قفص الدجاج
إنه الرجل … الرجل الوحيد الذي دافع عن حقه، وأبى أن يظلم فنصره الله …
***
المكتب الصغير المتواضع في الحجرة المتداعية الجدران.
هنا يجب أن أعيش بضع سنوات حتى يأذن الله بأن يتغير مصيري فأنتقل إلى مكان آخر.
وربما كان المكان الآخر مكتبًا آخر على الصورة نفسها، وفي حجرة أخرى على الحال نفسه.
ولم لا؟
أين يجب أن يكون كاتب السجن من أحد المراكز، إن لم يكن في حجرة نائية في أقصى الممر في بناء عتيق من مباني المدينة الصغيرة التي يقوم فيها المركز؟
كاتب سجن؟
أجل هذا هو العمل الحكومي الذي أسند إلي حينما صدر قرار تعييني موظفًا في الدرجة الثامنة بوزارة الداخلية، كاتب سجن عليه أن يستقبل المسجونين الجدد، ويودع المسجونين الراحلين، ويغمض عينيه عن المسجونين الذين لا يستقبلهم ولا يودعهم، وإنما يراهم يمرون تحت أنفه داخلين إلى السجن، وخارجين منه دون أن يكونوا متهمين، أو محكومًا عليهم …
إن سجن المركز هو الاستراحة، اﻟ «رست هاوس» بين الحرية، وبين حياة السجون … وأنا مدير هذه الاستراحة، المدير الذي يشرف على راحة نزلائها، لكن أي مدير؟! مدير مغلول السلطة، لا يملك حتى أن يقبل من يريد، أو يرفض من لا يريد، بل لا يملك حتى الحق في أن يعرف عدد النزلاء، أو أسماء بعض النزلاء.
وأمامي دفتر ضخم … دفتر السجن … أقيد فيه أسماء النزلاء، وتاريخ وصولهم، ونوع جريمتهم، ورقم قضيتهم، ومدة بقائهم، ومن أين جاءوا وإلى أين يذهبون؟ والمفروض — المفروض فقط — أن يكون عدد المقيدين في الدفتر مطابقًا لعدد الموجودين في السجن … أما الواقع فهو أن حجرة السجن تحتوي دائمًا على ضعف العدد الموجود بالدفاتر …
وكل من هؤلاء الزائدين يمثل مخالفة قانونية … بعضهم قبض عليه ضابط المباحث لاشتباهه في شأنه … وبعضهم أفرجت عنه النيابة، ولم يَرُقْ قرارها في عين البوليس فخرج من السجن … في دفتري فقط، وبقي فيه بجسمه … فقط.
وقد يختلف أحد الحكام مع أحد أتباعه فيُلْقَى به إلى السجن لكي «يتربى» ولم لا؟ أليس السجن تأديبًا وتهذيبًا؟!
وإذا عرفت عدد الحكام في المركز فسوف تعرف عدد الذين يحتمل نزولهم ضيوفًا على السجن … ضيوفًا غير رسميين، إن الحكام يبدءون بالمأمور، وينتهون عند محروس، ومحروس هو الجندي النفر الذي يقف أمام باب حجرة الأفندية الكتبة … وأنا منهم.
وإياك أن تخطئ في محروس كما أخطأت أنا في أول عهدي بالعمل، لقد حسبت أن محروس يجلس على باب حجرة عملنا ليقوم بخدمتنا … وعلى هذا الأساس ناديته لكي يقوم بتوصيل أحد الملفات إلى معاون البوليس.
واسمع حوارنا أنا ومحروس:
– وصَّلْ هذا إلى معاون البوليس!
– أحسن توصله حضرتك.
ورفعت رأسي ويدي ما زالت ممدودة بالدوسيه، فرأيت محروس واقفًا لا يحمل وجهه أي معنًى … جامدًا كأنني لم أقل شيئًا، ولم يقل هو شيئًا.
– ماذا يا محروس؟ ألا تسمع الكلام؟
ويستدير يمضي إلى الباب كأنه لم يسمع فعلًا الكلام، ونهضت من مكتبي منفعلًا، وزملائي ينظرون، واتجهت إلى المكتب الخشبي المتهالك في أقصى الممر حيث يجلس الشاويش عبد ربه، ورفع عبد ربه عينيه، وهو يقول دون أن يتحرك من مكانه: أهلًا محمد أفندي … تلزم خدمة؟
وبسطت شكواي من محروس، وانتظرت لأسمع زئير الأسد مناديًا محروس ليؤنبه على ما فعل، ولكنني سمعت تأنيبًا لي أنا، أجل! أنبني الشاويش عبد ربه في أسلوب خبيث قائلًا: له حق يا محمد أفندي، ده عسكري غشيم، افرض وقعت ورقة من الملف … من يكون مسئولًا؟ إوعى تديله ورق تاني.
وعدت بانفعالي، وقد تحول إلى ثورة جبانة، ثورة لم تتجاوز جذب أدراج المكتب بعنف وإلقاء الملفات على اليمين وعلى الشمال، وفتحت علبة سجائري في عصبية، ثورة المهزوم المغلوب الذي استنفد طاقة جهده في الاحتجاج والشكوى، ولمن غير الشاويش عبد ربه كنت سأشكو الجندي محروس؟ إن المركز كله له سيد واحد، هو الشاويش عبد ربه …
ولندَعِ المأمور في حاله … إنه نفسه حين يضيق بشيء لا يملك إلا أن يصيح: «يا شويش عبد ربه!»
ولن أنسى حين سألت معاون البوليس أن يوقع على كشف السجن في أول يوم تسلمت فيه العمل، فإذا به ينادي عبد ربه، ويسأله أمامي عما إذا كان الكشف مضبوطًا أم لا … ثم يوقع بعد أن يجيبه عبد ربه بالإيجاب وأجل، لن أنسى أن ضابط المباحث قال لي يومًا، وهو يعرفني بشئون المركز: «إن الشاويش عبد ربه هو كل شيء في المركز … إنه دولاب العمل.»
لقد أنَّبَني دولاب العمل، وبرَّأ محروس … وليس أمامي إلا الله … وإلا أن أحمل أوراقي بنفسي إلى معاون البوليس، وأن أفترض أن محروس على باب حجرتنا كاللوحة الموضوعة فوق رأس القاضي في قاعة المحكمة، وقد كتب عليها «العدل أساس الملك» …
ومع ذلك … مع وجود محروس رمزًا للحكومة كاللوحة على باب الحجرة، ومع وجود عبد ربه على المكتب الخشبي المتهالك في أقصى الممر، وإشرافه منه على المركز كله بما فيه من حكام ومحكومين … مع ذلك فقد كنت راضيًا عن عملي … وكان مبعث رضائي أنني كنت محوطًا بجو صافٍ من صداقة أربعة زملاء يهونون عليَّ مشقة العمل، ولا يكفون عن المزاح والضحك، حتى إن ساعات العمل من كل يوم تمر قصيرةً هينةً … إني أتخيل جهنم أحيانًا، وليس فيها لهب ولا حرمان، وإنما فيها مجموعة من ثقلاء البشر، ويسودها جو من الكراهية والحقد، وعلى العكس أتخيل الجنة … ثمارها وأنهارها أرواحًا مرحةً صافيةً تفيض بالحب والبشر …
كانت كل متاعب العمل تزول بنكتة رائعة يرسلها رياض أفندي كاتب الضبط، أو قصة لطيفة من ذكريات الماضي يرويها عبد المسيح أفندي، أو أغنية ساذجة يدندن بها السيد أفندي كاتب القيودات فتتحرك يداه على إيقاعها، وأنا أختم البوستة، وأغلقها في المظروفات.
ثم كانت لديَّ ساعة أخرى أعيشها في حياة الناس والريف، ساعة تسلم المسجونين الجدد والاستماع إلى أقاصيص جرائمهم الصغيرة والكبيرة يروونها في اقتضاب … لا كجرائم بل اتهامات هم منها أبرياء … بعضهم متهم بالسرقة … بضعة أكواز من الذرة … إنه لم يسرقها لقد اشتراها، ولكن سوء حظه هو الذي جعله يشتري نفس المقدار الذي سُرِق في نفس اليوم.
وبعضهم شجَّ رأس غريم له في معركة، إنه لم يفعل شيئًا، لقد أخذ غريمه عصاه، وشج رأسه بيديه لكي يلقي عليه التهمة …
وراء كل قصة تبدو حقيقة … كنت أحسها وأراقبها … ما من كوز من أكواز الذرة، أو رأس من الرءوس المشجوجة … أو صدر من الصدور التي نزف دمها إلا وخلفه عدو … ليس صاحب كيزان الذرة، ولا الرأس المشجوج … ولا الصدر النازف … عدو آخر هو الفقر، ماهر في التنكر يلبس عشرات الثياب ويختفي، ووراءه عشرات الأقنعة … يختفي مرةً في صورة منجل تحصد به زراعة لم تثمر، أو سرقة تافهة، أو جرح غائر، أو نصل حاد … فإذا اختفى هذا العدو فهناك عدو آخر لا يقل مهارةً في التنكر عن العدو الأول هو الجهل وضيق العقل.
أيمكن لغير الجهل أن يصور في عقل الإنسان أن تسميم جاموسة تحمل في أحشائها جنينًا هو انتقام عادل من غريم؟
الجهل والفقر يبعثان كل يوم بزبائن جدد أملأ بهم حجرة السجن الصغيرة في المركز، ولطالما وقفت مذهولًا، وأنا أتخيل هذه الحجرة الصغيرة وهي تبتلع العشرات … حتى ليخيل لي أحيانًا أن فيها سراديب لا أعرفها تتسرب في حناياها هذه المخلوقات … وإلا فكيف لا تنفجر جنباتها بهذ العدد الكبير، وكيف يخرجون منها أحياء؟!
ثم تأتي أيام لا يكون فيها غير سجين أو سجينين … سجين أكاد أستشعر وحشته في هذا الظلام الدامس والليل الطويل … الليل الذي لا يقطعه غير نباح كلب جائع، أو صوت الشاويش عبد ربه.
وصوت عبد ربه لا ينقطع ما دام في المركز … إنه يتكلم بصوت عالٍ، ويحيي بصوت عالٍ، ويتشاجر بصوت عالٍ، فإذا ما خيم السكون فإن عبد ربه يعز عليه أن تهدأ الدنيا … ولهذا يرسل سعاله المدوي، كأنه ينبه من غفل أنه رابض في المركز.
ولا أدري لمَ كرهت عبد ربه منذ أول يوم وطئت قدماي فيه أرض المركز، لقد أحسست ساعة قدومي أن ألفاظ التحية التي قالها تحمل معانيَ غير التحية … لقد قال لي إذ ذاك: آنستنا يا محمد أفندي.
وأحسست أنا أنه يقول: لن نكون صديقين يا محمد أفندي … منظرك لا يروقني يا محمد أفندي.
وحتى يوم أن نصر محروس عليَّ، وأعطاه الحق في أن يرفض طلبي ويعصي أمري … أحسست أني لا أحقد على محروس بقدر ما أحقد عليه هو، ولربما كنت مخطئًا في إحساسي ومتعسفًا في كراهيتي، ومع ذلك فقد وصل الحال بيني وبينه بعد ذلك بقليل إلى أن يصارحني وأصارحه بهذه العواطف، كان ذلك في صورة رأي أبداه إثر مناقشة بيننا على مسمع من زملائي، فقد قال: أنا مش عارف إنت متقنزح على إيه يا محمد أفندي؟
وأجبته أنا بنفس البساطة التي توقَّح عليَّ بها: ولا أنا أيضًا … إني لا أعرف لماذا أستثقل دمك يا شاويش عبد ربه.
وكان كلانا يجهل السبب في شعوره نحو صاحبه إذ ذاك حتى جاءني ذات يوم ما يبرر كراهيتي … ثم توالت الأنباء … من ماسح الأحذية، ومن السجناء، ومن بعض الزملاء.
إن عبد ربه يسرق ويرتشي ويضرب السجناء الذين لا يرشونه ولا يسمحون بأن يسرقهم، والويل للسجين الذي يفتح فمه حين يجرده عبد ربه مما في جيبه، ولا سيما إذا كان سجينًا جديدًا، أو الذي يزوره أقرباؤه فلا يجزلون لعبد ربه العطاء … إن زيارة السجناء ممنوعة، ولكن عبد ربه يبيحها، ويحدد لها رسمًا، والويل لمن يكتفي زواره بدفع الرسم وحده، وكل من في المركز يعرف ذلك، ومع هذا فما من واحد تكلم … إن عبد ربه لا يعمل لحسابه فقط … إنه يمثل هيئة الحكم وينوب عنها، ورذائله تمثل رذائلهم مجتمعين …
ويقسم ماسح الأحذية على أنه رآه بعينيه يقود قرويًّا من أقارب أحد السجناء، وهو يحمل صفيحة سمن إلى بيت المأمور، ويقسم بأنه حمل على رأسه قفصًا من الدجاج أوصله إلى منزل معاون البوليس، وكان عبد ربه هو الذي كلفه ذلك.
وعشرات القصص الأخرى، ومن خلف كل قصة تبدو يد عبد ربه، وقد حلَّقت فوق الجميع، وتسلطت على الجميع.
ثم كان عبد ربه إلى جانب ذلك كله ضخم الجثة قوي البنية سريع العدوان، يرى في قبضة يده حجةً كافيةً تُسكت كل لسان، وتُميت كل شكوى قبل أن تخرج من الأفواه.
وهل هناك سجين لم يَذُقْ لكمة من يد عبد ربه، أو لسعة أليمة من عصاه؟ لسعة واحدة …
وإني لأذكر كيف رأيت بعيني أحد السجناء عقب «بسطة صغيرة» وهو لا يكاد يقوى على السير بقدميه، إن «البسطة» معناها بضع لسعات من عصا عبد ربه ينالها السجين إذا شكا أمرًا، أو طلب طلبًا، ولو جرعةَ ماء … إن جواب عبد ربه على أي طلب مهما يكن متواضعًا «أنا عارفك يا مسجون يا مجرم أنت … أنت مشاغب لن ترجع حتى تنبسط …»
وينبسط المسجون حتى يموت من الانبساط.
والمسجون الوحيد الذي لم ينبسط على الرغم من أنه كان أحق السجناء بالانبساط هو سيد عبد الغني.
وكان سيد عبد الغني فلاحًا من إحدى قرى المركز جيء به مقبوضًا عليه في تهمة قتل شيخ الخفراء وإلقاء جثته في الترعة، وتسلمت أنا أمر القبض، ورفعت رأسي لأرى الضيف الجديد فوجدت أمامي شابًّا في مقتبل العمر سليم البنية لا يقل جسمه رشاقةً عن أي نجم من نجوم السينما الذين نراهم على الشاشة، كان جلبابه نظيفًا، ووجهه نظيفًا، ومع جمود ملامحه وسكون وجهه عن أي تعبير فقد كانت عيناه تنطقان بكل معاني القوة والاعتداد.
وملأت خانات دفتري كما أملاني هو بنفسه … حتى رقم القضية …
سيد عبد الغني … فلاح … سن ٢٢ سنةً من قرية … مركز … التهمة قتل أمر حبس رقم … لمدة أربعة عشر يومًا، وألقيت نظرةً على أمر الحبس فإذا بسيد لم يخطئ في حرف واحد، وقلت في دعابة: «لكأنك معتاد على القضايا يا سيد؟»
وأجابني في صوت جاد لا خشونة فيه: هذه أول مرة أُتَّهَم فيها وأُحْبَس.
– أتكون أول مرة لك هي القتل؟
– لم أقتلْ شيخ الخفراء لعنة الله عليه.
– أولا تستطيع أن تخفي عواطفك؟ على الأقل لتبرر إنكارك للتهمة؟
وأجابني بنفس الجد والهدوء: ولمَ أخفي عواطفي؟ لقد كنت أكرهه وتشاجرت معه قبل مقتله بيومين … كنت أتمنى لو أني قتلته لكنه أفلت من يدي.
ولم أُعْنَ بسؤال سيد عن تفصيلات قصته مع شيخ الخفراء، وإن كنت قد أحسست أني أميل لتصديقه … كان في صوته رنة تبعث علي الثقة به.
ومضى سيد بصحبة الشاويش عبد ربه والحارس الذي أحضره من النيابة إلى السجن … وانصرفت أنا إلى عملي.
ومرت أيام كان سيد يذهب في كل يوم بصحبة حارسه إلى النيابة، ويعود منها بعد التحقيق … وكدت أنسى كل شيء عنه … حتى جاءني بعد أسبوع ومعه حارسه، وقدم إلي الشاويش عبد ربه أمرًا بالإفراج عن سيد عبد الغني.
ولا أدري لمَ أحسست بالارتياح؟ كأن الأمر يتصل بإنسان أحبه، وأغلب الظن أن سيد نفسه قد لحظ ارتياحي، فقد قال وأنا أملأ خانات دفتر السجن: «والله أنا زعلان يا بيه علشان حاجة واحدة … أنني لن أرى وجه حضرتك تاني.»
وقلت ضاحكًا: «لا أراك الله وجهي يا سيد … إنني كما ترى لا أرى غير السجناء.»
وأسلمت سيد — بعد أن أخرجته من السجن — في دفتري فقط إلى الشاويش عبد ربه ليتولى تسليمه ما أودعه في عهدته، ويطلق سراحه … وكنت أعرف مقدمًا ما سوف يحدث، لسوف يتخلى سيد عما تحويه حافظته من نقود، وسوف يستولي عبد ربه على ساعته إن كانت لديه ساعة، أو خاتمه إن كان يملك خاتمًا جاء به إلى المركز.
وربما قضى سيد ليلةً أخرى في السجن إذا لم يقدم لعبد ربه قربانًا سخيًّا، وعبد ربه معذور إذا أبقاه ليلةً أخرى … إنه يخشى عليه من الذهاب إلى القرية بعد الغروب … أول لعل ضابط المباحث يحتاج إليه لاستيفاء بعض معلومات.
إن هناك ألف حجة لحبس إنسان برأته سلطة القضاء.
وصح ما توقعته … فما كدت أطأ عتبة باب المركز في الصباح حتى وجدت سيد عبد الغني بقوامه الفارع، ووجهه النظيف يخطر في الممر الضيق متجهًا نحو الباب.
وبادرني بصوته الجاد الصافي: صباح الخير يا بيه!
وقلت متصنعًا الدهشة: ماذا؟! هل جئت إلى المركز ثانيًا يا سيد؟
وأجابني، وفي صوته رنة دعابة: لم أكن قد غادرت المركز أمس، لقد قضيت ليلتي هنا في ضيافة الشاويش عبد ربه.
وكادت شفتاي تفتَرَّان عن ابتسامة خبيثة، ولعل سيد قد لمح بعينيه بوادرها … فقد استطرد قائلًا: حقك يا بيه تسأل عنه؛ لأنه روح البيت مريض، لقد أصيب بمغص شديد عقب صلاة الفجر.
وتملكتني الدهشة فما أظن أن في الدنيا آلامًا تستطيع أن تؤثر في بطن الشاويش عبد ربه الضخم … وأحسست أن هناك شيئًا، فقلت لسيد: ولكن ماذا تفعل هنا الآن؟ ألم يطلق سراحك؟
– إني أنتظر معاون البوليس لأطالبه بحسابي.
– حساب؟ أي حساب؟
– جنيه ونصف أخذهما الشاويش عبد ربه من حافظة نقودي حين دخلت السجن اشتري بهما خمسة أزواج دجاج بعث بها إلي معاون البوليس.
– ومن قال لك هذا يا سيد، ألا تستحي؟
ويبدو أن لهجتي في عتابه لم تكن جادةً، فقد قال وهو يضحك: لقد قال لي ذلك الشاويش عبد ربه، ولم يكن يستطيع أن يكذب.
– ماذا تعني؟ تعالَ معي!
وكان الوقت مبكرًا؛ إذ إنني أصل — مرغمًا — قبل موعد العمل يوميًّا بحكم سكناي في القاهرة، ومجيئي بأول قطار …
ووقف سيد يقص عليَّ ما حصل قائلًا: لقد جئت إلى هنا، ومعي حافظة بها ثلاثة جنيهات سلمتها للشاويش عبد ربه، ومعها ساعتي وخاتمي … وعندما أفرجت عني حضرتك أمس ظننت أني سأخرج لحال سبيلي، فطلبت حافظتي وساعتي من الشاويش عبد ربه، فإذا به يدفعني أمامه نحو باب السجن، وهو يصيح بي وسط الجنود: «إنت أصلك مشاغب ومجرم.»
وحاولت أن أفهمه أني لست مجرمًا، وأن النيابة قد أفرجت عني لهذا السبب فإذا به يتهمني بالإجرام، ثم يصفعني على وجهي بيده الغليظة أمام الجنود، ودخلت حجرة السجن، وأنا أكاد أجن من الغيظ، وهو يصيح بي: «اتفضل! اتفضل هنا لغاية ما تعقل» وقضيت الليلة — ولم يكن هناك غيري في السجن — حتى قبيل الفجر — فناديت على الشاويش عبد ربه، فجاءني أحد الجنود يسألني ماذا أريد فقلت له إني أريد الشاويش عبد ربه شخصيًّا، وجاءني الشاويش عبد ربه شخصيًّا، وهو يفرك عينيه قائلًا: «عقلت يا مجرم يا ابن المجرمين؟»
وتجاهلت السباب، وملت على الشاويش عبد ربه متظاهرًا بأني أحدثه حديثًا خاصًّا وفي صوت خافت، وصرف عبد ربه الجندي المرافق له، واقترب مني وجذبته إلى داخل السجن، وأغلقت الباب ولكمته في بطنه حتى عوى كالكلب، وأفرغت في بدنه غيظ ليلة كاملة من الصفعات واللكمات، وكأنما كان يخشى على سمعته فما ارتفع صوته إلا عن أنَّات مكتومة من الألم، كل هذا وأنا أطالبه برد الساعة والثلاثة جنيهات، حتى أقر لي بأنه سيعطيني الساعة وجنيهًا ونصف جنيه فقط؛ لأنه اشترى بنصف المبلغ دجاجًا لمعاون البوليس.
وسكت سيد، وظللت برهةً صامتًا، وقد غلبتني الدهشة، ثم قلت: لكن … ألم تكن تخشى يا سيد أن ينادي الجنود فيتغلبوا عليك، ثم يوجهوا إليك تهمةً جديدةً؟
وأجاب سيد دون تردد: لقد قلت لعبد ربه، وأنا أكيل له الضربات إنه إن صاح أو اشتكى، فسأقتله قريبًا كما قتلت شيخ الخفراء وخرجت بريئًا، ولقد صدق الغبي التهمة.
– إنك جريء يا سيد … كان من الممكن أن يعيدك الشاويش عبد ربه إلى السجن، وينتقم منك شر انتقام.
فرد في اعتداد: مستحيل يا بيه … إنه أجبن نوع … هذا النوع الذي يصيح، ويقتل شواربه، ويعتز ببطنه الضخم ووظيفته الحكومية … لقد فعل كما أمرته بالضبط … أعدَّ لي ماءً فتوضأت وصليت، وهو واقف كالكلب، ثم ودعني حتى الباب بعد أن أعطاني ساعتي والجنيه والنصف، ولقد ذهبت فأفطرت في مطعم الفول على رأس الشارع، وجئت لأنتظر معاون البوليس.
وقلت لسيد، وهو يهمُّ بالانصراف: أليس الأوفق يا سيد أن تنصرف، وتنجو بجلدك، وتنزل عن الجنيه والنصف الباقيين لك؟
وراعني جوابه بنفس لهجته الجادة: ولماذا يا بيه؟ أينا الذي يتصدق على الآخر، أنا أم معاون البوليس؟
– ربما كان عبد ربه كاذبًا يا سيد …
– قلت لك يا بيه إنه كان في حالة لا يستطيع معها أن يكذب.
وقص عليَّ سيد بعد بضعة أسابيع بقية القصة، حين لقيته في القطار الذاهب إلى مصر فترك مكانه، وجاء يحييني …
سألته ما حدث بينه وبين معاون البوليس، فأجابني دون أن يتخلى عنه جده: لقد أعطاني الجنيه والنصف، وهو يقول لي أمام زملائه: «ابقى هات لنا فراخ من دي تاني يا سيد … بس السعر عالي قوي … المرة الجاية تبقى تنزل السعر شوية يا سيد.»
وأمنت على كلامه، ولم أشأ أن أقول له إنني لست تاجرًا، وإنه ليس رجلًا شريفًا.
– أوكنت تريد أن تقول له ذلك يا سيد؟
– ولماذا لا أقول له يا بيه؟ ماذا كان يستطيع أن يفعل معي؟ أليس هناك قانون يعاقبه على ما فعل؟
وغادرني سيد عبد الغني، وعاد إلى مكانه من القطار …
سيد عبد الغني استطاع أن يخرج من السجن دون أن ينبسط … والذي استطاع أن يخرج من جيب حضرة معاون البوليس لأول مرة ثمن الدجاج.