حساب بين الخَيِّرين
… لقد خُلِق كلاهما للآخر … كان يريد أن يصعد … وكانت السُّلَّم لمجده …
***
بعض القصص يبدأ حينما يرى رجل امرأةً، وينتهي حينما يتزوج هذا الرجل بالمرأة، أو حين يفترق كلاهما عن صاحبه، أو حين يموت أحدهما ويعيش الآخر.
أما قصة الأستاذ عبد السميع، فهي تبدأ بدايةً أخرى، فهو لم يرَ سعدية حتى يحبها ويتزوجها … وهي لم ترَه، فتنصب حوله الشباك حتى يقع في الفخ … إن بعض المتشائمين يسمون الزواج فخًّا تموت فيه الفريسة ببطء وإمهال … أو تعيش وقد كُسِرَت أجنحتها فلا تكاد تشيل عن الفخ لتحلق … حتى تهبط فيه ثانيًا لتستقر … إن الذي رأى عبد السميع أفندي، هو المصور الفوتوغرافي الذي التقط له صورةً في ردائه الكحلي الذي لا يرتديه إلا ليلة الجمعة حينما كان يذهب ليسهر مع أقرانه.
والذي رأى سعدية أيضًا، هو المصور الفوتوغرافي، مصور آخر غير الذي رأى عبد السميع، التقط لها صورةً، وهي في ثوب قرمزي بدا فيه قوامها الطويل المنساب في استقامة نحو قدمين عريضتين تناسبان هذا القوام، ويبدو أن كلا المصورين قد فهم مهمته بكل دقة، وأداها بنجاح، فقد راقت سعدية في عين عبد السميع، ورأت سعدية بدورها أن عبد السميع مقبولٌ شكلًا.
أما من ناحية الموضوع فقد كان المهر مُرْضِيًا لوالد سعدية، ولم يكن مرهقًا لعبد السميع، إذا ألقينا نظرةً على قائمة الجهاز الذي تكفل به والدا العروس، كان الجهاز حجرة جلوس، وحجرة نوم، وحجرة مائدة، ومطبخًا كاملًا، وكان المهر سبعين جنيهًا، لا تكاد تكفي لشراء الجهاز، أي إن سعدية ستكون في داره ربحًا دائمًا لم يدفع له مقابلًا، ربحًا من اللحم الأبيض الشهي الذي طالما داعب أحلامه والذي طالما صحا من نومه فوجد نفسه يطبق بيده على الوسادة متخيلًا أنها ذراع سمينة من نوع هذا اللحم، وهكذا … لم تكن هناك قصة، ولا شبه قصة … إلى اللحظة التي احتوى فيها البيت الصغير، بحي المنيرة، عبد السميع وسعدية.
لم تكن هناك سوى عملية حسابية تقوم على بعد النظر كقيامها على الأرقام سواء بسواء، ومن بعد النظر أن يستريح عبد السميع من هذه الأحلام الكاذبة التي تخيب ظنه كلما صحا من نومه.
ومن بعد النظر أيضًا أن يدفع سبعين جنيهًا، فيأخذ بما يعادلها أخشابًا، وموبيليات … ثم يكسب فوق ذلك قدرًا شهيًّا من اللحم الأبيض الدافئ.
ولننصف عبد السميع، فنقرر أنه كان إلى يوم زواجه لا يعرف اللحم الدافئ إلا أحلامًا سريعة لا تعدو نطاق خياله … ولننصفه أيضًا، فنقول: إن الزواج لم يكن يعني في نظره غير أن تتحقق هذه الأحلام دون نفقات، ولم يكن الزواج في حسابه يعني بداية قصة أو نهايتها، ولم يكن في نيته أن يكون الزواج بداية قصة.
ولنترك الآن عشرين عامًا تمر … هي الزمن الذي استغرقته القصة لتشرف على نهايتها … ولنجلس خلف مائدة عبد السميع على المقهى … أية مائدة … فالمقهى خالٍ والساعة الرابعة بعد الظهر، وكل شيء هادئ في المدينة الكبيرة حتى نسمات الهواء قد هدأت فسكنت أوراق الشجرة التي تقوم عند حافة الرصيف كأنما استغرقت في سبات عميق.
لقد جلس وحده يجرع فنجانًا من القهوة، ويدخن سيجارةً … كل ما في عبد السميع يدل على أنه ثائر … حركة يده العصبية، نفثه لدخان سيجارته، عدم استقراره على مقعده، كأنما يريد أن يفعل شيئًا، ثم تمتمة شفتيه كأنما يحدث نفسه.
تُرَى ماذا يقول عبد السميع لنفسه؟
أي شيء جد في حياته؟ حياته التي بناها كما أراد من عشرين عامًا فجعله يأوي في مثل هذه الساعة إلى المقهى الخالي؟ أي شيء؟ وتسمع عبد السميع، وهو يهمس لنفسه: مش معقول! أي شيء هذا الذي لا يعقله عبد السميع؟
ومع ذلك لم يقُلْ شيئًا غير هذه الكلمة … وما عرفنا شيئًا غير أنه ثائر غاضب، وأن ثورته لا تعني غير الاعتكاف في مقهى خالٍ، ونفث الدخان في عصبية واضطراب …
أما سعدية فهي أكثر صراحةً ووضوحًا، إنها في هذه الساعة نفسها تجلس في حجرتها، وعلى حافة السرير بالذات، تتحدث بالتليفون … أي سرير؟ ليس السرير النحيل الذي كان قطعةً من الأثاث يوم تزوجت عبد السميع … لقد اختفت الحجرات الثلاثة، وحجرة المطبخ أيضًا … إن بيت عبد السميع ليس فيه الآن من ذكريات زواجهما غير عبد السميع وسعدية، إنه ليس بيت الموظف المتواضع بحي المنيرة، وإنما هو الدار الفخمة الواسعة الأنيقة بحي الزمالك.
لنستمع إلى سعدية، وهي تتحدث بالتليفون … ما زال لها قوامها ممتلئًا ممشوقًا … ولحمها أبيض كالعاج.
ألم أقل إنها أكثر صراحةً ووضوحًا؟ إنها تقول أيضًا، تقول في التليفون لمن تحدثه: مش معقول! ولكنها تمضي بعد ذلك …
– ماذا يظن في نفسه هذا الأحمق؟ يأمر وينهى، ثم يقول لي إنه سيد البيت … وإن له الحق أن يدعو من يشاء، وأنا ليس لي الحق …
وتستمع سعدية لمن تحدثه في التليفون برهةً، ثم تقول: خرج غاضبًا.
ثم تتابع حديثها بعد لحظة: لا شيء … سوف يعود … كما عاد دائمًا … ليُقَبِّل رأسي.
وينتهي الحديث … لقد عرفنا على الأقل أن هناك خلافًا بين عبد السميع، وسعدية … إنه يريد أن يدعو إلى داره صديقًا أو أصدقاء، وسعدية ترفض … أو ربما أن سعدية هي التي تريد أن تدعو أصدقاء، وعبد السميع يرفض، وكلاهما يرى فيما يطلبه صاحبه أمرًا غير معقول.
ثم لا تنتهي القصة … ففي الساعة السابعة من اليوم نفسه، وعلى مقهى آخر يجلس فريق من الموظفين … ونسمع اسم عبد السميع يتردد على ألسنتهم، ويدور هذا الحديث: كاد عبد السميع بك اليوم يبطش ببيومي الفراش لسبب تافه.
– لقد أصبح عبد السميع بك لا يطاق.
– لازم الإدارة مزعلاه.
– وهو يقدر على زعلها؟
– لو أنه فعل شيئًا أغضبها لنقلته إلى أسوان.
– أو على الأقل لم يكن لينال درجة مدير عام «أ» ولم يمضِ على ترقيته شهور لدرجة مدير عام «ب».
ثم يسودهم الصمت لحظةً، ويقول أحدهم: هناك شيء يحيرني!
– ما هو؟
– كيف يستطيع عبد السميع بك أن يوفق بين كل هؤلاء الكبراء الذين يعرفهم مثلًا …؟ ولكن لا داعي …
ويرد آخر: مثلًا ماذا؟ لا تكن جبانًا.
ويتشجع المتحدث: هل يعرف مثلًا فلان باشا أن خصمه وعدوه فلان باشا كان صديقًا لعبد السميع، ويتردد على داره قبله؟
ويجيب أحدهم: طبعًا يعرف … ولكن ما المانع … إنه يعرف أكثر من ذلك، يعرف أن صداقته لعبد السميع مرهونة ببقائه في الوزارة، ولكن هل يضيع الفرصة؟
– فرصة؟ أية فرصة؟
– فرصة التمتع بصداقة عبد السميع بك، وأسرة عبد السميع بك.
ويضحك الجميع …
ويسحب الليل ذيوله في أعقاب الغروب، وتكف الجماعة عن أحاديث عبد السميع، وتنهمك في لعب النرد ومطالعة الصحف.
ونعود نحن إلى بيت عبد السميع بك … إن إحدى حجرات البيت مضاءة، وفيها يجلس عبد السميع بك وحده ليطالع الصحف أيضًا، إنه لا يتمتم بالاحتجاج … ولا يعروه انفعال … إنه هادئ لا يبدو عليه الغضب، وسعدية ليست معه، لقد جلست في حجرتها مع صديقتها اعتدال … ونسمع مرةً أخرى اسم عبد السميع.
نسمعه مقرونًا بشيء من السخرية … ليس عبد السميع بك كما يسميه أصحابنا على المقهى … وإنما … سي عبد السميع.
تقول سعدية لصديقتها: سي عبد السميع حيعمل راجل على آخر الزمن … تصوَّري إنه بيعاتبني لأني أقف كثيرًا في النافذة … وفي كل مرة أقف فيها بيكون الشاب الساكن أمامنا واقفًا بالمصادفة في النافذة المقابلة.
وتقول صاحبتها في خبث: صحيح بالمصادفة؟
وتضحك سعدية قائلةً: أنت شقية؟
– من؟
– محسن أمين الساكن أمامنا؟
– عاجبك؟
– شاب لطيف … مش الخناشير بتوع عبد السميع …
وتقول اعتدال، وهي لا تقصد شيئًا: على فكرة مبروك لعبد السميع بك الترقية الجديدة.
وتضحك سعدية قائلةً: وماذا ينوبني أنا؟ هو يترقى ويأخذ درجات، وعندما أطلب منه سوارًا كهذا الذي رأيته عند الجواهرجي يدعي أنه مفلس.
ونسمع جرس التليفون … وتصمت سعدية وصديقتها، إن الصوت الوحيد الذي نسمعه هو صوت عبد السميع … نسمعه يقول لمحدثه: الله يسلم معاليك يا فندم …
– لا والله مش خارجين … إذا كان معاليك معندكش مانع ما تشرف.
ولنخرج من الدار سريعًا … قبل أن يشرف معالي الوزير.
نخرج لنعود في الصباح … إن هناك مشادة قد ارتفع فيها صوت الزوجين، عبد السميع يستنكر شيئًا، ويصيح: هل هذه أصول؟ تتركينا مدعيةً أنك متعبة، وتذهبين لحجرتك؟ ماذا يقول عنا الرجل؟
– لا يقول شيئًا، يعرف أنني مريضة.
– وأنا الذي قلت له يتفضل بالحضور.
– جاء ليجلس مع صديقه، لا معي أنا.
– هل تنتقمين مني؟
– أنا أنتقم منك؟ لماذا؟
ويصمت عبد السميع، وقد فهم … فهم أنها انتقمت منه.
ومن المؤكد أنه فهم … لقد دخل حجرتها بعد دقائق فوجدها في مكانها بالنافذة فخرج دون أن يقول شيئًا، ومن المؤكد أنه فهم، فما إن تمضي عشرة أيام حتى نسمع جلبةً في منزل عبد السميع بك، ونرى الأنوار تشع من كل الحجرات … ولا نكاد نلج باب غرفة المائدة حتى نرى منظرًا عجبًا.
سعدية على رأس المائدة، وعن يمينها فلان باشا، وعن يسارها فلان باشا، وإلى جانبها اعتدال، وبعدها عبد السميع بك، وبعد عبد السميع جلس الشاب … ساكن الدار المقابلة … محسن أمين.
ذراع سعدية تلامس كتف فلان باشا، وعيناها تصافحان عيني محسن … وعبد السميع أيضًا … إنه يختلس نظرات ذليلة إلى كتف اعتدال البيضاء، ولا ترتبك أنها تجلس بين فلان باشا، وفلان باشا الآخر الخصمين اللدودين كما ظن أصحابنا الذين تحدثوا في المقهى منذ أيام … الخصمان اللذان يختلفان في الرأي، ويهاجم كل منهما سياسة الآخر … هكذا على مائدة واحدة.
ومحسن الشاب الذي يقف في النافذة، وأمامه سعدية في النافذة المقابلة تقف الساعات في انتظار اللحظة التي يجرؤ فيها على فعل شيء غير التطلع …
لا شك أن عبد السميع قد فهم … إن الذي لم يفهم هو فلان باشا حين يسأل: والأستاذ محسن بيشتغل فين؟
وينظر عبد السميع إلى سعدية، وكأنه يقول: «لست مسئولًا».
وتقبل سعدية التحدي فتجيب: محسن أمين ابن خالة والدتي … ويبدو أن الوحيد الذي صدق هو عبد السميع، لقد انفرجت أساريره، ونظر إلى محسن في ود وصفاء … وفي الحق كان على عبد السميع بك أن يرضى، ولو وَحْدَهُ بهذه القرابة.
وسنرى محسن بعد ذلك في بيت عبد السميع، كما لو كان أحد أقارب العائلة المقربين فعلًا، سنراه في السهرات كلها قاسمًا مشتركًا في مكانه من عيني سعدية.
وسنراه بعد ذلك عشرات المرات حينما لا يكون عبد السميع بك في المنزل بالضبط … كالأقرباء المقربين … سنراه كثيرًا … ولكننا لن نثور كما سيثور عبد السميع بك ذات يوم، ثورة مكبوتة ذليلة كثوارته دائمًا … تبدأ بسؤال كأنه يتحسس به الطريق: لم أعد أرى محسن كثيرًا.
وتجيب سعدية دون اكتراث: كان هنا هذا الصباح.
وسؤال آخر … وتعليق على طريقة الأذكياء: لكأنه يتجنب لقائي.
ولا تقِلُّ سعدية ذكاءً، وإنما تزيد شجاعةً: إنه يأتي ليراني أنا لا ليراك.
ولا معنى لأن تشك في ذكاء عبد السميع … إنه يفهم ما ترمي إليه سعدية.
ويتراجع عبد السميع … يتراجع في عتاب رقيق: سعدية … إنك تسرعين في الغضب … أريد أن أقول ماذا يظن الجيران؟
وتضحك سعدية في قسوة: ما كانوا يظنونه بالأمس …
ونحن إلى الآن لم نسمع شيئًا، إن الجيران يتكلمون دائمًا، وفي هذه الساعات بالذات … ساعة الصباح حيث يتهيأ الموظفون إلى أعمالهم … كان بعض الجيران يتكلمون.
كانت هناك مثلًا سنية هانم التي تسكن في الشقة المقابلة لشقة عبد السميع … لقد وقفت سنية هانم إلى جانب زوجها، وهو يرتدي ملابسه تقص عليه أطرافًا من قصة جارهما عبد السميع بك وزوجته والشاب محسن، أما أنها ترى «محسن» كثيرًا، وهو يترد على منزل عبد السميع فذلك أمر نعرفه … ونعرف أيضًا أن سعدية لا تبالي بزوجها، ولا بالجيران أيضًا، لكنا لا نعرف مثلًا هذا الذي تقوله الآن بحيث جعل زوجها يتوقف عن إصلاح ربطة عنقه، ويلتفت إليها سائلًا في دهشة: هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟
إن سنية تؤكد له أنه وصل … لقد قالت سعدية لصديقتها اعتدال كل شيء، وصارحتها بما انتوته، وبما سوف تفعله.
ولزوج سنية الحق في أن تعروه الدهشة، وأن يشك في بلوغ الأمر إلى هذا الحد …
– مرة أخرى … مش معقول … مش معقول … ولو أن اعتدال تقول ذلك.
وفي الوقت الذي تروي فيه سنية لزوجها القصة، وهو لا يعقلها، ولا يصدقها تكون اعتدال أيضًا ترويها كشاهد عيان ترويها للمرة العشرين على الأقل … لإحدى صديقاتها: ألم تسمعي بآخر خبر … إنه سر لن أقوله لك حتى تقسمي ألا تبوحي به لأحد.
وتقسم الصديقة … كما أقسمت هي من قبل لسعدية على حفظ السر … وتمضي اعتدال في روايتها: مش سعدية بتحب واحد تاني … وكأنما ترى الصديقة أنْ لا جديد في الموضوع، ولكن اعتدال تؤكد لها: بتحب صحيح، بتحب واحد، وسوف تترك عبد السميع زوجها من أجله … ستتزوجه هو.
– هو … من هو؟
– ولد صغير ساكن في المنزل المقابل لمنزل سعدية … اسمه محسن أمين، لقد قررت سعدية أن تُطَلَّق من زوجها، وتتزوجه هو.
وتمضي اعتدال في سرد تفصيلات القصة، النظرة فالسلام فالزيارة في ساعات الصباح المتأخرة … وعشرات القصص من هذا القبيل … ثم تنتهي بأن سعدية ستصارح عبد السميع اليوم، وتطلب منه أن يطلقها …
ترى ماذا يقول عبد السميع … وما هو رأيه؟
ونعود إلى منزل عبد السميع لنرى كل شيء هادئًا، في ساعات الظهيرة سعدية في حجرتها تنعم برقاد لذيذ، وعبد السميع في حجرته يسحب أنفاس الدخان من سيجار ضخم … هادئ الأعصاب مسرورًا بالحياة، ومن سوء الحظ أننا لم نتقدم بضع دقائق … لقد فاتنا أروع منظر في القصة … منظر سعدية وهي تطلب من عبد السميع أن يطلقها … ولكن لا بأس … ستروي سعدية لاعتدال هذا المنظر، وما دار فيه من حوار بالتليفون، ولنستمع نحن مع اعتدال: رجل ليس في وجهه قطرة من الدم … تصوري أني أقول له بالعربي المفتوح إني أحب محسن وهو يحبني، وإني أريد أن يطلقني لأتزوج محسن، فيكون جوابه ببساطة، ودون أن يثور: «ماتبقيش مجنونة» ثم ينسى الموضوع، ويحدثني عن رغبته في دعوة فلان باشا الوزير السابق للعشاء لأنه جاي وزير تاني في الوزارة الجديدة، أنت تذكرين فلان باشا هذا؟
وتعلق اعتدال: طبعًا أذكره … ليلة عيد ميلادك عندما سكر، وحمله عبد السميع والحاجب إلى منزله …
– هو بالضبط … سيعود وزيرًا، وعبد السميع يطمع في أن يعينه مديرًا لمصلحة كبيرة … هذا المغفل، إنني لا عمل لي إلا ترقيته …
– وبعدين؟
– وبعدين حاولت أن أجعله يتشاجر معي لأترك البيت فأخذ يتظرف معي، ويمدح في محسن، وقال إنه مستعد لأن يطلقني لو كان يعرف أن محسن يستطيع أن يفتح بيتًا … ثم بكى كالطفل، وقال لي إنه لم يتدخل في شئوني أبدًا، وأقسم لي أن محسن يضحك عليَّ، وأنه لن يتزوجني … تصوري المغفل يظن أن كل الرجال مثله عديمو الشرف.
– وبعدين؟
– وبعدين سأقابل محسن غدًا صباحًا، وأصفع عبد السميع صفعةً لا يقوم منها … سأجعل محسن يكتب لي ورقةً يتعهد فيها بالزواج مني …
– وإذا رفض عبد السميع أن يطلقك بعد ذلك؟
– سأنغص عيشه، وأرغمه على طلاقي … ولا بد أن يكون المنظر شائقًا.
ذلك المنظر الذي تقدم فيه سعدية لعبد السميع البرهان على أن محسن يحبها، ويريد أن يتزوجها.
أي شعور بالمهانة سيحس به عبد السميع، وأي هزيمة؟
ترى سيطلق سعدية … ومتى سيطلقها؟!
يلقى السؤال عشرات المرات …
يسأله زوج سنية لزوجته … وتسأله سنية لاعتدال …
وتعِدُ اعتدال بأنها ستحمل النبأ بعد حين … فهي مدعوة لتناول العشاء عند سعدية غدًا … وغدًا سينتهي كل شيء.
ويمتلئ الصالون الأنيق في منزل عبد السميع بك بالضحكات في مساء الغد، إن فلان باشا منشرح الصدر رائق المزاج يبعث الفكاهات فيضج لها الجميع بالضحك، والجميع هم فلان باشا نفسه، وهو أعلى الضاحكين صوتًا لفكاهاته، ثم عبد السميع بك، ثم سعدية، ثم اعتدال.
ولن نستطيع أن نسأل اعتدال عن النبأ الآن، فقد وصلت متأخرةً، ودخلت على الفور إلى الصالون.
ولن نستطيع أن ننتظر إلى نهاية السهرة، فقد ثمل فلان باشا، وأخذ يخلط بين سعدية واعتدال، ويبدو أن اعتدال بدورها ثملت فظنت نفسها زوجة عبد السميع … ويبدو أنها نسيت وعدها بأن تحمل لنا الأنباء، وكأنما أحست اعتدال، وهي تتثاءب في فراشها في صباح اليوم التالي، بأنها نسيت شيئًا هامًّا، فهي تطلب سعدية بالتليفون لتسألها عن الخبر، ولا تكاد تنتهي المحادثة، ولا تكاد تمر بضع دقائق حتى نسمع سنية تروي لزوجها النبأ: لقد تشاجرت سعدية مع محسن؛ لأنه رفض أن يعدها بالزواج، ونصحها بأن تظل مع زوجها.
ويصلح زوج سنية رباط رقبته أمام المرآة، ويقول دون أن يدير رأسه: هل كنت تظنين أنه طلب منها الزواج؟
– لقد أشاعت سعدية أنه طلب منها الزواج.
ويمضي زوج سنية في إحكام رباط رقبته، ولا يعلق بشيء، وتمضي سنية في الثرثرة.
وفي الوقت نفسه يجرع عبد السميع جرعةً قويةً من فنجان الشاي، ولا تكاد تستقر في جوفه حتى يقول لسعدية: عندما أعين مديرًا للمصلحة، ستكون لدينا سيارة تحت أمرك … سيارة لا ندفع فيها مليمًا … لا تصليح … ولا بنزين، المصلحة دي خيرها كتير قوي يا سعدية.
وتقول سعدية، وهي تختلس النظر إلى النافذة المقفلة، نافذة غرفتها: المهم هو أن نغير هذا المنزل … أظن أن مركزك لا يسمح بأن نسكن في منزل حقير كهذا.
وفي حماسة، وفرح يجيب عبد السميع: المنزل؟ سنغير كل شيء يا سعدية … هل تعرفين فيمَ أفكر الآن يا سعدية؟ إني أفكر في حالنا أنا وأنت لو انفصلنا … لقد خلق كلانا للآخر يا سعدية.
ويخرج عبد السميع بك ذلك الصباح إلى مقر عمله، وقد علاه الانشراح، وبدا في وجهه الامتنان بالحياة.
أليست قصة عبد السميع بك ذات نهاية سعيدة؟!