الملك فؤاد كما عرفته
عرفت المرحوم الملك فؤاد أميرًا، وسلطانًا، وملكًا … فعرفت فيه صفات الإمارة والقيادة، والعظمة، والملك، وعرفت فيه حبه للعلم، وإيمانه برسالته في تقدم الأمم، وتعشقه للرقي والحضارة، وتشجيعه للعلماء، وميله للتعرف بكبار النابهين من رجال العلم والسياسة.
وقد كان أول اتصالي به — كما بينت في كلمة سابقة — حينما اخترناه رئيسًا للجامعة المصرية الأهلية بُعيد تأسيسها في سنة ١٩٠٦، وهو يومئذ أمير معروف بهذه الشمائل الغراء التي أكسبته تقدير العلماء، واحترام رجال السياسة في مصر والخارج، ذلك الاحترام الذي هيأ له مركزًا ممتازًا في الأندية السياسية في أوروبا، وجعله من الأمراء المعدودين الذين تتجه إليهم الأنظار إذا ما أريد لبلد أن يتبوأ عرشها ملك، حتى في البلاد الأوروبية؛ أي إن منزلة الأمير فؤاد ومواهبه كانت تسمو على منزلة الأمراء العاديين … ولكن الله أراد ألا يكون عرشه غريبًا عن بلده، بل عرش مصر.
ومن حسن الطالع أنه لما مات السلطان حسين كامل تنحى نجله الأمير كمال الدين حسين عن العرش، على الرغم من إلحاح الإنجليز عليه بتبوئه، فانتقل إلى فؤاد، وكان ذلك من فضل الله عليه؛ لأن مواهبه كلها لم تكن معروفة، ومن فضل الله على مصر؛ لأنه — رحمه الله — نهض بها في طريق الحضارة نهضة مباركة موفقة، وكان يميل إلى تقليد والده المرحوم الخديو إسماعيل في هذه الناحية المفيدة، التي تجعل بلاده في الطليعة، متجنبًا ما وقع فيه غيره من أخطاء أو عيوب.
ويشرفني أن أعود بالذكريات إلى هذا الحادث السعيد — حادث تولي الأمير فؤاد عرش مصر بعد وفاة السلطان حسين — فقد كان مقيمًا بمحطة جليمونوبلو برمل الإسكندرية في ذلك الحين، وكنت أقطن أنا بمنزلي بمحطة قريبة، وكنا نتقابل على الدوام للحديث في مختلف الشئون … وذات يوم، وقد انتهيت من الغداء، دق جرس التليفون، وإذا بالمتكلم «الأمير»، وإذا به يقول: أود أن أراك.
فقلت: في أي وقت تريدون؟
قال: الآن … أريدك لمسألة هامة!
فخرجت مسرعًا إليه فاستقبلني بمكتبه المكتظ بالكتب النفسية قديمة وحديثة، فقد كان مولعًا بالكتب والقراءة … وقال لي: يا إسماعيل باشا … أنا طلبت اليوم في القاهرة … وأردت أن تكون أنت أول من أنبئه هذا النبأ …
قلت: لعله خير يا أفندينا …!
قال: إنه على أثر وفاة أخي السلطان حسين يراد عرض العرش علي … فما رأيك؟
فقلت له: إن صفاتك العظيمة ومواهبك الممتازة تجعل اختيارك لهذا المركز خيرًا لمصر، ونعمة لأهلها … ويسرني أن أكون أول من يهنئك، وأسأل الله أن يكون عهدك عهد يمن وبركة على البلاد.
فقال: ألا تريد أن تسافر معي الآن؟
قلت: أرجو أن تؤخر هذا للوقت الذي ترى فيه أن لوجودي بعض الفائدة! وقد حصل، وطلبني بعد ذلك بأيام، وكان عطفه علي عطفًا لا أنساه.
ملك أنموذجي!
تولى فؤاد الأول الأريكة المصرية في ظروف دقيقة، فكان عليه أن يحافظ على تراث آبائه، وكان عليه أن يوطد دعائم العرش، ويذلل الصعوبات، ويحل مشاكل الأمة المصرية الرازحة وقتئذ تحت نير الحماية والاحتلال، الذي امتد إلى عهده خمسة وثلاثين عامًا.
تولى فؤاد الأول هذه الأريكة والحرب العالمية الأولى ما زالت قائمة، ثم كانت الاضطرابات في مصر وفي بعض أنحاء العالم، ولم تكن هناك أمة تعرف مصيرها أو تتكهن بما تأتي به الأيام، فاضطلع — رحمه الله — بمهام الحكم والسلطان في ذلك الوقت العصيب، وقبض بيد حكيمة على أزمة البلاد، وساعدته مواهبه الفطرية، وثقافته الواسعة المتنوعة في قيادة أمته قيادة حازمة في كل ناحية من نواحي نهضتها السياسية والعلمية والعمرانية.
وكانت المسألة المصرية أهم ما يشغل جلالته، وكان موقفه فيها موقف القائد المرشد الذي يوجه توجيهًا صالحًا، ويؤثر الروية وانتهاز الفرص لتحقيق مطالب الأمة، وقد انتفعت أنا وثروت باشا بإرشاداته وحسن توجيهاته السديدة في تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، الذي كان متتبعًا لأدواره منذ بدأ حتى انتهى.
وقد مرت به أزمات كثيرة، فكان يلقاها على الدوام بصبر وثبات، ونفس قوية لا تعرف اليأس والملل، وكان أحسن مثل في التفاؤل والأمل بالمستقبل، غير أنه كان كثير التأثر لما يصيب بلده من متاعب، وكان يضيق بمواقف رجال السياسة المصريين إذا ما آنس منهم الجنوح إلى الاشتغال بمجد الأشخاص بلا فائدة لمصر، وكذلك عندما كان يرى أحقاد البعض تسيطر على موقفه من المسائل الكبرى.
وأذكر بهذه المناسبة أن ولاية العرش لم تكن مما يحرص عليه لخدمة نفسه أو لمنفعة شخصية، حتى إنه مكث مدة في سراي البستان التي كان يقيم بها أيام إمارته، وقبل أن يصبح سلطانًا وملكًا، ولم يكن ينتقل إلى عابدين إلا للأعمال الرسمية، وكنت أتحدث إليه في ذلك، فكان يقول: إنني أحب أن أبقى حيث أنا حتى إذا لم أنجح في خدمة بلادي تخليت عن العرش!
الملك فؤاد وكرامة العرش
وكان الملك فؤاد وطنيًّا صميمًا متعصبًا لوطنه ولمصريته، مع أنه عاش طويلًا في الخارج، وأعجب بحضارة البلاد الغربية، ولكن إعجابه كان مقصورًا على رغبته في الإفادة من حضارة الغرب بما يدفع مصر خطوات في طريق الرقي والنجاح.
وكان إلى سماحة نفسه ونزاهته وتواضعه الكبير، عظيم الترفع عن الصغائر، حريصًا على المحافظة على كرامته وكرامة العرش؛ لأنه كان يرى العرش رمزًا لعظمة الأمة ومجدها، فكان ينأى به عن أن يمسه شيء من قريب أو بعيد خصوصًا في بلد شرقي.
وكان الحكم في نظره ينبغي أن يبنى على العلم والعرفان، وقد عنى منذ كان أميرًا بتقدم مصر العلمي، ووقف جهوده على ترقية الحياة العقلية للأمة، ولما تولى العرش اهتم بالجامعة المصرية — التي كان رئيسها والعامل الأول لرقيها — فيما اهتم به من جلائل الأعمال، ونقلها إلى الحكومة وأصبحت من كبريات الجامعات، كما اهتم بالجمعيات العلمية، فأحيا الجمعية الجغرافية وجدد نشاطها، وتأسست من جديد جمعية الاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، وأنشأ معهد الأحياء المائية، وأنشأ متحف فؤاد الصحي، ومعهد البحوث الصحراوية، وأمر — رحمه الله — بإنشاء مجلس الأبحاث، الذي تم تأليفه بعد وفاته، وأسندت إليَّ رئاسته بأمر من نجله الملك فارق الأول.
وأذكر أنه دعاني لزيارة المتحف الزراعي ببودابست عاصمة المجر، وهو أعظم متحف من نوعه في العالم، وأحب أن يكون في مصر متحف على مثاله، فصدعت بأمره، وزرت هذا المتحف، ولما عدت عملت على تحقيق رغبة جلالته بإنشاء متحف فؤاد الزراعي على غرار هذا المتحف العظيم.
وقد كان للملك فؤاد من الأثر العمراني ما نهضت به الحياة الاقتصادية والعمرانية في مصر، فقد اهتم جلالته برقي الصناعة والزراعة، فأنشئت في عهده: وزارة التجارة والصناعة لمساعدة المنتجين، وتشجيع الصناع والأخذ بيدهم؛ لتبلغ الصناعات الوطنية المكانة، التي بلغتها صناعات الأمم الراقية، وقد تألف في عهده وبإرشاده الاتحاد المصري للصناعات، وتأسيس بنك التسليف الزراعي، وكان هذا البنك رحمة للمزارعين المصريين، وتقدمت أنواع الزراعات المصرية في عهد الملك فؤاد، وتألفت الجمعيات التعاونية، إلى غير ذلك مما كان له أكبر الأثر في التقدم الاجتماعي والاقتصادي بمصر.
كل وقته للعمل
وكان الملك فؤاد عجيب الأطوار، إلى حد أنه لما تولى الحكم، كان كأنه تسلم رسالة من المولى — سبحانه وتعالى — بأن يكون نعمة على البلد، فكان كل وقته مكرسًا للعمل … وربما كان غريبًا لبعض الناس أن الملك فؤاد كان يعلم من أعمال الحكومة ما لا يعلمه الوزراء أنفسهم، وكنا نحن الوزراء نذهب للاجتماع معه، ونحن نعلم أنه قد درس المسائل التي سنتناقش فيها دراسة ضافية، وزاد على ما قُدم له من مذكرات، وبيانات بمراجع وأبحاث من عنده.
وكم يرتاح من هو في سني في الوقت الحاضر، إذ يرى أكبر هم لمليكنا المحبوب فاروق أن يقتدي بوالده، ويحب — لو استطاع — أن يعمل كما كان يعمل سلفه العظيم.