الفلسفة اليونانية المزعومة كانت غريبة عن اليونانيين وعن ظروف حياتهم
حقبة الفلسفة اليونانية (٦٤٠–۳۲۲ق.م.) كانت حقبة حروب داخلية وخارجية؛ ومن ثَم لم تكن ملائمة لظهور فلاسفة.
يدعم التاريخ الحقيقة القائلة بأن اليونانيين— منذ أيام طاليس وحتى أيام أرسطو — كانوا، من ناحية ضحايا حالة من التفكك الداخلي؛ وعاشوا، من ناحية أخرى، في توجس دائم خوفًا من غزو قد يأتيهم على أيدي الفرس، العدو المشترك للدول-المدن.
ونتيجة لذلك، فإنهم حين تتوقف الحروب المشتعلَة فيما بينهم يجدون أنفسهم غارقين في حرب ضد الفرس الذين هيمنوا، وأصبحوا سادة عليهم. وكان الإقليم الممتد من آسيا الوسطى حتى وادي الإندوس قد اتحد، ابتداء من القرن السادس ق.م. تحت سلطة فارس وحدها؛ وبقيت إيران، الإقليم الأساسي في فارس، وحدة طبيعية حتى يومنا هذا. لقد كان التوسع الفارسي أشبه بكابوس جاثم على صدر اليونانيين الذين كانوا يفزعون من الأسطول الفارسي الذي لا يُقهَر، ونظموا أنفسهم في جماعات واتحادات بغية مقاومة عدوهم (انظر [۱]، فصل ۱۲، ص١٩٥). وثمة ثلاثة مصادر تلقي الضوء على ظروف الفوضى والمشكلات التي شهدها تاريخ اليونان آنذاك:
-
(أ)
غزوات الفرس.
-
(ب)
جماعات التحالف والاتحادات.
-
(جـ)
حروب البليبونيز.
(أ) غزوات الفرس
عقب غزو الفرس لجزر أيونيا (وقد تكون هي الحيثيين القدماء) واتخاذهم سكانها رعايا فارسيين، استولى يوليكريتس (٥٣٩–٥٢٤ق.م.) على جزيرة ساموس، وجعل منها مدينة ذائعة الصيت (انظر [١]، فصل ۹). وفيما بين عامي ٤٩٩–٤٩٤ق.م. ثار الأيونيون ضد الفرس، ولكنهم ألحقوا بهم هزيمة في مدينة ليد. واستولوا — أيضًا، في الوقت نفسه — على قبرص وميليتوس (انظر [١]، ف۱۲)، وفي صيف عام ٤٩٠ق.م. تلاقت القوات اليونانية والفارسية في خليج ماراثون غير أن الطرفين المتحاربين، وبعد قتال متلاحم بالأيدي، انسحبوا، ولكن لكي يعود كل طرف قوة أكبر بغية تجدد القتال. ومن ثَم، وبعد مرور عشر سنوات، تم تنظيم التحالف الهلليني للعمل ضد الفرس، وتم إرسال ملك إسبرطة «ليونيدس» على رأس الجيش الهلليني للاستيلاء على الممر القائم عند ثيرموبيلاي إلى أن يحقق الأسطول انتصارًا حاسمًا (انظر [۱]، ف۱۲، ص۲۰۲). وبناء على ذلك، وخلال شهر أغسطس من عام ٤٨١ق.م. رست سفن أسطول الفرس، حسب أمر أكزيركس، في خليج باجاساي، بينما رست سفن أسطول اليونان قبالة رأس أريتميزيوم، وانتظر الطرفان فرصة مواتية للهجوم. وبدأ الفرس يحاولون اختراق صفوف اليونانيين في الوقت الذي عمدت فيه إحدى فرقهم، بمساعدة سرية من خائن يوناني، إلى المرور بمحاذاة جبل شديد الانحدار والوصول إلى مؤخرة مواقع اليونانيين وأُخِذ اليونانيون على غرة، ومن ثَم اضطروا إلى الانسحاب دون مقاومة، وتم ذبح جميع الإسبرطيين القائمين بحراسة ثيرموبيلاي؛ واستولى الفرس على الممر (انظر [۱]، ف۱۲، ص۲۰۲). وبعد هزيمة اليونانيين في ثيرموبيلاي انسحبوا إلى سالاميس، حيث التقوا — ثانية — مع الفرس في معركة بحرية، وكان ذلك في آخر سبتمبر عام ٤٨١ق.م.، وأسفرت المعركة البحرية عن تدمير واسع النطاق للسفن من الجانبين دون حسم المعركة لصالح أحدهما … وانسحب الطرفان المتحاربان: الفرس إلى ثيسالي؛ واليونانيون إلى أتيكا (انظر [۱]، ف۱۲، ص۲۰۳).
وجددت أثينا — في تحالف مع المدن الساحلية والجزرية — المقاومة ضد الحكم الفارسي التزامًا بهدف ثابت للتحرر من الهيمنة الفارسية. وكانت هذه المجموعة تؤلف — معًا — ما سُمِّي اتحاد أو كونفيدرالية ديلوس، الذي قام بالعديد من الاشتباكات البحرية، ولكن دون نجاح يُذكَر أو مع إحراز نجاح ضئيل. وفي عام ٤٦٧ق.م. جرت معركة نهر يورميدون وخسرها اليونانيون، وخسروا فيها عددًا كبيرًا من السفن، وبعد ثمانية عشر عامًا (٤٤٩ق.م.) وقع اشتباك بحري آخر مقابل جزيرة قبرص، ولكن دون حسم المعركة لصالح أي من الطرفين؛ ومن ثَم احتفظ الفرس بالسيادة على اليونانيين (انظر [۱]، ف۱۲، ص٢٠٥) وفي هذه الأثناء حصلت إسبرطة — بموجب بنود معاهدة ميليتوس (٤١٣ق.م.) — على معونات من الفرس من أجل بناء أسطول شريطة الاعتراف بسيادة الفرس على الأيونيين وحلفائهم، وهذا هو ما عملته إسبرطة كتهديدٍ لأطماع أثينا.
ولكن لم يمضِ وقت طويل على عقد معاهدة ميليتوس حتى استسلم اليونانيون أنفسهم لسلطان الفرس وهيمنتهم، وخلال شتاء عام (٣٨٧، ٣٨٦ق.م.) وقَّعت المدن الأيونية، كل على حدة، شروط السلم التي حددها ملك الفرس وقبلت أخيرًا الحكم الفارسي، وتفاوض بشأن هذه المعاهدة مبعوث إسبرطي خوَّله ملك الفرس سلطة فرض نصوصها وأحكامها (انظر [۱]، ف۱۳ و١٥، ص٢٢٥، ٢٥٥).
(ب) التحالفات
باستثناء مقاومة اليونانيين للفرس، باعتبارهم عدوًّا مشتركًا، فإن دراسة جماعات التحالف تكشف عن العداء وروح العدوان المميزة للعلاقات القائمة آنذاك بين الدول-المدن اليونانية ذاتها.
واتساقًا مع هذا، وقَّعت ولايات بليبونيز في عام ٥٠٥ق.م. معاهدات فيما بينها، تعهدت بمقتضاها شن حرب ضد إسبرطة التي استوعبتهم تحت نفوذها. وفي هذه الأثناء أحيا أرسطو جوراس التحالف الأيوني (٤٩٩؛ ٤٩٤ق.م.) لمقاومة العدوان الفارسي. واستعاد التحالف الهلليني علاقات الصداقة بين أثينا وأيجينا (٤٨١ق.م.) والذي تحوَّل — فيما بعد — إلى اتحاد ديلوس (٤٧٨ق.م.) على نحو ما ذكرنا في موقع آخر، وسارت طيبة على نفس النهج في اتساق مع الاتجاه العام للعصر، ونظمت تحالف بيوتيان، وهو نوع من اتحاد الدول – المدينة بغية الدفاع عن النفس وشن العدوان (انظر [۱]، ف۹، ص١٥٠؛ ف۱۲، ص۲۰۱).
وفي عام ۳۷۷ق.م. تم تنظيم اتحاد أثيني ثان، ولكن تشكَّل هذا الاتحاد بغية إحباط أهداف شعب لاكيدايمونيا، وإرغامهم على الاعتراف بحق الأثينيين وحلفائهم (انظر [١]، ف١٥، ص٢٦٠)، واستطاع — بالمثل — تحالف أياتوليا المؤلَّف من دول وسط اليونان أن يسيطر في عام ۲۹٠ق.م. على دلفي، وانتهك — مرارًا — حقوق أكايا في إقليم بليبونيز. هذا بينما نظم أنتيجونوس دوسون في عام ٢٢٥ق.م. تحالفًا هللينيًّا آخر بهدف إعاقة طموحات إسبرطة وحلفائها الأيونيين (انظر [۱]، ف۱۸، ص۳۱۷، ۳۱۹) (انظر [۱٥]، ص٢٠٦–۲۰۹، ف۱۱، ١٦ ص۱۲۱، ۱۲۷، ١٤٢؛ ۱۷ ص٢١٦–۲۲۹، ٢٤٠-٢٤١، ٢٥٩–٢٦٩، ٤٧١-٤٧٢، ۱٨ ف۱۸ ص۲۰، ۲۱).
(ﺟ) حروب البليبونيز: (٤٦٠–٤٤٥ق.م.) و(٤٣١–٤٢١ق.م.)
اتساقًا مع أطماع أثينا في السيطرة على شعوب أيونيا والشعوب الأخرى المجاورة؛ شن بريقليس حملة شملت عددًا من الحلفاء والغزوات، امتدت من ثيسالي إلى أرجوس؛ ومن إيوبويا إلى نوباكتوس، وأكايا والجزر الرئيسية في بحر أيونيا.
وتمثلت النتائج الصافية فيما يلي:
-
(أ)
أقامت أثينا تحالفًا مع بويتيا وفوركيس ولوكريس على الرغم من معارضة إسبرطة.
-
(ب)
تم الاستيلاء في عام ٤٥٦ق.م. على أيجينا وإرغامها على دفع الجزية.
-
(جـ)
في عام ٤٥١ق.م. استعادت أثينا علاقة الصداقة مع إسبرطة بفضل وساطة سيمون، شريطة حل التحالف بين أثينا وأرجوس.
-
(د)
وفي عام ٤٤٧ق.م. هزمت الأقلية المنفية، من حكام طيبة، الأثينيين في كورونيا، وأعادوا تأسيس تحالف بوينيا تحت قيادة طِيبة.
-
(هـ)
وفي عام ٤٤٥ق.م. تم توقيع سلام الثلاثين عامًا، وعقب تمرد إيوبيا وميجارا غزت إسبرطة أتيكا؛ والتمس بيرقليس عقد اتفاق سلام، وفقدت أثينا جميع ممتلكاتها من المستعمرات (انظر [١]، ف۱۳، ص٢٢٠).
وأدت حرب البليبونيز الثانية (٤٣١–٤٢١ق.م.)، شأن الأولى، إلى إثارة روح عامة للتمرد بين الدول-المدينة اليونانية ضد الإمبريالية الأثينية، وأصبحت إسبرطة هي العدو الرئيسي.
وكانت النتيجة الصافية لهذه الحرب كما يلي.
-
(أ)
في عام ٤٣٥ق.م. اندلعت الحرب بين كورسيرا وكورنثة وساعدت أثينا كورسيرا.
-
(ب)
في عام ٤٣٢ق.م.
- (١)
حاصرت أثينا بوتيدايا لرفضها هدم أسوارها الجنوبية وطرد القضاة الكورينثيين.
- (٢)
استُبعِدت ميجارا من الأسواق اليونانية لإضعافها حتى تخضع.
- (٣)
خطط تحالف بليبونيزيا لشن الحرب ضد أثينا وبويوتيا، واضطرت فوكيس ولوكريس إلى خوض حرب ضد أثينا وكورسيرا وعدد قليل من الدول الشمالية.
- (١)
-
(جـ)
في عام ٤٣١ق.م.
- (١)
هاجمت طيبة بلاتايا؛ وفي الوقت الذي احتل فيه أحد جيوش بليبونيزيا أتيكا، شنَّ أسطول أثينا غارة ضد شعب البليبونيز.
- (٢)
إزاء عجز بيرقليس عن الدفاع عن أتيكا دفاعًا جيدًا اضطر إلى نقل السكان المدنيين كل ربيع إلى المنطقة الواقعة بين أسوار أثينا وبيرايوس، وفي هذه الأثناء عمل أسطول أثينا ضد تجارة بوتيدايا وساحل بليبونيز وكورينثيا.
- (١)
-
(د)
في عام ٤٢٨ق.م.
- (١)
تمردت ميتلين وجميع مدن ليسبوس.
- (٢)
وقعت مذبحة وحشية لحكام الأقلية في كورسيرا.
- (١)
-
(هـ)
في عام ٤٢٥ق.م.
- (١)
وقعت قوة من لاكوتيا في الأسر عند بيلوس، وأقيمت قلعة بواسطة ديموستين وكليون.
- (٢)
تم تحصين كيتيرا ومواقع أخرى ضد شعوب البليبونيز.
- (٣)
استولى براسيداس من إسبرطة على أمفيبوليس؛ وكان براسيداس حرض الحلفاء الأثينيين على التمرد. وبعد مقتل براسيداس وكليون في معركة جرت في ٤٢٢ق.م. خوَّلت أثينا نيكياس التوسل لعقد سلم (انظر [۱]، ف۱۳، ص٢٢٠-٢٢١).
- (١)
ويتضح ما يلي من دراسة أسباب ونتائج حروب البليبونيز:
-
(أ)
الدويلات اليونانية كانت غيورة من بعضها البعض.
-
(ب)
الرغبة في التسلط والتوسع أفضت إلى حالة مستمرة من العدوان والحرب فيما بينهم.
-
(جـ)
حالة الحرب المستمرة بين الدول-المدينة لم تكن مواتية لظهور فلاسفة.
وقبل الانتقال لبحث الافتراض التالي، أود أن أقول إن من الحقائق المقبولة أن تطور الفكر الفلسفي يستلزم بيئة خالية من الاضطرابات، ومن أسباب القلق. وإن الفترة المتفق على أنها فترة إنتاج الفلسفة اليونانية (أي من طاليس إلى أرسطو) كانت النقيض تمامًا لحالة السلم والهدوء؛ ومن ثَم ليس لنا أن نتوقع منها أن تنتج فكرًا فلسفيًّا. ولم تكن العقبات التي حالت دون نشأة وتطور فلسفة يونانية هي فقط الحروب الأهلية المتكررة، والدفاع المستمر ضد الغزو الفارسي، بل وأيضًا خطر أن تعمد حكومة أثينا إلى إبادة الفلسفة واستئصالها باعتبارها العدو الألد.
-
(د)
الفلسفة تستلزم بيئة ملائمة:
أرى لزامًا الآن أن أضيف الاقتباس التالي الذي يصف لنا هذه الحقبة: «إذ على الرغم من كثرة الشرور الطبيعية التي تحدق بالبشرية، إلا أننا أضفنا إليها الحروب والصراعات الأهلية بعضنا ضد بعض، حتى بلغ الأمر حد إعدام البعض في مدنهم دون مبرر عادل، فضلًا عن نفي آخرين مع زوجاتهم وأطفالهم، واضطر كثيرون، بسبب البحث عن طعامهم اليومي، إلى الموت وهم يقاتلون ضد شعوبهم هم، من أجل خاطر العدو» (أيزوكرات) (انظر [١٦]، ف٨؛ [١٥]، ف۲۲؛ [۱۷] ف۱۰؛ [۱۸] ف۲۷، ۲۸، ۲۹).