دستور سنة ١٩٣٠
لما نُقل إلى المرحوم زكي الإبراشي باشا رغبة المغفور له جلالة الملك فؤاد في اختياري لتأليف الوزارة سنة ١٩٣٠، رجوته أن يُبلغ جلالته أنه إذا تم ذلك، فستكون سياستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية والدستورية تنظيمًا جديدًا يتفق ورأيي في الدستور، واستقرار الحكم والقضاء على الفوضى، والسعي الجدي للإصلاح القومي … وقد وافق جلالة الملك فؤاد على هذه السياسة، بل إنه كان راغبًا فيها بعد ما مرت تجارب سبع سنوات كاملة، دون أن تتقدم البلاد خطوة إلى الأمام، بل لعلها تأخرت إلى الخلف …
ولذلك ما كدت أنتهي من تأليف الوزارة حتى أخذت أفكر فيما يجب أن يعمل لعلاج الحالة الحاضرة، ولم أرغب في القيام بإجراء غير دستوري — على نحو ما فعل صديقي المرحوم محمد محمود باشا من وقف الدستور، وتأجيل البرلمان ثلاث سنوات قابلة للتجديد — بل رأيت أن أسلك طريق التعديل، الذي رسمه دستور سنة ١٩٢٣، حتى لا أحرم البلاد من الحياة الدستورية.
لماذا أبدلت دستورًا بدستور؟
ولعل مما يهم الجيل الحاضر أن أبين له لماذا نقحت دستور سنة ١٩٢٣، أو بعبارة أخرى لماذا استبدلت به دستورًا جديدًا؟
وضع الدستور المصري سنة ١٩٢٣ منقطع الصلة بالماضي، فإنه على وجه العموم، وفيما عدا ما أحتفظ به من الانتخاب بدرجتين، ليس بينه وبين نظام الجمعية التشريعية، أو ما سبقه من نظام مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية سبب أو نسب.
وضع هذا الدستور على نظام الدستور البلجيكي، مستعيرًا من غيره من الدساتير الحديثة أحكامًا مختلفة من هنا وهناك، فكان من ذلك كله مجموعة يصح بحق أن تعتبر صورة صادقة، لما بلغته الديموقراطية في أوروبا في العصر الحديث … ويعلم المطَّلع على تاريخ الدساتير الأوروبية أن هذه الصورة الأخيرة لم يبلغها طفرة واحدة أي بلد من البلاد، التي نشأ وترعرع فيها النظام النيابي، وأن الدساتير وضعت في كل بلد وفق أحوالها المعاصرة لها، وأن التطورات الاقتصادية والاجتماعية بعد أن تبلغ مداها يكون لها أثرها في تعديل تلك الدساتير، تعديلًا يجيء تارة بطريق قلب الدستور وتغييره، وطورًا بالطرق التي رسمها الدستور نفسه.
ومن يستقرئ أخبار وضع الدساتير لن تفوته ملاحظة، أن كثيرًا من واضعي الدساتير الحديثة يعمدون إلى الانتفاع بخبرة الغير في الأمور الدستورية، دون مراعاة ما بين بلد وبلد من الفوارق في الخلق، والطباع والنظم الاجتماعية. ويظنون خطأ أن آخر الأوضاع خيرها إطلاقًا، كما أن أحدث المخترعات أكملها، أو أن ما نجح في بلد لا بد ناجح في غيره من البلاد، ويرون أن النقل عن الغير أقل كلفة وأهون نصبًا، إذ كان البحث والاستقراء فيما يناسب ويلابس حال كل بلد أمرًا صعب المسلك طويل الشقة.
مصر ليست أوروبا
ولا شك في أن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية العامة في مصر، خصوصًا من حيث التعليم ونوع الثروة العامة وتوزيعها، لا تشبه في كثير أحوال البلاد، التي نقل عنها الدستور المصري سنة ١٩٢٣، ولا يجهل أحد أن هذا الدستور وضع في وقت بلغ فيه الخلاف بين المشتغلين بالمسائل العامة، والمشايعين لهم حد الفتنة؛ ولهذا كان من الواجب أن يفرَّق بين دساتير البلاد، التي عالجت النظام النيابي دهرًا طويلًا وبين ما يوضع لنا، بقدر ما يقتضيه اختلاف الشبه بين أحوالنا وأحوالها، كما كان من الواجب أن يجعل الدستور، بحيث لا تعلق به آثار الفتنة التي ولد في جوها.
ليس يعنينا، بل يعني التاريخ وحده، أن نعرف ماذا كانت هذه الغاية الأخيرة مما كان يمكن أن يحققها الذين وضعوا الدستور، وإنما الذي يعنينا أن نقرره هو أن دستور سنة ١٩٢٣ لم يحقق في تلك السنين ما عُقد عليه من الآمال من أنه خير ما تمتعت، وتتمتع به البلاد من صور الحكم وأكفلها بإقرار النظام والسلام، وتوجيه الأمور العامة إلى خير الغايات، على يد الصالحين لذلك، القادرين عليه.
أوتوقراطية الوفد البرلمانية!
والدليل على ما تقدم أنه منذ جرت الانتخابات لأول مرة استعملت في سبيل النجاح فيها طرق لم تألفها البلاد، ودعايات بعيدة عن أن تكون مقبولة في شرعة الدساتير، وأخرج كثير من أحكام قانون الانتخاب عن غرضه، وعن وضعه الأصلي، كما حدث ذلك في أحكام تزكية المرشحين، واستغل تاريخ النهضة لمصلحة فريق أحسن ذلك النوع من الاستغلال، فجاءت نتيجة الانتخابات، سواء في مجلس الشيوخ أو في مجلس النواب، موافقة لشهوات ذلك الفريق في الظفر بالغلبة، وقد تم له الظفر بحيث لم يترك مكانًا لمعارضة قيمة، وفات الظافرون أنهم خالفوا بذلك مصلحتهم الحقيقية، كما خالفوا لب النظام البرلماني وجوهره، وأسست من ذلك اليوم في مصر «أوتوقراطية جديدة في صورة برلمانية»!
وأرادت تلك الأوتوقراطية أن تستديم لنفسها سلطانًا أوتيته بفضل تلك الطوارئ العارضة، فكان أول ما اتجه إليه نظرها تحويل الانتخاب ذي الدرجتين إلى انتخاب مباشر، موهمة أن هذا النوع من الانتخاب هو خير نظام أخرج للناس!
وفي الحق أنه لا يمكن أن يوصف نظام من أنظمة الحكم بأنه خير الأنظمة، فليس في طبيعة أي نظام أن يكون صالحًا لكل زمان ومكان ما دامت الأمم، بل الأمة الواحدة على توالي العصور هي ما نعرف من الاختلاف طباعًا وعادات وأسباب حياة، حتى لقد قال بحق أحد الحكماء: «جرت سنة الاجتماع وطبائع الشعوب بأن الأنظمة مهما تبلغ من الكمال ليست في الواقع إلا حسابًا وتقديرًا، مرماه ونتيجته تفضيل أخف الضررين»!
والانتخاب المباشر إن شاع العمل به ليس في نظر محبذيه أنفسهم أكثر من صورة من صور الحكم، أفضى إليها تطور الأحوال الاجتماعية في أوروبا، وجعل منها ضرورة حاضرة من ضرورات النظام النيابي فيها، ومع ذلك فأهل الرأي في أمره على خلاف، وكثير ممن كتبوا في أزمة الأنظمة البرلمانية يؤثرون عليه نظام الانتخاب ذي الدرجتين، ويقولون: إنه «كالمرشح يعطيك ماء أشد نقاء وصفاء دون أن يغير ينبوعه.»
الأوتوقراطية في الحكم
لا أراني مسرفًا إذا قلت إن فريق الأوتوقراطية كان قد جرب عدة مرات في الحكم، فأبدى فيها عجزًا، وأوشك أن يلحق في كل مرة بالبلاد وسمعتها ضررًا بليغًا … ذلك أنه لم يسلك في الحكم السبيل المستقيم، فقد شُغل باستدامة أسباب النفوذ والسلطان لنفسه، وبتوفير وجوه المنافع لأنصاره والثأر من خصومه، عما يقتضيه الحكم من توفر على النظر في حاجات البلاد وضروب الإصلاح، وتضحية في سبيل إسعاد البلاد ورقيها.
ولا شك في أن داء البلاد الوبيل كان في ذلك الحين طغيان فئة اتخذت من الدعاية، التي تنشرها بين الناخبين والنواب جميعًا سببًا ممدودًا للحكم والتحكم، فإن هي أقصيت عن الحكم حاولت استثارة عطف الجماهير بدعوى اضطهادها لدفاعها تارة عن استقلال البلاد، ثم عن الدستور تارة أخرى! فهي في سبيل مصلحتها الخاصة كانت تصرف البلاد عن سبيل الخير، وتشغلها عن حل مشاكلها وإصلاح شئونها.
لذلك رأيت أن مصلحة البلاد الكبرى تفرض على القائمين على أقدارها أن يمحوا الماضي بما له وما عليه، وأن يصدر دستور جديد تستفتح به صفحة جديدة في تاريخها الحديث … وإذا كانت الضرورات ألجأتني إلى انتهاج هذه السبيل، فالتاريخ العام للحياة النيابية حافل بمثل هذه الظاهرة، ظاهرة إبدال دستور بدستور …
رئيس الديوان والدستور الجديد
كان رئيس الديوان الملكي في ذلك الحين المرحوم محمد توفيق نسيم باشا، فلما رفعت إلى جلالة الملك فؤاد مشروع الدستور الجديد، وضع نسيم باشا مذكرة ضمنها عدة ملاحظات على بعض مواده، وعارض في إصدارها على الصورة التي اقترحتها، ولكن الملك فؤاد لم يوافقه على هذه الملاحظات، وكان يميل إلى استقرار الحكم، وقد عز عليه أن يرى بلاده واقفة حيث هي يضيع العجز مصالحها، وتقطع الحزبية الجامحة أوصالها، ويهمل العمل فيها للإصلاح، ولا تجد من يتولى شئونها بعزم وحزم ونزاهة، للسير بها إلى الأمام، في حين نرى الأمم الأخرى — حتى الأمم التي هي أقل شأنًا من مصر — تتسابق في معالجة مشاكلها، وتجدُّ في السير للرقي والمجد؛ ولذلك ارتاح جلالته لهذا الدستور وشجعني عليه، فمضيت فيه، واستطعت في خلال الفترة التي حكمت فيها بعد صدور الدستور الجديد أن أقوم بأعمال هامة في الإصلاح العام، ما زالت آثارها باقية حتى الآن، سواء في نواحي الإصلاح الزراعي كمشروعات الصرف والري، وتعلية خزان أسوان، أو في الإصلاح العمراني كإقامة الجسور، وتجميل المدن، وإنشاء طريق الكورنيش بالإسكندرية، أو في الإصلاح الاقتصادي كمعالجة الأزمة الاقتصادية، والعمل لتخفيف وطأتها في مصر بعدة تدابير لا تزال باقية آثارها … ولا يخفى أن الأزمة التي كانت قائمة لم تكن مصرية فحسب، بل كانت أزمة عالمية لم يشهد العالم مثلها، فعملت على الأخذ بيد السكان فقراء وموسرين ممن كان أثر هذه الأزمة واقعًا عليهم أكثر من غيرهم وهم المزارعون، فعملت على إبعاد أيدي المرابين عنهم، فأقرضتهم وجعلتهم يتخطون الأزمة بسلام … وهنا يصح أن أذكر بنك التسليف الزراعي الذي أنشأته، وكان رحمة بالفلاح المصري، ونقمة على المرابين وأكثرهم من الأجانب، وقد دام أثره الطيب الصالح حتى وقتنا الحاضر …
حزب الشعب
أنا من الذين لا يميلون إلى الحزبية، ولا يحبون التقيد بالأحزاب؛ ولذلك لم أنضم طول حياتي السياسية قبل سنة ١٩٣٠ إلى حزب ولم أؤلف حزبًا، وقد تألف حزب الأحرار الدستوريين برياسة عدلي يكن باشا، واشترك فيه زميلي ثروت باشا، وكلاهما كان صديقًا حميمًا لي، ومع ذلك لم أنضم إليهما، ولم أشترك يومًا في عضوية هذا الحزب.
ولكن بعد تأليفي للوزارة، ووضع دستور سنة ١٩٣٠، وإعلان الانتخابات لقيام برلمان جديد في ظل هذا الدستور رأيت أن لا بد للوزارة من استنادها إلى أغلبية برلمانية، وقد كنت أؤمل أن يؤيدني حزب الأحرار الدستوريين، كما أيدني حزب الاتحاد؛ نظرًا لصداقتي لأعضائه الذين شعروا بأني سلكت الطريق القويم، ومما يؤسف له أن المسائل الشخصية لعبت في ذلك دورها الممقوت، ولم يعمل حساب لما قلته بإخلاص عندما توليت الحكم وهو: «إني عابر سبيل»!
ومن العجيب، أن الباقين من الأحرار الدستوريين ائتلفوا مع الوفد — وكانوا قد عانوا منه ما عانوه بحجة أنني اعتديت على دستور سنة ١٩٢٣ — وفاتهم أنهم هم الذين أجلوا الحياة النيابية، وأوقفوا الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وحكموا البلاد أربعة عشر شهرًا حكمًا؛ وصفوه هم بأنه حكم ديكتاتوري!
لذلك رأيت في تلك الظروف أن أؤلف «حزب الشعب»، ورؤي في أول الأمر أن يسمى «حزب الإصلاح»، وقد انضم إليه عدد من أعضاء حزب الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد والمستقلين.
وقد ظفر هذا الحزب بالأغلبية في الانتخابات، وبقي مؤيدًا لي طول بقائي في الحكم، على أنه عندما استقلت من الوزارة، وعهد بها إلى دولة عبد الفتاح يحيى باشا تخليت عن رياسته، ثم استقلت من عضويته، ورأيت أن أعود إلى طريقتي في البعد عن الحزبية والأحزاب.