الشعرات البيضاء
كذب عليها … وكانت تحبه … ولا يقتل الحبَّ غيرُ الكذب … فمات حبها له، وبقي له الندم إلى الأبد.
***
٢٢ من يناير سنة ١٩٢٩
فندق كتاراكت بأسوان …
رأيت اليوم الآنسة «ر» في شرفة الفندق، كانت جالسةً وحدها تحتسي فنجانًا من الشاي، وإلى جانبها على المقعد بضع مجلات، وسلة بها أدوات «تريكو» …
إني أعرف الآنسة «ر» من القاهرة … تعرفت بها في منزل شقيقي منذ بضعة شهور، عصر أحد الأيام كانت مع ثلاث فتيات من صديقات أختي، وتجاذبنا أطراف الحديث مدة نصف ساعة، وكان يروقني الحديث معها، ومع أن الجلسة كانت لطيفةً، والآنسة «ر» كانت جذابةً إلا أنني اضطررت أن أترك المنزل لارتباطي بموعد سابق، موعد هام كان من الصعب أن أخلفه … ومنذ ذلك اللقاء لم أرَها إلا اليوم …
وتركت مكاني، وذهبت فحييتها، ويظهر أنني تركت في نفسها منذ لقائنا الأول نفس الأثر الذي تركَتْه في نفسي، فقد عرفتني للفور، وأحسست أنها سُرَّت برؤيتي، ولكنها على ما بدا لي، كانت محرجةً ولا تستطيع دعوتي للجلوس معها، ولكنها قالت، وهي تنظر حواليها، إنهم عائدون هي وأسرتها بقطار المساء إلى القاهرة، ولما قلت لها إنني سأعود بعد أربعة أيام، قالت وهي تبتسم: سنراك في مصر إن شاء الله …
وما زال رنين هذه الكلمات في أذني إلى الآن … وأنا أكتب هذه السطور في مذكراتي بعد منتصف الليل، وقد سكن كل شيء …
٤ من فبراير سنة ١٩٢٩
قابلت اليوم الآنسة «ر» وهي خارجة من محل شيكوريل، وكانت مصادفةً لطيفةً؛ فقد خطرت بفكري هذا الصباح، وكنت أفكر في طريقة للاتصال بها.
وقالت لي «ر» ونحن نسير في شارع فؤاد إنها تخرجت من المدرسة منذ عامين، وإنها تضيق بحياة المنزل، وإنها تقرأ كثيرًا، وأحسست أنا أنها لا تضيق بحديثي معها، وأنها ليست مرتبطةً بأي موعد، فدعوتها لتتناول فنجانًا من الشاي معي في «جروبي».
حينما تتحدث الفتاة عن نفسها يكون معنى ذلك في نظر الرجل أنها تدعوه للتعارف … والرد الطبيعي على هذا الحديث هو أن يتحدث عن نفسه … وقد لبيت هذه الدعوة، وأخذت أتحدث عن نفسي …
لكن يعلم الله أنني لم أقل اليوم للآنسة «ر» كلمة صدق واحدة، بل لم أتحرك حركة طبيعية واحدة … إن اليوم الأول في بدء علاقتنا كان تمثيلًا رائعًا … من جهتي أنا على الأقل …
ولأضربْ مثلًا على سلسلة الأكاذيب التي سردتها هذا اليوم، لقد تحدثت عن دراستي، وقلت إنني أتممتها بالجامعة، وإنني سافرت في صيف العام الماضي إلى أوروبا، وإنني أبحث عن عمل، وأريد أن أقضي عامًا أو عامين أدرس فيهما الخطط للمستقبل … هذا الجو الذي خلقته عن نفسي، والذي يتلخص في الكلمات الثلاث، شاب متعلم مهذب غني … لم يكن حقيقيًّا.
أما التعليم فاليوم بالذات دفع والدي القسط الثاني لي في كلية الحقوق، وهو متبرم، وعلى حد تعبيره «فلوس رايحة في الهوا» ذلك لأنه كان العام الثاني الذي أرسب فيه في السنة الثانية.
أما أوروبا، فلم تذهب قدماي إلى الآن إلى أبعد من البراميل المنتشرة على الشريط الضيق من ساحل البحر الأبيض الذي نسميه البلاج، والتي وُضِعَت لأمثالي لتنبئهم بأن الأوان لم يَئِنْ بعدُ ليعبروا البحر بطريقة ما … وأما أني مهذب فتلك مسألة فيها نظر، وأنا شخصيًّا أعتقد أنني مهذب، وسوف أجتهد أن يصدق هذا الشطر على الأقل في علاقتي مع الآنسة «ر».
طالت جلستنا أنا والآنسة «ر» وأدركت ونحن نغادر «جروبي» أن عليَّ أن أقول شيئًا … وأجابتني «ر» وهي تمنحني إحدى ابتساماتها الهادئة: فليكن بعد غد … هنا في «جروبي» …
لا أدري، لم أُحِسَّ وأنا أكتب مذكراتي اليوم بشيء من الغبطة، وأتخيل بعد غد حين ألقاها، أعترف أن الآنسة «ر» شغلت فكري طول اليوم … وأعترف أيضًا أنني أنظر إليها نظرةً تختلف عن نظرتي لغيرها من الفتيات.
٩ من أبريل سنة ١٩٢٩
لماذا فعلت ذلك؟
سألت نفسي هذا السؤال منذ الصباح إلى الآن أكثر من مرة، ولم أستطع الإجابة عليه … حدث كل ذلك بسرعة، ودون أن تتاح لي فرصة للتفكير، وجدت نفسي خارج حياة تلك المخلوقة التي راقبتني، والتي كنت أتمنى أن أرتبط بها إلى الأبد …
إنها إن كانت أخرجتني من حياتها، فإنني لن أستطيع أن أخرجها من حياتي … لا اليوم … ولا غدًا … بل ستظل دائمًا الفردوس المفقود.
آه من الفردوس المفقود … إن مرارة ذكراه أقسى من مرارة فردوس الأماني التي لم يرَها الإنسان بعدُ، أجلْ، إن «ر» فردوس مفقود، فردوس كان بين يدي خلال الشهرين الماضيين كما تقول محجوزًا للزوج … الذي هو أنا بالطبع.
مذكراتي، وماذا كنت أستطيع أن أكتب فيها، كان كل يوم سعيدًا … يبدأ بصوتها بالتليفون فتحييني تحية الصباح الجميل، وتحدثني عن أحلامها التي كنت أنا فارسها دائمًا … وينتهي بالقبلة اللذيذة التي أطبعها على خدها … إن فمها كان كما تقول محجوز للزوج … الذي هو أنا بالطبع.
وبالأمس دق جرس التليفون، ورددت أنا كعادتي فقالت «ر»: لابد أن ألقاك اليوم لأمر هام …
وحينما التقينا، واجهتني بالحقيقة المروعة …
– عندما انصرفت أمس بعد أن لاقيتك سألت نفسي هذا السؤال، متى سأشعر بقبلته على فمي؟
ودار رأسي، وهي واقفة في انتظار جوابي … وتخيلت ما أفكر فيه الآن، أنه ليس الزواج، وإنما الامتحان الذي يدقون الآن الأوتاد لنصب سرادقه، فتهبط كل دقة كأنها حجر يسقط على قلبي أنا.
متى سأذاكر؟ … وكيف أذاكر؟!
أجل كيف أذاكر … أنا الشاب الذي أتم تعليمه، وسافر إلى أوروبا، وحالته المالية تسمح له أن يستريح عامين ليضع خطط المستقبل، وقلت وأنا أغالب ضميري: قريبًا يا حياتي …
وأجابتني: إنك لم تفهمني …
قلت: كيف لا أفهمك؟! إنك تتعجلين موعد الزواج.
وقاطعتني بسرعة: لم يَخِبْ ظني فأنت لم تفهمني … إنني لا أتعجل موعد الزواج، وإنما أريد أن أعرف أسباب إرجاء زواجك بي، لم يعد بيننا ما تخفيه علي … لقد صارحتك بكل ما يحيط بي … وأنت صارحتني بكل ما يحيط بك … أظن ذلك …
وتوقفت لحظة عن الحديث.
ولسوء الحظ أن عقلي قد توقف بدروه عن التفكير، وإلا لما أجبت بسرعة، ودون أن ألحظ أني أكذب من جديد: أجل يا حياتي … لقد صارحتك بكل شيء.
– وما من شيء أخفيته عليَّ؟
– وهل كان يجب أن أخفي عليك شيئًا؟
وهنا أجابت، وهي تتحامل قليلًا خشية أن تسقط: إذن فقد خاب أملي، ليتني لم أعرفك.
وعبثًا حاولت أن أهدئ ثورتها، واقتربت لكي أُرَبِّتَ على خدها، ولكنها صاحت في صوت أرهبني: إياك أن تمسني … أريد أن أقول لك شيئًا لآخر مرة … لقد أتحت لك الفرصة لتصارحني بظروفك … فتحت لك باب الاعتراف لتتحلل من أكاذيبك، لكنك رفضت … رفضت كمن يصر على الخداع حتى النهاية … لو أنك قلت لي إنك ما زلت طالبًا، وإنك لا تستطيع الزواج … لو أنك قلت لي إنك ستنتهي من دراستك، ثم تمهد سبيلك لنعيش معًا … لكنك كذاب … كما قيل لي عنك … لم تفكر في الزواج، ولن تفكر …
هل تفهمني الآن؟ … هل تفهم لماذا سألتك؟ … هل صارحتني بكل شيء أولًا؟
وبالطبع فهمت … حدث ما كان يجب أن يحدث … حينما تسير مع فتاة في الطريق، فلا بد أن تلقى صديقًا لك، أو صديقةً لها، ولا بد أن ينتقل لقاؤكما من فم عزول المصادفة إلى عشرات الأفواه … وإني أذكر الآن أننا رأينا بالمصادفة الآنسة «ج» صديقة شقيقتي، وصديقة «ر» أيضًا ذات مساء، ونحن خارجان من السينما … وأستطيع أن أتخيل الآن ما حدث بعد ذلك، إن «ر» كما أعرفها، صريحة وغير ملتوية … ولا شك أنها قابلت «ج» بعد ذلك، وقالت لها ما تعرفه عني … وما قلته أنا عن نفسي … فأفهمتها «ج» أن كل ما قلته كذب …
وما زلت أذكر مرةً، قالت فيها «ر» أثناء الحديث: إني صريحة لا أخفي شيئًا، هل تصدق أني خاصمت أختي شهرين؛ لأنها كذبت عليَّ مرة؟
أرجو ألا يكون عقابها لي أقسى من عقابها لأختها.
٣٠ من يونيه سنة ١٩٢٩
سافرت اليوم إلى الإسكندرية، وأنا أكتب مذكراتي هذه في الغرفة المطلة على البحر، وقد نام شقيقي حامد، إنني لا أستطيع أن أنام من حزني الجاثم على قلبي، فقد أخبرتني شقيقتي، ونحن في القطار بنبأ خطبة «ر» إلى ابن عمها، وقالت لي ما هو أقسى من ذلك، قالت لي إنها قابلت «ر» في الطريق، وإنها هي التي أنبأتها بذلك، وسألتها عن أحوالي، وأبدت أسفها لأنني خدعتها، ولم تنكر أنها كانت تفضل أن تتزوجني.
بهذه الصراحة؟
أجل … وإني أعيد ما قالته لأختي بالحرف الواحد: كنت أنتظر أخاك عامين أو ثلاثة لو كان جادًّا، لكنه كان يلهو، كذب عليَّ ورفض أن يصحح موقفه، لم يكن عيبًا أن يصارحني بظروفه، لكن العيب أن يخدعني ويصر على الخداع، لقد خطبني ابن عمي، ورحبت بزواجه والحمد لله …
أجل … بهذه الصراحة لا يوجد في العالم إلا فتاة واحدة، وهي «ر».
كانت تستطيع من باب الزهو أن تقول: إنها لم تكن تهتم بي، لكنها مع ذلك كانت تفضل أن تنتظرني عامين أو ثلاثة، إن المرأة لا تنتظر إلا رجلًا واحدًا، الرجل الذي تحبه، ما أشد حزني على ما حدث! وما أشد حماقتي!
وأغلق مذكراته، ووضعها في مكانها بين عشرات الكراسات الصغيرة التي تحوي كل منها مذكرات عام كامل من حياته … ولم يكن بحاجة بعد ذلك إلى مذكرات … إن مذكرات الأعوام التالية بعد عام ١٩٢٩ تستطيع أن تمر بخياله سريعةً باردةً، كما مرت هذه الأعوام نفسها … لقد أتم دراسته عام ١٩٣٣، وسافر إلى أوروبا … ثم عاد إلى القاهرة، وانخرط في سلك المحاماة … ومنذ وضعت الحرب أوزارها، وهو يجلس كل يوم يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا لا أتزوج؟!
وتمر بخاطره قصته مع «ر» إن ذلك الماضي القديم يرتبط في خياله دائمًا بفكرة الزواج، وما من مرة فكَّر في الزواج إلا ذكر «ر» وذكر قصته معها، وتمنى لو أنه تزوجها … لكنه مع ذلك يفكر في الزواج تفكيرًا جادًّا منذ بضعة شهور.
منذ أن أخذت بضع شعرات بيضاء تتسلل إلى رأسه … إنه لم يبلغ الأربعين بعد … إن هذه الشعرات توحي إليه في رقة وأدب أنه لم يَعُدْ طفلًا … وحين يتجاهلها تخطابه في المرآة … وقد تغيرت لهجتها من الأدب إلى الخشونة؛ لأنه قد أصبح رجلًا … وهي أحيانًا تستعير لسان أحد أصدقائه لتنطق في قحة ساخرة: واللهِ عجزت يا أبا السباع!
وفي أغلب الأحيان تترجم خواطر هذه المزاح السخيف إلى صرخة ملحة: لم يَعُدْ هناك مجال للتسويف، ولا بد أن تتزوج …
وهو لا يعارض في الزواج، وما عارض فيه من قبل أبدًا، وإنما كان يتوقع الوقت المناسب والوجه المناسب والسن المناسبة.
ومنذ أيام كان الوقت مناسبًا، والوجه مناسبًا.
كان صباحًا مشرقًا جميلًا من أيام أبريل الأخير، وكان يجلس في حديقة الشاي، وكانت الفتاة الجالسة على خطوات من مائدته تحتسي على مهل القطرات الأخيرة من كوب عصير البرتقال، حين اهتزت يدها باصطدام طفل صغير بمقعدها فسقط الكوب … وتناثرت القطرات على الثوب … قطرات قليلة لكنها أتاحت له فرصة الحديث … حديث قصير لم يتجاوز الأسف على ما حدث، وهو يمد لها يده بكوب ماء لتنظف ما علق بالثوب … ثم أتاحت له فرصةً أخرى حين خرج من الحديقة بعد ساعة، ورآها تنتظر على محطة الترام فركب معها، ولم يكن هناك ما يمنع حديثهما، فقد كانا وحيدين في المقصورة …
وقت مناسب ووجه مناسب والسن …
إن عمر المرأة من حقها وحدها تحديده، وهو لا يعرف أن هناك امرأة في العالم قد تعدت الثلاثين، إن الوجه الذي يراه الآن أنضر من أن يثير مسألة السن … بل لعل الحقيقة تخفيه، إنها تبدو في العشرين.
وذكر وجهه في المرآة ذلك الصباح، وخُيِّل له أنه يرى شعراته البيض تقترب في حياء لتلامس خصلات الشعر الأسود الفاحم.
صغيرةً! قال لنفسه هذا، وقد عول على التراجع … بل لقد همَّ فعلًا أن يغادر مركبة الترام … وصده عن ذلك شيء واحد.
إنها هي أيضًا قد نهضت لتنزل من الترام، وقالت وقد لحظت حركته: هل تنزل هنا أيضًا؟ وأحس بحرج موقفه فأجاب، وهو يعاود النهوض: نعم، فهذا أقرب مكان لي … إني أسكن في مصر الجديدة، ولكن سيارتي في جراج قريب من هذا المكان.
يقول الفرنسيون أحيانًا: إن المرأة هي التي تختار رجلها دائمًا … تختاره دون أن يخالجه شك في أنه هو الذي يختار … إن هذا القول لا يصدق في تعَرُّفِهِ بثريا … فهو الذي اختارها في حديقة الشاي، وهو الذي كان يفكر طوال الطريق في أنها هي، الوجه المناسب.
وسيبدأ منذ اللحظة خطته لإتمام ما يريد … يعرض عليها أن تلقاه مرةً أخرى، فتمانع قليلًا في ابتسامة راضية.
ويلقاها بعد ذلك بيومين … يلقاها أشجع عزيمةً، ولا يكاد ينفرد بها في المقهى الهادئ على حافة النيل حتى يبدأ حديثه عن نفسه.
ويلتفت إليها خلال الحديث طالبًا أن تخمن كم عمره؟ وتقول في ابتسامة: آه! لم تخدعني شعراتك البيض … إنك في حدود الثلاثين … اثنين وثلاثين سنةً مثلًا.
ويقول، وكأنما يحرجه الكذب في تحديد السن: لا خمسة وثلاثون … راجل عجوز أليس كذلك؟
وتجيب، وكأنها لا تهتم بما يقول: بالعكس … هذه هي سن الرجولة.
– سن الرجولة؟!
وتمر بخاطره الآن الآنسة «ر» فجأةً، فترتسم على جبينه ابتسامة خفيفة، ويخالط فكرَهُ ندمٌ، لقد كذب على «ر» نفس الأكذوبة عكسيًّا، قال لها حين عرفها إنه في الخامسة والعشرين، وكان لم يتعدَّ العشرين ليبدو رجلًا.
ويكذب الآن على ثريا، فيقول إن عمره خمسة وثلاثون، وهو يخطو في الأربعين … ليبدو أيضًا رجلًا.
إن الحديث يطوي أفكاره في ركن من عقله ليعود من جديد إلى الموضوع، موضوع الرجل والمرأة … إنهما يقتربان مما يريد رويدًا.
– هل تعيش وحيدًا؟
– نعم لأني لم أكن قد وجدت من يملأ فراغ بيتي …
لقد علمه الماضي أن يتجنب المراوغة، وها هو ذا يخطو إلى منتصف الطريق في اللقاء الثاني، وتجيبه، وكأنها لا تجيبه على سؤاله …
– لقد قلت لأمي اليوم وأنا أغادر المنزل إني ذاهبة لزيارة صديقة، وآلمني أن أكذب عليها.
– كذبة صغيرة.
– أنا لا أحب حتى الأكاذيب الصغيرة، ولا أدري لمَ كذبت عليها؟ لعل ذلك لأني أفعل شيئًا خاطئًا.
ويرفع رأسه في دهشة، ويقول مستنكرًا: لقاء في وضح النهار، وفي مكان عام شيء خاطئ … إنك تبالغين.
وكان يعرف أنها لا تبالغ، وإنما تتعجل، لكنه رأى أن يتريث.
لم يكن يتردد في اتخاذ قراره، لكنه أحس من باب الشكل فقط أن طلب الزواج في اللقاء الثالث أكثر ملاءمةً لرجل … في سن الرجولة، إنه على أية حال قد مهد الطريق …
وكان موعد اللقاء الثالث، فجلس إلى المائدة ينتظر …
وانتظر طويلًا، ومرت ساعة دون أن تحضر ثريا …
وقضى ليلته لا يصدق أنه رأى فتاةً، فأعجب بها، وقرر أن يتزوجها، وأراد أن يخطبها في اللقاء الثالث، فلم تحضر هذه الفتاة للقائه.
ذلك قد حدث … حدث له فعلًا … هو الذي ظل طوال الأعوام الماضية يعيش بعواطف راكدة لا تجد ما يحركها، لقد تحركت عواطفه فجأةً تحت طرقات الأعوام، ولسعات الشعرات البيض.
وأخذ عقله يفرض لتخلف ثريا عن موعدها عشرات الأسباب … لكنَّ فرضًا واحدًا من هذه الفروض رفض البقاء في رأسه … لقد رغبت عنه وصرفت نظرها لأنه لم يرُقْها … لقد راقها، وما زالت جملتها ترن في أذنه: بالعكس … هذه هي سن الرجولة …
ما من عقل يستطيع أن يضع لهذه الجملة ترجمةً غير الرضاء والقبول … الرضاء والقبول الذي يتبعه الإيحاء بطلب الزواج … إنه لا يصدق … وعقله لا يقبل غير فرض واحد، لقد حدث لثريا شيء … وانتابه القلق، وتمنى لو يطمئن إلى أنها سليمة لم يمسسها سوء، وأن شيئًا لم يعُقْها عن لقائه … ثم …
ثم لا يبقى غير الفرض اللعين الذي لا يطيق رأسه أن يتحمله طويلًا، لقد صرفت نظرها عنه؛ لأنه لم يرُقْها.
عاش ليلةً يطوف عقله في حلقة مفرغة، حتى ترنح ونام في إعياء، نوم أجفانه المتعبة.
سيدي …
يؤسفني أن أكتب لك نيابةً عن ابنتي، لأتم حديثًا قصيرًا بدأته معك منذ عشرين عامًا.
وخفت صوته تدريجيًّا، وهو يمضغ الألفاظ، وكأنما خشي أن تسمعه جدران الحجرة … وكأنما خشي أيضًا أن تراه هذه الجدران، فقد رفع رأسه وأجال بصره في أنحائها … ثم عاد إلى الرسالة لتقرأ عيناه فقط.
إنني أحاول أن أفهم من أي معدن أنت فلا أستطيع … تكذب عليَّ منذ عشرين عامًا لتتسلى بي بعض الوقت … فينكشف لي كذبك وخداعك، وينقذني الله منك … ثم تأتي لتخدع اليوم ابنة العشرين … إن مصيبة الجيل الجديد هي أنه يحرص على أن يبدو أكبر مما هو … إن ثريا في العشرين يا ابن الخامسة والأربعين … إنك قد تنسى أكاذيبك عليَّ، ولكنك لا تنسى كلمة الصدق الواحدة التي قلتها إذ ذاك، وهي أنك في الخامسة والعشرين … فتاة في عمر ذكرياتك تريد أن تربط حياتك بها يا قاسٍ … إنك مسلح بهذه القسوة ضد الزمان فلا تبدو عليك سنواته … قالت لي ثريا كم أنت لطيف وشاب وصريح … إنها عرفَتْكَ كما عرفْتُكَ أنا أول يوم رأيتك … لكنها لم تعرفك كما عرفتك آخر يوم إلا الآن … ولَكَمْ كنت أتمنى لو رأيتَ نظرة الخيبة واليأس والاحتقار معًا في عينيها … إنها نفس النظرة التي صرحت بها لك عيناي منذ عشرين عامًا …
من المؤسف حقًّا أنك لم ترَ هذه النظرة، ولن تراها … لكن ربما استطاع خيالك، وما أوسع خيال من يكذبون … أن يصورها لك.
إني لست بحاجة إلى أن أعتذر عن تخلف ثريا عن لقائك بالأمس، إنك لن تراها بعد اليوم … ولعلك لست بحاجة إلى إمضاء لتعرف ممن هذا الخطاب.
إنه لم يكن بحاجة فعلًا إلى إمضاء …
كان بحاجة لأن ينهض من مقعده، ويترك حجرته إلى الشرفة الصغيرة ليتنسم الهواء …
وكان بحاجة إلى فضاء واسع ينثر فيه خواطره المهتاجة …
٢٢ من يناير سنة ١٩٢٩
فندق كتاراكت بأسوان … قابلت اليوم الآنسة «ر» في شرفة الفندق!