مكان اللقاء … فرجينيا
اصطَف الشياطين في ميدان الرماية داخل المقر السري، كان على كلٍّ منهم أن يطلق خمس رصاصاتٍ في ثلاث ثوانٍ على التمثال الذي سوف يظهر أمامه، وبالرغم من أنهم كانوا يُركِّزون انتباههم على الفتحات التي سيظهر منها التماثيل، إلا أنهم في نفس الوقت، كانوا يرمقون المدرب بجزءٍ من انتباههم، فعندما يعطي الإشارة يبدأ كل شيء. ارتفعَت يد المدرب، فتعلقَت أبصارهم بها، وعندما خفضَها ظَهرَت التماثيل، وارتفعَت أصوات الطلقات، وفي خلال الثواني الثلاث، اختفت التماثيل مرةً أخرى، وتقدَّم المدرب من الفتحات، وبدأ يظهر الشخص الذي كان يُواجه «فهد».
توقَّف المدرب أمامه وتأمَّله قليلًا، ثم التفَت يُخاطب «فهد»: لقد حقَّقتَ تِسعَ نُقَط ونصفًا؛ فهناك طلقةٌ أصابت طرفَ الشخص، وكان يمكن أن تمر دون إصابة.
نظر «فهد» إلى مسدَّسه، وكأنه يلقي اللوم عليه ولم ينطق. انتقل المدرب إلى الشخص الثاني الذي كان يواجه «خالد»، وقال: لا بأس، الإصابات كلها جيدة، وإن كانت لا تُحقِّق ثبات الهدف، فهي منتشرة في مساحةٍ كبيرة!
ظلت ملاحظات المدرب للشياطين الواحد بعد الآخر، حتى جاء دور «أحمد»، ابتسم المدرب وقال: إصابةٌ واحدة!
نظر الشياطين إلى «أحمد» الذي ابتسم، وقالت «إلهام» بسرعة: إصابةٌ واحدة، غير معقول!
قال المدرب ضاحكًا: إصابةٌ بعشر!
عَلَت الدهشةُ وجوه الشياطين، وأكمل المدرب: لقد أصابت الطلقات الخمس قلب التمثال في مكانٍ واحد، حتى إنها مرَّت من نفس الثقب الذي أحدثَتْه الطلقة الأولى، وهذا يعني منتهى الدقة.
ابتسم «أحمد» وهو يقول: هل يمكن أن أُجرِّبها مرةً أخرى؟!
قال «قيس» مبتسمًا: هذه ثقةٌ زائدة!
ردَّ «أحمد» في هدوء: إطلاقًا، إنني أريد فقط أن أطمئن إلى أنها لم تحدُث مصادفة.
عاد المدرب، وعبَّأ «أحمد» مسدَّسه، واستعَد لحظة، ثم أشار المدرب، ظهر التمثال أمام «أحمد»، وتوالت طلقاته، وعندما اختفى هتف المدرب: رائع!
تقدَّموا جميعًا إلى الشخص الذي ظهر مرةً أخرى، فكانت الطلقات كلها في نقطةٍ واحدة.
قال المدرب: ليست صُدفةً إذن، إن «أحمد» يجيد استخدام المسدس بمُستوًى رائع!
وهكذا انتهى تدريب اليوم، وأخذوا طريقهم إلى قاعة الشطرنج، لكنهم ما كادوا يصلون إليها، حتى كانت هناك إشارة إلى اجتماعٍ سريع، التقَت عيونهم، ثم غيَّروا اتجاههم إلى قاعة الاجتماعات، فكانت الأضواء الخافتة تُغطِّي القاعة الزرقاء، حيث اصطفَّت المقاعد في شبه حدوة الحصان، أخذوا أماكنهم في هدوء، كانوا جميعًا ينظرون في الاتجاه الذي يأتي منه صوت رقم «صفر»، لحظة، ثم أُضيئَت الخريطة الكبيرة المثبتة أمامهم، كانت الخريطة للعالم كله، ونظر الشياطين إلى بعضهم البعض، إن معنى ذلك أن المغامرة القادمة سوف تُغطِّي العالم.
مرَّت لحظات، ثم ظهَرتْ دوائرُ حمراء فوق الولايات المتحدة الأمريكية، ودوائرُ زرقاء فوق فرنسا، وإنجلترا. كان يبدو أن ميدان المعركة يتحدد مع ظهور الدوائر، غير أنهم لم يستمروا في تفكيرهم طويلًا، فقد جاء صوتُ أقدام رقم «صفر» مقتربًا، مما جعلَهم يرُكِّزون انتباههم تجاهه، لحظاتٍ ثم جاءتهم كلماتُ رقم «صفر» يُرحِّب بهم، وصمت لحظةً ثم قال: «إن الدوائر على الخريطة لا تُحدد ميدان المعركة؛ فالمعركة تدور في جميع أنحاء الكرة الأرضية، إن الدوائر تُحدِّد فقط الأماكن التي وصلَتْنا منها تقاريرُ من عملائنا.»
صمَت رقم «صفر» لحظة، ثم عاد للحديث: «إن المعركة الجديدة تدور حول سرقة التكنولوجيا، إن عصابةَ سادة العالم تُدبِّر سرقاتٍ متوالية للحصول على أجهزةٍ متقدمة، ثم تُجري عليها تحسينات، وتبيعها مرةً أخرى. والمعروف أن هذه مسائلُ ممنوعة دوليًّا؛ فحقوق الاختراعاتِ لا يمكن سرقتُها؛ فالشركات التي تُنتِجها هي وحدها التي تملك حق بيعها. ومنذ أسابيعَ اشترى عملاء العصابة أجهزةً لرصد الهزَّات الأرضية الضعيفة من شركةٍ من شركات التنقيب عن البترول، ثم ظهَرتْ هذه الأجهزة، وقد تمَّ تصنيعُ مثلها، في شركاتٍ أخرى.
صمت رقم «صفر» بينما كانت أصواتُ أوراقٍ تُقلب فتصل إلى الشياطين الذين استغرقوا تمامًا فيما يسمعون. مرَّت لحظات، ثم جاء صوت رقم «صفر»: «هذا التقرير جاءنا من عميلنا في الولايات المتحدة الأمريكية، في منتصف مايو الماضي. أوقفَت المخابرات الأمريكية طائرةَ ركَّابٍ نفاثة تابعة لإحدى الدول، وذلك قبل إقلاعها بدقائق، وجرى تفتيشها بدقَّة للبحث عن مُعدَّاتٍ تكنولوجية هامة، وفعلًا أنزلوا ثلاثة صناديق من الكرتون نقلوها خارج المطار، حتى يجري تفتيشها، ثم في النهاية اعتذروا؛ لأنهم لم يجدوا المعدات المسروقة. وقد أثارت شركة الطيران زوبعةً عنيفة، وأعلنَت أنها لا تنقل المسروقات، لكن ذلك لا ينفي اختفاء المُعدَّات، فقد تكون نُقلَت بطريقةٍ أخرى، بل إن ذلك يؤكِّد عملية السرقة، وبالطبع لا يزال البحث جاريًا.»
توقَّف رقم «صفر» بعد قراءة التقرير لحظات، ثم تابع: «إن أمثلة هذه الحوادث كثيرة؛ فمثلًا منذ ثلاثة أعوام اشترت عصابة سادة العالم، عن طريق عملائها، مجموعةً من المرايا العاكسة لأشعة الليزر، والتي تساعد على إنتاج أسلحةٍ متطورة من أسلحة الليزر، وبطريقةٍ أسرع، وقد ظهرت هذه الأسلحة في دولةٍ معروفة. إن عصابة سادة العالم، تعمل لحساب جهاتٍ كثيرة؛ فهي تسرق من الشرق لتبيع للغرب، وتسرق من الغرب لتبيع للشرق، ومن الضروري وقف هذه العمليات.»
صمت قليلًا، ثم أكمل: «إن أمامي أكثر من تقريرٍ عن عمليات السرقة التي تمَّت في استوكهولم. اشترى عملاء العصابة نظامًا متكاملًا لمراقبة حركة المرور الجوي في المطارات المزدحمة، وعلى أساس هذا النظام، صنعوا شبكةً رادارية دقيقة لتمييز أنواع الطائرات، وتوضيح الصواريخ المهاجمة من أبعادٍ كبيرة، وكَشْف الطائرات التي لا تصدُر عنها إشاراتٌ لاسلكية.»
ثم مضت دقيقتان، كان رقم «صفر» خلالها يقلِّب التقارير التي أمامه، ثم قال: «ومؤخرًا قبض رجالُ الأمن الأمريكيون على مواطنٍ أثناء محاولة السفر من مطار واشنطن، كان يحمل جهاز استقبالٍ لاسلكيًّا واسع المدى، مزودًا بأجهزة استشعارٍ بالغة الدقة لتمييز ألوف التردُّدات وفرزها على موجاتٍ عديدة تلقائيًّا. غير أن المواطن رفض الاعتراف عن المكان الذي يعمل لصالحه. هكذا تتوالى عمليات السرقة، عن طريق العملاء المنتشرين في كل مكان، والآن …»
صمت رقم «صفر» قليلًا، وتعلَّقَت أبصار الشياطين بالخريطة، عاد رقم «صفر» يقول: «إن التقارير التي وصلَتْنا، تقول إن إحدى شركات إنتاج الحاسبات الإلكترونية في ولاية فرجينيا الأمريكية، قد وضعَت أسلوبًا شفريًّا جديدًا للآلات الحاسبة الإلكترونية … وإن هناك عمليةَ سرقةٍ تُدبَّر للحصول على الشفرة الجديدة. إن ذلك يعني أن الشركة تخسر كل إنتاجها من هذه الحاسبات الجديدة، أو تُلغي إنتاجها.»
سكت رقم «صفر»، وعَرفَ الشياطين أن مهمتهم قد بدأَت … وتُحدِّد مكانها، قال بعد قليل: «إن الشركة اسمها شركة الحاسبات الإلكترونية، وهي واحدة من الشركات الضخمة في أمريكا. إن المجموعة التي ستطير إلى هناك هي: «أحمد» و«بو عمير» و«قيس» و«خالد»، وسوف تكون بقية المجموعة على استعدادٍ للطيران في أي وقت؛ فأنتم تعرفون أن عصابة سادة العالم تعمل في كل مكان، وقد تنتقل العملية من أمريكا إلى إيطاليا أو بلجيكا، حسب العملاء.»
صمت لحظة، ثم قال: «سوف تجدون تقريرًا كاملًا عن العملية في انتظاركم.» توقَّف دقيقة، بدت طويلةً جدًّا، ثم قال: «هل لديكم أسئلة؟»
ظل رقم «صفر» ينتظر أن يبدأ أحد الشياطين غير أنهم لم يطرحوا أي سؤال، فقال في النهاية: «أتمنى لكم التوفيق.»
أخذَت أقدام رقم «صفر» تبتعد شيئًا فشيئًا، حتى اختفت تمامًا، كان الشياطين لا يزالون في مقاعدهم، فقال «قيس»: هل نتحرك الآن؟
نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: أمامنا ساعة، ثم نتحرك.
بدأ الشياطين ينصرفون، وأخذ «أحمد» طريقه إلى حُجرته، كان يفكِّر في التقرير الذي تحدَّث عنه رقم «صفر». عندما دخل الحجرة، كان هناك مظروفٌ متوسط الحجم فوق السرير، ابتسم وهو يمُد يده ليأخذه؛ فقد عرف أنه التقرير. فتح المظروف بسرعة، ثم بدأ يقرأ، كان التقرير يتحدَّث عن نظام العمل في الشركة، ونظام التعاقُدات، وخطوط الإنتاج، والمسئولين فيها، ثم فقرات عن نظام الأمن داخلها. وتوقَّف «أحمد» عند نظام الأمن في الشركة، ثم فكَّر: إن أي شيء يخرج من الشركة، فلا بد أن يقع في يد جهاز الأمن، ولا يمكن تسرُّب شيء، إلا بالاتفاق مع الجهاز، من هنا يجب أن يبدأ العمل.
استمر في قراءة التقرير، ثم توقَّف لحظة يفكِّر: إن نقل شفرة ليس مسألةً صعبة، إنه أمر في منتهى السهولة، ويمكن أن يمر من جهاز الأمن، لكن! … هناك من هو مسئول عن الشفرة؛ فليس كل من يعمل في تصنيع الحاسب الإلكتروني يعرفها.
همس في صوتٍ خافت: إذن، لقد تحدَّد المكان الذي يمكن أن تتسرَّب منه الشفرة.
وطوى صفحات التقرير، ثم نظر في ساعة يده، كانت هناك نصف ساعة قبل أن يتحرك الشياطين إلى مغامرتهم، فأسرع إلى حقيبته الصغيرة، وأخذ يرتِّب ما بداخل جيوبها السحرية، كان كل شيء موجودًا. اقترب من مكتبه، ثم ضغط عدة أزرار، وهو يقول: نلتقي بعد ربع ساعة.
كانت هذه الجملة موجهة لبقية الشياطين، حتى يلتقوا عند السيارة التي سوف ينطلقون بها.
أخذ طريقه بسرعة إلى هناك، فوجد «بو عمير» و«قيس» و«خالد» قد سبقوه، وكانت السعادة تملأ وجوههم. فُتحَت أبواب السيارة، فاختفَوا داخلها، ومرَّت لحظات، دار خلالها موتور السيارة، ثم فُتحَت الأبواب الصخرية، فانطلقَت سيارة الشياطين، في طريقها إلى بداية المغامرة.