أولى مقابلاتي للورد ستانسجيت
١٨ أبريل سنة ١٩٤٦
تحدثت في المقال الماضي عن تأليف الوفد البريطاني، وكيف نقل لي سعادة السفير نبأ تأليفه على أثر اعتراضي على تأخيره نحو ثلاثة أسابيع عن تأليف وفد المفاوضة المصري … وفي ١٥ أبريل حضر الوفد البريطاني بالطائرة، وقد تخلف رئيسه مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية لمشاغله الدولية الأخرى، وأناب عنه اللورد ستانسجيت.
وبعد يومين من حضور هذا الوفد زارني بمنزلي بالزيتون اللورد ستانسجيت والسير رونالد كامبل، فقلت لهما: «أحييكما في بلد صديق، ومنزل صديق»، فشكرا هذه العبارة.
ثم قلت للورد: «أسمع عنك منذ سنة ١٩١٩ بعد الحرب الماضية، حينما كنت وسعد زغلول وباقي أعضاء الوفد المصري بباريس نسعى للاستقلال، وربما يدهشك أننا إذ ذاك وضعنا بعض آمالنا فيك إذ كنت تخطب في مجلس العموم مدافعًا عن مصر، وعن مبادئ الحرية»، فقال: «نعم حصل أن كنت مدافعًا عن حق الشعوب، وكنت قد زرت مصر إذ ذاك محاربًا.»
فقلت له: «إذن، فأنت تفهم كيف كنا نعلق بك الآمال، والآن لست مناط آمال فحسب، بل أنت مناط حقائق بتوليك المفاوضة.»
فتأثر لهذه الجملة، وشكر … وهنا سلمته وسلمت السفير مذكرة كنت أعددتها في ٢٥ مارس باسم الوفد الرسمي المصري قبل اضطلاعه بأعباء المفاوضات، تتضمن وجهة النظر المصرية في معاهدة سنة ١٩٣٦، وفي الوضع السياسي للمسألة المصرية بالنسبة لميثاق هيئة الأمم المتحدة، وما يوجبه هذا الميثاق من وضع حد للحالة الحاضرة بسحب القوات البريطانية من مصر سحبًا نهائيًّا كاملًا … وقلت للورد: «لقد سبق لي أن أخبرت السفير بأني سوف أقدم هذه المذكرة، فها هي ما دمت قد حضرت للمفاوضة الرسمية.»
ثم استأنفت الحديث قائلًا: «لقد تبادلت مع السفير مذكرات أخرى، بل لقد حدثته في أول مقابلة بيننا عن الوضع الإنساني والنفسي للمسألة المصرية، أما المذكرة الحالية، فهي عن الوضع القانوني والسياسي لمطالب مصر، وقد سبق للسفير أن عرض علي وجهة نظر حكومتكم مما دونه في مذكرة رددت عليها بمذكرة أخرى، وقال لي السفير: أن رد الفعل الذي نتج من مذكرتي ستفضون به أنتم إلي … وها أنا ذا في الانتظار.»
فقال اللورد ستانسجيت: «هي فرصة أتيحت لي؛ لكي أعبر لكم عن تقديرنا، فقد اطلعت على تلك المذكرة، وأدركت الروح الطيبة التي تملي عليكم شعوركم.»
ثم قال اللورد: «وكيف ترون أن يكون ترتيب عملنا وطريقته؟»
قلت: «كنت أود أن أعرف أولًا رد الفعل الذي نجم عن مذكرتي الأولى، وهو ما لا أزال أنتظره … والآن وقد أصبح لديكم مذكرتان لا مذكرة واحدة، كنت أحب قبل أن ندخل في الدور الرسمي من المفاوضات أن أظفر منكم برأي فيها، وقد سبق للسفير أن قال لي: إن حكومتكم تود لو أن أعمالنا لا تؤدي إلى مأزق — وهذا حق — ومن أجل ذلك أطلب إليكم حديثًا خاصًّا، نتفاهم في غضونه عما إذا كان مبدأ المفاوضة يحقق أو لا يحقق هدف مصر الأساسي وهو: الجلاء.»
فقال اللورد: «إني أرى أن ذلك من حقك، وإني مستعد لهذا الحديث، ويبدو لي من الروح السائدة أننا سنتفق.»
فقلت: «إذن فلنحدد الوقت، والوقت رهن بك إن كنت مستعجلًا أو غير مستعجل»، فقال: «أنا لست بمستعجل، وليس عندي من المشاغل إلا القضية المصرية.»
قلت: «هذا هو أيضًا شأني، فإنني كرست جهودي كلها لهذه القضية، وأملي معقود بنجاحها في مفاوضة ودية معكم، فلا شك أن رفع الأمر إلى جمعية الأمم فيه تحقيق لأهداف مصر.»
وهنا تفاهمنا على أن يكون الاجتماع بعد يومي الأحد والإثنين؛ لأنهما من أيام الأعياد، واتفقنا على أن يكون الاجتماع يوم الثلاثاء المقبل، وقلت له: «ومع هذا فإني مستعد للتكلم معك في أي وقت قبل ذلك؛ لأني لا أريد أن أطيل الوقت الذي يسبق الإفضاء بحقيقة المركز، والموقف لزملائي أعضاء الوفد الرسمي.»
وهنا كرر اللورد ستانسجيت أن المسألة في نظره هينة؛ لأننا إذا كنا متفاهمين على النقطة الآتية، وهي: «أن نكون صديقين متحالفين»، فلم يبق إلا كيف يؤدي كل منا واجباته، وتصبح المسألة مسألة خبراء يبدون آراءهم في كيف يؤدى واجب الدفاع من جانبنا.
فقلت له: «إن المسألة ليست فقط مسألة دفاع، بل مسألة صداقة، والصداقة إذا أردتموها من جانب مصر، لن تكون إلا مع احترام كرامة مصر، وقد أجمع المصريون على أن احترام كرامتهم لن يكون إلا إذا جلت القوات الأجنبية جلاءً تامًّا من أرضهم!»
فقال: «نعم، نعم، أنا أفهم ذلك»، وقال للسفير بجواره: «ألا تفهم ذلك مثلي؟» فهز السفير رأسه، ولم يجاوب!
فقال اللورد ضاحكًا: «خذ بالك، فإن الصحن به حلوى، ولا أظن أنك تنظر إلى الاحتلال كأنه صحن حلوى!»
وضحكنا جميعًا … وكانت هذه العبارة مثارًا لبعض المرح، ثم عدنا إلى عبارته إذ تكلم عن الخبراء، فقلت: إن لخبرائك أن يبحثوا عن وسائل ضمان الدفاع، ولكن يجب أيضًا من جانبكم وأنتم السياسيون أن تتنبهوا إلى أن المسألة ليست مسألة دفاع فقط، بل مسألة تفاهم وصداقة، فإذا كانت وسيلة الدفاع في نظركم بقاء قوة أجنبية، فقد تظفرون بالدفاع، ولا تظفرون بالصداقة.
«يجب أن يفهم الخبراء ذلك، حتى لا يرتبوا وسائلهم على أي وضع من أوضاع الاحتلال.»
فقال اللورد: «فهمتك جيدًا، وإن خبراءنا هم من جنود الزمن الحديث، الذين يدركون كل الحقائق إلى جانب حقائقهم.»
وهنا أسهبت فيما سبق أن نبهت إليه السفير من أنه كما لبريطانيا أن تتبين واجباتها، فإن لمصر أن تتبينها أيضًا، ومصر قد وطدت العزم على أن تؤدي واجب الدفاع عن نفسها في نطاق هيئة الأمم المتحدة، وسوف تقوم بهذا الواجب إذا لم تتعثر كما كان الشأن في الماضي في سياسة لا تستند إلى الحقائق.
وقلت له أيضًا: «إن مصر دلتكم على حسن نياتها في الحرب الماضية …» فقاطع اللورد وقال: «إنكم قمتم بنصيبكم أحسن قيام.»
واستأنفت عبارتي قائلًا: «إن من دلائل حسن نيتنا أننا كنا نستطيع — وهذا رأي الكثيرين — أن نتحلل من كل الواجبات نحوكم، ونكتفي بالواجبات التي فرضتها علينا وعليكم جمعية الأمم المتحدة، ولكن المسئولين في بلادنا يرون أن نحتفظ بصداقة بريطانيا وحلفها، وأن نجعل منها احتياطًا للمستقبل، خصوصًا وأن بيننا من الأواصر ما يجعل كل حلف بين دولتينا مؤديًا لنفع محقق.»
فأبدى اللورد ارتياحه للروح، التي أملت رغبة المصريين في الاستمرار في التحالف مع إنجلترا، وقال: «إن روحًا كهذه سوف تؤدي إلى الخير …»
منطقة القنال
رغب اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني في مقابلتي من جديد، وهي رغبة أبديت باسميهما تليفونيًّا مساء الأمس بعد أن قابلاني في اليوم نفسه.
زارني الاثنان في الساعة الحادية عشرة من صباح ١٩ أبريل زيارة خاصة بمنزلي بالزيتون، ودامت المقابلة حتى الساعة الثانية عشرة والثلث، وتناول السفير الكلام قائلًا: «قد جاء في مذكرتك المؤرخة ٤ أبريل أن مصر إذ تطلب الجلاء التام، لا تغفل عن أن المحالفة التي تقوم بينها وبين إنجلترا تستدعي في وقت السلم أن يكون هناك تفاهم بين أركان حرب الدولتين في الوسائل، التي تضمن أن يكون الدفاع محققًا تمامًا لأغراضه»، ثم قال: «وقد زدت على ذلك أن مصر ستحرص على الاستفادة من خبرة بريطانيا، ومن وسائلها الكبرى …» ثم أضاف السفير: «ولقد كانت هذه الجملة محل بحثنا عسكريين وسياسيين، وبذلنا الجهد حتى نوفق بين آرائكم الشخصية، وما تقتضيه واجبات الدفاع بالنسبة لنا … ومن أجل ذلك أعددنا المذكرة التي أسلمها الآن لكم، والتي نرجو أن تقرأها الآن (وهي مذكرة من صفحتين مكتوبة بالإنجليزية)، وقد قرأنا نحن الثلاثة المذكرة في اجتماعنا، وكانت محل بحثنا الشفوي، ومحل أخذ ورد من كل منا، وتتلخص هذه المذكرة البريطانية فيما يأتي:
«إن الغرض الذي تسعى إليه بريطانيا في معاهدة التحالف الجديدة هي توطيد الصداقة، التي نشأت بين البلدين منذ أمد بعيد … وإنه لمن الممكن أن يهدد أمن مصر، ومجموعة الأمم البريطانية تهديدًا حيويًّا بهجوم يشن على منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما تبين بشكل نهائي خلال حربين … وأن الأمم الصغيرة مهما دافعت عن نفسها بصلابة، لا تتاح لها فرصة في الحرب الحديثة ضد دولة معتدية قوية ما لم يكن في مكنتها أن تتلقى عونًا كاملًا ومباشرًا، لا بد أن تعد له العدة في وقت السلم، من دولة ذات قوة حربية واقتصادية فعالة بالقياس إلى الدولة المعتدية؛ ولذلك ينبغي أن تتحقق مصر من معونة مباشرة أمام تهديد خطير.
- (١)
ستسحب كافة القوات البريطانية البحرية المقاتلة، وكافة القوات المحاربة التابعة للجيش البريطاني من مصر كلية، وسينفذ هذا الانسحاب وفق برنامج، وستسحب كافة أسراب سلاح الطيران الملكي البريطاني، ولو أنه يقترح بقاء عدد قليل من أسراب الطائرات المقاتلة في منطقة القناة؛ للتعاون مع سلاح الطيران الملكي المصري في إعداد دفاع جوي.
- (٢)
ينبغي أن ينص في المعاهدة على تقديم المعونة المشتركة، وأن تتعهد الحكومة المصرية بإيجاد التسهيلات لقاعدة إدارية متحالفة …
- (٣)
سيكون من الجوهري وجود مركز قيادة متحالفة؛ لتنسيق تدابير الأمن في كافة أنحاء الشرق الأوسط، ويقترح أن يكون مركز هذه القيادة في منطقة القناة، وأن تقدم الحكومة المصرية لقوات الحكومة البريطانية تسهيلات للمرور في هذه المنطقة كلما دعت الحاجة.»
تلك هي خلاصة المذكرة البريطانية، التي قدمها اللورد ستانسجيت والسفير البريطاني، فقلت لهما: «يلوح لي أن الإجراءات التي تشير إليها هذه المذكرة يمكن أن تنفذ خارج مصر، وعندكم حول البلاد المصرية أراضٍ وبلاد، إما تحت حكمكم أو تستطيعون بنفوذكم أن ترتبوا فيها مثل هذه الإجراءات، فهل لم تفكروا في ذلك؟»
قال السفير: «يعتبر العسكريون عندنا أن النقطة التي يجب أن تكون عصب الدفاع هي منطقة القنال، وهذا رأى خبرائنا، وهو رأي تقره الحكومة البريطانية.»
قلت: «أليست فلسطين، وهي في حدود منطقة القناة تصلح للأغراض التي تتوخونها؟ وبينما هذه الأغراض ستكون بطبيعة الحال في نطاق ضيق إذا ما نفذت في أراضينا، فإنها ستكون في نطاق واسع في بلد تسيطرون عليه كفلسطين.»
قال السفير: «يرى الخبراء أن الغرض ليس حماية القناة نفسها بقدر اعتبارهم منطقة القناة من الناحية الاستراتيجية، كمنطقة صالحة لتركيز الدفاع كله.»
وقال اللورد ستانسجيت: «إن نقطة القناة هي الوحيدة التي تحكم الشمال والجنوب، ولها منافذ على البحرين.»
قلت: «لا أفهم، وقد عبرتم عن نقطة الطيران بأنها معدة لإيواء عدد قليل من الطائرات المقاتلة، أن يكون هذا العدد هو الذي يدفع الاعتداء، بل لا بد من أن يأتي العدد الأكبر من الطائرات، التي تتولى الدفاع عن مطاراتكم الأخرى الموجودة في غير مصر.»
قال السفير: «الغرض هو أن طائراتنا الأخرى تجد المكان اللائق عند حضورها لاستقبالها.»
قلت: «أليست مطاراتنا المصرية — ونحن حلفاء — ستستقبل طائراتكم القادمة في حالة الحرب، وهذه المطارات ستُعد بالاتفاق معكم، وبآراء متبادلة بين أركان حرب الدولتين؟ فما الفائدة من هذا الوضع الذي لا يُفهم منه إلا الرغبة في أن تكون لكم قواعد عسكرية في الأراضي المصرية؟ يضاف إلى ذلك أنكم تتكلمون أيضًا عن قاعدة تسمونها «قاعدة إدارية للحليفتين»، وتشمل هذه القاعدة التي تسمونها «إدارية» مطارات، وإشارات، واستعدادات رادار، ودورًا للصناعة … إلخ ولو أنكم تقولون: إن هذه القاعدة الإدارية ستغذى بالخبراء، فإن لها كل صفات القاعدة العسكرية، خصوصًا وأنتم تتكلمون أيضًا عن استعدادات لبعض التسهيلات الحربية.»
وهنا قال السفير واللورد: «الحقيقة أن خبراءنا العسكريين حريصون الحرص كله على أنه في حالة وقوع الحرب، تجد القوى البريطانية استعدادًا قائمًا لاستقبالها وتلقيها، وهذا حاصل الآن في نطاق واسع، ونود أن يكون مفهومًا أن هذا ليس احتلالًا، بل هو استعداد تقوم به الحليفتان يقتضيه الموقف الحربي الذي يمكن أن يكون كبير الخطر.»
قلت: «إني لا أرى فرقًا يذكر بين مذكرة اليوم ومذكرة السفير السابقة، وإن كانت مذكرة اليوم ذات صبغة فنية تدعوني إلى استشارة الخبراء المصريين، ومهما يكن من أمر أحاديثنا التي سميت خاصة، فإنني الآن في اضطرار لمكاشفة خبرائنا.»
قال السفير واللورد: «إننا نفهم ذلك تمامًا، على أن نظل نحن وأنت في النطاق الخاص للأحاديث.»
قلت: «إن هذا الطابع «الخاص» للأحاديث لا أستطيع استبقاءه طويلًا، وأنا في حاجة لمكاشفة زملائي.»
قال السفير: «نحن نرجو أن تؤخر هذه المكاشفة حتى يكون لنا معك حديث آخر.»
قلت: «إذن ستتلقون مني ردًّا يوم الأحد أو الإثنين بعد استشارة الخبراء؛ حتى لا أؤخر كثيرًا مكاشفة الزملاء.»
وهنا انتقلت من الحديث الفني العسكري إلى الوضع السياسي، وقلت لهما: «أنتم لا تدركون تمامًا — على ما يظهر لي — الوضع السياسي في البلاد، وكيف يتأثر تأثرًا خطرًا وخطيرًا بالتصميم على أوضاع هي مهما صورتموها، وحاولتم صبغها بصبغة تظنونها مقبولة، فهي الاحتلال بعينه، بل الاحتلال الذي لا لزوم له! إن البلاد الآن في حالة غليان فكري، وإذا كان هذا الغليان لم ينتقل بعد إلى حالة من العنف، فالفضل في ذلك للإجراءات والتدابير التي تقوم بها الحكومة.
«نعم إن بالبلاد الآن هيئات متعددة متنوعة، وكلها في حالة تحفز، ومن هذه الهيئات ما هو سياسي، ومنها ما هو لطوائف صاخبة، كالطلبة، والعمال، ومنها هيئات متعددة اشتراكية واجتماعية من أولئك الراغبين في تحسين أحوال الطوائف الفقيرة، ومنها الهيئات السرية للشيوعيين وغير الشيوعيين — كل هذا ينذر بانفجار إذا لم تجب مطالب البلاد، وإني لمندهش كيف لا تزالون تصرون على أوضاع أرى شخصيًّا أنها أوضاع لا لزوم لها، بينما في استطاعة مصر أن تقوم بواجبها من ناحية الدفاع في أحسن ما يمكن من الأوضاع؟!»
وكان هذا نهاية الحديث، وقد تأثر اللورد ستانسجيت، والسفير من وصفي للحالة الفكرية التي عليها مصر الآن.
٢٢ أبريل سنة ١٩٤٦
ذهبت إلى قصر الزعفران في منتصف الساعة الحادية عشرة صباحًا — وأذكر أنه كان يوم شم النسيم — فوجدت السفير واللورد في انتظاري، وبعد تبادل التحيات سلمتهما مذكرة الخبراء المصريين العسكريين ومذكرتي السياسية، وكلتاهما بتاريخ ٢١ أبريل، وقد أمضيا وقتًا في قراءة المذكرتين، وهما قاطعتان في رفض جميع المقترحات البريطانية التي اشتملت عليها مذكرة ١٩ أبريل، وكان عجيبًا أنه على الرغم من جنوحي إلى بعض الشدة في عبارات المذكرة السياسية لم يحاولا مناقشتها، بل اكتفى اللورد بأن اعترض على ما جاء بمذكرة الخبراء المصريين خاصًّا بفرقة الطيران، فقال: «إن اقتراحنا وجود هذا الفرقة بالأراضي المصرية هو؛ لأن مجيئها من مسافات بعيدة قد يرهقها، ويوهن قوتها قبل أن تنزل إلى الميدان»، فقلت: «إن خبراءنا لا يقصدون إلا أن تبقى هذه الطائرات في طريق الغزو؛ لتعترض سبيل الطائرات المعادية إلى مصر.»
فقال اللورد: «ولكن طائرات الغزو قد تحضر إليكم من مكان ليس ببعيد، فهم يتحدثون الآن عن إنشاء قاعدة لروسيا بالدردنيل، وهي البقعة التي تستطيع روسيا أن تشرف منها على البحر المتوسط.»
فقلت: «إن مطالب روسيا بحسب ما يلوح لي إطلاق حرية المضايق، وليس إنشاء سيطرة عليها تعطى لدولة من الدول، وهذا هو موقفها على ما يقولون بالنسبة للقناة، ولا شك عندي أن تركيا — فوق معارضتكم ومعارضة الولايات المتحدة — لا تقبل أن تكون لروسيا قاعدة حربية على الدردنيل، وسياسة روسيا قائمة على الإيهام والتهويش، لا على التنفيذ والعنف!»
وبعد ذلك انتقل الحديث إلى موضوع القاعدة التي يسمونها «إدارية»، وكان المتحدث في الغالب هو السفير، فقال: «إنه ظاهر من حديثك أول أمس، ومن مذكرتك الحالية، أنكم لا تزالون تعتقدون أن لإنجلترا بعض النوايا غير الواضحة، وأنها قد تعتدي على سيادتكم، والواقع أننا لا نقصد إلا إلى شيء واحد هو: «تأمين مصر ضد الغزو، واخترنا لذلك كل حل بعيد عن فكرة التشبث بفكرة الاحتلال، وها أنتم ترون أن لب التدابير يرجع إلى شئون فنية، واحتياطات بعيدة عن أن تمثل السيطرة في شيء.»
قلت: «إذن أنتم لا تتشبثون بفرقة الطيران، وهي مظهر احتلال بحت.»
قال: «نحن نتكلم الآن عن القاعدة الإدارية …»
قلت: «إن القاعدة تشتمل على ضباط وجنود تابعين للقوى البريطانية، فهي إذن من عناصر الاحتلال العسكري!»
فقال: «إذن هل يرضيك ألا يظهروا ببزتهم العسكرية، وأن يرتدوا الملابس المدنية؟»
فقلت: «ليس الغرض أن يكونوا متنكرين إذا كانت حقيقة أمرهم أنهم عسكريون!»
فقال: «هل يرضيك أن يتحولوا في الواقع مدنيين؟!»
قلت: «إن المسألة هي مسألة السلطة التي يتبعونها، فإذا كانت السلطة مصرية جاز النظر في الموضوع، أما إذا كانت سلطة بريطانية، فلا نكون قد تقدمنا كثيرًا، فإن في ذلك اعتداء على سيادتنا، إن مثل المطالب التي بدت اليوم تحول دون تحقيق الجلاء الشامل، واشتمال المعاهدة على نصه المطلق.»
قال اللورد ستانسجيت: «هذا صحيح، ونحن لا نريد أن نمس سيادتكم.»
فشكرته، وقلت: «أرجو أن تصوروا لي الوضع الجديد إذا ما سلمتم بالعدول عن فرقة الطيران.»
فقال السفير: «قد نجاريكم لنثبت لكم أن ليس لدينا من مقاصد موجهة ضد استقلالكم وسيادتكم، ومن الممكن حصر الموضوع في كلمة: خبراء.»
فقلت: قد نقبل بعض خبراء بريطانيين إذا كانوا في خدمة الحكومة المصرية، شأنهم شأن باقي من عندنا من هذا الصنف، على ألا يبقوا في هذه الخدمة إلا الزمن الذي يتفق الطرفان على أن الحاجة ماسة فيه إليهم، وأن يكون من العمال المصريين من يدرب معهم للحلول محلهم، إلخ. وليكن في علم اللورد والسفير أن مصر تعتزم إقامة المصانع الحربية، وقد نحتاج لخبرائكم، فليست الشقة بعيدة بيننا، وسأفكر في كل ذلك.»
فقال اللورد: «ونحن أيضًا قد نحتاج إلى المراجعة، وقد تأخذ بعض أيام.»
قلت: «وأنا أيضًا في حاجة لمراجعة زملائي.»
قال اللورد: «إني أرجو ألا تجعل لحديثنا اليوم إلا وجهًا واحدًا، هو رغبة الجانب البريطاني في احترام سيادة مصر عند عرض أي حل من الحلول …!»
وانتهى الحديث عند ذلك، وقد دام ساعة ونصف الساعة.
وقد فاتني أن أذكر أنه في أثناء الحديث قلت: إن مثل المطالب التي بدت اليوم لا تحول دون تحقيق الجلاء الشامل، واشتمال المعاهدة على نصه المطلق، على أن تكون التدابير والاشتراطات من الجانبين محل مكاتبات تدور بين ممثلي الدولتين؛ لأنها ترتيبات مؤقتة لا تمس الموضوع الأساسي.