كيف توليت الوزارة سنة ١٩٣٠؟
وقفت بكم في الكلمة السابقة عند استقالة المرحوم عبد الخالق ثروت باشا؛ بسبب فشل مشروع ثروت-تشمبرلن، وقد كان من أهم أسباب هذا الفشل موقف أصدقائه الأحرار الدستوريين منه وخذلانهم له، حتى لقد عقدوا في ذلك مؤتمرهم الإداري كما هي العادة، وقد خلفه في الوزارة الائتلافية مصطفى النحاس باشا، ولكن وزارته لم تعمر غير أربعة أشهر وتسعة أيام، وأقيلت في أزمة قانون محاكمة الوزراء.
صدقي لا محمد محمود
كانت الرغبة متجهة إلى اختياري لتأليف الوزارة على أثر إقالة النحاس باشا في يوليو سنة ١٩٢٨، وخوطبت في ذلك خطابًا شبه رسمي، وتهيأت لتأليفها، بل وضعت أسماء الوزراء الذين وقع عليهم اختياري ليتعاونوا معي، وكان المندوب السامي البريطاني في ذلك الحين هو اللورد جورج لويد، وكان من الطبيعي أن يكون أميل إلى شخص تربى في إنجلترا كمحمد محمود باشا بتأثير البيئة العلمية الواحدة، والمدرسة الإنجليزية الواحدة، وقد أدت المشاورات العليا إلى اختيار محمد محمود باشا لتأليف الوزارة.
وفي مساء ٢٦ يوليو من تلك السنة، بينما كنت منتظرًا في بيتي الدعوة إلى القصر خوطبت بالتليفون بالقرار الجديد.
جاءت وزارة محمد محمود باشا، وكان هدفها أن تقضي على الأوتوقراطية البرلمانية، التي أتاحها دستور سنة ١٩٢٣ بطغيان الأكثرية على الأقلية، فاستقر الرأي عندها على أن تؤجل الحياة النيابية، وتوقف الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، فأصبحت البلاد بذلك تحكم حكمًا غير برلماني.
•••
لم تعمر وزارة محمد محمود باشا طويلًا، فقد استقالت في أكتوبر سنة ١٩٢٩، وخلفتها وزارة المرحوم عدلي يكن باشا الثالثة، وكانت وزارة انتقال أعقبتها وزارة النحاس باشا، ولكن هذه الوزارة لم تلبث غير خمسة أشهر و١٨ يومًا، واستقالت في يونيو سنة ١٩٣٠ على أثر عدم نجاحها في مفاوضات هندرسون.
شروطي لتأليف الوزارة
إنني أفخر بثقة جلالته بي، ولكني أود أن أخبره أنه إذا تم اختياري لهذا المركز الخطير، فستكون سياستي أن أمحو الماضي بما له وما عليه، وأن أنظم الحياة النيابية تنظيمًا جديدًا يتفق ورأيي في الدستور واستقرار الحكم.
إني عابر سبيل، ومتى انتهت مهمتي في القضاء على الفوضى تخليت عن الوزارة.
فأصر محمد محمود على موقفه، وأبى أن يتعاون معي، فسمحت لنفسي أن أتجه إلى بعض رجاله، فانضم إلي منهم حافظ عفيفي باشا مستقلًّا عن الأحزاب، وتألفت وزارتي في ١٩ يونيو سنة ١٩٣٠ مني للرياسة والداخلية والمالية، ومن حضرات الآتية أسماؤهم: «محمد توفيق رفعت باشا للحربية والبحرية» و«عبد الفتاح يحيى باشا للحقانية» و«حافظ حسن باشا للأشغال والزراعة» و«علي ماهر باشا للمعارف العمومية» و«محمد حلمي عيسى باشا للأوقاف» و«حافظ عفيفي باشا للخارجية».
بيني وبين سير برسي لورين
وبعد أن اخترت زملائي استأذنتهم، وتركتهم في منزلي ريثما أقابل المندوب السامي البريطاني سير برسي لورين، للتحدث معه في بعض الشئون السياسية، وقد أبلغته في هذه المقابلة نبأ تكليفي بتأليف الوزارة، ولم يكن حتى هذه الساعة قد وصله هذا النبأ، فقال سعادته: إنني لا أعلم شيئًا قبل الآن عن هذا التكليف، ولكني أرى أنك أتيت في وقت غير مناسب!
فقلت له: ولماذا؟
فأجاب: لأنني أمضيت نحو شهر في مفاوضة زعماء الأغلبية لوضع مشروع اتفاق بين مصر وبريطانيا، وكان أملي أن نجد المخرج للوصول إلى اتفاق.
فقلت له: إنني مكلف من الملك بتأليف الوزارة، وقد ساهمت في تصريح ٢٨ فبراير، بل إني أحد واضعيه، وقد سبق لي أن كنت المفاوض الثاني مع عدلي باشا سنة ١٩٢١، وفي الإمكان أن أستأنف معكم المفاوضات التي انقطع حبلها …
قال: ما دام الملك فؤاد قد كلفكم بتأليف الوزارة، فلا اعتراض لي على ذلك!
وخرجت من دار المندوب السامي إلى حيث زملائي في منزلي، وكنت قد تغيبت عنهم مدة طويلة حتى قلقوا، ولما عدت أخبرتهم بما حدث.
المعارضة وتأجيل البرلمان
كان لا بد لي لأمهد للنظام الجديد الذي جئت لإنشائه أن أؤجل البرلمان، فأجلته شهرًا كما يسمح بذلك الدستور، وكان من المنتظر أن يقابَل هذا الإجراء بمعارضة شديدة من جانب الأغلبية المسيطرة على المجلسين في ذلك الحين، ولم أكن أنتظر أن تكون هذه المعارضة تشبه حربًا أهلية مبعثها كراسي الحكم، ولكن حدثت للأسف حوادث مؤلمة، سواء في مصر أو في الإسكندرية أو بعض مدن الريف، ولم يكن للحكومة حيلة فيها إلا المحافظة على النظام، ومنع العابثين من الإخلال بالأمن، وتحدي القوانين، وعلى الرغم مما كان يدبره البعض من أعمال لا تتفق ومصلحة البلاد، فقد استطعت وقتئذ أن أحافظ على هيبة الحكومة، وأن أقضي على الاضطراب.
موقفي من الإنجليز
ومع أن الاضطرابات التي حدثت في أوائل هذا العهد كانت فرصة سانحة لبعض المغرضين للحط من كفاية الحكومة المصرية، والعمل على الاستفادة منها بتحريض بريطانيا على التدخل بحجة حماية أرواح الأجانب وأموالهم، فقد استطعت أن أعالج الموقف بما حفظ للبلاد حقها وكرامتها، وأذكر في ذلك أنه في خلال هذه الاضطرابات بعث المستر بيلي رئيس الاتحاد البريطاني في مصر خطابًا إلى المستر رمزي ماكدونالد، رئيس الوزارة البريطانية يندد فيه بسياسة اللين مع مصر، ويشير إلى أن هذه السياسة قد أفقدت بريطانيا هيبتها بين المصريين، ويطالب بقفل باب المفاوضات، وبتعين مجلس استشاري لتقوية مركز المندوب السامي البريطاني.
لما ظهرت بوادر الأزمة الدستورية الحالية في مصر أرسلت حكومة صاحب الجلالة تعليماتها إلى المندوب السامي، أن يراعي في خطته الحياد الدقيق التام، وإن كانت قد تركت له الحرية — دون الخروج عن هذا الموقف — أن يذكر الفريقين بالجو الطيب، الذي انتهت فيه مفاوضات المعاهدة.
وقبل أن تصل إلى لندن الأنباء، التي يؤسف لها عن حوادث الإسكندرية كانت التعليمات قد أُرسلت إلى المندوب السامي؛ لكي يبين بصريح العبارة أن حكومة جلالته لا تنوي أن تتخذ أداة ما للاعتداء على الدستور المصري، وعلى ذلك لا يمكن أن يكون لها ضلع في تغيير قانون الانتخاب.
ونظرًا للحوادث التي وقعت أمس أُرسلت التعليمات إلى المندوب السامي؛ ليبلغ دولة صدقي باشا أننا لا بد أن نعده مسئولًا عن حماية أرواح الأجانب وممتلكاتهم في مصر، وقد كلف السير برسي لورين أيضًا بأن يبلغ النحاس باشا أنه يجب أن تُحل مشاكل مصر الداخلية، دون أن تتعرض أرواح الأجانب للخطر، وأننا نعده كذلك مسئولًا مع الحكومة …!
ردي على التبليغ
ترى الحكومة المصرية في التبليغ الذي تفضلتم بإرساله إلي، أن الموقف الذي اتخذته الحكومة البريطانية أخيرًا لا يكاد يتفق مع تصريحاتها المتكررة، بأنها ستراعي بالنسبة لمسائل مصر الداخلية، مقتضيات الحياد الدقيق، فإن ذلك التبليغ في الحين الذي يشير فيه إلى تصريح ٢٨ فبراير، ويراه مانعًا كل تدخل في مسألة داخلية محضة كالمسألة الدستورية يعقب بأن الحكومة لا تنوي أن تكون أداة للاعتداء على الدستور، وقد يكون لإعلان نية الحكومة البريطانية محل لو أن الحكومة المصرية التمست معونتها في تنفيذ ذلك الغرض، ولكنها لم تفعل وما كان لها ومصر دولة مستقلة أن تفعل ذلك.
فذلك الإعلان من جانب الحكومة البريطانية لا يمكن أن يؤول إلا على أنه تدخل بمعنى معين في تلك الشئون الداخلية، التي لم ينكر تصريح ٢٨ فبراير نفسه حق مصر المطلق في التصرف فيها.
وقد ذكرت لسعادتكم — وأتشرف بأن أعيد ما ذكرت — بأن المحافظة على أرواح الأجانب في مصر، وعلى طمأنينتهم ومصالحهم كانت منذ الساعة الأولى في صدر ما عنيت به وزارتي من الشاغل … وتلقاء شعوري بواجب حمايتهم، وثقتي بما أملك من الوسائل، لم تحدثني نفسي لحظة بأن أتخلى عن المسئوليات التي أشار إليها تبليغ الحكومة البريطانية، وإن لم يكن من شأن ذلك التبليغ أن يسهل علي أداء مهمة اعتزمت على أي حال القيام بها إلى النهاية …
ولم يبق إلا أن أرجو سعادتكم أن تعربوا للحكومة البريطانية عما تراه الحكومة المصرية في عبارة التبليغ، التي تشير إلى مسئولية غيرها، فإنها وإن كانت لم يهمها طبعًا إلا الحرص على المحافظة على أرواح الأجانب وأموالهم قد تحمل على أنها غض من سلطان الحكومة القائمة، وتشكيك في انفرادها بالمسئولية، وهي وحدها التي تسأل عن حالة البلاد، وتخاطب في هذا الشأن، فيجر ذلك إلى غير ما قصد إليه من تلك الإشارة مما قد يعيق من قوة التدابير التي تقضي بها إعادة النظام.
وقد كان لهذا الرد شأن كبير جدًّا في إنجلترا، بل في العالم كله حتى قالت الصحف الإنجليزية: إن الحكومة البريطانية قد لُطمت لطمة تحس بصداها الولايات البريطانية من لندن لغاية هونج كونغ، وقد أمرت إذ ذاك بعودة البوارج التي كانت أرسلتها للتهديد من وسط الطريق … ولكن تأثيرها في مصر — بالأسف — كان أن المعارضة اتهمت هذا الرد القوي بأنه لا يمكن إلا أن يكون متفقًا عليه مع الإنجليز، وكانوا منذ سنوات قليلة قد قالوا عن تصريح ٢٨ فبراير إنه تسميم للآبار.