مفاوضاتي سنة ١٩٤٦
في منتصف فبراير سنة ١٩٤٦ دعيت لتولي الوزارة بعد أن استقال منها دولة محمود فهمي النقراشي باشا، وقد ترددت كثيرًا قبل القبول؛ لتقدم سني من جهة؛ ولأن النظام الحزبي — وهو وليد النظام البرلماني — كان في رأيي مما يصرف أداة الحكم عن كليات الأمور إلى جزئياتها، وذلك بسبب اشتغال الأحزاب بما يهم كيانها قبل اشتغالها بمصلحة المجموع … على أن حبي لبلدي دفعني آخر الأمر إلى القبول لاعتبارين: أولهما أنني كنت أتوق إلى المساهمة في محاربة الأعداء الثلاثة التي حالت دون تقدم بلادنا العزيزة، وقضت على نشاط الطبقات الفقيرة، وبالأخص في أوساط الريف … وأقصد: الجهل، والفقر، والمرض، والثاني أن همي أن أرى بلادي قد استفادت من نتائج الحرب — وقد ساهمنا في كسبها بشتى الجهود — فنصل إلى تحقيق أهدافنا القومية بمفاوضة الدولة المحتلة فيما هو معلق بيننا من شئون.
وقد كان المتتبعون لمناقشاتي لخطاب العرش في مجلس النواب أثناء كنت عضوًا به، يرون أن أهم غرض لي منها هو دعوة الحكومة إلى العمل لحل المسألة المصرية، إذ كان هذا أوانها لتحقيق أهداف البلاد في الجلاء، ووحدة وادي النيل … وتذكرون أني لما كنت في حيفا مستشفيًا، وحلت الوزارة الاشتراكية في إنجلترا محل وزارة المحافظين بعثت ببرقية طويلة لرئيس مجلس النواب (أظنها لم تعرض على المجلس، وقد نشرت في الصحف) نبهت فيها إلى الفرصة السانحة بحلول قوم مشهود لهم بحب الحرية، بدل قوم رُبوا على حب الاستعمار للبدء في حل القضية المصرية …
لما تقدم من الاعتبارات كان قبولي للحكم فرصة للوصول إلى أغراض طالما نشدتها، وهي تحقيق أهداف البلاد السياسية، والعمل لتحسين حال الطبقات الفقيرة، موطنًا النفس على أن أتركه في اليوم الذي أشعر فيه بأن مهمتي قد صادفها النجاح — فليس من داعٍ إذ ذاك لبقائي — أو منيت بالخذلان، فأصبح من حق البلاد أن يعمل لها من هو أكثر استعدادًا مني … ومن أجل ذلك، ومع المحافظة على التقاليد، طلبت المعاونة من غير رجال الأحزاب من أنست فيهم القدرة على الإنتاج، وقد قاموا برسالتهم خير قيام.
والآن أشعر بأني لم أقصر في أداء الرسالة … أما من ناحية الإصلاح الاجتماعي، فقد وضعت الوزارة التي ألفتها أسسه ولم يبق إلا البناء، وأما من ناحية تحقيق الأهداف القومية، فنظرة منصفة إلى «المشروع» الذي أمضى مني ومن وزير خارجية إنجلترا، تدل على أن مصر كانت قاب قوسين من مطالبها، وسيتبين ذلك مما يأتي من فصول وتفاصيل.
محادثات تمهيدية
ألفت وزارتي في ١٦ فبراير سنة ١٩٤٦، ووضعت في رأس مهمتها السعي لتحقيق الأهداف الوطنية، وأشرت في الكتاب الذي رفعته لجلالة الملك، إلى تأليف الوفد المصري الذي يقوم بمفاوضة بريطانيا العظمى مفاوضة حرة طليقة من كل قيد، تحقيقًا لإرادة الأمة التي أعلنتها إعلانًا.
وقد تألف هذا الوفد في ٨ مارس، أي: بعد تأليف الوزارة بثمانية عشر يومًا، برياستي وعضوية حضرات: محمد شريف صبري باشا، وعلي ماهر باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، وعبد الفتاح يحيى باشا، وحسين سري باشا، ومحمود فهمي النقراشي باشا، وأحمد لطفي السيد باشا، وعلي الشمسي باشا، ومكرم عبيد باشا، وحافظ عفيفي باشا، وإبراهيم عبد الهادي باشا.
وانفردت في أول الأمر بمحادثة السفير البريطاني في منزلي تارة، أو في منزل أحد الأصدقاء لكلينا، أو في السفارة البريطانية أو في رياسة مجلس الوزراء؛ لأن المحادثات كانت تمهيدية للمفاوضات، وكان من شأنها إعداد العدة، وتقريب مسافة الخلف على المبادئ الرئيسية … والسفير البريطاني سير رونالد كامبل، صديق قديم، يرجع عهدي به إلى وقت اشتغاله وزيرًا بدار المندوب السامي حين كنت رئيسًا للوزارة في الفترة بين سنة ١٩٣٠ و١٩٣٣، فقد تحدثنا كصديقين في اجتماعاتنا الخاصة، ولم يكن وفد المفاوضات البريطاني قد تألف بعد …
ومضت ثلاثة أسابيع، ولم تؤلف بريطانيا وفدها للمفاوضات المصرية، وقلق الرأي العام من جراء هذا الانتظار، فلما كان يوم السبت ٣٠ مارس سنة ١٩٤٦ حضر السفير البريطاني لرياسة مجلس الوزراء في زيارة رسمية، فانتهزت هذه الفرصة، وسألته: «متى تبدأ رسميًّا في مفاوضاتنا؟»
قال: «وعدتكم يوم مقابلتنا أول مرة أنني سأتصل فورًا بمستر بيفن لأسأله، وقد اتصلت به فعلًا، ولكن — مع الأسف — لم تصل إلي حتى الآن تعليمات منه، وعند ورود هذه التعليمات سأحيطكم علمًا بها حالًا …» ثم قال: «وعلمت أن عمرو باشا تكلم مع مستر بيفن في شأن المفاوضين البريطانيين، وأن هذا كان بناء على طلب منك …»
فقلت: «أجل كنت أريد أن أحدثك في هذا الموضوع، ولكنك سبقتني إليه، ولعلك تذكر أني قلت لك في مقابلتنا الخاصة إن مسألة المفاوضين من الجانب البريطاني ما زالت «غامضة» علي، وكان يحسن أن أتبينها تمامًا؛ لأن التأخير في ذلك من شأنه أن يخلق في مصر جوًّا لا يتفق مع مصلحة المفاوضة، إذ هي كما لا يخفى يجب أن تجري في جو تسوده الطمأنينة لا في جو تحيط به الريب والظنون … وآسف أن أقول لك إن ريبًا وظنونًا قد نبتت، وبدأت في الظهور بالنسبة لمسألة المفاوضين من الجانب البريطاني، وأنت تعلم أن مصر قد عينت هيئة المفاوضين، واستعدت للمفاوضة من مدة كانت تكفي لأن يظهر من جانبكم مثل هذا الاهتمام، الذي ظهر من جانبنا»، فقال: «الواقع أن المفاوضين، أو بعبارة أخرى الخبراء العسكريين، وكانوا قد عُينوا أو وقع عليهم الاختيار، ولكن حديثك الماضي معي أفهمني أنك لا تريد أن تثار المسألة العسكرية قبل المسألة السياسية، التي لها المقام الأول، وهذا قد غير الوضع بالنسبة للترتيبات التي كنا قد أعددناها، وهي تتلخص في أن يكون معاوني من العسكريين … ولهذا رأيت أنه يحسن أن أتبع طريقة سنة ١٩٣٦، وهي أن يكون معاوني من كبار موظفي السفارة.»
- الأول: أن الشعور بعدم الارتياح ينتشر لا محالة من جراء هذا التصرف؛ لأن مصر جمعت خير رجالها لهذه المفاوضة، وكان أحدهم وصيًّا على العرش، وكثير منهم رؤساء حكومات سابقة؛ وقد فعلنا ذلك لأننا نعلق على نتائج هذه المفاوضات أعظم الأهمية، فمن غير المعقول أن يواجه الفريق المصري وهو مكون على هذه الصورة؛ بموظفين من السفارة!
- الثاني: أن الناس في مصر يعتقدون، ولا ينسون أن السياسة التي اتبعت في العهد
الأخير لا سيما في زمن الحرب (وهي سياسة لم تترك في نفوسهم أثرًا
طيبًا)، قد اشترك في وضعها وتنفيذها رجال السفارة، الذين تريدهم
معاونيك السياسيين …
إني أعرفهم شخصيًّا وأقدرهم، ولكن هذه العقيدة سائدة عنهم في نفوس المصريين، ومن الصعب جدًّا إزالتها؛ فضلًا عن أني كنت قد سمعت من عمرو باشا أنه سيكون معكم في المفاوضة رجال من ذوي الخبرة والعلم بشئون الشرق، وأذكر أنه ذكر لي أن مستر هاو وكيل وزارة الخارجية لشئون الشرق الأوسط، قد فكر في تعيينه مفاوضًا معكم؛ ولهذا أرجو أن تعيدوا النظر في الموضوع كله حتى تسهل مهمتي.
- الثالث: أنه لا تجوز المقارنة بين مفاوضات سنة ١٩٣٦، والمفاوضات التي تجري في سنة ١٩٤٦ … ذلك لأن الأولى كانت تجري على أسس مباحثات، ومشروعات اعتبرناها خطوة، أو مرحلة في طريق الاستقلال، لا الاستقلال نفسه، أما اليوم فنحن في نهاية المراحل، ولهذه المفاوضات نتائج حاسمة، ومن أجل ذلك يحسن جدًّا أن يعطيها الجانب البريطاني الاهتمام الذي يتفق وطبيعتها وخطر آثارها، كما أعطيناها نحن من جانبنا.»
ثم قلت: «هل تريد أن أتصل عن طريق عمرو باشا بمستر بيفن؟ أم يكفي أني أدليت إليك بهذه الاعتبارات كلها؛ لتعمل من جانبك على علاج الأمور، ووضعها في نصابها الصحيح؟»
قال السفير: «الواقع أن مستر بيفن غير مسئول عن الوضع الحالي للأمور، بل أنا المسئول عنه؛ لأن التعليمات التي أعطيت لي كانت تقضي بأن يكون إلى جانبي عدد من كبار العسكريين، فلما فهمت منك أنك تحب أن يكون معي سياسيون في المفاوضة، ورأيت عندي موظفين يعاونونني في السفارة، ويفهمون تمامًا المسألة المصرية، فكرت فيهم، أما وقد بينت لي وجهة نظرك والاعتبارات التي تلابس الموقف، فإني سأتصل بمستر بيفن وأحيطه علمًا بالتفاصيل، وأتلقى منه تعليماته الجديدة التي سأبلغها إليك»، فقلت: «حسن، وأرجو ألا يتأخر ورود هذه التعليمات، إني في الواقع أرتاح إلى المفاوضة معك وحدك، ولكني أفضل أن يرسل إليك من وزارة الخارجية البريطانية من يمثل الناحية السياسية، ويتفق وأهمية المفاوضة.»
قال: «سيكون هذا ما أعرضه.»
قلت: «ورجائي أن يكون الرد سريعًا؛ لأنك تعلم أن وقتًا طويلًا قد ضاع في الانتظار.»
فقال: «أرجو هذا، ولكن هل ترى أن كبيرًا واحدًا من وزارة الخارجية يكفي.»
قلت: «لا بأس عندي …»
هذا ما جرى بيني وبين السفير البريطاني في ٣٠ مارس، وقد فهم سعادته من هذا الحديث أن الحكومة البريطانية لا يمكن أن تثبت لمصر احترامها إياها، إلا إذا عينت فورًا وفدًا كبير الشأن لمفاوضة وفدها المصري، وإلا إذا أظهرت لها عنايتها واهتمامها، وحسن نواياها في الوصول إلى حل المسألة المصرية حلًّا عادلًا.
اقتراحات بريطانية قبل المفاوضات
توجهت في صباح يوم ٢ أبريل سنة ١٩٤٦ إلى السفارة البريطانية لأرد الزيارة للسفير البريطاني، فبادرني سعادته بأن لديه خبرًا سارًّا، ذلك أنني كنت أبديت له في زيارته الأخيرة لي، الامتعاض الذي سببه عدم تعيين المفاوضين البريطانيين، فلما اقترح أن يكون المفاوضون السياسيون من موظفي السفارة اعترضت على ذلك، فقام بمساعٍ لدى مستر بيفن في هذا الشأن، واستطاع أن يخبرني أن مستر بيفن سيلقي هذا المساء في مجلس العموم تصريحًا يعلن فيه تعيين المفاوضين البريطانيين، وأنه سيحتفظ لنفسه برياسة الوفد البريطاني، غير أنه سيعتذر في الوقت الحاضر بسبب الحالة السياسية، وسينتهز مستر بيفن أقرب فرصة للحضور بنفسه إلى مصر.
أما المفاوضون الآخرون فعلمت أنهم سيكونون حضرات: لورد ستانسجيت وزير الطيران، وسير رونالد كامبل، وسير كيناهان كورنواليس السفير السابق، والمتولي الشئون الاقتصادية للشرق الأوسط، ومستر رونالد أوفرتون مدير إدارة الشرق الأوسط بالسفارة، والأميرال تينانت القائد العام لأسطول الشرق الأوسط، والجنرال باجت القائد العام لجيش الشرق الأوسط، وماريشال الطيران ميدهرست، وربما زيد عليهم الجنرال جاكوب من هيئة أركان الحرب العامة (وقد ضُم فعلًا إلى الوفد واشترك فيه.)
درست المسألة المصرية في لندن من جميع وجوهها كما سيشرحه لي الآن، ويرغب مستر بيفن في أن يبين له السفير رأيي في الاقتراحات البريطانية؛ لأنه يريد ألا يتصل الوفد البريطاني بالوفد الرسمي المصري قبل أن يعرف شيئًا عن وجهة النظر المصرية، مما قد يؤدي إلى صعوبات لا مخرج منها؛ لذلك عني السفير بناء على تعليمات لندن بأن يبين لي وجهة النظر البريطانية، راجيًا الوقوف على رأيي التمهيدي في هذا الموضوع بدون ارتباط أحد الطرفين، على أن تدرس هذه المسائل بصفة رسمية فيما بعد.
إن الحكومة البريطانية لا تفكر في اتفاق ثنائي يرمي إلى استخدام قواعد في الأراضي المصرية للدفاع عن الإمبراطورية البريطانية، أو لمواجهة اعتداء يقع على مصر فقط، بل هي تفكر في تدابير مشتركة على أساس سلامة جميع الدول، التي لها مصالح حيوية في الشرق الأوسط، وبخاصة بلادينا.
إن بريطانيا العظمى مستعدة لبحث مسألة العلاقات بين البلادين من الوجهة الاستراتيجية بطريقة جديدة، من شأنها إلغاء معاهدة سنة ١٩٣٦؛ ليحل محلها اتفاق أوسع في نطاق هيئة الأمم المتحدة.
والغرض المحدد الذي ترمي إليه بريطانيا العظمى في كل اتفاق من هذا القبيل سيكون موضوع مفاوضات عملية، وقد يكون ضروريًّا إيجاد الفرصة لدول الشرق الأوسط الأخرى؛ للانضمام إلى هذا الاتفاق الذي يرمي إلى المحافظة على السلامة.
وهذا الاتفاق يقضي بالطبع أن ترابط القوات البريطانية في جهات تمكنها من مراقبة كل تهديد بالاعتداء على الشرق الأوسط، وهذا يعني — في رأي الحكومة البريطانية — أنه يجب في أيام السلم العادية، إبقاء قاعدة تكون نواة لقوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط، فينبغي الوصول إلى وسيلة من شأنها تحقيق هذا الوضع، أو حل المشكلة دون مساس بسيادة مصر أو بكرامتها القومية.
وقد درست الحكومة البريطانية بعناية خاصة هذه المسألة؛ لأن لها أهمية أساسية من الوجهة الاستراتيجية لسلامة مصر والشرق الأوسط؛ ولأن الحكومة البريطانية ترغب في إجابة مصر إلى تعديل معاهدة سنة ١٩٣٦ بدون إبطاء.
ولذلك تقترح الحكومة البريطانية سحب الوحدات، والمنشآت العسكرية والبحرية والجوية من القاهرة والإسكندرية.
وبعد دراسة عميقة للموضوع، واستشارة الرؤساء العسكريين للأسلحة الثلاثة، رأت الحكومة البريطانية أنه لا يمكن صد أي اعتداء موجه إلى الشرق الأوسط دون وجود قاعدة مناسبة في جوار قناة السويس مما يقتضي إبقاء منشأة عسكرية في منطقة القناة لتكون نواة، ويتوقف تحقيق هذا الغرض إلى درجة كبرى على مصر نفسها.
لذلك فإن الحكومة البريطانية شديدة الرغبة في الوقوف على رأي رئيس الحكومة المصرية شخصيًّا قبل البدء في المفاوضات الرسمية.
وهناك حل يجوز اقتراحه على رئيس الوزارة المصرية، من شأنه أن تؤجر مصر لبريطانيا العظمى قطعة من الأرض في منطقة قناة السويس، تبقى تحت السيادة المصرية بموجب اتفاق يوضع على غرار الاتفاق، الذي خول الولايات المتحدة قواعد في النصف الغربي من الكرة الأرضية، مثل القواعد القائمة في جزائر برمودا، ونيوفوندلاند.
ومن الممكن أيضًا الوصول إلى اتفاق إقليمي على اعتبار إبقاء القاعدة البريطانية؛ بناء على طلب مشترك من دول الشرق الأوسط صاحبة الشأن.
ثم قال السفير: إن هذه الحلول ليست سوى اقتراحات من الجانب البريطاني، وإذا كانت لي اقتراحات في هذا الشأن، فإن الحكومة البريطانية يسرها الوقوف عليها، وأكد السفير أن الجانب البريطاني لا يرمي إلى تقييد رئيس الحكومة المصرية بأي قيد، من الآن، بل يرى أن مصلحة الطرفين الكبرى هي الوصول إلى تفاهم مشترك في هذا الشأن قبل بدء المفاوضات الرسمية.
وسألني السفير إذا كان في استطاعتي أن أفضي إليه برأي في الحال، إذ إنه من المهم البدء في العمل في أقرب وقت ممكن … فأجبته بأن أهمية بيانه لا تسمح لي بأن أبدي له رأيي في الحال، وتدعوني للرد عليه كتابة؛ لأن الموضوع يتناول اقتراحات في صلب المفاوضات، وهذا لا يمنعني من القول الآن: إن اعتزام الجانب البريطاني احترام سيادة مصر وكرامتها من شأنه أن يساعد على إيجاد حلول، تتفق ومطالبنا القومية، بالرغم من صعوبة التوفيق بين هذا الاعتزام والاقتراحات الآنفة الذكر.
واتفقت مع السفير على أن أوافيه بإجابة شخصية حين يزورني في رياسة مجلس الوزراء يوم الإثنين المقبل؛ لنتبادل وجهات النظر، وقال السفير: «إن هذا الحديث شخصي بحت»، فأجبته بأني سأعتبره كذلك إلا فيما يختص بشخصين يجب إطلاعهما عليه، وهما: جلالة مليكي الذي يجب أن يكون على علم به، ووزير الخارجية المصرية الذي له الحق في أن يكون أول من يحاط به علمًا، والذي يجب علي استطلاع رأيه.
ردي على المقترحات البريطانية
وزارني السير رونالد كامبل يوم ٤ أبريل سنة ١٩٤٦، فسلمته مذكرة تحوي ردي على اقتراحات الحكومة البريطانية، التي أفضى بها سعادته إلي في الحديث السابق …
وتتضمن هذه المذكرة الرد على مسألتين هامتين: الأولى مسألة بقاء قوات عسكرية بريطانية في منطقة القنال بطريق منحها قواعد داخل حدودها، أو بطريق تأجيرها جزءًا من أراضيها لهذا الغرض.
والمسألة الثانية هي ما تناولته الاقتراحات البريطانية من الرغبة في إشراك بعض بلاد الشرق الأوسط، التي يهمها أمر الدفاع عن هذه المنطقة في معاهدة جديدة تكون أوسع مدى من اتفاق ثنائي تعقده بريطانيا ومصر وحدهما.
ويتلخص الرد عن المسألة الأولى فيما يأتي:
«مهما كان الوصف القانوني الذي يمكن أن يسبغ على بقاء قوات أجنبية في أوقات السلم في مصر، فإن مجرد وجودها على هذه الحالة هو رمز للسيطرة مباشرة أو غير مباشرة، على أن تلك النظريات القديمة التي كان التسليم بها في الماضي أمرًا عسيرًا قد أصبحت اليوم مما لا يمكن التسامح فيه، بعد حرب كان من أغراضها الرئيسية ضمان حرية الشعوب.
ولا يمكن أن يتصور المرء وجود اتفاق يحقق رغبات الشعب المصري، ثم يسجل هذا الاتفاق في صورة ما بقاء قوات أجنبية في الأراضي المصرية!
نعم إنه مما لا شك فيه أن الحكومة البريطانية قد منحت الولايات المتحدة الأميركية قواعد حربية في جزر نائية عن أرض الوطن الأصلي (الجزر البريطانية)، ولكن لو أن اتفاقًا من هذا القبيل المبرم بين هاتين الدولتين العظيمتين عقد بين مصر وبريطانيا، وشمل جزءًا من أرض الوطن، لكان له مدى ومعنى مختلفان كل الاختلاف!
ثم إن مبدأ الأمن المشترك الذي قررته هيئة الأمم المتحدة لا يشمل تدابير عسكرية وقائية، كأن ترابط قوة عسكرية أجنبية في أرض دولة أخرى في وقت السلم … فإن على كل دولة أن تحقق الأمن في أرضها بواسطة قواتها الوطنية المسلحة …
ثم إن اتفاقية سنة ١٨٨٨ تنسجم تمامًا مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فيجب احترامها وتطبيقها من جديد ضمن حدود هذا الميثاق تحت إشراف مجلس الأمن … على أن مصر سوف لا تقصر في أن تتخذ بنفسها كافة وسائل الدفاع الضرورية عن قناة السويس، متى استردت حريتها التامة، وذلك بأن تهيئ لقواتها العسكرية النمو الذي يدعو إليه مركزها …»
أما المسألة الثانية، وهي الخاصة باتفاق يشمل مصر وبعض بلاد الشرق الأوسط، فيتلخص ردي عليها في تلك المذكرة بأن رأى الجانب المصري كان منصبًّا دائمًا على عقد اتفاق ثنائي بين بريطانيا ومصر، وإني أفضل هذه الطريقة على الطريقة المعروضة الآن التي تتضمن اشتراك بعض دول الشرق الأوسط في المحالفة البريطانية المصرية، وإني شخصيًّا لا أؤيد فكرة إنشاء اتفاقات تشمل تعهدات سياسية وعسكرية بين مصر، وبلاد جامعة الدول العربية، فإن هذه الجامعة إنما أنشئت في الواقع على أساس رابطة الأخوة بين أعضائها، الناتجة من التشابه في الجنس واللغة والتاريخ المشترك، وموقع البلاد الجغرافي، وهذه الأخوة تعفي الدول المذكورة من الالتزام بأن تبرم بينها معاهدات سياسية أو عسكرية معينة.
وإني أرى — ولو أن مصر تتمتع في هذه الجامعة بنفوذ خاص، ومركز أدبي ممتاز — أن يتعين عليها أن تعمل مستقلة عن غيرها من هذه الدول الصديقة؛ لتسوية علاقاتها مع بريطانيا العظمى، وذلك لاعتبارات لا محل للتحدث عنها الآن … وأن العلاقات بين بريطانيا العظمى ومصر إذا استقرت على قواعد سليمة ومرضية، فإن نفوذ مصر في الشرق الأوسط سيعمل في هذه الحالة بكيفية من شأنها أن تجلب لبريطانيا، بل للدول العربية نفسها كثيرًا من المنافع والمزايا.
هذا وقد أعربت في هذه المذكرة عن أن الجانب المصري يرى أن تكون العلاقات بين مصر وبريطانيا في حالة، تسمح بتحقيق تحالف بين البلدين يكون مشبعًا بروح الصداقة المتبادلة، وأنه لا يمكن تحقيق هذا التحالف إلا بعقد معاهدة جديدة على نمط المعاهدات، التي أبرمت منذ سنة ١٩٤١ بين دول مختلفة، وأن تشمل هذه المعاهدة التزامًا من الطرفين بأن يقدم كل منهما للآخر في حالة نشوب حرب لم يثرها أحدهما كل تعضيد حربي وغيره، وذلك إلى أن تنشأ الوسائل التي يقررها مجلس الأمن من أجل المحافظة على السلام.
ورأيت أن تتفق السلطات العسكرية في كلا البلدين على كيفية تبادل هذا التعضيد، وتلك المساعدة، وعلى ذلك يجب أن تهيأ في أوقات السلم وسيلة لتحقيق التعاون بين هيئتي أركان حرب الدولتين، وأن مصر لم تغفل عما لبريطانيا من خبرة في هذا الشأن، وما لها من وسائل لتنفيذه، ولكن يجب أن يكون مفهومًا أن هذا الاستعداد لن يؤدي بأية حال إلى مرابطة قوات أجنبية في الأراضي المصرية في أوقات السلم، بل بالعكس «يجب أن يشمل الاتفاق الجديد نصًّا يتضمن انتهاء الموقف الحالي، وذلك بجلاء القوات البريطانية جلاءً تامًّا عن مصر.»
هذه هي خلاصة المذكرة التي قدمتها إلى السفير البريطاني ردًّا على اقتراحات الحكومة البريطانية قبل البدء في المفاوضات، وقد فهم السفير أن لا أمل في اتفاق مع مصر إذا لم يكن أساسه الجلاء التام برًّا وبحرًا وجوًّا، في غير احتفاظ على أرض مصر بأية قوة بريطانية مدنية كانت أم عسكرية …