نشأتي الأولى
ولدت في ١٥ يونيو سنة ١٨٧٥ بالإسكندرية في عهد الخديو إسماعيل، فأنا الآن في الخامسة والسبعين من عمري، وقد مرت هذه السنون بحوادثها الكثيرة، سريعة شأن كل زمان، على نحو ما قال المرحوم أحمد شوقي بك:
وكان إسماعيل صديق باشا المفتش، ووزير الخديو إسماعيل وقت ولادتي، في أوج مجده وسلطانه، فسماني والدي باسمه، كما هي عادة الناس حين يسمون أبناءهم بأسماء العظماء والوزراء المشهورين، وهو اسم يجمع بين اسمي الخديو، ووزيره المعروف …
وحدث بعد ذلك بقليل أن غضب ولي الأمر على وزيره، كما غضب هارون الرشيد على جعفر البرمكي، وعبثت به الأيام، ووقعت الواقعة، وذهب ولم يعرف إلى أين ذهب، فخشي والدي أن يكون في اسمي وقتئذ ما يشعر بولائه للوزير المنكوب، فأسرع بتحويره من «إسماعيل صديق» إلى «إسماعيل صدقي»!
ومن ذلك العهد عُرفت بهذا الاسم.
والدي … ووالدتي
نشأت في بيت مصري، بل في بيت من صميم الريف المصري، اشتغل منذ أواسط القرن التاسع عشر بالحكم وسياسة الدولة، وكان أفراده على حظ من العلم والتعليم والثروة والجاه، فكان والدي «أحمد شكري باشا» من كبار رجال الحكومة في عهد الخديو إسماعيل والخديو توفيق، وكانت والدتي «فاطمة هانم» كريمة محمد سيد أحمد باشا رئيس ديوان الأمير محمد سعيد باشا ابن الأمير محمد علي باشا الكبير.
وقد درس والدي في مدرسة القلعة، وتلقى فيها علم الإدارة الملكية «الحقوق»، ثم انتُخب للسفر إلى فرنسا في أول بعثة أرسلها الأمير سعيد باشا للتخصص في العلوم السياسية، وكان عدد أعضاء هذه البعثة واحدًا وعشرين تلميذًا، ومن زملائه فيها محمد راتب باشا سردار الجيش المصري المشهور في عهد الخديو إسماعيل، والقائد أحمد راشد حسني باشا ويوسف النبراوي باشا.
وهو من بلدة الغريب التابعة لمركز زفتى، ولما أتم دروسه في فرنسا عاد إلى مصر سنة ١٨٦١ والتحق بخدمة الحكومة، وتقلب في وظائفها إلى أن أصبح محافظًا للقاهرة، فوكيلًا لوزارة الداخلية، ومن الوظائف التي تقلدها «مدير إدارة عموم السودان وملحقاته» أيام الثورة المهدية. وكانت هذه الوظيفة موجودة حتى ذلك الحين، وقد تقلد منصب مدير أسيوط، وأحيل إلى المعاش وهو وكيل للداخلية، وظل به عشر سنوات، ثم أدركته الوفاة سنة ١٨٩٥.
سعيد باشا يعتقل جدي!
كان جدي محمد سيد أحمد باشا «أبو والدتي» وابن عم أبي من أصحاب المكانة والحظوة عند الأمير سعيد باشا، وكان يجيد اللغة العربية إلى جانب إجادته التركية، ويعتمد عليه سعيد باشا في تحرير رسائله الرسمية والخاصة، وكان يسكن قصرًا فخمًا بشبرا، وعنده من الخدم والحشم الكثيرون، وأذكر أني رأيت في طفولتي بهذا القصر ثلاثين جارية سوداء، وثلاثين جارية بيضاء، عدا الطهاة والخدم الآخرين، بعضهم ممن يسمونهم المماليك وهم من أصل شركسي.
وكان الأمير سعيد باشا يؤثر جدي بالكثير من عطفه ورعايته، فأثار ذلك كوامن الحقد والحسد في نفوس بعض رجال الحاشية. وكان الأمير مع طيبة قلبه، وميله للخير ضعيف الإرادة، كثير التقلب والتردد، ينصاع إلى آراء مخالطيه، سريع التأثر بما يسمعه، سريع الغضب، قريب الرضا … وحدث أن وشى عنده أحدهم بجدي، فغضب عليه ذات يوم، وهو لم يعرف لماذا غضب، ولكنه يعرف أنه فوجئ بالقبض عليه واعتقاله في قلعة أبي قير بلا تحقيق، فمكث معتقَلًا بها تسعة أشهر، حتى أشفق عليه أصدقاؤه ومريدوه، وظنوا أن الأمير لكثرة مشاغله قد نسيه في معتقله، فأوعزوا إلى نجليه الصغيرين: «أمين والد عباس سيد أحمد باشا»، ومحمود، بأن ينتظرا سمو الأمير عند خروجه من القصر، ويرتميا على قدميه ضارعين له بأن يفرج عن أبيهما.
وذات يوم خرج سموه من قصر رأس التين، وحوله رجال الحاشية، فتقدم الصبيان، وارتميا على قدميه يقبلانهما، ويتلمسان العفو عن أبيهما المعتقل، فسأل سعيد باشا عن أمرهما فقيل له: إنهما نجلا محمد سيد أحمد بك «باشا»، فاستدرت حالة الصبيين عطفه، فأمر توًّا بالإفراج عنه!
بركة غطاس
كان جدي جالسًا في القلعة لا يدري شيئًا مما حدث وقد بلغ به اليأس مبلغه، وإنه لكذلك إذا برسل الأمير يأتون إليه ويطرقون معتقله، فأوجس منهم خيفة، ولكنهم ما لبثوا أن بشروه بعفو الأمير، وأمروه بأن يذهب لمقابلته بقصر رأس التين.
خرج سيد أحمد باشا مغتبطًا بهذا العطف الكريم، وذهب لتقديم الشكر لسمو الأمير، فقابله سموه مقابلة حسنة، وشمله برعايته، ومنحه «حجة» تتضمن تبرع سموه له بضيعة من أملاكه الخاصة بمديرية البحيرة مساحتها تسعمائة فدان في «بركة غطاس»؛ أي عن كل شهر قضاه في المعتقل «مائة فدان» …! وهذه الضيعة هي التي أقضي فيها بعض أوقات راحتي إلى الآن …!
وبمناسبة «بركة غطاس» أذكر أنني قرأت في مذكرات نابليون أنه عند مغادرته لمصر في نهاية الحملة الفرنسية بات فيها تلك الليلة، التي سبقت يوم إقلاعه من البلاد المصرية إلى فرنسا.
دخولي مدرسة الحقوق
كانت الثقافة الفرنسية هي أولى الثقافات الأجنبية التي يقبل عليها الناس في ذلك الحين، ولما كان والدي قد أتم دراسته في فرنسا، وتثقف بثقافتها، فكان طبيعيًّا أن يختار لنجله هذه الثقافة، فأرسلني في السادسة من عمري إلى مدرسة الفرير، فكان لها الفضل في إتقاني للغة الفرنسية، وقد مكثت بها حتى حصلت منها على «البكالوريا» سنة ١٨٨٩.
ولما لم تكن المدارس الأجنبية تعنى بدراسة العربية يومئذ عنايتها بها في الوقت الحاضر، فقد كنت أشعر بقصوري في هذه اللغة أثناء وجودي بها، حتى إذا انتقلت منها إلى مدرسة الحقوق بدأت عنايتي بإتقان اللغة العربية، خصوصًا وقد كان من أساتذتي بعض فطاحل هذه اللغة وآدابها أمثال المرحومين حفني بك ناصف، وسلطان محمد بك.
وعلى ذكر التحاقي بمدرسة الحقوق، أذكر هنا فضلًا للمرحوم علي مبارك باشا ناظر المعارف، فقد كانت سني وقت حصولي على «البكالوريا» لا تتجاوز الرابعة عشرة، وكانت السن القانونية للملتحقين بالسنة الأولى في هذه المدرسة لا تقل عن الخامسة عشرة، فكان القانون يقضي بحرماني من دخولها حتى أبلغ هذه السن، فلما اتصل ذلك بناظر المعارف أذن باستثنائي من هذه القاعدة، وأصدر أمرًا خاصًّا بقبولي في هذه المدرسة.
مع مصطفى كامل
دخلت مدرسة الحقوق، وكان من زملائي في «الفصل» محمد توفيق نسيم وأحمد لطفي السيد، ومن زملائي في المدرسة مصطفى كامل، وعبد الخالق ثروت.
وكنت وتوفيق نسيم طول سني الدراسة نتناوب الأولية في الامتحانات، فسنة أكون الأول وهو الثاني، وأخرى بالعكس، حتى كان امتحان ليسانس الحقوق سنة ١٨٩٤ فظفرت بالأولية، وكان ترتيبه الثاني.
وقد اشتغلت بالصحافة أثناء دراستي بهذه المدرسة، فحررت مع مصطفى كامل في مجلة «المدرسة» التي أنشأناها، ثم أنشأت مع لطفي السيد مجلة «الشرائع»، وهي مجلة قانونية فكنت أحرر فيها فصولًا في القانون والاقتصاد، وكنت ميالًا بطبعي إلى المسائل الاقتصادية.
الهتاف بالدستور
وأذكر أنني وأنا بالسنة الثالثة بالحقوق اشتركت مع مصطفى كامل في تنظيم مظاهرة للطلبة للمطالبة بمنح البلاد الدستور، فاجتمعنا أثناء مرور الخديو عباس حلمي أمام المدرسة، وكانت وقتئذ في بنائها بشارع عبد العزيز، فحييناه، وهتفنا منادين بالدستور فلم يغضب الخديو لهذه المظاهرة، ولا لهذا الهتاف، بل ابتسم ورد التحية، واعتبر ذلك تشجيعًا خفيًّا من سموه للطلبة، وللحركة الوطنية التي كان يرعاها.
وقد كان الخديو عباس في ذلك الحين شابًّا ميالًا لتشجيع الشباب، وقد طبع على تشجيع الحركة الوطنية؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يبتسم، وألا يغضب، بل على العكس كان يرى في تقوية الحركة الوطنية تقوية لعرشه، وتدعيمًا لسلطته الشرعية، إذ كان الهدف هو جلاء المحتلين عن مصر، وحصولها على حريتها واستقلالها.
وكذلك نشأنا ونحن طلبة نشعر بأن واجبنا الأول حب وطننا وخدمة بلادنا، وحب الوطن يكون بشيئين: (١) أن نتمسك بحقوقه ونسعى للحصول عليها. (٢) وأن نعمل لتحصيل العلم لنكون جديرين بالاستقلال، بل لنصل بالعلم إلى الاستقلال الحقيقي.