الأجهزة … تُسجِّل إشاراتٍ غريبة
كان على الشياطين أن ينزلوا أولًا في مدينة «واشنطن» في ولاية «نيوجرسي»، ثم يأخذون خط الطيران الداخلي إلى مدينة «رتشمند» في ولاية «فرجينيا»، حيث يقع مصنع شركة الحاسبات الإلكترونية، وهذا ما فعلوه بالتحديد. نزلوا في مطار «واشنطن» الكبير، ولم يغادروه إلَّا إلى مكاتب خطوط الطيران الداخلي، حيث عرفوا أن الطائرة التي تصل إلى «رتشمند» سوف تقوم بعد نصف ساعة، وكان الوقف كافيًا لأن يتَجوَّلوا في سوق المطار، حيث يُوجد كل شيء، فوقفوا أمام بائع جرائد، واشتَروا جرائد اليوم، وأخذ «أحمد» جريدة «الواشنطن بوست»، وقلَّب صفحاتها، كان يقرأ العناوين الكبيرة فقط، فوقعَت عينُه على إعلان عن «شركة الحاسبات الإلكترونية».
ابتَسَم وهو يقرأ بسرعةٍ ما هو مكتوب، كانت الشركة تُعلِن عن قرب ظهور إنتاجها الجديد من الحاسبات الإلكترونية، وأشار إلى الإعلان وهو يُقدِّم الجريدة إلى «خالد» الذي أخذها بسرعة، في نفس الوقت التَفَّ «بو عمير» و«قيس» حَولَه، يقرآن معه، وانشغل «أحمد» في قراءة عناوين المجلات، وأسماء الكتب المعروضة.
بعد قليلٍ مدَّ يده، وأخذ كتابًا صغيرًا، كان اسم الكتاب «أسلحة المستقبل»، دفع ثمن الكتاب، ثم انضَم إلى الشياطين الذين كانوا قد انتهَوا من قراءة الإعلان، وقال «بو عمير»: هذا يعني أن «سادة العالم» يريدون أن يطرحوا في السوق نفس الآلة الحاسبة، قبل أن تطرح الشركة إنتاجها.
قال «خالد»: قد يكون ذلك، وقد تَطرحُه بعد ظهوره، هذه مسالةٌ لا تهمُّها كثيرًا؛ فهي سوف تطرحه بسعرٍ أقل، وهذا يكفي لأن تخسر الشركة إنتاجها الجديد.
صمتوا قليلًا، غير أن «أحمد» قطع صمتهم قائلًا: المعروف أن الشركات الكبرى لها دائمًا علماؤها ومخترعوها، وهذه الشركات تنفق الملايين على الأبحاث والتجارب في مجال إنتاجها، حتى تُقدِّم للسوق الأحدث دائمًا مما يحتاج. هناك شركاتٌ تعيش على هذه الأبحاث؛ فهي إما تسرقها قبل نزولها إلى السوق، أو تسرقها بعد نزولها، ثم تُقدِّم التقليد، هذه الشركات لا تنفق مليمًا واحدًا على أبحاثٍ خاصة بها، إنها تعيش على أبحاث الشركات الأخرى، أو سَرقتِها.
صمت «أحمد» قليلًا، ثم أضاف: إن شركة الحاسبات الإلكترونية تُجري الآن الاختبارات الأولية على إنتاجها، قبل أن تُقدِّمه للسوق، وقبل أن تُصنِّعه تصنيعًا تجاريًّا، وهذه أحسنُ مراحل السرقة.
نظر في ساعته، ثم قال: هيا بنا، لقد اقترب الموعد.
أخذوا طريقهم إلى الطائرة، في نفس الوقت الذي كانت فيه مذيعة المطار الداخلي تُعلِن عن موعد قيام الطائرة المتجهة إلى «فرجينيا»، فأخذوا أماكنهم فيها، ولم تكن طائرةً كبيرة، كانت متوسط الحجم، حتى إن «فهد» علَّق مبتسمًا: إنها رحلةٌ خاصة؛ فالعدد محدود.
أقلعَت الطائرة من مطار «واشنطن»، فاستسلم كلٌّ منهم إلى إحدى الجرائد التي يحملونها، أما «أحمد»، فقد استغرق في كتاب «أسلحة المستقبل». كان الكتاب مثيرًا، حتى إنه لم يرفع عينَيه عن صفحاته لحظة، وحتى إن ذلك لفت نظر الشياطين، وقال «قيس»: المؤكَّد أن «أسلحة المستقبل» هي الأشعة!
رفع «أحمد» عينَيه وابتسم قائلًا: هذه حقيقة، إن المؤلف يتحدث عن ذلك فعلًا.
قال «قيس»: إنني أتصوَّر أن المستقبل سوف يستخدم الأشعة في كل شيءٍ، حتى في السفر، كأن تطير الطائرة على حزمةٍ من الأشعة تنقلُها من مكانٍ إلى مكان، دون وَقود.
كان الشياطين يُنصِتون «لقيس» الذي أطلَق لخياله العِنان.
وظل الشياطين يتحدَّثون عن رؤياهم للمستقبل حتى قطع حديثَهم صوتُ مذيعة الطائرة تقول: إننا الآن فوق ولاية «فرجينيا» الأمريكية، وسوف ننزل في مطارها الرئيسي في «رتشمند» بعد خمس دقائق.
نظر «خالد» من النافذة القريبة منه، كانت تبدو مدينة «رتشمند» وكأنها مجموعةٌ من لُعب الأطفال، مرصوصةٌ بجوار بعضها. كانت المساحات الخضراء تتخلَّل مجموعة اللُّعب، فتبدو اللُّعب وكأنها مرصوصة فوق سجادةٍ خضراء. نقل أفكاره إلى الشياطين فابتسم «بو عمير» قائلًا: بعد قليلٍ سوف تكون بين لُعب الأطفال، ومن يدري؟ فقد نلعب بها.
كانت الطائرة تأخذ طريقها إلى أرض المطار، وشعَر الشياطين بعجلات الطائرة تُلامِس الأرض، ثم بدأَت تدور في الطريق الأسود المُتعرِّج، حتى توقَّفتْ أمام مبنى المطار بالضبط. كانت الساعة تقترب من الخامسة مساءً، ونزلوا وراء بعضهم. كان المطار نظيفًا لامعًا، حتى إنه لفَت نظرهم، فعلَّق «قيس»: إنه من أجمل المطارات التي نزلنا فيها!
ابتسم «خالد» وقال: تقصد المطارات الصغيرة طبعًا!
أخذوا طريقهم إلى خارج المطار، كانت الشوارع ترقُد في ضوء النهار، نظيفةً لامعة، وأخرج «قيس» خريطة من جيبه، ثم بسَطَها، وجرى بعينَيه فوقها بسرعة، ثم قال: هناك فندقٌ قريب، في شارع ١٦ على اليمين.
أخذوا طريقهم إلى شارع ١٦، عندما قطعوا عدة خطوات فيه … ظهر أمامهم فندق «إيست» أو «الشرق» وعلَّق «خالد» مبتسمًا: من الشرق إلى الشرق!
وعندما احتلُّوا الحجرة الواسعة التي أخذوها هم الأربعة قال «أحمد»: نحن نحتاج إلى اجتماعٍ سريع؛ لنرى ماذا سنفعل اليوم.
كانوا بين من يغتسل، ومن يُبدِّل ثيابه، وبعد عشر دقائق، كانوا جميعًا يلتفُّون حول المنضدة الصغيرة الموجودة في الركن الأيسر للحجرة، بجوار النافذة تمامًا.
قال «فهد» مبتسمًا: ما رأيكم في فنجان شاي الآن؟ أظن أننا في حاجةٍ إليه.
هزُّوا رءوسهم بالموافقة، فأسرع «فهد» يرفع سمَّاعة التليفون ويطلب الشاي، وانضم لهم، ثم بدأ الاجتماع، فبسط «أحمد» خريطةً لمدينة «رتشمند»، وضَع إصبعه فوق مساحةٍ فيها، ثم قال: هذه هي مصانع «شركة الحاسبات الإلكترونية» والمكاتب والإدارة في نفس المكان، هناك فرع لها في وسط المدينة، وهو عبارةٌ عن معرضٍ فقط، إن ما يهمُّنا هو هذه المصانع.
صمت قليلًا؛ فقد دق الباب، ثم ظهر رجلٌ عجوز يحمل الشاي، أسرع «بو عمير» إليه، يحمل منه الصينية فابتسم الرجل وقال: لا تخَفْ، إنني أقوى من أن تقع مني.
ابتسم «بو عمير» وقال «قيس»: هل لكَ في فنجان شايٍ معنا!
قال الرجل: شكرًا، ليس الآن؛ فهذه ساعات العمل.
صمت لحظة، ومد يده يُمسِك الإبريق ليصُبَّ الشاي إلا أن «خالد» كان أسرع منه، وقال: دعني أفعل ذلك.
ابتسم الرجل وهو يقول: إنني أُدعى «جاكو»، أرجو أن تُنادوني إذا احتجتم شيئًا.
مشى بضع خطواتٍ مبتعدًا، ثم التفَت إليهم مبتسمًا: لا تَنسَوا أنكم مدينون لي بفنجان شاي.
ثم خرج مسرعًا، وابتسم الشياطين لدُعابة «جاكو». في الوقت الذي كان «خالد» يصُب فيه الشاي كان «أحمد» يُحدِّد على الخريطة خطواتهم … ثم قال: سوف نخرج في جولة حول المصانع، نُحدِّد بالضبط ما سوف نفعله؛ فالمسألة لا تحتاج إلى تأخير؛ فالشركة في المرحلة النهائية قبل أن تبدأ الإنتاج. وعصابة «سادة العالم» يهمُّها أن تحصل على الشفرة الخاصة بالحاسبة الإلكترونية بسرعة، غدًا … إن لم يكن اليوم.
أخذوا يرشُفون الشاي في هدوء، فقال «بو عمير»: أعتقد أننا في حاجةٍ إلى أكثر من سيارة، حتى نستطيع تطويق المنطقة جيدًا؛ فسيارةٌ واحدة لا تكفي.
ابتسم «أحمد» وهو يقول: لقد كنتُ أفكِّر في نفس الأمر.
ثم قام من مكانه، وأمسك سماعة التليفون، وأدار القرص لحظة، ثم تحدَّث: آلو.
ولم ينطق بعدها لفترة، ظل يستمع بينما كانت أعين الشياطين تُتابعه، وكان الاهتمام يبدو على وجهه. في النهاية قال: لا بأس، هذه أنباءٌ طيبة، إننا نحتاج سيارتَين.
أخذ يستمع مرة أخرى، ثم قال: ٦٥٤ و٧٥٤، لا بأس، إلى اللقاء.
وضع السمَّاعة، ثم انضم إلى الشياطين، نقل إليهم المكالمة التي دارت، كانت الأنباء طيبة؛ إن أجهزة الرصد في الشركة قد سجَّلتْ ذبذباتٍ على موجةٍ غريبة قريبة، هناك شك في أنها محادثاتٌ لاسلكية بين أحد العاملين في الشركة وجهةٍ خارجية. بدا الاهتمام على وجه الشياطين، فقال «أحمد»: إن السيارتَين مجهَّزتان بأجهزة استقبالٍ حساسة جدًّا.
وقبل أن يُكمِل كلامه، قال «قيس»: لا أظُن أنها أقوى من الأجهزة التي جاءتنا مؤخرًا.
قال «أحمد»: لا بأس، المهم أننا إذا استطعنا أن نلتقط تلك الإشارات، وحدَّدنا اتجاهاتها … سواء داخل الشركة أو خارجها، فإننا نكون قد وضَعنا أيدِيَنا على كل شيءٍ.
انتهَوا من شرب الشاي، فقال «خالد»: هل ننطلق الآن؟
ثم تحرَّكوا خارجين من الحجرة، وأخذوا طريقهم إلى خارج الفندق، وعند الباب، كان «جاكو» يتَحرَّك مبتسمًا، وما إن رآهم حتى اقترب منهم: هل تتأخرون؟
قال «بو عمير» مبتسمًا: ربما.
قال «جاكو» بابتسامةٍ كشفَت عن طيبته: قد لا تجدونني، لكنكم ستجدون «جاكو» الصغير، إنه ابني!
هزُّوا رءوسهم مبتسمين، ثم ودَّعوه وانصرفوا، وأخذوا طريقَهم إلى حيث حدَّد العميل مكان السيارتَين. بعد قليلٍ وصلوا إلى المكان، كانت هناك سيارتان من طراز «ترانس آم»؛ واحدة لونها أبيض ورقمها ٦٥٤، والأخرى لونها أزرق ورقمها ٧٥٤. اتجه «أحمد» و«قيس» إلى السيارة البيضاء، و«خالد» و«بو عمير» إلى الزرقاء. لحظات ثم ارتفع صوت مُوتُورَي السيارتَين، ثم انطلقَتا إلى خارج مدينة «رتشمند» حيث تقَع المصانع، وحيث تبدأ المعركة.