لماذا حللنا مجلس نواب سنة ١٩٢٥؟
استقالت وزارة عبد الخالق باشا، التي كنت أحد أعضائها في نوفمبر سنة ١٩٢٢ … وكانت هذه الوزارة هي التي ألغت الحماية، وأعلنت استقلال مصر، وألفت لجنة الدستور، وتم في عهدها وضعه، وأحالته إلى اللجنة التشريعية، ونجحت في صيانته أثناء وجودها من أن تعبث به العناصر الرجعية، التي كانت ممثلة في بعض رجال السياسة والمستوزرين …!
وكان همنا نحن الثلاثة — عدلي، وثروت، وأنا — بعد استقالة هذه الوزارة أن يصان الدستور من أي عبث، وأن يصدر سريعًا، وألا تنجح تلك العناصر في الحيلولة دون إصداره، أو تعمل لتأخيره أو تعديله، بحيث تضعف فيه الصبغة الديمقراطية … وكان الإنجليز وقتئذ متفاهمين معنا على الدستور، إذ كان كل خوفهم من الطابع الاستبدادي للحكم … ولم يكن بيننا وبينهم خلاف إلا على المادة الخاصة بلقب «ملك مصر والسودان»؛ لأنهم كانوا يرون أن مسألة السودان من المسائل المحتفَظ بها في تصريح ٢٨ فبراير.
وفي هذا الوقت بُذلت جهود في سبيل جمع كلمة الأمة للقضاء على المساعي الرجعية، التي كانت ترمي إلى تأخير إصدار الدستور، وعلى الرغم من أن هذه الجهود لم تصل إلى تحقيق جميع أغراضها، إلا أنها أوجدت تفاهمًا عامًّا بين جميع الهيئات على محاربة الرجعيين والقضاء على محاولاتهم!
كيف سقطت في الانتخابات؟
وقد نجحت مساعينا في الوصول إلى إصدار الدستور سنة ١٩٢٣، ثم أعلنت الانتخابات لبرلمان سنة ١٩٢٤ فرشحت نفسي لمجلس النواب في دائرة سندا بسط، التي تتبعها بلدتي «الغريب»، وإذ ذاك نشأت فكرة الأغلبية الساحقة برياسة سعد زغلول باشا، فرشح الوفد أمامي الأستاذ نجيب الغرابلي «نجيب الغرابلي باشا»، وعلى الرغم من كونه رجلًا فاضلًا فإنه لم يكن ابن الدائرة، ولم يكن معروفًا بها.
وكنت أعتقد أنني سأنجح في دائرتي؛ لأن جهودي في خدمة بلادي، وماضيَّ في الجهاد واشتراكي في الفوز باستقلال مصر بتصريح ٢٨ فبراير، كان كل ذلك مما يضمن النجاح. ولكن شخصية سعد زغلول في ذلك الحين كانت شخصية جبارة، وفي الوقت نفسه جذابة غمرت البلاد بقوتها، وشدة تأثيرها، واجتاحت أمامها كل شيء، وأصبح الاعتقاد فيها يشبه الاعتقاد بالأنبياء، فلم أفز في الانتخابات إلا بأقل من ثلث الأصوات، وسقطت أمام منافسي الوفدي غير المعروف إذ ذاك لأهل الدائرة …!
ومن هنا أستطيع أن أقول: إن الانتخابات لم تكن حرة … ولا أقصد من ذلك أنه كان هناك ضغط إداري استُعمل ضدي، بل أعني أنه كان هناك ضغط نفساني أوجدته شخصية سعد زغلول القوية، وهو والضغط الإداري سواء، في بلد لم تصل بعد إلى درجة النضوج السياسي، ولم تتكون فيها الروح الدستورية.
وربما يسأل سائل هذا السؤال: لماذا لم أعين في مجلس الشيوخ ما دمت قد سقطت في انتخابات النواب؟ وجوابي عن هذا السؤال هو: أنه لو حدث ذلك وعينت في الشيوخ بعد سقوطي في النواب لحُمل هذا التعيين على أنه تحدٍّ للرأي العام … ثم لا تنس أنه كان هناك فريق رجعي ذو نفوذ، لا يحب أولئك الذين كانوا السبب في قيام الدستور …!
في وزارة زيور باشا
على الرغم من سقوطي في الانتخابات، وعدم اشتراكي في البرلمان، أنا والذين حصلوا على الاستقلال والدستور، فإنني كنت مرتاحًا لهذه المرحلة الأولى التي فازت بها البلاد … وقد لزمت وقتئذ الحياد، فلم أشترك في أي نشاط سياسي طوال مدة قيام وزارة المغفور له سعد زغلول باشا في الحكم، حتى وقعت كارثة مقتل السردار — وأقول «كارثة» — لأنها كادت تعصف باستقلال البلاد، وتضيع علينا ما كسبناه؛ ولهذا حين دُعيت للاشتراك في وزارة زيور باشا، التي خلفت وزارة سعد لم أتردد في القبول؛ لأني شعرت أن من واجبي في هذه الظروف أن أساهم في إنقاذ البلاد من ورطتها، وأن أعمل على صيانة استقلالها.
وقد توليت في تلك الوزارة شئون وزارة الداخلية، وكانت مسئوليتها عظيمة بعد تلك الكارثة، وفي إبان الاضطرابات الشديدة، وكان همي أن يعود الأمن إلى نصابه، كما كان من أول واجباتي أن أعنى بالقبض على قتلة السردار؛ لأنه لو لم نفعل، أو لو قصرنا في ذلك، لازدادت الحالة سوءًا بيننا وبين الإنجليز … خصوصًا وقد نص عليه الإنذار البريطاني الموجه لسعد باشا، فضلًا عن أنه كانت هناك أيد أجنبية تعمل لهدم الاستقلال، وضياع حقوق مصر والسودان.
حفظت لمصر سودانها!
وقد كان الإنجليز يريدون أن يتخذوا من مقتل السردار ذريعة لفصل السودان عن مصر فصلًا تامًّا، وقد تضمن إنذارهم لحكومة سعد باشا «صدور الأمر في خلال ٢٤ ساعة بإرجاع جميع الضباط المصريين، ووحدات الجيش المصري من السودان، وتحويل الوحدات السودانية التابعة للجيش المصري إلى قوة مسلحة سودانية، تكون خاضعة ووالية للحكومة السودانية وحدها، وتحت قيادة الحاكم العام العليا، وباسمه تصدر البراءات للضباط!»
ورأى زيور باشا أن يوكل إليَّ وقتئذ بعض المهام خصوصًا «السودان»، وكان الإنجليز يريدون أن يتمادوا في فصله عن مصر، علاوة على ما فعلوا من طرد الجيش المصري، وقطع علاقاتنا العسكرية به، والاستقلال بإدارة شئونه، فلم يبق لنا من العلاقات معه إلا تلك العلاقة المالية الخاصة بمبلغ العجز في ميزانية السودان، الذي تدفعه مصر سنويًّا، ومفروض أن ميزانية السودان شيء مقرر لمصلحة إخواننا السودانيين، فأراد الإنجليز قطع هذه العلاقة أيضًا حتى لا تصبح لمصر أية صلة به، ولا أية حجة لها للتدخل في شئونه!
خفت من عاقبة هذا العمل الذي ينظر إليه في ظاهره كأنه لمصلحة مصر، وهو في الواقع حجة عليها، ومضر بمستقبل مصالحها وحقوقها في هذا القطر، فعملت على بقاء هذا المبلغ الذي تدفعه مصر للسودان، والذي لا يؤثر في ميزانيتها تأثيرًا يذكر، وقد نجحت في ذلك، واعتبرته فوزًا لمصر ولو أنه نظر إلى هذه المسألة من الآخرين بالنظرة الحزبية، التي تقلب الحق باطلًا، والباطل حقًّا …!
مصر والري في السودان
وكان الإنجليز في إنذارهم البريطاني قد طلبوا فيما يختص بالسودان توسيع مساحة الأطيان، التي تُزرع في الجزيرة من ثلاثمائة ألف فدان إلى مقدار غير محدود تبعًا لما تقتضيه الحاجة …!
فردت وزارة سعد باشا قبل استقالتها على هذا الطلب بأنه سابق لأوانه؛ لأنه طبقًا للتصريحات المتكررة يجب أن تحل هذه المسألة باتفاق الطرفين، وقد بعث المندوب السامي اللورد اللنبي إلى الوزارة في نفس اليوم بمذكرة ينبئها بأنه قد أرسل إلى حكومة السودان، بأنها أصبحت مطلقة الحرية في زيادة المساحة، التي تروى في الجزيرة إلى مقدار غير محدود …!
على أن الحكومة البريطانية إثباتًا لحسن نيتها، مستعدة لإصدار تعليمات إلى حكومة السودان بألا تنفذ ما سبق إرساله إليها من التعليمات، فيما يتعلق بتوسيع نطاق ري الجزيرة توسعًا لا حد له، على أن تؤلَّف لجنة خبراء من المستر كانتر كريمر رئيسًا، وقد وقع الاختيار عليه باتفاق الحكومتين، والمستر ر. م. ماك جريجور مندوب بريطانيا المعين من قبل حكومة حضرة صاحب الجلالة، ومن عبد الحميد سليمان باشا مندوب مصر المعين من الحكومة المصرية …
وقد اجتمعت اللجنة باتفاق الحكومتين في ١٥ فبراير سنة ١٩٢٥ للدرس، واقتراح القواعد التي يمكن إجراء الري بمقتضاها …
والنتيجة من كل ذلك أن حقوق مصر في مياه النيل تم بشأنها اتفاق حفظ لمصر كل هذه الحقوق، ووقع في ذلك معاهدة هي القائمة حتى الآن.
لماذا حللنا مجلس النواب سنة ١٩٢٥؟
لا أنكر أننا في وزارة زيور باشا قد أقدمنا على إجراءات جريئة أملتها علينا الظروف العصيبة في ذلك الحين، وشجعنا عليها خوفنا على استقلال البلاد من أن يعصف به عاصف، أو تنتهز الفرصة — فرصة الاضطرابات — لهدمه، وكنا نرغب بكل إخلاص أن ندخل في دور من الهدوء، وتحسين العلاقات بيننا وبين الدولة المحتلة.
وكان الوفد يعتبر في ذلك الحين عدوًّا متحديًا لهذه الدولة خصوصًا بعد مقتل السردار، الذي اتهم فيه بعض المنتسبين إلى الوفد؛ لذلك أقدمنا على تعديل قانون الانتخابات، وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت شخصية سعد كما قلت شخصية جبارة غمرت البلاد، ففاز الوفد في هذه الانتخابات بالأغلبية، ولو أنها لم تكن ذات خطر، ولما انعقد مجلس النواب وأجريت انتخابات الرياسة فاز سعد زغلول بمائة وثلاثة وعشرين صوتًا ضد عبد الخالق ثروت باشا، الذي فاز بخمسة وثمانين صوتًا، فرأينا أن هذه النتيجة في المجلس ستدفعنا إلى سياسة بعيدة عن أن تحقق الهدوء، الذي كنا ننشده في ذلك الحين.
لهذا أقدمنا على حل هذا المجلس رعاية للمصلحة الوطنية العليا؛ ولكي نعيد العلاقات الحسنة إلى نصابها حتى نصل بالبلاد إلى ما ننشده لها من خير في جو هادئ يسوده التفاهم، وعدم العنف.
ومن ذلك يتبين أن هذا الإجراء لم يكن إنجليزيًّا، بل كان إجراء من الجانب المصري فقط.
واحة جغبوب
في أواخر سنة ١٩٢٥ جرت بيننا وبين الطليان مفاوضة لإنهاء مسألة الحدود الغربية والبت في أمر واحة جغبوب، فتألفت من الجانب المصري لجنة برياستي، وتألفت لجنة من الجانب الإيطالي برياسة المركيز نجروتو كامبيازو، وقد توقفت المفاوضات غير مرة بسبب اختلاف وجهتي نظر الفريقين … وبعد خروجي بالاستقالة من وزارة زيور باشا، رأت الحكومة أن أمضي في مفاوضاتي الخاصة بالحدود ما بين إيطاليا ومصر؛ لأني كنت قد ألممت بأطرافها، بل ذهبت إلى إيطاليا لمقابلة موسوليني بشأنها، فكانت النتيجة في آخر الأمر أن جرى الاتفاق، الذي صورته السياسة الحزبية بصورة سوداء كعادتها.
كان هم مصر في هذا الاتفاق أن تحصل على خليج السلوم، وعلى الهضبة التي تعلو السلوم، والمنطقة التي حولها إلى بلدة بردية غربًا، وكان الإيطاليون قد احتلوا هذا المكان الذي يشرف على هذه المدينة المصرية، فكانت هذه المنطقة هي التي تهم مصر؛ لأنها تشرف على أراضيها؛ ولأنها هي الطريق الذي يستطيع أي غاصب أن يدخل منه البلاد المصرية من جهة الغرب، أما الطليان فقد كان يهمهم أن يحتفظوا بواحة جغبوب، التي بها ضريح للسنوسيين تنبعث منه حسب اعتقادهم تعاليم ضد سياستهم، وحكمهم في طرابلس تخلق لهم المشكلات، وهذه الواحة لا تزيد مساحتها عن عشرة أفدنة، وكان من حججنا في ملكية مصر لها أن إنجلترا نفسها اعترفت في مدة الحرب العالمية الأولى بملكيتها لمصر في معاهدة شاليوت، التي عقدتها مع السنوسيين.
أما حجة الطليان فهي أنهم ورثة الأتراك في ولاية طرابلس، وواحة جغبوب داخلة ضمن هذه الولاية، وأنه بينما كان السنوسيون يدينون بالولاء للدولة العلية كان الولاة الأتراك يعدونها ضمن أعمال طرابلس، بل إن بعض الكتب الجغرافية المقررة في مدارس وزارة المعارف المصرية وضعت جغبوب في خريطة طرابلس، وتلك الكتب راجعتها لجنة من هذه الوزارة واعتمدتها … ولست أريد الخوض في تفاصيل هذه المفاوضات لطولها، واحتدام مناقشاتها، ولكن المهم في النتيجة، فقد كانت هذه الواحة غير ذات أهمية من الوجهة العسكرية، ولكن الأهمية كلها في الشمال، وفي المنطقة المشرفة على السلوم.
وقد نجحنا في الحصول عليها من الطليان، الذين كانوا يحتفظون بها حتى ذلك الحين، وقد برهنت الحرب العالمية الأخيرة على أهميتها العسكرية، وعلى صدق نظريتنا في هذا الاتفاق، ولو أنه نظر إليه في حينه بالنظرة الحزبية التي تعكس الأوضاع.
صداقتي لسعد باشا
لم تستمر وزارة زيور باشا طويلًا، فقد استقالت في ٧ يونيو سنة ١٩٢٦، وكنت قد بعثت باستقالتي منها قبل ذلك، وأنا في مصيفي بفيشى على أثر الخلاف الذي وقع بين نائب رئيسها يحيى إبراهيم باشا، وعبد العزيز فهمي باشا بسبب كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، وكان من أهم العوامل في استقالتها قيام الائتلاف بين الوفد برياسة سعد زغلول، والأحرار الدستوريين برياسة عدلي باشا، وقد أسفر هذا الائتلاف عن قيام برلمان سنة ١٩٢٦، وكنت أحد أعضائه، وعهد إلي برياسة اللجنة المالية فيه، فبذلت مجهودًا نال تقدير رئيس المجلس سعد زغلول باشا وأعضائه، حتى إنه — رحمه الله — شرفني بأن نزل من كرسي الرئاسة إلى منصة الخطابة، ووقف يمتدح هذا المجهود طويلًا.
والواقع أن زمالتي بالمرحوم سعد باشا في مجلس النواب، وفي فجر الحركة الوطنية وأثناء اعتقالنا في مالطة كانت تمتاز بالصداقة وحسن التقدير، وكما كنت أعترف بشخصيته العظيمة، كان يشرفني دائمًا بعطفه وتقديره، ولما سافر للاصطياف في مسجد وصيف، وكانت «محادثات ثروت باشا-تشمبرلين» قائمة، كان يبعث إليَّ دائمًا للتشاور فيما يصله من أنباء هذه المحادثات، وإذا ما انقطعت عنه الأنباء سألني عنها نظرًا لعلاقاتي الخاصة بثروت باشا، وكنت وقتئذ في بلدي «الغريب» المتاخمة لمسجد وصيف، فكان يصر على أن أزوره يوميًّا، وإذا ما تأخرت عنه دعاني بالتليفون.
وقد توفي — رحمه الله — ونحن أصدقاء، يغمرني بتقديره، وأضمر له كل حب وإعجاب، وأحتفظ له حتى الآن بأجمل الذكريات.