الفلسفة اليونانية سليل نظم الأسرار المصرية القديمة
(١) النظرية المصرية عن الخلاص أصبحت هدف الفلسفة اليونانية
أول نظرية عن الخلاص هي النظرية المصرية. لقد كان أهم أهداف نظم الأسرار المصرية — قديمًا — هو تأليه الإنسان، أي التشبُّه بالآلهة، كما أنها علَّمت الناس أن نفس الإنسان إذا ما تحررت من قيود البدن يمكن للمرء أن يصبح شبيهًا بالله، ويرى الأرباب في هذه الحياة، ويبلغ مرتبة الكشف الصوفي، ويتصل بالأرواح الخالدة (انظر [١٢]، ص٢٥).
ويعرِّف أفلوطين هذه التجربة بأنها تحرر العقل من وعيه المتناهي عندما يغدو واحدًا ومتوحدًا مع اللامتناهي. وهذا التحرر ليس فقط حرية النفس من عوائق البدن، بل وأيضًا حرية النفس من عجلة التناسخ أو إعادة الميلاد. واشتملت هذه الحرية على عملية متصلة من المجاهَدات والرياضات أو التطهر لكل من الجسد والنفس. ونظرًا لأن نظام الأسرار المصري يقدم للإنسان خلاص النفس، فإنه — بالتالي — يؤكد — بقوة — على خلودها. إن نظام الأسرار المصري القديم، شأنه شأن الجامعة الحديثة، محور ثقافة منظمة، يلتحق به المرشحون للتلمذة من المريدين باعتباره المصدر الأول للثقافة قديمًا. ويرى بيتشمان أن نظام الأسرار المصري كانت له ثلاث مراتب يشغلها الطالب:
-
(١)
البشر الفانون، أي الطلاب الذين يخضعون لفترة التجربة والاختبار، ويجرى تلقينهم العلوم، وإن لم يعاينوا بعد تجربة الكشف الباطني أو البصيرة.
-
(٢)
الأذكياء، أي أولئك الذين عاينوا تجربة الكشف الباطني أو البصيرة وتلقَّوا العقل الكوني Nous.
-
(٣)
الخالقون أو أبناء النور الذين توحدوا أو اتحدوا مع الضوء (أي تحقق لهم الوحي الروحي الحق).
ولم يكن تعليم الطلاب يتألف فقط من عملية تثقيف لهم بالفضائل العشرة التي كانت تمثِّل شرطًا للسعادة الخالدة، بل يتألف — أيضًا — من الفنون العقلية التي تستهدف تحرير أو انعتاق النفس. وكان هناك — أيضًا — إذنٌ بالالتحاق بنظم الأسرار الأعظم، حيث يتعلم المريدون الذين أثبتوا كفاءة فلسفة الخاصة (انظر [١٢]، ص٢٤-٢٥). ويتعلم المريدون قواعد اللغة والخطابة والمنطق باعتبارها مباحث دراسية ذات طبيعة أخلاقية معنوية؛ إذ إنها أداة تطهير الإنسان من النوازع البشرية اللاعقلانية. وبذا يتم تثقيف المريد ليصبح شاهدًا حيًّا للعقل الإلهي القدسي أو اللوجوس. وتُعتبَر علوم الهندسة والحساب علومًا سامية تتعلق بالفضاء والعدد؛ حيث إن استيعابها يهيئ — لصاحبها — مفتاحًا لكل مشكلات الوجود العياني، وأيضًا حل المشكلات الطبيعية التي تحيِّر العقول الآن بسبب استخدام المناهج الاستقرائية. ويتناول علم الفلك المعلومات المتعلقة بالقوى الكامنة في الإنسان وتوزيعاتها ومصير الأفراد والأعراق والأمم. أما الموسيقى أو التناغم فتعني الممارسة الحية للفلسفة؛ أي تصحيح الحياة البشرية لملاءمتها في تناغم مع الله إلى أن يتم توحد الروح الشخصي مع الله حين تسمع الروح وتشارك في موسيقى الأفلاك السماوية، وكانت للموسيقى — أيضًا — وظيفة علاجية. ولذلك استخدمها الكهنة المصريون لشفاء الأمراض. هذه هي النظرية المصرية عن الخلاص التي يتثقف بها المرء ليغدو شبيهًا بالرب وهو على الأرض، ومؤهلًا — في الوقت نفسه — للسعادة الأبدية؛ وتتحقق بفضل مجاهدات الفرد وتعلمه الفنون والعلوم من ناحية، والتزامه حياة الفضيلة من ناحية أخرى. ولم يكن هناك وسيط بين الإنسان وخلاصه على نحو ما نرى في النظرية المسيحية. وسوف نعيد الإشارة إلى هذه الموضوعات باعتبارها جزءًا من المنهاج التعليمي لنظم الأسرار المصرية.
والآن بعد أن عرضنا — بإيجاز — النظرية المصرية عن الخلاص، والهدف منها، نحاول أن نفحص الفلسفة اليونانية وهدفها؛ لبيان ما إذا كان ثمة اتفاق بين الاثنين أم لا.
(٢) ظروف التطابق بين المنظومتين المصرية واليونانية
(أ) محاكمة واضطهاد الفلاسفة اليونانيين
إن تعرض فلاسفة اليونان للمحاكمة والاضطهاد هو أحد الأوضاع المألوفة لنا جميعًا؛ ذلك أن عديدين من الفلاسفة قدمتهم سلطات أثينا للمحاكمة الواحد بعد الآخر بتهمة مشتركة، وهي إدخال آلهة غريبة عن البلاد. وتعرَّض كلٌّ من أنكساجوراس وسقراط وأرسطو لمحاكمات مماثلة لذات الاتهام. وأشهر هذه المحاكمات محاكمة سقراط، والتي جاء نصها كالآتي: «ارتكب سقراط جرمًا تمثَّل في عدم الإيمان بآلهة المدينة وإدخال آلهة أخرى جديدة، وارتكب — أيضًا — جريمة إفساد الشباب.» والآن، إذا ما حاولنا اكتشاف هذه الآلهة الجديدة يتعين الرجوع إلى الرأي العام الذي أثاره أرستوفان (٤٢٣ق.م.) ضده، نجده كالآتي: «سقراط آثم، فاعل للشر، يشغل نفسه بالبحث في أمور تحت الأرض وفي السماء؛ ويزين أسوأ الأسباب لتبدو وكأنها الأفضل، ويعلِّم الآخرين هذه الأمور نفسها» (انظر [۱۹]، ف۱–۱۰و۲۰؛ ۱۰۷۱).
واضح إذن أن سقراط اقترف إثمًا أغضب حكومة أثينا حين التزم دراسة الفلك، وربما درس معه الجيولوجيا. وتم اضطهاد الفلاسفة الآخرين لذات السبب، بيد أن دراسة العلم كانت شرطًا مسبقًا لعضوية نظام الأسرار في مصر، وكان الهدف منها تحرير النفس من عشرة قيود بدنية. وإذا درس فلاسفة اليونان العلوم فإنهم بذلك يستوفون شرط العضوية في نظام الأسرار المصري، ويحققون الهدف منه، سواء عن طريق اتصال مباشر بمصر أو مدارسها أو محافل تابعة للنظام خارج الإقليم.
(ب) حياة الفضيلة شرط تفرضه نظم الأسرار المصرية
لم تكن الفضائل مجرد أفكار نظرية تجريدية أو مشاعر أخلاقية، بل هي خصال إيجابية تتم عن بسالة وقوة الروح. فالاعتدال يعني التحكم الكامل في الطبيعة الانفعالية. والثبات — أو الجلد — يعني التحلي بهذه الشجاعة على نحو لا يجعل المحنة تحرفنا بعيدًا عن هدفنا. والحكمة تعني بصيرة عميقة تلائم ملكة التنبُّؤ. والعدالة تعني استقامة الفكر والعمل دون زيغ أو انحراف. علاوة على هذا، فإننا حين نقارن بين المذهبين الأخلاقيين يبين لنا أن الأعظم يحتوي الأقل، ويفيد — أيضًا — بأنه الأصل الذي نشأ عنه التالي من حيث الزمان. لقد كان مطلوبًا من المريد المبتدئ — في نظم الأسرار المصرية — أن يكشف — أولًا — عن الصفات التالية التي تتحلى بها النفس:
-
(١)
التحكم في الفكر.
-
(٢)
التحكم في السلوك.
وهذان هما الأمران اللذان سمَّى أفلاطون الجمع بينهما العدالة (استقامة الفكر والعمل دون زيغ أو انحراف).
-
(٣)
ثبات الغرض وهو ما يعادل الجَلَد.
-
(٤)
التوحد مع الحياة الروحية أو المثل العليا السامية. وهو مكافئ الاعتدال، من حيث إنه صفة يبلغ المرء مرتبتها حين يُقهِر طبيعته الانفعالية وينتصر عليها.
-
(٥)
البينة على امتلاك رسالة في الحياة.
-
(٦)
البينة على الالتزام بالأوامر الروحية أو أوامر رجال الدين في نظم الأسرار المصرية، ويؤلف جماع ذلك مكافئًا للحكمة أو البصيرة العميقة والشفافية والمهابة وهو ما يلائم ملكة التنبؤ.
وثمة شروط أخرى كان يتطلبها المذهب الأخلاقي لنظم الأسرار في مصر القديمة:
-
(٧)
التحرر من السخط حين يعاني المرء اضطهادًا، أو يقع عليه خطأ، وهذا هو ما كان يُعرَف بالشجاعة.
-
(٨)
الثقة في سلطة السيد (باعتباره المعلم).
-
(٩)
الثقة في قدرة المرء على التعلم، وهاتان الصفتان تُعرفان باسم الوفاء.
-
(١٠)
الاستعداد أو التهيؤ لاستهلال المرحلة.
ونجد — دائمًا وأبدًا — هذا المبدأ في نظم الأسرار المصرية التي عرفتها مصر القديمة؛ إذ تقول: «يظهر السيد (المعلم) حين يكون التلميذ مستعدًّا لذلك.» وهذا معادل شرط الكفاءة في جميع الأحيان، لأن ما هو أقل من ذلك يكون ضعفًا.
يبدو واضحًا — بجلاء — الآن أن أفلاطون اقتبس الفضائل الأربعة الرئيسية من الفضائل العشر المصرية. ويتضح كذلك أن الفلسفة اليونانية هي سليل نظم الأسرار المصرية.
(ﺟ ١) كان هناك المحفل الأعظم في مصر
كانت هناك مدارس لتلقين الأسرار، أو ما يمكن أن نسميها — بشكل عام — المحافل الصغرى في اليونان، وفي الأقطار الأخرى خارج مصر، والتي تؤدي دورها ونشاطاتها وفقًا لتعليمات الأوزيرياكا، أي المعبد أو المحفل الأعظم المصري . وكثيرًا ما كان يشار إلى هذه المدارس باعتبارها مذاهب خاصة أو فلسفية لطقوس دينية سرية، ومؤسسوها من مريدي نظم الأسرار المصرية. وكان المعبد الأيوني في ديديما ومحفل أو معبد إقليدس في ميجارا، ومحفل فيثاغورس في كروتونا، والمعبد الأورفي في دلفي، علاوة على مدارس أفلاطون وأرسطو. وبناء على هذا نخطئ إذا ما افترضنا أن من يُسمُّون فلاسفة اليونان أقاموا مذاهب جديدة خاصة بها هم أصحابها ومبدعوها، ذلك لأن فلسفتهم، إنما جاءتهم على أيدي كبار العلماء من الكهنة المصريين عن طريق نظم الأسرار المصرية (انظر [۱۲]، ص٥٩). وكان المحفل الأعظم المصري يتولى إدارة وتوجيه نظم الأسرار، ويسمح، علاوة على هذا، بتبادل الزيارات بين المحافل الصغرى المختلفة لضمان تقدم الإخوة الأعضاء في العلوم السرية.
وقيل لنا — عن لسان أفلاطون في محاورة طيماوس — أن الطامحين إلى المعرفة الصوفية قد زاروا مصر ليبدءوا حياة المريدين، وهناك قال لهم كهنة معبد سايس: «إنكم أيها اليونانيون لستم سوى أطفال» في نظام الأسرار، ولكنهم سمحوا لهم بالالتحاق بغية تحصيل معارف تؤهلهم للارتقاء في سعيهم للتقدم الروحي. وبالمثل يحكي لنا يامبليكوس مراسلة بين أنيبو وفورنيري تتعلق بعلاقات الأخوَّة القائمة بين العديد من المدارس أو المحافل التعليمية الموجودة في الأقطار المختلفة، وكيف تبادل أعضاؤها الزيارات وحيوا وساعدوا بعضهم بعضًا في مجال العلوم السرية، وكيف أن أكثرهم تقدمًا التزم مساعدة وتلقين إخوته في المراتب الأدنى (انظر [۲۲]؛ [۲۱]؛ [۲۳]).
وبعد أن أوضحنا أن المحفل الأعظم لنظم الأسرار المصرية — قديمًا — كان مركزه مصر، وكانت له الولاية على جميع المحافل والمدارس التابعة له في العالم القديم خارج مصر لم يبق لنا الآن إلا أن نبين أن المحفل الأعظم كان له وجود فعلي ومادي، ووصولًا إلى ذلك يتعين إثبات أمرين: الأول وصف المعبد المصري، والذي تعتبر المحافل الحديثة — التي تحمل أسماء مختلفة ولها طقوسها — صورة طبق الأصل له. ثانيًا، وصف الأطلال الفعلية المتخلفة عن المحفل الأعظم أو الأسمى في مصر القديمة.
(ﺟ ٢) وصف المعبد المصري
هنا أقتبس من مرجعين من الثقات في الحديث عن المعبد المصري، الأول سي إتش فيل، وكتابه «نظم الأسرار القديمة» ص١٥٩، حيث يقول: «كانت المعابد المصرية محاطة بأعمدة تسجل عدد أبراج الفلك، وعلامات دوائر البروج أو دوائر الكواكب. وكان المفترض أن كل معبد بمثابة الكون الأصغر أو رمز لمعبد هو الكون كله أو القبة السماوية المرصعة بالنجوم المسماة معبدًا». والمرجع الثقة الثاني هو ماكس موللر الذي وصف المعابد المصرية في كتابه «الأساطير المصرية» ص١٨٧–١٩٣، وجاء في وصفه ما يلي:
«بُنيت المعابد المصرية من الحجارة، بينما بُنيت الساحات الخارجية بالآجر المصنوع من الطين. وثمة طرق واسعة تفضي إلى المعبد ملائمة للمواكب.»
واضح من الوصف السابق أن محافل العبادة الماسونية الحديثة ليست وحدها محافل تحاكي المعبد المصري القديم، بل وأيضًا محافل العبادة القديمة للتطابق التام بينها من حيث الزخرفة الداخلية. غير أن بيوت العبادة، من الدرجتين الوسطى والدنيا، بما في ذلك المقامة خارج مصر، كان لا بد وأن يتوفر عليها مجلس يدير شئونها، وهو ما يحدث الآن في جميع المعابد. وأبدأ هنا باقتباس من كلام سي إتش فيل؛ حيث يقدم في كتابه «نظم الأسرار قديمًا» ص۱۸۲، ۱۸۳ وصفًا كاملًا لموقع المحفل الأعظم والأشهر في الأقصر، والذي يقول فيه:
(ﺟ ٣) موقع المحفل الأعظم في العصر القديم
على بُعد مسافة قصيرة من دندرة، حيث صعيد مصر الآن، نشاهد أغرب مجموعة من الأطلال المعمارية، التي لا مثيل لها في أي بقعة من العالم، والمعروفة باسم معابد المدينة القديمة طِيبة. كانت طيبة — في عصرها الزاهي — تشغل مساحة واسعة على ضفتي النيل. وتمثل المدينة — آنذاك — حاضرة أمة تجارية كبرى لمصر العليا قبل أن تكون ممفيس عاصمة الأمة الثانية في مصر السفلى. وأيًّا كانت عظمة الآثار المعمارية للثانية، إلا أن الآثار المعمارية للأولى تجاوزتها بمراحل. وإن تصوير هذه الآثار المعمارية بالقلم أو بالفرشة لن يعطينا غير فكرة باهتة عن المدينة في صورتها الكاملة. ونرى المدينة في صورتها الراهنة أشبه بمدينة عمالقة وقد أصابها الدمار عقب معركة طويلة، وخلَّفت أطلال المعابد المختلفة لتبقى شاهدًا على وجودها.
إن معبد الأقصر (حيث كان يلتقي أعضاء المحفل الأعظم من المريدين) ينتصب فوق منصة مرتفعة تتألف من بناية بالآجر، تغطي مساحة طولها أكثر من ألفي قدم، وعرضها أكثر من ألف قدم (لاحظ الشكل المستطيل الذي أصبح نمطًا لجميع دور العبادة والكنائس في العالم).
وكان هذا المعبد محطَّ اهتمام أعضاء جميع الطرق أو الرهبانيات القديمة، خاصة جميع أعضاء تلك الطرق والرهبانيات الذين اعتادوا، ربما أكثر من غيرهم، على العبادة في قدس أقداس النار السرية. ويطل هذا المعبد على الضفة الشرقية للنيل، وهو الآن أطلال في حالة يُرثى لها. غير أن السجلات تقول إن حجمه ذا النِّسب المذهلة تجعل الرائي ينسى أوجه النقص فيه الآن. وقد أزيل — منذ ما يقرب من ربع قرن مضى — الجزء الأكبر من أعمدة الجدران الداخلية والخارجية، بعد أن انهارت لاستخدامها في أغراض أخرى. وأسس هذا المعبد الفرعون أمينوتيس أو أمنحوتب الثالث الذي شيد الجزء الجنوبي الذي يشتمل على بهو أعمدة ضخم يطل على النيل. غير أن الدمار الذي لحق بالمبنى أخفى — لسوء الحظ — هذه الحقيقة. ويطل المدخل الرئيسي للمعبد جهة الشرق، أما الغرف المقدسة — عند الطرف العلوي للسهل — فهي تقترب من النيل. وعلى الرغم من عظمة معبد الأقصر إلا أن معبد الكرنك فاقه عظمة وضخامة، وإن المسافة الفاصلة بين هذين الصرحين العظيمين تساوي ميلًا ونصفًا، ونجد على طول هذا الطريق صفَّين من تماثيل لأبي الهول موضوعة بفاصل اثني عشر قدمًا بين كل منها، وعرض الطريق ستون قدمًا. وكان هذا الطريق — وقتما كان في حالته المثلى الكاملة — يمثِّل أغرب مدخل شهده العالم، ولو أن لدينا القدرة على أن نرسم من وحي خيالنا صورة لمواكب المريدين المهيبة ذات الجلال التي اعتادت — دائمًا وأبدًا — أن تمرَّ عبر هذا الطريق، والمشاركة في احتفالات الالتحاق، فإننا سنعجز عن تصوير عظمة وأبهة الجو المحيط ومنظر الألوان الجليل والحُلي والزخارف المهيبة التي يتحلى بها المشاركون في الموكب. ولن نستطيع كذلك أن نصور الموسيقى التي تصدح محافظة على إيقاع الخطو الثابت والمنتظم لذلك العدد الضخم من الناس … فيا لبؤس الأذن المثقفة في القرن العشرين. ولكن أه لو أن الزمن لم يطمس هذه الألحان المرتجفة التي ترنمت بها شفاه الجماهير الحاشدة على مدى الزمان، وأولئك الذين استهل تاريخهم أعمق الأماني التي خفق بها القلب البشري كأنها مسار نهر قوي جبار … لا بد وأن مصر كانت — وقت تشييد هذه المعابد — أمة حربية شجاعة، ذلك لأن سجلات معاركها الحربية خلَّدتها نقوش عميقة لا تزال راسخة — حتى الآن — تستثير إعجاب أفضل خبراء الآثار. ولقد كانت — أيضًا — أمة على درجة عالية من الحضارة، وذات طبيعة تؤهلها لتحمُّل النفقات التي تقتضيها ثقافة الفنون. إنها بفنها المعماري المذهل تجاوزت جميع الأمم التي ظهرت على سطح الأرض.
إنني مقتنع — تمامًا — بهذه الإشارات والاقتباسات التي تؤكد وجود المحفل المصري الأعظم لنظم الأسرار قديمًا، ومقتنع بأنه كان موجودًا — حقًّا وفعلًا — منذ حوالي خمسة آلاف عام أو يزيد، شامخًا على ضفتي النيل في مدينة طِيبة، وإنه كان البيت الديني الكبير الوحيد في العالم القديم، وقد عثرنا على أطلاله في مصر. وكان هو الهيئة الحاكمة أو السلطة العليا المسئولة — بالضرورة — عن إدارة وتوجيه الطقوس الدينية السرية ونظام الأسرار المصري القديم، علاوة على المدارس الفلسفية وبيوت العبادة أو المحافل الصغرى التي أنشئت تابعة له.
(ﺟ ٤) إعادة بناء معبد دلفي
وبناءً عليه طافوا في جميع الأراضي يسألون العونَ والمساعدة، ولكن باءت جهودهم بالفشل، وقرروا زيارة الأُخوَّة في مصر. وفاتحوا الملك أماسيس أو أحمس في الأمر والذي لم يتردد، باعتباره المعلم أو السيد الأعظم، في التقدم لإعادة بناء المعبد، وقدم منحة تعادل ثلاثة أمثال المبلغ اللازم.
ملحوظة هامة
حري بنا هنا ملاحظة الآتي:
-
(١)
اعتاد اليونانيون النظر إلى معبد دلفي باعتباره مؤسسة أجنبية ولذلك؛
-
(٢)
لم يكن اليونانيون يتعاطفون تجاهه، وعمدوا للسبب نفسه إلى تدميره حرقًا.
-
(٣)
واضح تمامًا أن معبد دلفي كان شعبة تتبع نظام الأسرار المصري، وأقيمت في اليونان.
(انظر [۱]، ص۱٣٥، ۱۳۹)؛ ((٢٤)، ص٣٦٣ ك٢).
(٣) إلغاء كل من الفلسفة اليونانية ونظم الأسرار المصرية يؤكد وحدتهما
منذ غزو الإسكندر الأكبر لمصر شرع اليونانيون، الذين استهوتهم دائمًا نظم العبادة السرية على أرض النيل، محاكاة العقيدة الدينية المصرية في صورتها الكاملة. وانتشرت الديانة المصرية أثناء الاحتلال الروماني في إيطاليا، وأيضًا في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، بما في ذلك بريتاني في شمال فرنسا.
وانحصر تمثُّل الديانة المصرية في الأرباب والدورة الأوزيرية وإله العالم السفلي الرب سيرابيس المصري اليوناني، واستهدفت المحاكاة الوثيقة للتقاليد القديمة لأرض النيل. ونظرًا لفخامة وروعة العمارة والنقوش الهيروغليفية على جدران المعابد والمسلات وتماثيل أبي الهول المقامة أمام الأقداس، وملابس الكهنة الكتانية ورءوسهم ووجوههم الحليقة، والشعائر المتصلة إلى ما لا نهاية والمبهمة، كل هذا ملأ نفوس اليونانيين رهبة، ومن ثَم اعتقدوا أن الطقوس السرية المثيرة للدهشة تمثِّل أساسًا لهذه الغوامض، ولهذا أيضًا وقفت الديانة المصرية حائلًا في طريق انتشار المسيحية الصاعدة.
ولا ريب في أن نجاح الديانة المصرية يرجع، من ناحية، إلى النزعة المحافظة، كما يرجع، من ناحية ثانية، إلى التجريدات الفلسفية الغامضة التي تؤلف الديانة اليونانية الرومانية. ولهذا فإن الإيمان القوي للمصريين، بالإضافة إلى الأشكال السرية لعبادتهم، أفضى كلُّ هذا إلى الاعتقاد، الذي ساد بين القدماء جميعًا في كل أنحاء الأرض، وهو الاعتقاد بأن مصر ليست — فحسب — أرضًا مقدسة، بل إنها أقدس الأراضي أو الأقطار قاطبة، وإنها مستقر الآلهة حقًّا.
وأصبح النيل مركز الحجيج وقِبلتهم في العالم القديم؛ يحج إليه الناس من جميع الأقطار، حيث يعاينون مظاهر الوحي المذهلة، والكرامات الروحية التي تتهيأ لهم، ثم يعودون وقد استقر في نفوسهم إيمان بأن النيل مهبط أعمق المعارف الدينية قاطبة.
ولكن خلال القرن السادس الميلادي أصدر الإمبراطور جوستنيان مرسومًا آخر لقمع هذه البقية الباقية من معتنقي الديانة المصرية، ولنشر المسيحية بين النوبيين. وطوى النسيان العقيدة المصرية بموت آخر كهنتها، الذي كان يعرف قراءة وشروح «كتابات كلمات الآلهة» (أي اللغة الهيروغليفية). وظل السحر الشعبي هو المجال الوحيد الذي يحتفظ ببعض الممارسات المتخلفة كبقايا أثرية للعقيدة التي أضحت ديانة عالمية، أو الاحتفاظ بتمثال إيزيس وحورس الذي اعتاد الناس إلى النظر إليه باعتباره يمثِّل السيدة العذراء وطفلها.
ولا تزال نفوس الناس تحمل مشاعر الإعجاب والرهبة إزاء هذه العقيدة الدينية التي تُعتبَر — بحقٍّ — أغرب العقائد جميعها، غير أن المعلومات، التي أثبتها الكُتَّاب الكلاسيكيون، عن هذه العقيدة قاصرة. إن غزو نابليون لمصر قد أحيا اهتمام الغرب من أجل حل رموز النقوش المصرية القديمة والكتابات المثبتة عل ورق البردي، بهدف فهم وتقييم هذه الحضارة الأولى والأسبق بين الحضارات القديمة (انظر [٢٥]، ص٢٤١–٢٤٥، ف۸؛ و[۱]، ص٥٠٨ و٥٤٨ و٥٥٢–٥٦٨).
تفيدنا الاقتباسات — سالفة الذكر — بالمعلومات والحقائق التالية:
-
(١)
نظم الأسرار المصرية تحولت إلى الديانة التي اعتنقها العالم القديم، وانتشرت في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، بما في ذلك إيطاليا واليونان وآسيا الوسطى، وأنحاء مختلفة من أوروبا حتى وصلت إلى مقاطعة بريتاني في شمال فرنسا. واستمرت هذه العقيدة تحت مسميات متباينة بعد فترة طويلة من تاريخ صدور مرسوم التسامح الذي أصدره جوستنيان منحة إلى المسيحيين.
-
(٢)
كانت مصر هي الأرض المقدسة في نظر العالم القديم يحج إليها الناس لينعموا بتجليات الإلهامات المذهلة والكرامات الروحية، هذا فضلًا عن الاقتناع السائد بين القدماء بأن مصر مهبط الوحي وأرض الآلهة.
-
(٣)
إن المرسوم الذي أصدره ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي، وكذا المرسوم الذي أصدره جوستنيان في القرن السادس الميلادي أدَّيا إلى إلغاء نظام الأسرار المصري، كما أدَّيا كذلك إلى إلغاء المدارس الفلسفية، المنبثقة عن هذا النظام، الموجودة خارج مصر، سواء في اليونان أم في غيرها.
-
(٤)
إن إلغاء نظم الأسرار المصرية هيَّأ فرصة لاعتناق المسيحية، وأصبحت المشكلة على النحو التالي: شعرت الحكومة الرومانية أن مصر مُنيت بهزيمة مسلحة، وجثت على ركبتيها، ولكن حتى تستكمل الغزو، يلزم إلغاء نظم الأسرار المصرية التي كانت لا تزال تتحكم في العقل الديني للعالم القديم، ومن ثَم لا بد من توفر عقيدة دينية عالمية جديدة تحل محل الديانة المصرية . وهذه العقيدة الدينية الجديدة التي ستحل محل نظم الأسرار لا بد وأن تكون مثل هذه النظم، قوة وشمولًا عالميًّا، ووصولًا إلى هذا يتعين عمل أي شيء لتعزيز نفوذها. ويفسر لنا هذا سبب النمو السريع للمسيحية عقب صدور مرسوم جوستنيان بشأن التسامح.
-
(٥)
منذ أن ألغى مرسوما ثيودوسيوس وجوستنيان كلًّا من نظم الأسرار في مصر ومدارس الفلسفة في اليونان؛ بدا واضحًا تطابق طبيعة نظم الأسرار المصرية وطبيعة الفلسفة اليونانية؛ كما وضح أن الفلسفة اليونانية انبثقت عن نظم الأسرار المصرية.
(٤) كيف أعطت أفريقيا ثقافتها للعالم الغربي
سبق أن ذكرنا أن نظم الأسرار المصرية ومدارس الفلسفة في اليونان أُغلِقت جميعها بناء على مرسوم ثيودوسيوس في القرن الرابع الميلادي، ومرسوم جوستنيان في القرن السادس الميلادي (٥٢٩م)، ونتيجة لذلك خيَّم الظلام الفكري على أوروبا المسيحية وعلى العالم اليوناني الروماني طوال عشرة قرون. وتلاشت المعرفة على مدى هذه الحقبة. وكما ذكرنا، في موضع سابق، فإن اليونانيين لم يكشفوا عن أي قوى إبداعية، وعجزوا عن التطور تأسيسًا على المعارف التي تلقَّوها من المصريين (انظر [٢٦]، ص١٤١، ١٥٣؛ [۲]، ص۳۱).
مفاد هذا الكلام أن أبناء شعب شمال أفريقيا كانوا جيران المصريين، وأصبحوا وعاء الثقافة المصرية التي نشروها في أنحاء كثيرة واسعة في أفريقيا وآسيا الوسطى وأوروبا. وأظهر المغاربة — خلال احتلالهم لإسبانيا — براعة في الكشف عن عظمة الثقافة والحضارة الأفريقية. واشتهرت المدارس والمكتبات التي أسَّسوها هناك في كل أنحاء عالم العصر الوسيط؛ فكانت منهلًا لغرس ونشر العلوم والتعليم، واقترنت هذه الشهرة الواسعة بمدارس قرطبة وطليطلة وأشبيلية وسرقوسة، حتى إنها، أسوة بالأب الأول مصر، استهوت طلابًا لها من جميع أنحاء العالم الغربي، وظهر من بينهم أشهر من عرف العالم من أساتذة أفريقيين في مجالات علوم الطب والجراحة والفلك والرياضيات. غير أن هؤلاء الناس — من أبناء شمال أفريقيا — قدموا ما هو أكثر من أن يميزهم فقط عن إسبانيا. لقد كانوا — حقًّا وفعلًا — القيمين على الثقافة الأفريقية باعتراف الجميع، وهي الثقافة التي تطلَّع إليها العالم ابتغاء التنوير، وبناءً عليه فإن الفلسفة والفروع الأخرى للعلوم تم بذرها ونشرها عبر اللغة العربية. وشملت ما يلي:
-
(أ)
كل ما يُسمَّى أعمال أرسطو في الميتافيزيقيا وفلسفة الأخلاق والطبيعيات.
-
(ب)
ترجمة ليوناردو بيزانو للعلوم الرياضية إلى العربية.
-
(جـ)
ترجمة جيديو أحد رهبان أريزو للنوتة الموسيقية.
(انظر [٢٦]، ف٩).
علاوة على هذا حافظ المغاربة على اتصالهم المستمر بمصر الأم: ذلك أنهم أقاموا خلفاء في بغداد وفي قرطبة وفي القاهرة عاصمة مصر (انظر [۲۷]، ص٢١٦–۲۱۹) وجدير بالذكر هنا أن جميع القادة العظام للديانات الكبرى في العصر القديم كانوا مريدين لنظام الأسرار المصري: ابتداء من موسى، الذي كان كاهنًا مصريًّا، ووصولًا إلى المسيح.
ولعل من المهم أن نعرف أن العلماء الأوربيين، من أمثال روجر بيكون وجوهان كيبلر وكوبرنيك وغيرهم، قد حصلوا على معارفهم العلمية عن طريق مصادر عربية أو بربرية مغربية. وجدير بالذكر — أيضًا — أنه — وعلى مدى العصور الوسطى — كانت المعارف الأوروبية عن الطب تأتي من هذه المصادر نفسها (انظر [۲۸]، ص۳۷۰، ٦٢٩، ٦٦٥، ٥٧٢؛ و[۲۹]، ص۱۰۷، ۱۲۸، ۱۲۹؛ و[١٢]، ص٥٩، ٦١، ٧٤، ٧٥، ۱۰۹).