المنظر الثاني
(في ميدان القتال … «الضابط» وهو قائد الفصيلة الأولى المرابِطة في الخط الأمامي يتحدَّث همسًا إلى قائد السرية وقد جاء يتفقَّد الحالة قبل الهجوم على حصن الأعداء … وقد كاد ينتصف الليل … وقصف المدافع المصرية يهز الأرجاء.)
قائد السرية
(ينظر في ساعته)
:
بعد سبع دقائق تتوقَّف بطارياتنا عن الضرب.
الضابط
:
نعم … لقد فرغَت من مهمتها … وبقي علينا نحن القيام بالباقي.
قائد السرية
:
يجب أن تعلم أن مهمتك خطرة!
الضابط
:
ليست أخطر من مهمة غيرنا.
قائد السرية
:
أظن أنها أخطر … لا تنسَ أن عليك أن تتقدَّم على رأس دوريتك المقاتلة؛ لتفتح ثغرةً
في الأسلاك الشائكة حول هذا الحصن المنيع!
الضابط
:
معنا قصافات الأسلاك.
قائد السرية
:
أمامك حقل من الألغام، مغطًّى بنيران العدو.
الضابط
:
معنا مجسَّات الألغام.
قائد السرية
:
صدرك قد يتلقَّى رصاصة القناصة الغادرين.
الضابط
:
فليرَوا صدري … ولكني سأعرف كيف أرى ظهورهم!
قائد السرية
:
كل شيء إذن على ما يرام.
الضابط
:
نعم … اعتمد على فصيلتي، وعُد مطمئنًّا إلى موقعك.
قائد السرية
:
ما كنت أظن أني سأراك هنا بهذه السرعة! … ولا أدري كيف عدت إلينا هكذا على عجَل
بعد خروجك من المستشفى.
الضابط
:
لا تذكِّرني الآن بالمستشفى.
قائد السرية
:
أكان جرحك أليمًا؟
الضابط
(يشير إلى جهة الحصن)
:
انظر … انظر … لقد أطاحت قنبلة المدفع ببرج الحصن!
قائد السرية
(ينظر بمنظاره)
:
نعم … يا له من عمل رائع لمدفعيتنا!
الضابط
:
الدخان يرتفع من أرجاء الحصن … أنبدأ زحفنا؟
قائد السرية
(ينظر في ساعته)
:
انتظر لحظة … إن الدقائق السبع لم تنقضِ بعد … أخبرني … إنك لم
تحدثني.
الضابط
:
عن ماذا؟
قائد السرية
:
عمَّا رأيت وسمعت في القاهرة أثناء مدة علاجك.
الضابط
:
آه … لقد رأيت.
قائد السرية
:
إني مصغٍ.
الضابط
:
لا شيء.
قائد السرية
:
ما لصوتك قد تهدَّج؟
الضابط
:
كم الساعة الآن؟
قائد السرية
:
إذا صدَقت فراستي فإنك قد قابلت هناك شخصًا عزيزًا.
الضابط
:
الأمر لا يحتاج إلى فراسة … كلنا لنا هناك شخص عزيز … ولكن …
قائد السرية
:
ولكن ماذا؟
الضابط
:
أهذا مكان وزمان نتحدث فيهما عن ذلك.
قائد السرية
:
إنه خير موضع وظرف نستأنس فيهما بالصور الموضوعة في قلوبنا.
الضابط
:
قلوبنا! … عجيب ذلك الذي حدث لهذه القلوب … لقلبي أنا على الأقل … لكأنه هو أيضًا
قد تحوَّل إلى ميدان حرب … طغى فيه هدير المدافع على الهمسات والبسمات … ولكن سجع
اليمام يُسمِع أحيانًا رقيقَ النغم حلو الهديل بين طيات الرعد القاصف … صدقت … هنالك
صورة، وهنالك صوت … لا بد أن نحملهما معنا في أخطر المواقف وأحرج اللحظات.
قائد السرية
(يحدِّق في صدر الضابط)
:
ما هذا الشيء الذي يبرق في صدرك؟
الضابط
:
هذا … مشبك ذهبي.
قائد السرية
(باسمًا)
:
يا لها من أناقة جديرة بعاشق يسير في حديقة أزهار، لا في حقل ألغام!
الضابط
:
لست أجد الآن فرقًا كبيرًا بين الحديقتين … لكل من الزهر تحت الخمائل، واللغم تحت
الأسلاك، مقص ومجس!
قائد السرية
:
أنت أيضًا تنتابك هذه الأفكار؟
الضابط
:
أي أفكار؟
قائد السرية
:
خُيِّل إليَّ أني وحدي الذي اكتشف حقيقتنا المدفونة ككنز، التي كنا نجهل وجودها
في أنفسنا … إني لم أعد بعدُ إلى القاهرة … منذ بدء المعارك … ولكن إذا قُدِّر لي
عمر وعودة إلى الوطن، فإني على ثقة من أني سأكون رجلًا جديدًا … لذلك سألتك الساعة
عمَّا رأيت هناك … هل نحن وحدنا الذين تغيرنا … أو أن أهل بلادنا حدث لهم كذلك مثل
الذي حدث لنا؟
الضابط
(يشير إلى الحصن)
:
انظر … ما هذا؟ … أحقٌّ ما أرى أم هو سراب؟
قائد السرية
(يمسك بمنظاره)
:
ماذا؟
الضابط
:
هذه الرايات البيضاء التي تُرفع فوق الحصن؟!
قائد السرية
(يرى بمنظاره)
:
نعم … نعم … حقًّا … إنها رايات التسليم!
الضابط
:
إذن … فلنقتحم الحصن في الحال.
قائد السرية
:
مهلًا … يجب أولًا أن نُخبر مركز القيادة الرئيسي (يسرع إلى تليفون الميدان
ويخاطب القيادة) رُفعت رايات التسليم فوق الحصن … أفندم؟ … يُحتمل أن تكون خدعة؟ …
نرسل الفصيلة الأولى؟
الضابط
:
فصيلتي.
قائد السرية
(وهو يترك جهاز التليفون)
:
نعم … ولكن يجب أن تكونوا على حذر … فهؤلاء الأعداء
غادرون … وقد يكون التسليم خدعة لاجتذاب عدد كبير من جنودنا … حتى إذا اقتربوا
من العدو، فتح عليهم النيران.
الضابط
:
لن يذهب أحد من جنودنا.
قائد السرية
:
ومن يذهب ليتلقَّى التسليم!
الضابط
:
أنا … بمفردي.
قائد السرية
:
وإذا كان في الأمر غدر، وأطلق عليك قناصتهم الرصاص.
الضابط
:
لن يظفروا عندئذٍ بغير قتيل واحد!
قائد السرية
:
لا … لن أفرِّط فيك أنت … فليذهب.
الضابط
:
لا تبحث عن أحد غيري … أنا قائد الفصيلة الأولى … ولن أعرِّض أحدًا من رجال
فصيلتي … سأذهب وحدي.
قائد السرية
:
لن أُصدر إليك هذا الأمر.
الضابط
:
لقد صدرَت إليك تعليمات القيادة بتحرُّك الفصيلة الأولى … فصيلتي … وليس لك أن تخالِف
أوامر القيادة.
قائد السرية
:
هذا صحيح … فلتذهب إذن فصيلتك.
الضابط
:
أنا حر إذن في اختيار من يذهب معي منها … فأنا قائدها … وقد اخترت نفسي.
قائد السرية
:
إذا صدقت فِراستي فأنت مقتول.
الضابط
:
يسرني أن أضع فِراستك هذه المرة موضع الامتحان … خذ هذا.
قائد السرية
(يتلقَّى من يد الضابط شيئًا نزعه من صدره)
:
مشبكك الذهبي؟
الضابط
:
إنه ليس لي … إنه لممرضة متطوعة في المستشفى العسكري بالقاهرة … إذا قُتلت أنا …
وعدتَ أنت إلى الوطن سالمًا … فاذهب وابحث عنها … ورُد هذا المشبك إليها.
قائد السرية
:
ما اسمها؟
الضابط
:
لست أدري … إني ما سألتها قط عن اسمها … ولكني واثق أنك ستجدها … قل لها: لقد كان
وعدك أن يرد إليك هذا المشبك في يوم من الأيام … وقد برَّ بوعده … أمَّا الثمن
المرتفع الذي قدَّره في نظير الاحتفاظ به هذه اللحظات، فإنه لم يستطع أن يدفع أكثر
من … حياته … إلى اللقاء أو وداعًا.
(يقفز الضابط إلى سيارة صغيرة ويمضي إلى الحصن)
قائد السرية
:
اذهب في حفظ الله.
(يرفع قائد السرية منظاره إلى عينيه ويتبع الضابط)
الضابط
(صائحًا)
:
إذا أطلقت لكم وهجًا من مسدسي فهي إشارة إلى أن التسليم صادق.
قائد السرية
(للجنود)
:
اصطفوا وارقبوا الإشارة … ها هو ذا قائدكم يذهب بمفرده (يتبعه بمنظاره)
إنه الآن يقترب من أسلاك الحصن … آه … يا للجبناء! … يا للأنذال! (صائحًا) إنهم يُنزلون
الرايات البيضاء … لقد سحبوا التسليم … ما هذا؟ … ما هذا؟ … صوت طلقات مدفع رشاش …
قتلوه … لقد قتلوه … قتلوه … مات الرجل.
الجنود
(بغيظ وتأثر)
:
مات الضابط!
قائد السرية
(بجلَد وفي عينَيه دمعة)
:
ولكن … وُلد البطل!
(ستار)