أن أقصى صورة لتطور الزمان العقلاني؛ أي النظرية النسبية لآينشتاين، قد
تلاشى فيها تمامًا أي تمايز بين الزمان والمكان، وأصبحا متصلًا واحدًا كما سنرى. أما
الزمان
اللاعقلاني — الأبدية أو الديمومة أو أية صورة من صوره — فينفصل عن المكان انفصالًا تامًّا،
بل ولا علاقة له البتة بالمكان «المكان آخر بالنسبة له، وهو آخر بالنسبة للمكان.»
١٦ إن الزمان اللاعقلاني مطلق لا متناهٍ — كيفيًّا طبعًا — وبالتالي لا يمكن أن
يدخل في علاقة تجعله مرتهنًا بطرف سواه، فما بالنا بطرف متموضع متشيئ كالمكان. ولعل هذا
الفصل الحاد للزمان عن المكان — والذي أمعن بيرجسون في
تأكيده — هو ما يجعله على وجه الدقة معقل اللاعقلانية المستغلقة في وجه العقل التصوري،
وهو
أيضًا الذي يجعل الزمان اللاعقلاني يكتسب الخاصة المميزة له؛ أي الذاتية، فهو محض خبرة
تمر
بها النفس.
على أن الزمان العقلاني، أو الموضوعي الكوزمولوجي الفلكي العلمي هو الزمان الحقيقي.
و«حقيقي» هنا ليست إسقاطًا تقييميًّا يرفع من شأن التناول العقلاني للإشكالية، أو يحط
من
شأن التناول اللاعقلاني لها، بل هو مصطلح مراد حرفيًّا؛ فالعقلانيون العلميون يسلمون
مبدئيًّا — وبداهة — بأن الزمان الذي يتعاملون معه زمان حقيقي
real، وكل المشككين في هذا القائلين بلا حقيقية الزمان، إنما هم من قلب
التيار اللاعقلاني. ولعل الذي دفعهم إلى هذا، إن لم نَقُلْ وإلى اللاعقلانية أصلًا، هو
أن
الزمان العقلاني الكوزمولوجي، وخصوصًا حين أطلقه العلم الحتمي الحديث، يقف أمام الإنسان
موضوعًا صلبًا ينذره بالتناهي والعدم والزوال المستمر والموت، فيدفعه إلى التعالي عليه
في
محاولة لقهره، إما بإنكار حقيقيته، وإما بالفرار إلى الأبدية، وإما بالاثنين معًا، فهكذا
يقهرون موضوعيته القاسية ويؤكدون العالم الذاتي. وقد كان بيرجسون أشد الفلاسفة المعاصرين
عناية بالزمان الذاتي — أو الديمومة كما أسماه — وأيضًا بالحط من شأن الزمان الموضوعي
الفلكي. فيقول العالم الفلكي وفيلسوف العالم آرثر إدنجتون يقول ساخرًا: ولكن البروفسور
بيرجسون بعدما يبين أن فكرة الفلكي عن الزمان هي لغو تام، ربما ينهي المناقشة بأن ينظر
للساعة في معصمه، ويسرع ليلحق بالقطار، والذي ينطلق تبعًا لزمان الفلكي!»
١٧
ومهما يكن الأمر، فإنه لا يمكن اعتبار أي من صورتي الزمان أهم من الأخرى. كلا التصورين
العقلاني واللاعقلاني له أهميته ودوره، والدوافع المختلفة لكلا الاتجاهين لها دورها،
وهذا
يذكرنا بتقسيم برتراند رسل للفلاسفة إلى فريق ذي دوافع أخلاقية ودينية، وفريق ذي دوافع
علمية وعقلية، وفريق وسط؛ معقبًا على هذا بأن مذاهب الفريق الأولى وإن امتازت بسعة الخيال
كانت عقبة في سبيل التقدم العلمي،
١٨ لكننا نراها كلها تتكامل معًا لتشكيل إنسانية الإنسان ذي العقل والعاطفة، العلم
والدين، الفيزيقا والميتافيزيقا، الزمان والأبدية. وعرفانًا لأفلاطون العظيم سنتناول
أولًا
الأبدية أو الزمان اللاعقلاني منذ أفلوطين حتى الفلسفة المعاصرة، ثم ننتقل إلى الزمان
العقلاني مع المعلم الأول أرسطو؛ لينتهي الحديث تلقائيًّا بصورته العلمية الفيزيائية
المطلقة مع نيوتن، ثم النسبية مع آينشتاين. والولاء لفلسفة العلم يجعلنا نرى في هذا مسك
الختام.