المسائل الكبرى في المفاوضات
في فصل سابق أشرت إلى أحاديثي مع المستر بوكر نائب السفير البريطاني، التي انتهت إلى اعتزامي السفر إلى إنجلترا، بعد أن أخبرني جنابه رسميًّا بما يفيد ارتياح المستر بيفن إلى لقائي … ويجدر بي هنا وأنا أتحدث عن المباحثات، التي جرت بلندن أن أشير إلى الفوارق الكبيرة بين مفاوضة ومفاوضة … فبينما كنا بمصر، وجو التحفظ والحذر يحيط بنا من كل جانب، وبينما كانت كل صغيرة وكبيرة من الشئون، التي كنا نعالجها في المفاوضة مدعاة لأخذ ورد طويلين بين القاهرة ولندن إلى درجة إثارة القلق والسأم — بل التشاؤم من ناحية مصير المفاوضات — جئنا إلى لندن، وإذا الجو الذي صادفنا يتحول إلى الصفاء بعد التلبد، وإذا الصراحة تحل حيث كانت الريب والوساوس.
ولا غرو، فإن مستر بيفن من الطراز الجديد للسياسيين، الذين لا يضيعون الوقت في اللف والمداورة، ويهجمون على الموضوع مزودين بالحجة إذا ما أسعفتهم الحجة، فإذا شعروا بضعف موقفهم انتقلوا إلى موضوع آخر ريثما يعاودون البحث والتفكير في الموضوع الأول، أو يسلمون بوجهة نظر الطرف الآخر في غير تردد طويل أو «مناكفة» … وكنت أشعر برغبة الوزير في الانتهاء السريع؛ لا لأن السرعة في ديدنه؛ بل لأن تزاحم القضايا العالمية كان يقتضي ذلك … أضف إلى ما تقدم أن الرجل كان مرتبطًا بموعد يحل بعد أيام قلائل في واشنجتون للمباحثة في بعض الشئون الهامة، التي رأى أن يعالجها بنفسه مع الساسة الأميركيين.
وقد وضحت نزعة مستر بيفن، إذ قال في أول جلسة لنا معه — بعد عبارات الترحيب والاستفسار عن الكيفية التي نرى أن تدار بها المناقشات — إنه يعمل دائمًا وفقًا لنظريته المعروفة، وهي «وضع أوراق اللعب مكشوفة على المائدة، فإن ذلك أسهل وأدنى إلى تحقيق الأغراض.»
وفي الواقع أن محادثات لندن لم تدُم طويلًا، فهي لم تستغرق أكثر من ثمانية أيام، عقدنا فيها خمس جلسات، يضاف إليها بضع جلسات عقدها الخبراء أو هيئة التحرير، وحضرها من الجانب المصري إبراهيم عبد الهادي باشا، وعمرو باشا، وحسن سعيد بك مستشار السفارة، والأستاذ حنا سابا سكرتير هيئة المفاوضة، ويدعوني واجب الإنصاف أن أنوه بالروح الطيبة، التي سادت جميع المناقشات سواء السياسية أو الفنية، وأن أشير إلى المساعدات القيمة التي قدمها وكيل الخارجية «مستر هاو» الذي كان يبدو أنه المعاون الأول لمستر بيفن في شئون هذه المفاوضات … و«مستر هاو» هذا هو الذي أصبح بعد ذلك «سير روبرت هاو» حاكم عام السودان.
كبرى المسائل التي تناولها البحث
ولقد تناول البحث في أحاديثنا على صورة خاصة مسألة السودان، التي كان لها النصيب الأوفى في المداولات، كما كان تحديد أغراض المعاهدة ولجنة الدفاع المشتركة ومسألة الجلاء من أهم ما دار بشأنه البحث … وأستطيع أن أقرر هنا أن للجانب المصري أن يفخر بنجاح محقق واضح في كل هذه القضايا المتشعبة النواحي التي تعرض لمعالجتها، وإن نظرة منصفة لمشروع المعاهدة، الذي اتفق عليه الرأي بلندن كفيلة بتأييد ما ذهب إليه أولو الرأي، من أن «مشروع لندن» حقق من التحسين في الصيغ، التي انتهت إليها هيئة المفاوضة المصرية بالقاهرة ما جعله أفضل وأدنى إلى تحقيق الأهداف القومية من كل مشروع سواه …
مسألة السودان
وإذ تحدثنا عن السودان أظهر مستر بيفن دهشته للاهتمام البالغ الذي يبديه الجانب المصري بشأن هذا الإقليم! فكان ردي عليه أن عدم الاهتمام هو الذي يدعو إلى الدهشة … أليست مصر كما كتب «هيرودتس» من أكثر من ألفي سنة هي «هبة النيل»؟ أليست مصر هي التي رأت من مصلحتها الحيوية، ومن مقومات كيانها أن تضع يدها على السودان منذ ثلاثة آلاف سنة في عهد تحتمس الثالث، بينما كانت شقيقته الملكة «هتشبسوت» قد استولت على السودان الشرقي، وغزت بلاد الصومال؟
ولقد أدرك مستر بيفن في آخر الأمر أن سيادة مصر لا تحتمل الشك ولا الجدل، وقد سبق لغيره من الساسة البريطانيين — وأخصهم لورد كرومر — الاعتراف بها، غير أنني إذ لاحظت أن القوم سيستغلون مطالبتنا بالسيادة لإظهار مصر في صورة المستعمر الطامع، أوضحت أن مصر لا تقصد منها غير استظهار الوضع، الذي يسمح لها بتقديم جميع صنوف المعاونة، التي ينتظرها الشقيق الأصغر من شقيقه الكبير ذي الحول والخبرة الممتزجين بالعطف والحب. وقد تتمثل هذه المعاني وما يلازمها من تبعات في كلمة «الوحدة تحت تاج مصر المشترك»، وهو الرمز الذي يسعد السودان أن يعيش في ظله …
ولقد طالت مناقشاتنا في أمر السودان، وتبادلنا بشأنه المذكرات، وعاد مستر بيفن إلى ما كان مستر بوكر وزيره بمصر قد أشار إليه من «وعود»، يقولون إن إنجلترا بذلتها للسودانيين بشأن استقلال بلادهم، متى حانت الساعة وجاء الوقت. وكان ردي أن البلد التواقة إلى الاستقلال — كما كانت مصر دائمًا — ليست هي التي تقوم في وجهه، وتضع في سبيله العراقيل، غير أن هذا الاستقلال ليس محله معاهدة تبرم بين مصر وإنجلترا، بل ستمنحه مصر يومًا ما لشقيقتها الصغرى متى تفاهمنا على أن وقته قد حان، ومتى اتفقنا على الأوضاع التي تحقق مصالح الطرفين.
وقد انتهينا في آخر الأمر مع الجانب الإنجليزي، الذي سلم بوجهة نظرنا على الصيغ الأخيرة بشأن السودان، وكان بحثًا احتاج إلى شيء كثير من التشدد المقترن بسلامة التقدير، ومن الإيمان بالحق، حتى إن الفراغ من وضع صيغة البروتوكول السوداني لم يتم إلا في الساعة التاسعة والربع من ليلة ٢٥ أكتوبر سنة ١٩٤٦؛ أي قبل إمضاء مشروع المعاهدة بفترة يسيرة.
وما كنت لأتصور وقد فزت باعتراف الجانب البريطاني بوحدة الوادي تحت تاج مصر، أن تقوم في وجه هذه النتيجة الباهرة الصعاب من كل فج، والاعتراض من كل ناحية، وإني إذ أفهم رد الفعل في الناحية البريطانية، وفي بعض الأوساط السودانية الواقعة تحت تأثير الفريق الاستعماري من موظفي حكومة السودان، لا أفهم كيف يكون الحل الذي وصلنا إليه محل الانتقاد — بل محل المقاومة — في بعض الأوساط المصرية!
وقد بلغ سروري لبلوغ هذه النتيجة إلى الدرجة، التي دفعتني للاتصال ليلًا بالقصر الملكي بالإسكندرية؛ لإبلاغه بأن تاج مصر قد ازدان بدرة جديدة، وأن ملك مصر قد عاد إلى الحدود التي رسمتها الطبيعة وسجلها التاريخ!
وأستميح القارئ بمناسبة التكلم عن التاريخ أن أقول له: كم أنا آسف إذ أغفلت في ذلك الحين مستندًا له قيمته بشأن إثبات حقوقنا في السودان؛ وذلك جهلًا مني إذ ذاك بوجوده! فقد أرشدني الإخصائيون منذ أسبوعين فقط أثناء زيارة جديدة قمت بها لذلك الأثر الرائع المعلن عما بلغته مصر من عظمة ومن مجد وما أحرزته من إتقان في الفن، وأقصد به أثر الكرنك — أقول إنهم أرشدوني إلى واجهة المعبد الخاص بتحتمس الثالث في داخل المعبد الكبير، وإذا بالنقوش التي تعلو الواجهة المذكورة تمثل الملك الفاتح، ومن حوله الرموز التي تشير إلى فتوحاته، وإذا جانب كبير من هذه الرموز يتعلق بالمقاطعات السودانية، التي ضُمت في عهده إلى الإمبراطورية المصرية، وهي تمتد في الجنوب إلى خط الاستواء!
أليس هذا المستند الذي يرجع إلى بضعة آلاف من السنوات، مما لم تفز به دولة أخرى غير مصر في صدد الدفاع عن حقها أمام شره الطامعين؟!
أغراض المعاهدة
كانت المادة الثانية من مشروع المعاهدة، وهي المتعلقة بالأغراض التي توخاها الطرفان من ربط بعضهما ببعض لدرء العدوان، محل بحث مستفيض في لندن، أدى بحمد الله إلى تحقيق وجهة النظر المصرية، وحصر التدخل البريطاني في أضيق الحدود، وقصر المعاونة المصرية على ما هو لازم لمصلحة مصر صونًا لحقوقها هي وذودًا عن حدودها …
ويذكر القارئ أن الجانب البريطاني كان يلح قبل ذهابنا إلى لندن في قبول مصر لنظرية التدخل متى وجدت حالة الخطر، ولاحت نوايا المعتدين … وكان هذا الجانب يلح أيضًا في مد التزامات مصر إلى حالة الاعتداء على البلاد «المجاورة»، لا على البلاد «المتاخمة» … أما الجانب المصري، فقد كان همه الأول عدم تعريض البلاد لعودة الجيوش البريطانية بعد جلائها؛ تذرعًا بأسباب قد تكون من نسج الخيال، أو بناء على أوهام تقوم في أذهان البريطانيين نتيجة لانقلابات سياسية، أو نزاع دولي لا يمت إلى مصر بسبب. كذلك كان الجانب المصري شديد الرغبة في حصر التزاماته ضمن الحدود، التي رسمها ميثاق الأمم المتحدة، بمعنى أن لا تتعدى المحالفة العسكرية مع إنجلترا الزمن الذي تصبح فيه جامعة الأمم قادرة على درء العدوان بوسائلها الخاصة. وأخيرًا كان الجانب المصري يرمي بشدة إلى ضرورة إجراء مشاورات بين الحليفتين، قبل أن تتحرك جيوشهما؛ وذلك تمكينًا لمصر من أن تقترح، أو تعمل على إيجاد الحلول التي تباعد بينها وبين المخاطر التي تجرها الحروب …
وقد نجحنا في حمل البريطانيين على قبول جميع رغائبنا هذه، وأصبحت المادة الثانية من مشروع المعاهدة، بحيث جنبت مصر مواطن الأخطار جميعًا، وحصرت التزاماتها في أضيق الحدود، بل مكنت من تحديد الصيغ تحديدًا أدخل التحسين على مركز مصر، ما سيأتي الكلام عنه متى انتقلنا إلى موضوع المناقشات، التي جرت بمصر بعد عودتنا من رحلة لندن.
وسنتحدث في المقال القادم عن «لجنة الدفاع المشتركة» و«موعد الجلاء»، ثم نأتي بعد ذلك على نصوص مشروع المعاهدة، كما صيغت بلندن وعلى ملابساتها.