مفاوضاتي في لندن
لجنة الدفاع المشترك
كان لا بد لنا من بذل الجهود المستطاعة؛ لإبعاد ما رسخ في ذهن الكثيرين من أن هذه اللجنة قد يؤدي وجودها إلى شبه سيطرة، يستمدها مندوبو الدولة البريطانية من قوة دولتهم وعظم وسائلها، فترهق مصر بالمطالب من طريق الضغط على المصريين من أعضاء اللجنة، وهم أقل خبرة من زملائهم البريطانيين، وأبعد عن إدراك الملابسات السياسية والحربية … وقد خشي الوفد المصري للمفاوضات أثر اشتغال اللجنة بدراسة الأحوال القائمة في البلاد القريبة من مصر ومبلغ الخطر منها على السلام؛ مما قد يجرنا من حيث لا نشعر في مشكلات قد تؤدي إلى الوقوع في المصاعب والمخاطر.
أدرك الجانب البريطاني بغير عناء كبير أن من حسن السياسة العمل على إزالة الوساوس القائمة في نفوس المصريين من هذه الناحية، فقبل المفاوضون الإنجليز ما عرضناه من النص الصريح على الصفة الاستشارية للجنة، وقبلوا ما هو أهم من ذلك، وأعني به عدم تعرض اللجنة «لبحث الأثر المترتب على الحالة الدولية»، إلا إذا طلبت الحكومتان منها ذلك وقدمتا لها المعلومات التي تعين على هذا البحث … وواضح من مثل هذا القيد أنه لم يبق مجال لأن تتعرض اللجنة لاقتراحات، أو لأن تشير بتدابير لا يكون مصدرها الحكومات نفسها. فإذا ما وثقنا أنها لن تعمل عملًا أو تدبيرًا أيان كان خطره، إلا إذا كان بوحي من حكومة مصر وبموافقتها، امتنع كل داعٍ للريبة من ناحية تصرفات اللجنة، التي يصبح عملها مقصورًا على البحث الفني، واختصاصها بعيدًا عن صفة التنفيذ.
وسنتكلم فيما بعد؛ أي عندما ندخل في تفاصيل الاعتراضات التي واجهتها بمصر لدى عرض الصيغة الخاصة باللجنة المشتركة، عن قيمة هذه الاعتراضات وما قدمناه من أدلة على قلة أثرها، ويكفي أن أشير إلى أن هذه اللجنة — وقد أنشئ في كثير من البلاد التي ارتبطت بمحالفات عسكرية نتيجة لاتفاقات إقليمية — قد بلغت بها قوة هذه الارتباطات درجة روعي معها إنشاء إدارات مخصوصة خارجة عن نطاق الدولة، وتعيين قواد أجانب يقيمون في أحد البلاد الداخلة في الحلف مزودين باختصاصات ما كنا لنقبل مثلها أو شبيهًا بها ولو من بعيد!
الجلاء … وموعده
لم يأت مستر بيفن بجديد فيما يتعلق بتقريب موعد الجلاء، واكتفى بأن يستدر العطف على الجندي البريطاني، الذي لا يزال بعد متاعب الحرب الضروس التي عانى أخطارها واكتوى بنارها يقيم بالخيام في فيافي مصر وصحاريها، بينما قد استحق الراحة التي تؤهله لها خدماته للإنسانية ولمصر بنوع خاص، وما تأخير سنة عن الموعد الذي يظهر أن مصر قد تقبله اتباعًا لرأي الخبراء بالشيء الكثير؛ وهو لذلك يطلب أن يكون موعد الجلاء التام نهاية سنة ١٩٥٠، إذ بذلك يمكن كسب الوقت الكافي لإقامة الأبنية اللازمة بالبلاد، التي تنتقل إليها الجنود بعد جلائها عن مصر …
ويقول المستر بيفن: إن تأخير الجلاء لا ينبغي أن يعتبره المصريون مرهقًا لهم وجارحًا لشعورهم، بل إن له لنتائج تعود على مصر وعلى بلاد العالم التواقة للسلام بأعظم الفوائد، فقد يغري «الفراغ» الذي يحدثه الجلاء العاجل دولًا عرفت بالعدوان، وباقتناص فرص السيطرة على العالم، فيستخدمه في قضاء الغايات التي جعلتها من أهدافها … ولا شك أن كسب سنة في سبيل بقاء القوة، التي يعمل لها الخصوم ألف حساب لن يكون إلا في مصلحة السلام …
وقد تحدثنا كثيرًا في هذه المسألة، وذكرنا ما لها من تأثير في إحساس المصريين، الذين انتظروا طويلًا الوفاء بالوعود التي بذلت لهم، فإذا دبت الشكوك من جديد في نفوسهم نحو حق استعداد البريطانيين للجلاء العاجل، أضعنا الكثير من الثقة التي ننشدها، باعتبارها الدعامة القوية التي تستند عليها المعاهدة … وقد انتهينا في آخر الأمر إلى تحديد يوم أول سبتمبر سنة ١٩٤٩؛ لإتمام عمليات الجلاء الشامل جوًّا وبحرًا وبرًّا، وأظنني في حِل الآن من أن أقول: إن غالبية خبرائنا العسكريين ما كانوا ليقدروا لنهو الجلاء مدة أقل من تلك التي قبلناها بلندن، وكان رئيسهم قد أبدى في ذلك رأيًا قاطعًا … وإنه لمما يدعو للأسف أن اليوم الذي أسطر فيه هذا الكلام لم يبق بينه وبين الموعد المتفق عليه للجلاء غير بضعة أشهر، وإني لأسائل نفسي: هل أصبحت الظروف السياسية والعسكرية السائدة على الموقف، مما يؤمل معه إنجاز الجلاء في الموعد الذي فزنا بتحديده؟
بيفن يقنع زملاءه
هذه هي المسائل التي دارت من أجلها مباحثات لندن، وهناك طائفة من المسائل الثانوية التي اتفقنا عليها أيضًا، كما أن من المسائل ما أرجأنا بحثه؛ لأن موضوعاتها مما لا يحتاج لتدوين عاجل، بينما هي لا تؤثر على شروط المعاهدة.
وإذ جاءت الساعة التاسعة والربع مساء من يوم ٢٥ أكتوبر سنة ١٩٤٦، وكنا مجتمعين بغرفة الاستقبال المخصصة لنا بفندق «كلاردج» تلا المستر بيفن الوثيقة، التي اقترح أن تكون مرافقة لمشروع المعاهدة، وقال: إنه كان قد وعد صدقي باشا بأن يؤيد «بحرارة» هذا المشروع لدى مجلس الوزراء، ومضى قائلًا: إنه ليكفي صدقي باشا أن يعلم أن جهوده — أي جهود مستر بيفن — ستُبذل في سبيل إقرار المجلس للمشروع المعروض، فإذا لم يفز بهذا الإقرار استقال من منصبه … هذا هو الذي قاله مستر بيفن أمام جميع الحاضرين، على أنه اختلى بي بعد ذلك، وأسر إلي بأنه قد أطلع مجلس الوزراء فعلًا على المشروع، فوافق عليه بصفة غير رسمية.
وقد عملت صور للمشروع، وأمضيت بالأحرف الأولى من أسماء مستر بيفن ولورد ستانسجيت وإبراهيم عبد الهادي باشا وسير رونالد كمبل، واسمي … وفيما يلي نص مشروع المعاهدة التي أطلق عليها اسم «معاهدة صدقي – بيفن.»