استئناف المفاوضات
في الفترة التي أعقبت بقاء الوزارة في مركزها مؤيدة برضى المليك وثقة البرلمان، وفي الوقت الذي كان شعوري برغبة غالبية هيئة المفاوضة في الوصول إلى إتمام الاتفاق مع إنجلترا، لا يزال قويًّا برغم المصاعب التي جاءت من الناحية البريطانية، التي كانت متأثرة بنزعة استعمارية قديمة، تركزت بنوع خاص في مسألة السودان، ورغم متاعبنا الداخلية والمعارضة الجامحة التي ما كان يغمض لها جفن أثناء هذه المفاوضات، فكرت طويلًا فيما يجب أن تكون خطواتي المقبلة في سبيل تنفيذ البرنامج الوزاري بشأن أهداف البلاد … وكان رئيس هيئة المفاوضة البريطانية والسفير البريطاني قد غادرا البلاد، مما كان يتوقع معه أن تمضي فترة طويلة تعمل في غضونها جميع القوى المتضافرة على إفشال مساعي التفاهم والتوفيق.
وقد هداني التفكير أولًا إلى أنه من الخير أن نعدل عن الرأي السائد في الناحيتين البريطانية والمصرية، ومؤداه أن تكون تسوية مشكلة السودان على مرحلتين: الأولى يتقرر فيها المبدأ والثانية تشمل التحقيق، الذي يقوم به الجانبان للتفاهم على الأوضاع التي تهيئ للسودان أكبر قسط من الرفاهية والرقي … وقد رأيت أن تكون المفاوضة الحالية مؤدية إلى إنهاء مسألة السودان دفعة واحدة، حتى لا تتعثر علاقاتنا مع الدولة البريطانية من جديد في أخذ ورد قد يودي بكل المصالح المشتركة، سواء ما كان منها متعلقًا بالسودان، أو ما كان خاصًّا بمصر نفسها … وقد يتحقق هذا الغرض بتضمين الاتفاق الخطوط الأساسية، والمبادئ التي تسمح للدولتين المصرية والإنجليزية عن طريق حكومتيهما، بمباشرة مهمتهما في هدوء وانسجام، مستعينين بشعور واحد هو وضع خبرتهما ومقدرتهما في خدمة السودان، حتى يأتي الزمن الذي تريان فيه أن تسليم مقاليد الحكم لأهله أصبح واجبًا محتومًا …
وقد أدركت أن الدقة التي تحيط بأمور السودان، واختلاف وجهات النظر بين كل من تصدوا لمعالجة هذه الأمور، يقتضيان حصر المناقشة بين الجهتين اللتين تستطيعان توجيه النتائج إلى نهاية حاسمة؛ ولذلك نبتت عندي فكرة مقابلة مستر بيفن شخصيًّا، وهو — على ما فهمت — لم يكن قد أحاط تمامًا بأغراض مصر وبموقف مصر، ولم يكن قد اطمأن من ناحية نوايانا نحو هذا الإقليم ومركز إنجلترا منه، وكانت المسألة بحسب تقديري، لا تعدو أن تكون عند مستر بيفن مسألة ثقة، واطمئنان على مصالح رئيسية لإنجلترا، لا على أوضاع لا تهم السياسة العليا.
وإذ قابلت المستر بوكر الوزير المفوض النائب عن السفير البريطاني عند عودتي من مصيف الإسكندرية شافهته في أمر هذه المقابلة، فسألني عما إذا كنت قد حددت موضوعات الحديث مع مستر بيفن، فأخبرته أن الفكرة لم تختمر بعد، ولكنها مبنية على الرغبة في استعراض موضوعات الخلاف لعلنا نجد الحلول اللائقة والمريحة لضمائرنا جميعًا … ولم أخف على مستر بوكر أن مسألة السودان — ولو أنها شغلي الشاغل — ليست هي كل ما يثير هواجسي، فإن نصوص المعاهدة نفسها تحتاج لبعض التنقيح والتنوير مع السعي لإزالة الشبهات.
وإذا استعلم مني بعد أيام (ولعله أمضاها في مخابرات مع لندن)، عما إذا كنت أنتوي استئناف السعي في أمر الاعتراف بحق مصر في السيادة، أفهمته «أن هذا التسليم من ناحيتكم هو الغرض الأساسي لهذا السعي»، فقال: «إن هناك صعوبة كبرى تقف في سبيل الاعتراف بالسيادة، وهي تعهدنا للسودانيين بأننا سوف نعمل على منحهم الاستقلال.»
فقلت: «إنه تعهد ينصب على ما يأتي من الزمان وقد يكون طويلًا، ومع ذلك فمصر لا تعترض على تحقيق رغائب الشعوب، التي تصبو للاستقلال متى آن أوانه … على أنني — محافظة على شعور إخواننا السودانيين — لا أرى ما يمنع من أن تتمثل السيادة في التاج المشترك للبلدين وهو تاج مصر.»
ولقد كانت أحاديثي مع مستر بوكر أحاديث خاصة غير ذات صفة رسمية؛ ولذلك فإنها لم تدون في مذكرات أو محاضر، فلا يمكن أن يتمسك بها أحد الطرفين على الآخر.
وقد قابلني مستر بوكر بعد ذلك بأيام أخرى، وقال لي: إن الحكومة البريطانية ترحب بقدومي مع من أريد من الزملاء، وأنها ترجو أن أقبل ضيافتها.
وهكذا قررت بعد استئذان جلالة الملك، وبرضى تام من جلالته، وبعد أن عرضت الأمر على أعضاء هيئة المفاوضة الذين رحب أكثرهم بالفكرة، وعلى حضرات الوزراء الذين وافقوني كل الموافقة على ما كنت أنتويه من سعي جديد في سبيل القضية المصرية، أقوم به مع وزير خارجيتنا (معالي) إبراهيم عبد الهادي باشا، قررت أن أسافر وزميلي إلى لندن على طائرة خاصة أقلتنا إلى إنجلترا، وكان معنا بعض هيئة السكرتيرية المصرية والصحفيين …
أما استقبالنا فقد أحاطته الحكومة البريطانية بالشيء الكثير من مظاهر التكريم والاحترام.
•••
ويجدر بي قبل الانتقال إلى مجريات المفاوضة أن أنوه هنا بالروح العالية التي كان المستر بيفن، ذلك الرجل العصامي القدير، حريصًا على أن تكون السائدة في المناقشة، وقد حرص جنابه على إثارة الشعور — بل العقيدة — لدينا بأننا وإياه أنداد متساوون، على الرغم من أننا كنا طلاب حق لا سبيل لنا إلى انتزاعه بغير طريق الإقناع، ومن أيد طالما أحسسنا بشدة بأسها وبقوة وسائلها!
وإنه ليؤسفني أن كانت مفاوضاتنا مع الوزير البريطاني ومع أعوانه، ومنهم لورد ستانسجيت وسير رونالد كامبل قد أدت إذ ذاك إلى إقلاق كبير في راحتهم؛ لأن حالتي الصحية منذ اليوم التالي لوصولي لإنجلترا أدت إلى تجشم الجميع الكثير من التعب في مداومة الانتقال من «هوايت هول» إلى محل الضيافة، وقد تركت في نفسي مجاملتهم الكريمة لممثل مصر؛ الكثير من الأثر.
ولا بد لي أيضًا من التنويه بمظاهر الإكرام، التي قابلنا بها مستر آتلي رئيس وزارة إنجلترا في مقر رئاسة الحكومة بداوننج ستريت، وهي مظاهر زاد في روعتها أن كان الاستقبال في ذلك المكان التاريخي المشهور، الذي شهد أهم أحداث إنجلترا السياسية … وزاد في معانيها حرص رئيس الحكومة على دعوة أكبر رجالات الدولة البريطانية إلى مائدة الغداء ليشاركوه في تكريم ممثلي مصر.
ولا يسعني قبل الانتقال إلى موضوع المفاوضة وإلى نتائجها الطيبة، إلا الإشادة بصفات عمرو باشا، كرجل وكسفير … وقد بدا لي سعادته كعنوان حي للهمة ولحسن التصرف، كما قدم من الخدمات لقضية مصر ما يستحق معه كل ثناء وكل تقدير.
وإذا نسيت فهل أنسى أن زميلي إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس حكومتنا الحالي، أثبت في مناسبة المفاوضات التي جرت بلندن أن رجل الثورة يستطيع متى آن أوان جني ثمراتها أن يكون السياسي الحازم الدقيق، وأن يفسح أمام ناظريه الأفق، فلا يستوقفه التافه من الأمر ويعطل جهوده، ولا يلهيه الخيال الكاذب عن الواقع المحسوس.