كيف وضعنا تصريح ٢٨ فبراير؟
استقالت وزارة عدلي باشا بعد عودتنا من لندن على أثر فشل المفاوضات مع كرزون، وبقيت البلاد مدة بلا وزارة، ورأى اللورد اللنبي المندوب السامي وقتئذ أن لا بد من تغيير السياسة البريطانية في مصر، التي تقوم على العنف، واغتصاب حقوق البلاد، ونزع إلى سياسة المسالمة والتفاهم، واتصل بعدلي باشا وثروت باشا وبي هذا الاتجاه الجديد، واجتمعنا نحن الثلاثة وتشاورنا في الأمر، ثم حدثت مقابلات بيننا وبين اللورد اللنبي ووجدنا منه استعدادًا طيبًا لوضع مشروع يمكن أن يكون أساسًا للمفاوضات المقبلة، ولاتفاق مقبل بيننا وبين الإنجليز دون أن يقيد مصر بشيء.
وأخفى سعادته عن الموظفين الإنجليز في مصر ما يدور بيننا وبينه؛ لعلمه أنهم يعارضون في كل سياسة ترمي إلى إضعاف النفوذ البريطاني في مصر؛ لأنها خطر على وظائفهم، ولكنه وجد ضالته في ثلاثة منهم كانوا محل ثقته، واستطاع أن يستعين بمشورتهم وهم: السير موريس شلدن أيموس مستشار الحقانية، والسير رجنلد باترسون مستشار المالية، والجنرال كلايتن مستشار الداخلية.
وبعد ما كفل سعادته مساعدة هؤلاء الثلاثة اتجه إلى البحث عن عقلاء كبار الأوروبيين، الذين يستطيع أن يعتمد عليهم في تأييد سياسته؛ لأنه كان موقنًا أن كل عمل يعمله في مصر لا يكلل بالنجاح الذي يبغيه إلا إذا رضي عنه الأوروبيون من أصحاب المصالح، فبدأ جنابه بالبارون «فرمن فان دي بوش»، الذي كان نائبًا عموميًّا بالمحاكم المختلطة يومئذ، فدعاه إلى زيارته، وأفضى إليه برغبته في السياسة الجديدة التي يود انتهاجها في مصر، فوافقه البارون فرمن، وارتاح اللورد إلى هذه الموافقة، وكان البارون فرمن يتمتع بثقة «السلطان فؤاد» وصداقته.
ودارت المحادثات بيننا نحن الاثنين: «ثروت، وصدقي» من جهة، وبين اللورد اللنبي، وإذا ما قلت «ثروت وصدقي» فإني أقول: إننا كنا على اتصال بعدلي باشا وإرشاد منه في كل الأدوار، وقد وضعنا مشروع تصريح ٢٨ فبراير، وتوليت تحرير هذا المشروع باللغة الفرنسية.
وقد اتفقنا مع اللورد اللنبي على أن يقدمه إلى حكومته، وأن تصرح به على أن يكون هذا التصريح من جانب إنجلترا وحدها، حتى إذا ما تفاهمنا بعد ذلك على أوضاع جديدة تحقق أهداف البلد تمامًا، دخلنا عليها أحرارًا غير مقيدين.
- (١)
إعلان رفع الحماية عن مصر، والاعتراف باستقلالها، وما يترتب عليه من نتائج دولية وداخلية.
- (٢)
إلغاء الأحكام العرفية التي أعلنت في نوفمبر سنة ١٩١٤.
كل هذا مع احتفاظ إنجلترا بتأمين المواصلات البريطانية، والدفاع عن مصر من كل اعتداء خارجي، وحماية الأجانب، ومسألة السودان، وذلك إلى حين يتسنى إبرام اتفاقية بين مصر وإنجلترا …
وفي أوائل يناير سنة ١٩٢٢ سافر اللورد اللنبي إلى لندن، وبرفقته المستشارون الإنجليز الثلاثة لإقناع حكومتهم بهذه الخطوة، وقد صادف سعي اللنبي مقاومة في أروقة رياسة الحكومة البريطانية ووزارة الخارجية، وبعد تباطؤ وتردد وافقت الحكومة البريطانية على إعلانه في ٢٨ فبراير من تلك السنة، ثم قدمته إلى مجلس العموم، فناقشته. وفي يوم ١٥ مارس سنة ١٩٢٢ أعلن استقلال مصر، الذي ترتب عليه أن أصبح السلطان فؤاد ملكًا …
التآمر على حياة ثروت
لما سافر اللورد اللنبي إلى لندن مع المستشارين الإنجليز لعرض مشروع تصريح ٢٨ فبراير، كنا نترقب أخبار لندن؛ لنطمئن على هذا المشروع، الذي نود له النجاح، وذات ليلة، كنت جالسًا في نادي محمد علي ليلًا، فخاطبني بالتليفون ثروت باشا، وطلب مني أن أحضر إليه، فقلت له: ليس عندي عربة، فإما أن تحضر أنت أو ترسل إلي بعربتك، فقال: إن عربتي غير موجودة معي، ولا بد من حضورك لأمر هام، فخرجت من النادي، وركبت عربة أجرة، ووصلت إليه، فأنبأني بأن الوزير المفوض وهو وكيل اللنبي جاءه بآخر الأنباء، وهي تتلخص في أن اللورد اللنبي انتهى تقريبًا إلى اليأس من النجاح في مهمته، وأنه حتى هذه الساعة لم يستطع مقابلة لويد جورج … وطلب مني أن أذهب إلى سراي عابدين لإبلاغ ذلك لعظمة السلطان فؤاد، فقلت له: «بل اذهب أنت؛ لأنك أقدم مني وأنت المقدم» فرفض، فأصررت، وأصر هو على ذهابي إلى عابدين، ولم أكن أعلم شيئًا، وقال: سأخبرك فيما بعد بشيء من التفصيل يتعلق بما نحن فيه، وأخبرني أن العربة التي وصلت بها ستحملني إلى عابدين؛ لأنه أمر ببقائها.
وصلت إلى عابدين، والتمست مقابلة عظمة «السلطان» فؤاد فسمح لي بها حالًا، وأخبرته ما أبلغني إياه ثروت باشا فقال لي: «لعل الحكومة البريطانية استكثرت المطالب التي تطلبونها …!»
وخرجت من عنده، وعدت إلى ثروت باشا، فعلمت أنه في الوقت الذي كنت أقابل فيه السلطان قبض البوليس على جماعة كانت تريد اغتيال ثروت باشا عند كوبري قصر النيل حينما يمر بعربته، وقد اتصل به نبأ هذه المؤامرة؛ ولذلك طلبني إليه، ولم يرسل عربته، وبعثني إلى «عابدين» دون أن يذهب هو لهذا السبب مطمئنًّا إلى أن الجناة لا يرشدهم إلى القيام بتنفيذ مؤامرتهم، إلا معرفتهم لشكل عربة ثروت باشا …!
اشتراكي في وزارة ثروت
كان لي الشرف أن أكون أحد واضعي تصريح ٢٨ فبراير، ثم كان لي الشرف أن أكون عضوًا في وزارة ثروت باشا، التي أعلنت استقلال مصر، بعد إعلان هذا التصريح بخمسة عشر يومًا.
فقد صدر أمر عظمة السلطان إلى المرحوم عبد الخالق ثروت باشا بتأليف الوزارة في أول مارس من تلك السنة، فتألفت برياسته، ومن حضرات الآتية أسماؤهم:
«إسماعيل صدقي باشا «وزيرًا للمالية»، وإبراهيم فتحي باشا «وزيرًا للحربية والبحرية» وجعفر ولي باشا «وزيرًا للأوقاف»، ومصطفى ماهر باشا «وزيرًا للمعارف»، ومحمد شكري باشا «وزيرًا للزراعة» ومصطفى فتحي باشا «وزيرًا للحقانية» وحسين واصف باشا «وزيرًا للأشغال» وواصف سميكة باشا «وزيرًا للمواصلات» … وكان الأساس الذي قبلنا عليه الوزارة في ذلك الحين هو تصريح ٢٨ فبراير، الذي أحدث في الحالة السياسية تغييرًا كليًّا.»
ومما يجب أن يسجل للتاريخ أن جميع المحبين لمصلحة البلاد قد وقع منهم هذا التصريح موقعًا حسنًا، إذ اجتازت مصر بمقتضاه طورًا جديدًا من أطوار حياتها السياسية، وقطعت مرحلة من مراحل جهادها الوطني كان لها أثرها، ودلت الحوادث فيما بعد على أن هذا التصريح ساعد مصر على دخول المفاوضات، وأتاح للوزارة أن تبدأ عهدًا جديدًا، وأن تضع لنفسها دستورًا على أحدث المبادئ الدستورية، وأن تتصرف في شئونها كدولة مستقلة ذات سيادة.
لجنة الدستور
ومع أننا قمنا بما قمنا به في هذا السبيل من خدمة وطنية دفعت المسألة المصرية مرحلة إلى الأمام، فإن وزارة ثروت باشا لقيت نقدًا من خصومها السياسيين، على أنها لم تكترث بنقد الناقدين، ولا معارضة المعارضين، فسارت في طريقها، وأخذت تدعو ذوي الكفايات من جميع الهيئات للاشتراك في وضع الدستور، فأبى فريق المعارضة تلبية الدعوة، فمضت الوزارة في خطتها، واختارت لجنة من الوزراء السابقين، ومن رجال العلم والقانون، والرؤساء الروحانيين والأعيان، وكان رئيس هذه اللجنة حسين رشدي باشا ونائب الرئيس أحمد حشمت باشا.
وعلى الرغم من مكانة أعضاء هذه اللجنة، فقد سمتها المعارضة «لجنة الأشقياء»، وكانوا يرون أن يتولى وضع الدستور «جمعية وطنية» تنتخب لهذا الغرض.
وهنا أحب أن أقول: إن فكرة الجمعية الوطنية لم نأخذ بها؛ لأن البلاد التي وضعت دساتيرها جمعية مثل هذه الجمعية كانت في ظروف استثنائية زالت فيها السلطة الشرعية، وحلت محلها سلطة مؤقتة على نحو ما حدث في الثورة الفرنسية، وقد جرى العرف في مصر على أن تصدر القوانين من ولي الأمر وحده، سواء أكان ذلك في إنشاء مجلس الوزراء، وهو أول حجر في وضع النظام الديمقراطي في مصر أم فيما تلا ذلك من النظم … على أن بلادًا كثيرة كاليابان، وإيطاليا، والبرتغال، والنمسا وضعت دساتيرها بالطرق العادية، ولم تضعها جمعيات وطنية.
أعمال وزارة ثروت
بقيت وزارة ثروت باشا حتى انتهت لجنة الدستور من وضعه، وكانت هذه اللجنة قد وضعت في نص الدستور مادة بتلقيب جلالة الملك «ملك مصر والسودان»، فقامت قيامة الإنجليز، وقالت صحفهم: بأن مسألة السودان من المسائل المحتفظ بها للمفاوضة المقبلة بين الحكومتين المصرية والبريطانية، ولكننا كنا نرى رأي اللجنة، وأرسلت الوزارة مشروع الدستور، كما هو إلى اللجنة التشريعية ولما تعبأ بأية معارضة، واستمرت في حمل أعبائها بشجاعة.
- (١)
ألغت الحماية، وأعلنت أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة.
- (٢)
ألفت لجنة الدستور، وتم في عهدها وضعه وإحالته إلى اللجنة التشريعية.
- (٣)
نجحت في وضع أساس إدارة البلاد بوساطة حكومتها الوطنية دون غيرها.
- (٤)
ألغت وظائف المستشارين الإنجليز في وزارات الحكومة، ولم تستبق منهم إلا مستشاري المالية، والحقانية، مع قصر مهمتهما على إبداء الرأي والمشورة.
- (٥)
أبطلت ما جرى عليه العمل من حضور المستشار المالي جلسات مجلس الوزراء.
- (٦)
أخذت في إحلال المصريين محل الأجانب في وظائف الحكومة، وأرسلت بعثات لأوروبا للتخصص.
- (٧)
أصبح الموظفون الأجانب تابعين لسلطة الوزير المصري دون سواه.
- (٨)
وضعت قانون الإجراءات العسكرية، التي اشترط إلغاء الأحكام العسكرية.
ولو أن وزارة ثروت باشا أتيح لها أن تبقى مدة أطول في الحكم لأنتجت أكثر من هذا الإنتاج، مع جلاله وعظمته في تلك الظروف العصيبة.
ومما يؤسف له أن البلاد في ذلك الحين قد سُممت بدعايات ضد تصريح ٢٨ فبراير كانت من أهم ما سبب استقالتها، وتذكرني هذه الدعايات بمثلها مما جرى بعد إمضاء المشروع الأخير المسمى «مشروع صدقي – بيفن».
وقد استقالت وزارة ثروت في ٢٩ نوفمبر سنة ١٩٢٢، وتركت لخلفها تراثًا سياسيًّا مجيدًا …