صفحات من مذكراته
إنها سعادتها عدُوِّي الوحيد، إن أبي وأمي يحرقان صبري بخورًا يجلب لها السعادة …
***
دعني أقدمه لك أولًا … إنه ليس رجل أعمال خطير الشأن تتحرك لحركته دوائر المال والأعمال، أو تنخفض الأسعار وترتفع … ولا هو رجل فكر يوجه الرأي العام بآرائه، ويميل بتفكيره حيث يريد، ولا هو أديب يمتشق قلمه فتتلقف المطبعة ما ينثال من هذ القلم لتنشره على الناس … إنه ليس هذا ولا ذاك ولا الذي قبله … إنه مجرد إنسان عادي ولد في القرن العشرين وما زال يعيش مع الأسف (وهذا تعبير مأخوذ من مذكراته) أما كيف ولد؟ فإن لذلك قصة دامية.
لقد تعسرت ولادته على أمه، فخرج بعملية جراحية إلى الوجود وعادت هي بالعملية نفسها إلى العدم … وكان أبوه يحب أمه حبًّا يقرب من العبادة، فكرهه هو لفعلته الشنعاء كراهيةً تقرب من الكفر، وليس تعبير «فعلته الشنعاء» من عندي، إنه تعبيره أيضًا عن موت أمه بعد ولادته، إنه يقول في مذكراته إن أباه كان يناديه منذ بدأت أذناه تَعِيان الألفاظ قائلًا: «تعالَ يا قاتلَ أُمِّهِ … كُلْ يا قاتل أمه …» وإذا كانت القصص لا تنتهي بالولادة، وإنما تبدأ بها، فلا بد أن تسير في حياته منذ ذلك اليوم فتراه يكبر كما تكبر الأطفال حتى يبلغ التاسعة، وعندئذ يتزوج أبوه من سيدة لها طفلة في مثل عمره، ويضاف إلى حجرته سرير صغير كسريره تنام عليه أخته الجديدة.
وكل التجديد الذي يطرأ على حياته منذ ذلك اليوم هو مولد عدو جديد هو السيدة والدة الأخت وزوجة الأب … ومنذ ذلك اليوم يبدأ كتابة مذكراته … لا يكتبها على الورق، وإنما ينقشها في صفحة خياله حتى تمر خمس سنوات، ويصل إلى سن الرابعة عشرة فيدخل عليه أبوه ذات يوم حجرته، ويدفع إليه بمفكرة كبيرة للعام الذي انصرم قائلًا: خذ! بدلًا من شراء كراريس، حل واجبات الحساب في هذه الأجندة.
ولما كان يعرف نتيجة تنفيذ رغبة والده، خمس ضربات بالعصا الرفيعة على باطن اليد، العقوبة الرسمية التي يفرضها مدرس الحساب لمن لا يحل الواجب بخط نظيف في كراسة المدرسة، فهو يؤثر السلامة، ويتظاهر بإجابة والده، ولكنه لا ينفذها … إنه ينفرد بنفسه بعد ذلك في الحجرة، ويأخذ في تقليب «الأجندة» ويلاحظ أن لكل يوم صفحةً، ويخطر له الهدف الذي يحتفظ الناس من أجله بالمفكرات لكي يكتبوا في صفحة كل يوم ما حدث فيه … أو ليقيدوا مواعيد الأيام المقبلة حتى لا ينسوها.
ونحن الآن … هو والمفكرة والقراء حسب تعبير المذيعين … نحن الآن في عام ١٩٣٨، و٤ من مارس ١٩٣٨ على وجه التحديد … والمفكرة هي مفكرة هدية من إحدى شركات الأدوية لرأس السنة عام ١٩٣٧ … وفي كل صفحة منها حكمة، أو قول مأثور، وتحته إعلان عن أحد أدوية الشركة.
إنه سيبدأ كتابة هذه المذكرات من اليوم …
لكن الأربعة عشر عامًا التي مرت … ألا يَحْسُن به أن يكتب ما يذكره عنها … إن لديه صفحات المفكرة من أول يناير ١٩٣٧ إلى ٤ من مارس ١٩٣٧ فليجعل لكل شهر مضى من حياته صفحةً، إنَّ أجمل ما في الماضي — ماضي الطفولة — أنه ليس طويلًا كالحاضر … إن الإنسان يستطيع أن يتمثله في لحظة واحدة، في إحساس سريع كالبرق … إحساس فرح أو إحساس حزين … ولكنه لا يستطيع حتى أن يجعل لكل شهر من حياته صفحةً من صفحات المفكرة، وذهنه الصغير يهديه إلى حسه الساذج أن أيام حياته إلى اليوم ثلاثة … يوم ولد، ويوم تزوج أبوه، ويوم جلس مع أخته … أخته التي فرضها عليه القدر كما فرض عليه أن يكون طفلًا بغير أم … يوم جلس مع هذه الأخت على مائدة الطعام، وأمامهما والده ووالدتها، وقالت زوجة أبيه: بنتي الآن ليست صغيرة، وأريدها أن تنام وحدها في حجرة أخرى.
وأجاب أبوه: وإذا كانت حُجَرُ المنزل محدودة، فماذا نفعل؟
وردت الزوجة: أبدًا، نستطيع أن ننقل المكتب إلى حجرته، وننقلها إلى الحجرة الثانية، ونشتري لها دولابًا.
– ومحمود الخدام … أين ينام؟
وكانت هذه هي الجملة الوحيدة التي قالها على المائدة … وكان الرد عليها رد والده الجاف: ينام معاك يا أخي …
هذا يوم من أيام حياته أيضًا، لا يقل أهميةً في نظره عن يوم زواج أبيه، ولا يوم ميلاده، إنه لا يعرف شيئًا عن يوم ميلاده؛ ولذلك فهو يمسك بالقلم، ويكتب في الصفحة الأولى من المفكرة بعد أن يغير التاريخ: «في يوم من الأيام ولدت ورفضت أمي أن تراني … أغمضت عينيها عن الحياة في الوقت الذي فتحت أنا فيه عيني عليها … إنني لم أر شيئًا، ولم أعرف شيئًا في ذلك اليوم … ومن المؤكد أنه كان هناك صراخ وعويل كثير؛ فقد كانت أمي محبوبةً من أبي جدًّا، ومن خالتي فاطمة … وتقول خالتي فاطمة إن أمي كانت في غاية الشوق لكي تراني في الحياة، وليس خطئي أنني لم أحقق لها هذه الأمنية … أبي يقول لي دائمًا: «يا قاتل أمه» ومعنى ذلك أني قتلتها … إن خالتي فاطمة تؤكد أن هذا لم يحدث، وأن الطبيب هو الذي قتل أمي، أنا أكره الأطباء من كل قلبي، ولن أصبح طبيبًا أبدًا …»
ثم يكتب عن اليوم الثاني: «خلع أبي الكرافتة السوداء التي لم أره يغيرها منذ وعيت ما حولي، وحلق ذقنه بعد الغداء مرةً ثانيةً مع أنه حلقها في الصباح الباكر كعادته، وطلب من خالتي فاطمة — وهو خارج — أن تعيد تنظيف حجرته، ومنذ أيام كان قد أحضر أثاثًا جديدًا لهذه الغرفة، وحينما عاد أبي في المساء كان البيت كله منيرًا، وحضر معه ثلاث سيدات ورجلان وطفلة صغيرة، ونامت الطفلة الصغيرة في حجرتي منذ تلك الليلة.»
ولم يجد ما يكتبه بعد ذلك عن هذا اليوم إلا سطرًا واحدًا أضافه في سذاجة: «عرفت في الصباح أن أبي قد اشترى لي أمًّا جديدةً.» … أما اليوم الثالث فقد بدأ كتابته بإسهاب، كان لا يزال يذكر تفاصيل ما حدث على المائدة، فذكره بالحرف الواحد، وملأ الصفحة، وانتقل إلى الصفحة التالية، قال إنه بكى تلك الليلة طويلًا، ولا يدري لماذا … وكان كلما نظر إلى وجه محمود الخادم زاد في بكائه … إنه لم يكن يحب «أسماء» ولكنه مع ذلك كان يحس في نومها في حجرته راحةً، إنهما متساويان، أما اليوم فقد أصبح له زميل واحد … هو محمود الخادم، وختم حديثه عن ذلك اليوم قائلًا: «أصبحت وحدي منذ ذلك اليوم في وسط أسرة تكرهني.»
وأغلق بعد ذلك كتاب مذكراته، وكأنما أغلق هذا الماضي من حياته … الأربعة عشر عامًا في أربع صفحات … يا لها من فكرة جميلة أن توضع الحياة في مثل هذا الحيز الصغير من صفحات «أجندة» قديمة!
وأخذ منذ ذلك اليوم يكتب مذكراته.
كل يوم كانت تتحول ساعات النهار وساعات الليل الأولى إلى بضعة سطور … كتب في آخر أبريل يقول: «عادت أمي إلى المنزل هي وأسماء في الساعة السابعة مساءً، وكنت أنا جالسًا في حجرتي أذاكر الجغرافيا، وتقدمت أسماء مني، وقالت: ألا ترى ثيابي الجديدة … ثياب الصيف، لقد جئنا بها من عند الخياطة الآن، واشترينا لكل ثوب حذاءً … ثم … اترك ما بيدك، وتعالَ اتفرج.»
وتركتُ مكتبي، وذهبت إلى سريري، وكانت أسماء قد فكت اللفافات، ونثرت ما فيها على السرير … وأخذت أجيل بصري … ثلاثة أثواب بديعة من القماش الثمين، وثلاثة أزواج من الأحذية … وشرائط وحقيبة يد، أمسكت بيدي ثوبًا أتفرج عليه، وإذا بصوت أمي يصدمني قائلًا: أنت مجنونة يا أسماء! تضعين الثياب الجديدة على السرير القذر؟ اجمعي ثيابك واذهبي إلى حجرتك … ماذا يفهم هو من كل ذلك؟
وسارت أسماء وأمي، ورفعت عيني وحاولت أن أصعدهما في أركان الغرفة لأمنع قطرات الدمع العالقة بأجفاني أن تسقط على الأرض، فاصطدمت عيناي بمنظر لم تقوَ بعده على المقاومة، وانهارت الدموع … إنه منظر بدلتي البني الثقيلة التي أوشكت أن تتناسل.
ليس هناك أمل في تغييرها … إلا أن أعود لبدلتي الثانية الضيقة التي كان يجب أن تلقى في صندوق القمامات … إن والدي طلب مني منذ أيام أن أغير بدلتي قائلًا: «هو أنت مدام عندك بدلة جديدة لازم تلبسها لغاية ما تدوب؟ لم لا تلبس بدلةً أخرى؟» والدي يعرف جيدًا أنه منذ عام لم يشترِ لي بدلةً.
إن ذيل الصفحة التي كتب فيها مذكرات هذا اليوم تشوبه صفرة، وكأنما سقطت عليه من قديم قطرات من العرق أو الدموع.
وينتهي العام، ويغلق صفحات «الأجندة» ويكون قد تعود أن يسرد لهذا الصديق الصامت حوداث يومه، ويمر يوم أول يناير عام ١٩٣٩، ويأتي مساؤه عليه، وقد آوى إلى فراشه، وتدثَّر بالغطاء، حتى وجهه قد غطاه، وكانت تلك عادته لا يستطيع النوم في النور، أو عاري الوجه … ويحس شيئًا ينقصه … يحس أنه في حاجة إلى أن يقص أخبار يومه على صفحات الورق الأبيض، وينتابه القلق حتى ليخيل إليه أنه لن ينام ما دام لم يكتب سطور مذكرته … فينهض من فراشه، ويمسك بورقة بيضاء، ويكتب عليها ما حدث في يومه، ويضعها بعناية بين صفحات المفكرة القديمة … وفي الصباح وهو في طريقه إلى المدرسة لا يشتري كعادته سندوتش الجبن الذي يفطر به، وإنما يدفع بثمنه في ركن من أركان درج المكتب، ويكرر ذلك بضعة أيام يخرج منها بثمن مفكرة جديدة للعام الجديد، ويقضي ليلةً ينقل فيها إلى صفحات مفكرته الأيام التي فاتته من العام، ولا ينسى أن يسجل في صدر المفكرة تحت فاتحة القرآن، كيف استطاع أن يشتري هذه المفكرة؟ وما أسرع ما تمر الأيام! صفحات المفكرة تمتلئ بالحروف السود كصفحات قلبه تمامًا … إنه يرى في هذا العام أيامًا سودًا لا يستطيع مداد القلم أن يحاكيها، ولا تستطيع السطور أن تحكيها …
كتب في أمسية يوم من تلك الأيام سطرًا يقول فيه: «تبينت اليوم عجز القلم والكلام عن التعبير في بعض الأحيان، أيُّ كلام يستطيع أن يعبر عن مدى سخطي وتعاستي اليوم؟» … إن قصة ذلك السخط وتلك التعاسة، كما رواها قبل هذا السطر، هي اضطهاد جديد تلقاه من زوجة أبيه، أمه كما كان يجب أن يسميها في مذكراته، كانت إجازة نصف العام بعد أيام، وأعدَّت المدرسة رحلةً إلى الصعيد، وجعلت رسم الاشتراك فيها للطلاب زهيدًا، هو جنيهان فقط، وعرض الأمر على أبيه في حضور «أمه» فإذا بها — وقبل أن ينطق أبوه بحرف — ترد في غلظة: لم يبق إلا أن نتحمل مصاريف لهوك أيضًا، كأنه لا يكفي مصروف المدرسة والطعام والكساء … إن غيرك يوفر على أهله مصاريف المدرسة.
لو أن الاقتصاد كان قاعدةً تتبعها الأسرة لما سخط ولما أحس التعاسة … لكن أباه في اليوم نفسه دفع إلى أسماء بسوار من الذهب قائلًا وهو يضحك: حتى يحين موعد زفافك سيكون لديك مصوغات تجعلك غنيةً.
إن حادث الرحلة المدرسية المرفوضة والسوار الذهب الممنوح يتكرران في صور شتى … تمضي سنوات ١٩٣٩ و١٩٤٠ و١٩٤١.
وفي مفكرة كل منها مذكرات أيام تفيض بأمثال هذه الحوادث، وفي عام ١٩٤١ في ٥ من فبراير يكتب في أسلوب رهيب: «إن صفحات المفكرة أقل إيلامًا من صفحات الذاكرة … ما دامت المذكرة لا تقلبها يد، ولا تقرؤها عين فهي صامتة تنطوي على ما فيها من ذكريات مريرة، أما ذاكرتي فهي قاسية تميل إلى الأحزان، لا تكاد تمر بي لحظة تعسة حتى تسارع هي فتنثر على بساط خيالي تعاسات العمر كله منذ عرفت الحياة، وكأن كل همها أن تكسو الجو كله بالغيوم، إنها هذه الذاكرة التي لا ترحم تدفعني إلى أفكار شريرة جعلتني اليوم أتمنى لو رأيت هؤلاء الثلاثة، أبي وزوجته وأسماء، موتى موسَّدين التراب، إني لأتمنى ذلك الآن … لا لأني أكرههم، ولكن لأنني لا أرى في الموت عذابًا، إني شخصيًّا أتمناه من حين إلى حين.»
وفي أواخر عام ١٩٤١ يخط سطورًا … سطورًا لم يدرك مداها إذ ذاك، وإن كان قد أدركه بعد أن خرج من سلطانها الرهيب، كتب في ذلك اليوم: «كل ما ينالني من أذى، وما ألقاه من سوء معاملة، وما أحرمه من مصروف أو عطف، كل ذلك يذهب لكي يستحيل حنانًا وخيرًا وسخاءً على أسماء، إن أبي وأمي يحرقان صباي بخورًا يجلب لأسماء السعادة … إن أعدائي ليسوا هم أبي وأمي … إنها سعادة أسماء، عدوي الوحيد … لو استطعت أن أحطم هذه السعادة، وأن أغرق هذه المخلوقة التي تقف سعادتها في سبيل حياتي، لو استطعت أن أغرقها في سيل من الشقاء لفعلت وأنا غير نادم، إن ما يجعلني أجن هو أنها لا تحس أبدًا بأنها هي سر شقائي … بل إنها تحادثني أحيانًا كما لو كنا صديقين …»
لقد حدث ذلك أكثر من مرة، حدث أن كان مغيظًا مهتاجًا ذات يوم؛ لأن أمه أساءت إليه إساءةً بالغةً لأنه مشط شعره بمشط أسماء … وكان الأمر تافهًا لولا أنها — أي أمه أو زوجة أبيه بتعبير أصح — انتهزتها فرصةً لتسيء إليه، وتجرح من كبريائه وترميه بالقذارة، كان مغيظًا مهتاجًا، ولو نزل إليه في تلك اللحظة ملاك أو شيطان يأتمر بأمره، ويسأله ما يطلب لما طلب غير هلاك أسماء، إنه يصف تلك اللحظة في مذكراته قائلًا: «وصعد الدم إلى رأسي فلم أرَ شيئًا، وتملكتني خواطر غريبة، نقلني الغضب إلى حالة إغماء لم أفقد معها توازني، وإنما فقدت صلتي بالعالم … وخيل إلي أن نجاتي معلقة بأن يهبط إليَّ ملاك من السماء، أو يصعد إليَّ شيطان من جوف الأرض … فإذا ما سألني أحدهما أو كلاهما عما أطلب لقلت دون تردد … قلت للشيطان: خذ روحها إلى أعماق الجحيم … وقلت للملاك: اصعد برأسها، وعلقها في قمة شجرة … بل لقد خيل إليَّ أن الملاك والشيطان قد التقيا بين يديَّ، وأني أهمس فعلًا بأمري الرهيب … ولعل شفتي قد تحركتا ببعض الألفاظ، لولا أن أفقت على صوت أسماء نفسها تهمس بي قائلةً: لا يأخذك الغضب … إني آسفة، خذ مشطي ومَشِّط شعرك في حجرتك … إني شخصيًّا لا أرى رأي ماما … أنت لست قذرًا.»
ولم يكن هناك أحد غيرنا إذ ذاك في الردهة بين حجرتي وحجرتها، فمددت يدي وأخذت المشط، وقذفت به بكل قوتي إلى الأرض، ونظرت إليها في حقد ومشيت، ومع ذلك فاليوم بعد العشاء والليلة إحدى الليالي التي نتعشى فيها جميعًا على المائدة، وما أقل هذه الليالي، بعد العشاء جاءت أسماء إلى حجرتي بمشط أحمر اللون قائلةً: «خذ هذا المشط لك … إن عندي أكثر من مشط.»
وفكرت أنا — بعد أن خرجت — كيف سخرت مني أمها حين طلبت من أبي ثمن مشط … عندها هي أكثر من مشط … عندها كل شيء، ولها المزيد، أما أنا فلا شيء …
وتمضي مذكراته خلال عام ١٩٤١ هكذا … حافلةً بالسخط والغضب، وبعشرات الأفكار الشريرة نحو أسماء حتى قبيل نهاية العام؛ إذ يكتب في ٩ من ديسمبر مذكرة يومه مختصرةً لا تعدو بضعة سطور.
«توفي قريب لأمي، وسافرت هي وأبي في الصباح للعزاء، وحينما جلسنا أنا وأسماء للعشاء خطرت لي فكرة رهيبة … بعثتها في رأسي تلك الرقة التي تعاملني بها أسماء والنظرات الخالية من الحقد التي تُصَوِّبها إليَّ …
بعد العشاء جلست أتصفح أحد الكتب حتى كانت الساعة العاشرة … وكنت وحدي على مائدة الطعام حتى أحسست البرد، فآثرت أن أذهب إلى غرفتي … كان باب حجرة أسماء مفتوحًا، وكانت مستلقيةً على الفراش تقرأ تحت ضوء المصباح المثبت فوق فراشها، لطالما تمنيت أن يكون لي مثل هذا المصباح فوق فراشي، ولكنني لم أجرؤ على طلب ذلك، وقالت أسماء حين مررت ببابها: هل كنت في غرفة المائدة إلى الآن؟
وتوقفت لأجيبها، فراحت تسأل مرةً ثانيةً: ماذا كنت تقرأ؟
وولجت الباب، واقتربت من فراشها فقالت، وهي تشير إلى حافة الفراش: اجلس!
وتحدثنا زهاء الساعة … كان الباب مفتوحًا، ومرت خالتي فاطمة، فرأتنا نتسامر فقالت في سذاجتها، وهي تتصنع الجد: لا تطيلا السهر … إن وراءك مدرستك في الصباح.
حينما أويت إلى غرفتي كانت في رأسي أشياء كثيرة … أفكاري الحزينة نفسها كأشباح سوداء يخطر خلالها — في ثوب النوم الوردي — قوام أسماء …
وفي خلال الأيام الأربعة التي غابها الوالدان كانت مذكراته تحمل سطورًا عن أسماء … كان يذكر أنهما جلسا يتحدثان بعد العشاء … ثم يذكر خواطره التي تتنازع تفكيره … ثم يتحدث عن أسماء … وفي كل مرة يتكرر حديثه عن قوامها … في إحدى الليالي نهضت من فراشها بثوب النوم لتحضر له من دولابها بضع قطع من الشيكولاته … لقد ختم مذكرته ذلك اليوم قائلًا: «وتبينت أني تركت قطعة الشيكولاته على فراشها، فقد كنت مستغرقًا في خواطر غريبة …»
كان ذلك في ١١ من ديسمبر عام ١٩٤١، وما أسرع ما تمر الأيام بل الأعوام …
إنه الآن قد أصبح رجلًا، وما تخلى عن عادته في كتابة مذكراته، ولكنه تخلى عن طابع هذه المذكرات، فلم تعد حديثًا عن الحاضر، وإنما أضحت أصداء للماضي … كان إذ ذاك يأوي إلى مذكراته ليقص عليها ما حدث في يومه … أما اليوم فإنه يأوي إليها لتقص عليه ما حدث بالأمس … إنه يجلس كل ليلة إلى مكتبه، فيضع أمامه مفكرة اليوم، ثم يفتح درج المكتب فيخرج مذكرات الأعوام الماضية، ويقرأ … يقرأ الساعات، ويعود إلى الماضي … فإذا ما بدأ الكتابة كان حديثه استطرادًا لهذا الماضي … ثم يذكر آخر الأمر أنه لم يكتب شيئًا عن يومه، فيدون أحداثه في كلمات، ثم يغلقها ليعود من جديد إلى صفحات الماضي يقلبها ويعيش فيها.
دقات الساعة تسجل الواحدة بعد منتصف الليل، وعيناه كليلتان لكثرة ما قرأ، فينهض متثاقلًا لا لينام، ولكن ليقف إلى جوار النافذة … لا يفكر صفاء الجو غير سحائب دخان لفافته، وما أسرع ما تتلاشى هذه السحائب في صفاء الجو، وتستحيل بدورها إلى نقاء … إنه يفكر الآن، وهو يرقب سحائب الدخان وهي تتلاشى، في سحائب حياته هو، إن في حياته أيضًا سحائب قاتمة تجثم على قلبه أحيانًا فيحس الضيق … وهو يرزح الآن تحت إحداها … بل لعلها أكبر هذه السحائب، وأشدها قتامةً ووطأةً، لقد فرغ الآن من قراءة مذكراته لعام ١٩٤٢.
عام يود لو أنه زال من حياته، وما عرفه أبدًا … كل يوم من أيام هذا العام تفيض صفحة مذكراته بالحديث عن أسماء، وعن لقائهما كل ليلة حينما تنام عيون الأسرة.
وفي إحدى هذه المذكرات كتب سطرًا ختم به صفحة يومه، سطرًا لم يتمه … «آه لو رأت الأم والوالد كيف كان الصنم الذي يعبدانه، ويقدمان له القربان صباح مساء مرتميًا تحت أقدامي غارقًا في لجة من الخجل والذل.»
إنه الآن في موقفه عند النافذة يستعيد ذكريات هذا اليوم في أعماق خياله بعد أن استعادها في صفحات مذكراته، ليس هذا اليوم فحسب بل ما تلاه من أيام، حتى دار العام وعرفت الأم كيف مرَّغ هو في الأوحال صنمها المعبود.
ليست المرأة أقدر إنسان على إذاعة الفضائح فحسب، وإنما هي أيضًا أقدر إنسان على كتمانها … لقد كتمت الأم كل ما عرفت حتى عن الأب، بل لعلها استحالت معه منذ ذلك اليوم إلى مخلوق رقيق تتلمس رضاه، وتتكلف الابتسام كلما رأته … ولما زُفَّت أسماء بعد ذلك بشهور كانت الأم هي التي اقترحت على الأب أن يشتري له ثوب سهرة فاخرًا يليق بأخي العروس، ثوب السهرة الذي ارتداه ليلة الفرح ليسير متأبطًا ذراع أسماء أخته، ليقودها إلى بيت زوجها.
وتجثم السحابة في شدة على قلبه فيذكر كيف أحس بالضيق في تلك الليلة، ويذكر كيف خانه القلم فلم يستطع أن يكتب سطرًا في مذكراته عن مشاعره في ذلك اليوم فلم يزد على قوله: «كان يومًا مثيرًا بكل ما حدث فيه … ولقد بكيت حينما انتهى الفرح، وعدت إلى الدار لأحس فيها بأني وحيد أنا وجريمتي التي تطالعني في كل ركن من أركان حجرتي.»
وتدق الساعة الثانية فيغادر مكانه من النافذة، ويتجه إلى مكتبه … يفتح من جديد مذكراته، ويحاول أن يكتب … ويكتب عن الماضي، عن ذلك العام الذي يتمنى اليوم لو لم يكن قد عرفه أبدًا … ويقول وهو يغالب التعب: «عذري الوحيد الذي أخادع به نفسي الآن أني كنت شابًّا دافق الصبا … وكانت حسناء ريانة العود … وكان الشيطان ثالثنا.»
ثم يضيف سطرًا أخيرًا: «وكنت أحس بلذة غريبة، وأنا أمتهن هذا القوام … الذي يعبده كل من أبي وأمي … ويحرقان صباي بخورًا تحت أقدام سعادته … كنت أحاول جاهدًا أن أنكر هذه اللذة، لكنها كانت تطغى على كل شيء … بل لعلها كانت تتقدم كل لذة …»