وفجأةً … سطع ضوءٌ وانهالت الطلقات!
كانت شوارع مدينة «رتشمند» مزدحمة في هذا الوقت من النهار، إنها ساعة العودة من العمل، ورغم أن السيارة «ترانس آم» سريعة جدًّا، إلا أن زحام الشوارع لا يعطي الفرصة للجري، ليس لأن المارة يسيرون في الشوارع، ولكن لكثرة السيارات من جهة، ووجود التقاطُعات من جهةٍ أخرى. كانت السيارة البيضاء تسير في المقدمة، وخلفها بقليل، كانت السيارة الزرقاء. مرت نصف ساعة قبل أن يصلوا إلى خارج المدينة، حيث يقلُّ الزحام، وحيث تمتد مساحات الأرض المزروعة حتى نهاية البصر. من بعيدٍ ظهَرتْ مباني «شركة الحاسبات الإلكترونية»، كان اسم الشركة مُضاءً في الفضاء فوق المباني، ظلوا يقتربون منها، حتى أصبحوا بجوارها، أخرج «أحمد» جهاز اللاسلكي الصغير، وتحدَّث إلى «خالد»: اتجه شمالًا في شكل حرف «إل»، ونلتقي عند النقطة «م».
أخذَت السيارة الزرقاء طريقها كما حدَّد «أحمد»، وأخذَت البيضاء الاتجاه الأيمن، حيث ترسم هي الأخرى حرف «إل» لتلتقي مع الزرقاء عند النقطة «م». كانت المصانع كبيرة المساحة، حتى إن الضلع الأيمن قد استغرق أكثر من ثلث ساعة. كان «أحمد» قد أدار جهاز الاستقبال المثبَّت في السيارة، وظلت عيناه ترقبان حركة المؤشِّرات فيه، إلا أن الجهاز لم يُسجِّل أي ذبذبة. تحدث «أحمد» إلى «خالد» إنْ كان الجهاز عنده قد سجَّل شيئًا، فأجاب «خالد» بالنفي، قال «قيس»: أظن أن ذلك لن يحدث إلا في الصباح، إن العمل الآن يدور في المصانع للإنتاج، والأجهزة الجديدة لا تزال تحت الاختبار؛ أي إنها لم تدخل مرحلة الإنتاج بعدُ، والمؤكد أنها سريةٌ جدًّا، إن المنطقي أن تُجرى عليها الاختبارات نهارًا، وليس ليلًا!
لم يكن «قيس» يُنهِي كلامه حتى جاء صوت «خالد» يتحدَّث إلى «أحمد»، قال «خالد»: إن جهاز السيارة لم يلتقط شيئًا، إلا أن الجهاز الخاص بالشياطين قد سجَّل رسالةً لاسلكية، ويبدو أنها مُرسَلة عن طريق أجهزةٍ دقيقة جدًّا، حتى إن جهاز السيارة لم يلتقطها.
أخرج «أحمد» جهاز اللاسلكي الصغير الخاص بالشياطين، ثم ضغط ذراعَيه، بدأ المؤشر يهتَز، ووضح أنه يسجِّل رسالةً ما. تحدَّث «أحمد» إلى «خالد»: يجب تتبُّع الرسالة؛ لتحديد المكان.
أجاب «خالد»: انتظرا عند النقطة «م»، سوف نتَتبَّع الرسالة بعد تحديد الموجة، وأتصل بكما.
ابتسم «قيس» قائلًا: لقد أخطأتُ التقدير.
قال «أحمد»: المسألة تحتمل الافتراضَين؛ إمَّا أن تُجرى الاختبارات نهارًا، ولهذا أسبابه، أو تُجرى ليلًا، ولهذا أسبابه أيضًا.
أخذَت السيارة البيضاء مكانها عند النقطة «م»، غير أن شيئًا لفَت نظر «أحمد»، إن مؤشر جهاز اللاسلكي قد توقَّف. فكَّر «أحمد» لحظة، ثم نقل أفكاره إلى «قيس» الذي قال: نعود مرةً أخرى من نفس الطريق لنرى؛ فمن المؤكد أننا خرجنا عن الدائرة التي يعمل داخلها الجهاز.
قال «أحمد» بسرعة: لقد فكَّرتُ في ذلك فعلًا.
عاد «قيس» في هدوءٍ من نفس الطريق، غير أن الجهاز لم يتحرَّك، عَلَت الدهشة وجه «أحمد»، تحدَّث بسرعة إلى «خالد» الذي قال: لقد توقَّف الإرسال، علينا أن نظَل في المراقبة.
ظل «خالد» يروح ويجيء في نفس المنطقة، مرَّت ساعة، وأصبح وجود السيارتَين يدعو للريبة، لقد أظلم المكان، وإن كانت أضواء الشركة تُبدِّد القليل من ظلمة الليل، تحدَّث «خالد»: هل نستمر، أو نؤجل ذلك؟
فكَّر «أحمد» لحظةً وهو ينظر إلى «قيس» الذي قال: ينبغي أن ننتظر قليلًا، قبل أن ننصرف.
سمع «خالد» كلام «قيس»، فقال: علينا أن نبقى لنصف ساعةٍ ثابتين في مكاننا؛ فيجب أن يكون داخل الدائرة التي سجَّلتْ فيها المؤشِّراتُ الرسالة.
وقفَت كلُّ سيارة في مكان، كانت أعين الشياطين على مؤشِّرات الأجهزة، مَرَّ الوقت ثقيلًا، دون حركة في الأجهزة. قال «أحمد» في النهاية: ينبغي أن ننصرف الآن.
تحدَّث إلى «خالد» الذي وافق على الاقتراح، تحرَّكَت السيارتان، لكن «أحمد» صاح بعد لحظة: انتظر، إن المؤشِّر يتحرَّك!
توقَّف «قيس»، وأخرج هو الآخر جهازه الصغير. ضغط الزر، فتحرَّك المؤشر، قال: نعم، هناك رسالة بين نقطتَين!
تحدَّث «أحمد» إلى «خالد»: هل ظهَرتِ الرسالة؟
أجاب «خالد»: نعم، نحن نتتبَّعها، عليكم برصدها من نقطةٍ ثابتة.
ظلَّت السيارة البيضاء في مكانها، ترصُد الرسالة اللاسلكية المستمرة، جاءت رسالةٌ سريعة من «خالد»: إننا في الطريق إلى المكان، لا تتحرَّكوا من مكانكم حتى رسالةٍ أخرى.
كانت السيارة الزرقاء تتقدَّم تبعًا لحركة المؤشر، حيث سجل جهاز السيارة أول حركة، وبدأ يُحدِّد الهدف. ضغط «بو عمير» على قدَم البنزين، فزادت سرعة السيارة، فجأةً أصبحا بين الحقول، أبطأ السرعة، ثم قال «لخالد»: لقد خرجنا من منطقة المصانع، إلى المزارع!
ردَّ «خالد» وعيناه على مؤشِّر الجهاز: لا بأس، إنا نقترب!
تقدَّمتِ السيارة الزرقاء، ثم فجأةً صاح «خالد»: قف، إننا أمام مصدر الإشارة الآن.
رفع عينَيه بسرعة، ونظر أمامه، كان هناك طريقٌ أسفلتي رفيع يتفرَّع من الطريق الرئيسي، وهناك كانت مجموعة من الأشجار العالية، تُمثِّل كتلةً سوداء في قلب الليل.
همس «خالد»: يبدو أن المصدر خلف هذه الأشجار!
فكر «بو عمير» قليلًا، ثم قال: هل نستمر؟
لم يُجب «خالد» مباشرة، أرسل رسالةً إلى «أحمد» الذي ردَّ: نحنُ في الطريق إليكما.
أخذ «بو عمير» جانب الطريق، ثم أوقف موتور السيارة. كان الهواء منعشًا، ورائحة الزرع تملأ أنفَيهما، توقَّف مؤشِّر جهاز اللاسلكي، فقال «خالد»: يبدو أن الرسالة قد انتهت!
كانت تتحرَّك في هدوء، حتى اقتربَت منهما، عندما وقفَت خلْف السيارة الزرقاء، نزل «أحمد» و«قيس» بسرعة. في نفس الوقت نزل «خالد» و«بو عمير»، التقى الأربعة بين السيارتَين، قال «خالد»: هل نكمل الطريق؟
فكَّر «أحمد» بسرعة، في نفس الوقت الذي قال فيه «بو عمير»: ربما يكون اليوم هو آخر فرصة.
قال «أحمد»: ينبغي أن نصل إلى داخل الشركة، يجب مراقبة الجهتَين.
صمت قليلًا، ثم أضاف: سوف أبقى أنا و«قيس» هنا، ونحاول الوصول إلى الداخل، عليكما بالذهاب إلى الشركة، ومراقبة ما يحدث.
في لحظاتٍ كانت السيارة الزرقاء تغادر المكان في لمح البصر، في الوقت الذي قال فيه «قيس»: ينبغي أن نُخفي السيارة، قبل أن نبدأ أي خطوة.
بينما ظل «أحمد» في مكانه، أسرع «قيس» بركوب السيارة، ثم دار بها دورةً كاملة، كانت هناك مجموعة من النباتات الخضراء تنبُت على جانب الطريق، اقترب منها، ثم دار حولها حتى وجد مكانًا مناسبًا للسيارة، تركها ثم عاد مسرعًا. كان «أحمد» يقف عند بداية الطريق الفرعي، عندما انضم إليه «قيس»، تحرَّك الاثنان في هدوء، كان الظلام حالكًا، إلا أن بصيص ضوء كان يتسرب من بين الأشجار البعيدة، فيُمثِّل بالنسبة لهما الهدف الذي يسيران إليه، ظلا يتقدَّمان في حذَر، فجأةً تناهى إليهما صوت كلابٍ تنبَح، توقَّفا لحظة، ثم استمرَّا، أخرج «أحمد» جهاز اللاسلكي الصغير، ثم ضغط الزر، لم يتحرك المؤشر، همس: إنهم في حالة صمت، أخشى أن تكون المهمة قد انتهت!
استمرَّا في السير، ظل الضوء الذي يتجهان إليه يتضح أكثر فأكثر، حتى أصبحا تحت الأشجار الكثيفة، ثم ظهَرتْ أمامهما فيلَّا من طابقَين، تلمع بعض الأجزاء البيضاء فيها، وكان صوت الكلاب يعلو ويختفي، فعرفا أنها بعيدةٌ نوعًا عنهما، اقتربا في هدوء، أرسل «أحمد» رسالةً سريعة إلى «خالد»، وانتظر الرد، غير أن الرد تأخر، قال «قيس»: لعلَّهما في مكانٍ لا يسمح لهما بذلك.
تقدَّما أكثر، فجأة أمسك «أحمد» بذراع «قيس» وجذَبه في هدوء، مشيرًا إلى اتجاه … نظر «قيس»، فأبصر أحد الحراس يقف عند بداية سُلَّم الفيلا الخارجي، كان يبدو كأبطال أفلام «الكاوبوي» بملابسه ومسدَّساته. ابتعد عن المكان وهما يدوران حول الفيلا، ارتفع صوت الكلاب فعرفا أنهما يقتربان من مكانها. في هدوءٍ ظهر كلبٌ ضخم يتشمَّم المكان، أخرج «قيس» مسدَّسه، ثم أطلق إبرةً مخدرة أصابت الكلب في صدره، أخذ يحُكُّ صدره بأظافره، ثم تهاوى على الأرض. اقتربا أكثر من جدار الفيلَّا. كانت أضواءٌ قوية تلمع من فتحات النافذة الصغيرة، همس «أحمد»: رَاقِب المكان جيدًا.
أخرج من جيبه سماعةً وضع طَرفَها في أذنه، ثم لصق دائرة الكاوتشوك في الجدار، فسمع ما يدور في الداخل. فجأةً دوَّت طلقة في الهواء جعلَت «أحمد» يقفز من مكانه منبطحًا على الأرض. توالت الطلقات، دون أن يكون هناك ردٌّ عليها، زحف «أحمد» مبتعدًا في اتجاه «قيس» الذي كان ينبطح هو الآخر بين شُجيرات الورد. فجأةً سطع ضوءٌ قوي من اتجاه سطح الفيلَّا، وأصبح المكان كالنهار، ثم توالت عليهما الطلقات.