تنازل الخديوي عباس عن العرش
لعل من محاسن الاتفاق أني كنت أول من هنأ الملك فؤاد بالعرش سنة ١٩١٧، وأول من عمل لتوطيد عرشه بالاتفاق مع الخديو السابق عباس حلمي الثاني على التنازل عن عرش مصر سنة ١٩٣١.
وقد مر بك في الكلمة السابقة، كيف أنبأني جلالته بنبأ عرض العرش عليه بعد وفاة السلطان حسين كامل، وكيف هنأته لهذا النبأ السعيد. واليوم أتحدث عن اتفاقي مع الخديو عباس على التنازل عن عرش مصر لجلالة عمه الملك فؤاد …
حق لا ينازع!
كان الخديو عباس قد سافر إلى الآستانة في صيف سنة ١٩١٤، فلما قامت الحرب العالمية الأولى وأراد العودة إلى مصر، انتهز الإنجليز فرصة قيام تلك الحرب، ومنعوه من العودة إلى بلاده بحجة انضمامه إلى أعدائهم، ثم أعلنوا خلعه في ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤، فآل الحكم إلى السلطان حسين كامل باعتباره أكبر أمراء الأسرة العلوية، عملًا بفرمان سلطان تركيا الذي صدر في مايو سنة ١٨٤١، والذي ينص على أن ولاية مصر تنتقل لأكبر أولاد محمد علي باشا الذكور وأولاد أولاده.
ولكن الخديو عباس لم يعترف بهذا الخلع؛ لأنه لم يصدر من سلطان تركيا؛ ولأن ذلك الفرمان قد ألغي بفرمان سنة ١٨٦٦، الذي حصل عليه الخديو إسماعيل باشا من السلطان، وينص على أن ولاية مصر تكون لأكبر أنجال الوالي طبقة بعد طبقة، وقد تولى والده الخديو توفيق باشا بهذا الفرمان، كما تولى هو العرش بمقتضاه، فهو صاحب الحق الذي لا ينازع!
وقد أعلن استقلال مصر في ١٥ مارس سنة ١٩٢٢، واعترفت بريطانيا بأحمد فؤاد الأول ملكًا على مصر، كما اعترفت بولاية العهد «للأمير فاروق»، ووضع الملك فؤاد نظامًا لتوارث عرش المملكة المصرية، وصدر به أمر ملكي، ولم يكن الخديو قد تنازل من جهته عن حقه، ولم يعترف بهذا النظام، فكان من المهم تسوية هذه المسألة تسوية نهائية حتى لا تبقى معلقة إلى ما شاء الله.
ولما توليت الحكم سنة ١٩٣٠ كانت هذه المسألة من أهم ما شغلني، وقد عاصرت الخديو عباس، وعملت معه في شبابي إلى أن أصبحت وزيرًا للزراعة في عهده، ودامت علاقتي به حتى بعد خلعه أثناء زياراتي لأوروبا، وكان كثير المودة والعطف علي، كما عاصرت الملك فؤاد وتعاونت معه في شبابي وكهولتي، وتمتعت بصداقته وثقته، وكنت أعرف تقدير الخديو عباس لعمه الملك فؤاد وحبه له وإعجابه به، كما كنت أشعر باهتمام جلالته بحل هذه المسألة، ورغبته في وضع حد نهائي لها يمحو ما صنعته الظروف من غشاوة بينه وبين ابن أخيه.
سر على بركة الله!
وبينما كنت أفكر في هذا الموضوع اتفق أن وصل إلى مصر من سويسرا عبد الله البشري بك، سكرتير الخديو عباس موفدًا من سموه لمقابلتي، وكان ذلك في يناير سنة ١٩٣١، فاجتمعت به في منزلي، وأفضى إلي بأن سمو الخديو قد آنس ضجرًا من هذه الحال، وأنه يود أن يزيل ما بينه وبين عمه من خلاف على العرش، وأنه يعرب عن صادق إخلاصه، ويود له التوفيق في خدمة مصر، كما يود أن يتم ذلك على يد صديق له مثلك.
وارتحت أنا لهذا العرض، بل تفاءلت وحمدت الله عليه، ورجوته أن يوفقني فيه لخدمة مليكي وعرش بلادي.
وبعد الاجتماع استأذنت جلالة الملك، وقابلته، ووضعت بين يدي جلالته ما حمله رسول الخديو، فابتهج به، وقال لي: «سر على بركة الله …»
مجلس الوزراء لا يعلم!
وتعددت المقابلات بيني وبين البشري بك، ولم يكن أحد يعلم بها في مصر — بعد جلالة الملك فؤاد — غيرنا نحن الاثنين، وروعي الكتمان الشديد، حتى إن مجلس الوزراء لم يكن يعلم بهذه المفاوضات، وكنت أجتمع به في منزلي.
وفي ١٠ فبراير سنة ١٩٣١ سافر البشري بك لمقابلة الخديو، وكان سموه في تونس، ثم تركها إلى الجزائر، فلحق به، ومكث معه بضعة أيام عرض عليه فيها تفاصيل ما جرى بيني وبينه، ثم عاد إلى مصر في أول مارس مزودًا بتعليمات سموه، واستأنف البحث معي وأبلغني أن الخديو عباس قبل مبدئيًّا التنازل، فأخذت أضع معه نصوص الاتفاق، وكنت قد طلبت إلى عبد الحميد بدوي باشا أن يضع الصيغ النهائية، ففعل إلى أن انتهينا منها، ثم اتفقت معه على أن توفد الحكومة المصرية مندوبين لها لمقابلة سموه وإنجاز الاتفاق، وذلك في موعد يخبرني به تلغرافيًّا بعد مقابلته للخديو بسويسرا.
وفي ٢٦ مارس سافر البشري بك، ثم وصلني منه تلغراف يقول فيه: إن سمو الخديو سيكون بلوزان في ١٥ أبريل، فانتدبت سعادة أمين أنيس باشا المستشار الملكي في ذلك الحين، والأستاذ بتسي بك المحامي، كوفد من قبل الحكومة المصرية، وصحبهما يوسف جلاد بك (باشا) رئيس الإدارة الإفرنجية بسراي عابدين … وجرت المقابلات مع الخديو السابق في فندق سافوي تارة، وفي فندق لوزان بالاس تارة أخرى، وكان سموه يقصد إلى لوزان يوميًّا بسيارته للإشراف على الاتفاق، إذ كان مقيمًا في ديفون، حتى تم وضع الصيغ النهائية، وأمضى سموه الوثيقة في ٦ مايو سنة ١٩٣١.
وأبلغني الوفد نبأ التوقيع تلغرافيًّا، فأبلغته لجلالة الملك، وكان اليوم الثاني من عيد الأضحى المبارك، فاجتمع مجلس الوزراء برياسة الملك فؤاد في قصر القبة العامر، وأفضيت إلى زملائي بهذا النبأ، وأعلناه رسميًّا في البلاد.
وثيقة التنازل
إني موقن بأني خدمت بلادي بأمانة وإخلاص، وأني كرست لها مدى ثلاث وعشرين سنة — بالرغم من دقة الظروف — كل قواي وخير أيام حياتي.
وقد تتبعت عن كثب ما أحرزته البلاد، وما لا زالت تحرزه من أسباب التقدم في جميع النواحي.
وإني مغتبط بما أراه من خطاها الثابتة في سبيل توثيق استقلالها، والتوفيق بين نظامها السياسي، وبين حاجاتها وأمانيها.
ورغبة مني في تحديد موقفي حيال نظام مصر السياسي، وتأكيد إخلاصي نحو ذات ملكها المعظم، فإني أعلن اتباعي للدستور المقرر بالأمر الملكي رقم ٧٠ لسنة ١٩٣٠، وأصرح بأني سأتوخى في جميع الظروف خطة مطابقة للنظام المقرر لقوانين البلاد.
وعلى وجه الخصوص أعلن احترامي للأمر الملكي الصادر في ١٣ أبريل سنة ١٩٢٢، بوضع نظام لتوارث عرش المملكة المصرية، والقانون نمرة ٢٨ سنة ١٩٢٢ الخاص بإقرار تصفية أملاكي، وهما جزءان لا يتجزءان من الدستور المصري، وقانون التضمينات نمرة ٢٥ سنة ١٩٢٣، وأعلن اتباعي لها جميعًا.
ولما كنت أقر لحضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول بن إسماعيل بأنه ملك مصر الشرعي، فإني أعلن بهذا تنازلي عن كل دعوى على عرش مصر، كما أعلن تنازلي عن كل مطالبة ناشئة عن أني كنت خديويًّا لمصر أيًّا كان وجهها، سواء عن الماضي أم عن المستقبل.
ومع تأكيد ولائي المطلق الدائم لجلالة الملك فؤاد الأول أعرب لجلالته عن صادق إخلاصي، وأتوجه إلى الله بصالح الدعوات ليحوط جلالته والأمير فاروق ولي عهد المملكة بعين عنايته، ليزيد في إسعاد مصر في حاضرها ومستقبلها.
وقد رفعت هذه الوثيقة إلى جلالة الملك فؤاد بعد عودة مندوبي الحكومة من سويسرا، مع خطاب شخصي من الخديو إلى جلالته، فسُر جلالته بهذه النتيجة، وأراد أن يعرب عن تقديره لشخصي الضعيف بالإنعام على المرحومة السيدة حرمي بالوشاح الأكبر من نيشان الكمال، ولما ذهبت لرفع آيات الشكر لهذا الإنعام السامي، وعلم بوجودها في الحرملك انتقل — رحمه الله — إليها، وقال لها: «إن زوجك قد حاز كل أوسمة الدولة، وقد فكرت أن أقدم لك وسام الكمال ليكون المكافأة، التي أستطيع أن أقدمها إليه في شخصك.»
خطاب من الخديو
… نشكر دولتكم عظيم الشكر … وبمناسبة انتهاء المفاوضات، وإمضاء العقد نخبر دولتكم برضانا وارتياحنا، ونرجو لدولتكم دوام التوفيق في كل ما قمتم وتقومون به من صالح العمل الكثير لسعادة مصر سياسيًّا، واقتصاديًّا وإداريًّا، بما عرف عن دولتكم من القدرة والكفاية، وما اشتهرتم به من الحكمة، وأصالة الرأي وحبكم للبلاد.
ونخص بالذكر علاجكم الحكيم لإنقاذ مصر من هذه الأزمة العالمية الطاحنة، وتخفيف وطأتها على مصر العزيزة، وتثبيت ماليتها، كذلك إصداركم للدستور الجديد الذي نرجو أن تمنح البلاد في ظله طمأنينة وحياة كلها تقدم ورخاء، حتى تصل بحسن سعيكم، وسعي المخلصين من أبنائها، إلى ما تصبو إليه من إتمام استقلالها وتوثيق مجدها …
وقد كان هذا الخطاب مكتوبًا بخط يده؛ رحمه الله رحمة واسعة.