اشتراكي في الجهاد الوطني
وقفت رحى الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٨، وخمدت نيرانها بعد أن اشتعلت أربع سنوات دكت فيها عامر المدن والقرى، وأهلكت ملايين الأنفس، وأذيعت مبادئ ولسون الأربعة عشر — تلك المبادئ الحرة، التي تنص على أن كل أمة مهما صغرت لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها.
لبثت مصر في انتظار تطبيق هذه المبادئ عليها بعد أن زالت غمة الحرب، ورفرف السلام على العالم، وكانت قد قامت بمساعداتها العظيمة للحلفاء في خلال الحرب، ومُنيت بسببهم بمتاعب شتى. وعلى الرغم من اعتراف الإنجليز بهذه المساعدات، فإنهم لم يفوا بوعودهم لها، ولم تتغير الحال.
كنت وقتئذ خارج الحكم أشتغل بالاقتصاد العام، فوجدت من واجبي نحو وطني في هذه الظروف أن أتقدم لخدمته، وأسعى مع الساعين للحصول على حقوقه، فبدأت بوضع مذكرة ضافية باللغة الفرنسية بلغت ستين صفحة، ضمنتها مطالب مصر من إنجلترا، وعززتها بالوثائق والمستندات … وكان الوفد المصري وقتئذ في دور التأليف، وحدث أنني كنت في الإسكندرية مع دولة محمد سعيد باشا، فاجتمعنا بالأمير عمر طوسون، وفكرنا فيما يجب أن يعمل، ورأينا من جهتنا أن نقوم بواجب الجهاد، فاتصل بالمرحوم سعد زغلول باشا ما اعتزمناه، فبعث إلينا، واجتمعنا به في فندق شبرد بالقاهرة، وتم الاتفاق على أن نتعاون معًا في الوفد المصري.
أصبحت منذ ذلك الحين عضوًا في الوفد، فقدمت إليه المذكرة الفرنسية، فناقشها ووافق عليها، وكانت هذه المذكرة بعد شيء من التنقيح في بعض نواحيها، وتلخيصها هي التي قدمها الوفد المصري بعدئذ إلى مؤتمر الصلح بفرساي.
لا بد من قارعة
كانت أعمالنا في مبدأ الحركة الوطنية مقصورة على تحرير الاحتجاجات والبيانات، وكان الشعور الوطني متحفزًا، ولكن لم تكن هناك أية حركة منا تلفت أنظار العالم، ففي إحدى جلسات الوفد قلت لإخواني: إني أشعر أن مساعينا الحالية لا نتيجة لها ما لم يصحبها شيء يلفت الأنظار …
فقال سعد باشا: وماذا تعني …؟
قال لطفي السيد: يعني أن تقوم في البلاد قارعة!
فقال سعد بلهجته المعهودة التي كان يقلب فيها القاف كافًا: كارعة … ماذا؟
قلت: أعتقد يا باشا أننا لا نصل إلى حقوقنا بالكلام …
فسكت — رحمه الله … وحدث في نفس اليوم أننا كنا مدعوين إلى حفلة خيرية بالأوبرا الملكية، وكنا وسائر أعضاء الوفد في تلك الأيام نتغدى معه على مائدته يوميًّا، وكان معاشرًا أنيسًا لطيفًا، وكان عطفه علينا كبيرًا، وفي المساء ذهبنا معًا إلى الأوبرا، وما كدنا نهلُّ عليها، وندخل بابها حتى دوت أرجاؤها بالهتاف والتصفيق، واستُقبلنا استقبالًا باهرًا دُهش منه سعد باشا، وقال لي في المقصورة التي كنت فيها معه: بارك الله في هذه الأمة … حقًّا يا إسماعيل … لا بد من قارعة …!
ومن هذه الليلة بدأت الثورة الوطنية.
إنذار بريطاني!
كانت وزارة دولة حسين رشدي باشا في الحكم، وقد طلبت التصريح لنا بالسفر لمؤتمر الصلح فلم يوافق الإنجليز، ورأت الوزارة أن تستقيل لهذا السبب، وظل الوفد يحاول السماح له بالسفر، فلم يظفر بنتيجة، وتضامن مع الوفد المصري جميع الوزراء السابقين، وسائر الرجال ذوي الكفاية لإدارة البلاد، وامتنعوا عن الاشتراك في تأليف أية وزارة، وبقيت البلاد بلا حكومة مدة من الزمان، وكان لثروت باشا في ذلك موقف رائع، وإن لم يكن موقفه الأوحد.
علمت أنكم تضعون مسألة الحماية موضع المناقشة، وأنكم تقيمون العقبات في سير الحكومة المصرية تحت الحماية بالسعي في منع تأليف الوزارة.
وحيث إن البلاد تحت الأحكام العسكرية، لهذا يلزمني أن أنذركم أن أي عمل منكم، يرمي إلى عرقلة سير الإدارة يجعلكم عرضة للمعاملة الشديدة بموجب هذه الأحكام.
وتركنا، وانصرف …
تعلمون أن وزارة رشدي باشا لما علقت سحب استقالتها على سفر الوفد قبلت استقالتها نهائيًّا، وليس لذلك معنى إلا الحيلولة بيننا وبين عرض قضيتنا على مؤتمر السلام، وقد نتج من هذه السياسة أن أعظم رجال مصر أهلية لإدارة البلاد في هذه الأيام قد رفضوا تأليف وزارة تعارض مشيئة الأمة، التي أجمعت على طلب الاستقلال.
فالنتيجة الطبيعية لذلك أن تقع مسئولية بقاء البلاد بلا حكومة على الذين وضعوا هؤلاء في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمتهم، غير أن السلطة العسكرية عمدت إلى تحميلنا مسئولية امتناع المرشحين للوزارة عن قبولها، وقد أنذرتنا السلطة اليوم، وتوعدتنا بأشد العقاب العسكري، وهي لا تجهل أننا نطلب لبلادنا الاستقلال التام، ونرى الحماية غير مشروعة، كما تعلم بالضرورة أننا قد أخذنا على عاتقنا واجبًا وطنيًّا لا نتأخر عن أدائه بالطرق المشروعة مهما كلفنا ذلك!
وحسبنا أن نذكر لكم هذا التصرف الجائر، الذي يجلب سخط العالم المتمدين حتى تفكروا في حل هذه الأزمة بسفر الوفد، فيرتاح بال الشعب!
الاعتقال في مالطة
اتخذت السلطة العسكرية البريطانية في مصر من رفع هذه البرقية إلى رئيس حكومة لندن مبررًا لاستعمال القوة، وظنت أنها بذلك ترهب المصريين، وتزعزع عقيدتهم في عدالة قضيتهم …
وفي يوم ٨ مارس سنة ١٩١٩ كنت أجلس إلى مكتبي في غرفة مجاورة لمكتب سعد زغلول بمنزله، وكنت مشغولًا بالكتابة، فجاءني خادم الدار ينبئني بحضور ضابط إنجليزي، فأبلغت سعد باشا، ثم قابلت الضابط فسألني عن اسمي، ثم سأل عن سعد باشا فأوصلته إليه، ثم سرت إلى مكتبي، وأسررت إلى جورج أفندي دوماني بجمع الأوراق وإخفائها.
وكان الضابط قد طلب من سعد باشا أن يركب عربة عسكرية، ثم دعاني إلى ركوب عربة أخرى، وذهب بنا إلى ثكنة قصر النيل، وفي الوقت نفسه كانوا قد قبضوا على محمد محمود باشا، وحمد الباسل باشا، وخصصوا لكل منا غرفة.
أمضينا ليلتنا في هذه الثكنة، وفي الصباح طلبوا منا أن نستحضر من منازلنا ما يلزم لبضعة أشهر من أمتعة وملابس، وسمحوا لكل منا باصطحاب خادم … وأركبونا سيارات عسكرية نقلتنا إلى المحطة، حيث كانت عربة خاصة في انتظارنا، فسار بنا القطار إلى الناحية الشرقية.
التدريب على الغرق
لم نكن نعلم أين يكون منفانا، فلما وصلنا إلى الإسماعيلية، واتجه بنا القطار نحو بورسعيد تنفسنا الصعداء؛ لأننا كنا نخشى أن يذهبوا بنا إلى الهند أو جزر الأوقيانوس أو جنوب أفريقا، ثم أركبونا الباخرة «كاليدونيا» فسارت بنا حتى اجتازت تمثال ديلسبس، ودخلت البحر الأبيض … وفي هذه الأثناء صعد إلينا الضابط المكلف بحراستنا، وأفهمنا أن وجهتنا «مالطة».
سارت بنا الباخرة، وفي الساعة التي اجتزنا فيها المياه المصرية قيل لنا: إن البحر الأبيض المتوسط مملوء بالألغام التي بثها الألمان لبواخر الحلفاء، كما قيل لنا: إنه يجب أن نكون دائمًا على استعداد؛ لكي ننجو بأنفسنا في حالة حدوث انفجار، وأخذوا يدربوننا مع الجنود على طرق النجاة، فكانوا يعطون كلًّا منا طوقًا من الفلين، ويرشدونه إلى مكانه في قارب النجاة المعين لنزوله في حالة حدوث انفجار في الباخرة، ثم يمثلون لنا رواية الغرق بجميع أدوارها.
مرت رحلة البحر في أمان … ووصلنا إلى مالطة، فنُقلنا إلى حصن عسكري …
وقد كانت حياتنا في هذه الجزيرة محوطة بالاحترام والتكريم، وقد سمحوا لنا بالرياضة والقراءة، وأعطونا نوعًا من الحرية لم يكن لغيرنا من المعتقلين، واخترنا لنا طاهيًا ألمانيًّا يدعى «ماربورج» كان له مطعم معروف بالقاهرة، واعتقل خلال الحرب مع غيره من الألمان، ولم نكن ندري ما حدث في مصر بعد خروجنا منها، ولكن في آخر الأمر وبعد اشتداد الحال علمنا بها من بعض التلغرافات، التي كانت تنتشر في مالطة فتفاءلنا بما سيكون إليه المصير.
الإفراج عنا
استعدوا للسفر غدًا، فقد أطلق سراحكم، وسمح لكم بالذهاب إلى باريس.
اغتبطنا بهذه البشرى أيما اغتباط، وحزمنا أمتعتنا … وكم كانت دهشتنا حينما صعدنا الباخرة، فوجدنا إخواننا من أعضاء الوفد المصري الذين خلفناهم وراءنا في مصر موجودين على ظهر الباخرة، ومتأهبين لاصطحابنا إلى باريس، فتعانقنا وسافرنا لعرض قضيتنا على مؤتمر الصلح.