المصريون علَّموا اليونانيين
(١) نتائج الغزو الفارسي
(أ) إلغاء قيود الهجرة على اليونانيين، وفتح أبواب مصر على مصراعيها للبحث اليوناني
وعلاوة على هذه التغيُّرات، ألغى الملك أماسيس — أو أحمس — القيود المفروضة على اليونانيين، وسمح لهم بدخول مصر والاستقرار في «نوكراتيس» وحوالي هذا الوقت، أي في عهد أحمس، غزا الفرس — بقيادة قمبيز — مصر، وانفتحت أبواب البلاد على مصاريعها ليقوم اليونانيون بأبحاثهم.
(ب) نشوء التنوير الإغريقي
لم يهيِّئ الغزو الفارسي فقط لليونانيين فرصة مواتية للبحث؛ بل حفزهم أيضًا على خلق تاريخ نثري لأيونيا؛ إذ لم يكن لليونانيين، حتى ذلك الحين، سوى معارف قليلة أو غير دقيقة عن الثقافة المصرية، غير أن اتصالهم بمصر أسفر عن نشوء عصر تنوير لهم (انظر [۳۰]، ص۳۳۸؛ [٣١]، ك٢، ص۱۱۳؛ [۳۲]، ص۳۸۰؛ [۳۳]، ۸۰۲، [٣٤]، ك٩، ص٤٩).
(ﺟ) طلاب من أيونيا وجزر بحر إيجة يزورون مصر لتلقي العلم
تمامًا مثلما يحدث في عصرنا هذا؛ حيث تجتذب الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا طلابًا من جميع أنحاء العالم لما تتميز به هذه البلاد من ريادة وقيادة في مجال الثقافة. كذلك كان الحال في العصور القديمة؛ إذ كانت مصر صاحبة القدح المعلَّى في مجال زعامة الحضارة، وتدفق عليها طلاب العلم من جميع أنحاء العالم؛ يلتمسون الالتحاق بنظام الأسرار أو نظام الحكمة فيها.
وبدأت هجرة اليونانيين القدماء إلى مصر بغرض تلقي العلم نتيجة الغزو الفارسي (٥٢٥ق.م.) واستمرت الهجرة إلى أن استولى اليونانيون على مصر، وتيسر لهم الحصول على المكتبة الملكية بعد غزو الإسكندر الأكبر للبلاد. وتحولت الإسكندرية — آنذاك — إلى مدينة يونانية ومركزًا للأبحاث، وعاصمة للإمبراطورية اليونانية الوليدة، في ظل حكم البطالمة. وظلَّت الثقافة المصرية باقية، وازدهرت باسم اليونانيين وتحت سيطرتهم، إلى أن صدر مرسوم ثيودوسيوس — في القرن الرابع الميلادي — ومرسوم جوستنيان — في القرن السادس الميلادي — وبمقتضاهما أغلقت السلطات معابد ومدارس نظم الأسرار المصرية على نحو ما ذكرنا سابقًا (انظر [٢٤]، ك٢، ص٥٥؛ [۱]، ص٥٦٢، ٥٧٠).
أما عن القول إن مصر كانت أعظم مركز تعليمي في العالم القديم أمَّه اليونانيون، شأن غيرهم، لتلقي العلم، فهذه حقيقة يمكن الرجوع فيها ثانية إلى أفلاطون في محاورته طيماويس؛ حيث يخبرنا أن اليونانيين الطامحين إلى الحكمة اعتادوا زيارة مصر للالتحاق والتتلمذ هناك؛ وأن كهنة سايس اعتادوا الحديث عنهم بوصفهم أطفالًا في نظم الأسرار.
وفيما يتعلق بزيارة طلاب العلم من اليونانيين لمصر لتلقي العلم، فإننا نورد ما يلي لا لشيء سوى لإثبات حقيقة تؤكد أن العالم القديم كان ينظر إلى مصر باعتبارها المركز التعليمي، وأن جماعات مختلفة، مثل اليهود واليونانيين، اعتادوا زيارة مصر لتلقي علومها.
-
(١)
يُروى أنه في أيام حكم أماسيس زار طاليس (الذي قيل إنه وُلِد حوالي عام ٥٨٥ق.م.) مصر، وتتلمذ على أيدي الكهنة المصريين الذين قبلوه مريدًا مبتدئًا لتلقي نظم الأسرار والعلوم المصرية. ويُروى أيضًا أن طاليس أثناء إقامته في مصر تعلَّم الفلك ومساحة الأراضي وفن القياس والهندسة وفقه الإلهيات المصري (انظر [٣٥]، مادة طاليس، [۲]، ص٣٤، ٢٤ مادة طاليس).
-
(٢)
ويُروى أيضًا أن فيثاغورس، وهو من مواطني ساموس، سافر — مرات عديدة — إلى مصر لتلقي العلم، ووجد لزامًا عليه، شأن كل طموح إلى العلم، أن يضمن رضا وعطف الكهنة. وأفاد ديوجين أن علاقة صداقة جمعت بين بوليكراتيس — من جزيرة ساموس — وبين الملك أماسيس — ملك مصر — وأن بوليكراتيس سلَّم فيثاغورس رسائل ليقدم بها نفسه إلى الملك الذي قدمه بدوره إلى الكهنة؛ أولًا إلى كاهن هليوبوليس، ثم إلى كاهن ممفيس، وأخيًرا إلى كهنة طيبة. وقد أهدى فيثاغورس إلى كل منهم كأسًا ذهبية (انظر [٣١] ك٣، ص١٢؛ [٣٤]، ك٨، ص٣؛ وانظر أيضًا Pliny N. H 36.9 سجله تورنير).
وقيل لنا أكثر من هذا على لسان هيرودوت وجابلونسك وبليني، إنه بعد أداء اختبارات عديدة، من بينها الختان الذي فرضه عليه الكهنة المصريون، أجيز له — أخيرًا — الانضمام إلى جميع أسرارهم. وتعلَّم أيضًا مذهب التقمص الروحي، وهو مذهب لم يكن له أي أثر قبل ذلك في الديانة اليونانية. وعرفنا كذلك أن معارفه في مجال الطب، والتزامه بنظام غذائي له قواعد صارمة، كل هذا مايزه عن غيره؛ باعتبار أنها أمور تخص مصر التي بلغ الطب فيها شأوًا عظيمًا، لا يدانيه أي مكان آخر. واكتسب معلومات في مجال الهندسة تتطابق مع حقيقة مؤكدة أن مصر مهد ذلك العلم. ولدينا — زيادة على هذا — آراء وأخبار بلوتارك وديمتريوس وأنتيستين الذين قالوا إن فيثاغورس أسَّس علم الرياضيات بين اليونانيين، وإنه قدم فدية إلى ربات الفنون عندما شرح له الكهنة خصائص المثلث قائم الزاوية (انظر [٣٦]، ص۱۰۸۹؛ [۳۷]، ص٣٦). وتثقف فيثاغورس كذلك في الموسيقى على أيدي الكهنة المصريين (انظر [٢٤]، مجلد ۱، ص٢٣٤).
-
(٣)
حسب رواية كل من ديوجين لايرتيوس وهيرودوت، نعرف أن ديمقريطس وُلِد حوالي عام ٤٠٠ق.م. وأنه من مواطني أبديرا في ميليتوس، وروى لنا ديمتريوس، في رسالته التي تحمل عنوان «أصحاب الأسماء المتماثلة»، كما روى أنتستين في رسالته «الخلاقة» أن ديومقريطس سافر إلى مصر لتلقي العلم، وتعلم على أيدي الكهنة. ونعرف أيضًا، من ديوجين وهيرودوت، أنه قضى في مصر خمس سنوات، تتلمذ خلالها على أيدي كهنة مصر، وبعد أن أكمل تعليمه ألَّف رسالة عن الخصائص المقدسة لجزيرة ميروي.٢
ونعرف المزيد، في هذا الصدد، على لسان أوريجين الذي يروي أن الختان كان إجباريًّا، وكان أحد الشروط اللازمة للشروع في معرفة اللغة الهيروغليفية المقدسة وتحصيل العلوم المصرية. وواضح أن ديمقريطس التزم بأداء هذه الشعيرة بغية الحصول على هذه المعرفة. ونقرأ فيما يلي ما كتبه أوريجين، وهو مواطن مصري:
Apud Aegyptios Nullus aut Geometrica Studebat, aut astronomiae secreta secreta remabatur, nis circumcisione suscepta.وترجمتها: «لا أحد من المصريين، سواء درس الهندسة أو بحث في أسرار الفلك، تأتَّى له هذا؛ ما لم يجرِ عملية الختان.»
-
(٤)
وروى لنا هرمودور عن رحلات أفلاطون، أن أفلاطون وهو في سن ۲۸ زار إقليدس في ميجارا، ومعه عدد من تلامذة سقراط. وأنه زار خلال السنوات العشر التالية من عمره كلا من سيرين٣ وإيطاليا، ثم زار — أخيرًا — مصر؛ حيث تتلمذ على أيدي رجال الدين المصريين.
-
(٥)
أما عن سقراط وأرسطو وغالبية الفلاسفة السابقين على سقراط، فيبدو التاريخ صامتًا لا يجيب على مسألة سفرهم إلى مصر لتلقي العلم، شأن غيرهم من الطلاب الذين أسلفنا ذكرهم. وحسبنا أن نقول إن الاستثناء في هذه الحالة يثبت القاعدة، أن جميع الطلاب، الذين تيسَّرت لهم الوسيلة، سافروا إلى مصر لاستكمال تعليمهم. وإذا كان التاريخ لم يقدم لنا رواية كاملة شاملة وشافية عن هذا النوع من الهجرة فقد يكون مرد ذلك إلى بعض أو كل الأسباب التالية:
- (أ)
القوانين المقيِّدة للهجرة المفروضة على اليونانيين حتى عهد الملك أماسيس والغزو الفارسي.
- (ب)
التاريخ الواقعي لم يكن متطورًا بعد بين اليونانيين خلال فترة هجرتهم التعليمية إلى مصر.
- (جـ)
اضطهدت السلطات اليونانية طلاب الفلسفة وأجبرتهم على التخفي،
وبناءً عليه:
- (د)
تعمَّد طلاب نظم الأسرار المصرية إخفاء تحركاتهم.
- (أ)
وليسمح لنا القارئ أن نعيد ذكر أنكساجوراس الذي قدمته السلطات إلى المحاكمة وسجنته؛ وأنه هرب من سجنه، وفرَّ إلى وطنه في أيونيا. كذلك سقراط الذي حوكم وسُجن ثم أعدِم، وتذكر أيضًا أن أفلاطون وأرسطو فرَّا من أثينا بسبب الشكوك الكثيرة والخطيرة التي أحاطت بهما (انظر [۳]، ص٦٢، ۳۸؛ [۲]، ص٤٨، ۲۷؛ [٤]، ص٧٦؛ [۳]، ص١٢٦).
(٢) نتائج غزو الإسكندر الأكبر مصر
(أ) نهب المكتبة الملكية والمتحف وكذا المعابد والمكتبات الأخرى في مصر
كما ذكرنا — في موضع سابق — فقد كانت إحدى عادات الجيوش الغازية — قديمًا — اعتبار المكتبات والمعابد غنيمة حرب بهدف الاستيلاء على ما فيها من كتب ومخطوطات والتي يرونها كنوزًا عظيمة القدر، ويكفي أن نذكر هنا بعض الأمثلة القليلة للتحقق من هذه العادة:
-
(أ)
رُوي أنه أثناء الغزو الفارسي، الذي بدأ بقيادة قمبيز، لم يقتصر الأمر على تجريد المعابد المصرية مما فيها من ذهب وفضة، بل عاثوا فيها بحثًا عن السجلات القديمة لسرقتها؛ لقد كان كل معبد مصري يضم مكتبة سرية بها كتب ومخطوطات تحتوي أسرار العلوم.
-
(ب)
«ورُوي» أيضًا أنه حين استولى الرومان على أثينا عام ٨٤ق.م. ثم الاستيلاء على الكتب التي تحويها المكتبة — التي قيل إنها تخص أرسطو — ونُقِلت إلى روما (انظر [۳]، ص۱۲۸؛ [٢٤]، مجلد ۲، ص٤٣٢).
ومثلما حدث عند غزو الفرس مصر؛ حيث جرَّدت الجيوش الغازية المعابد مما فيها، من ذهب وفضة وكتب مقدسة، ومثلما حدث أيضًا عندما استولى الرومان على أثينا حيث اغتصب صولا المكتبة الوحيدة التي عثر عليها كذلك، لنا أن نتوقع ما فعله الإسكندر الأكبر عند غزو مصر. إن من أول الأشياء التي لا بد وأنه أقدم على فعلها، هو ورفاقه وجيوشه، سيكون — بالضرورة — البحث عن الكنوز التي في البلاد والاستيلاء عليها. ولقد كانت هذه الكنوز مودَعة في المعابد والمكتبات، وتضم كميات من الذهب والفضة اللازمة لاستخدامها بالنسبة للآلهة وفي مواكب الاحتفالات، مثلما كانت تحتوي على العديد من الكتب المقدسة والمخطوطات المودَعة داخل المكتبات، وفي داخل قدس الأقداس لكل معبد من المعابد.
وعندي اعتقاد جازم بأن هذه — في الحقيقة — كانت أعظم فرصة أتاحها الإسكندر الأكبر لأرسطو، ويسَّر له ولتلامذته الاستيلاء على أكبر عدد ممكن من الكتب التي احتاجوا إليها من المكتبة الملكية، وتحويل المكتبة إلى مركز أبحاث. وكان هناك أيضًا — علاوة على المكتبة الملكية بالإسكندرية — مكتبة أخرى شهيرة بالقرب منها وهي «مكتبة طِيبة الملكية»، وتُعرَف باسم المنيفثيون التي أسَّسها الفرعون سيتي، وأكملها رمسيس الثاني، ولكن قليلًا ما يأتي في التاريخ ذكر هذه المكتبة التي هي أعظم المكتبات الملكية المصرية.
بَيْدَ أن أي جيش غازٍ سوف يبدأ بنهب المكتبة الملكية بالإسكندرية كغنيمة ثم يتجه بعد ذلك إلى مكتبة المنيفثيون في طيبة، وقد يشرعون — أيضًا — في زيارة مدينتي ممفيس وهليوبوليس، ويغنمون — بالمثل — مكتباتهما ومعابدهما، لقد كانت هذه هي عادة القدماء، وهي — يقينًا — إحدى الوسائل التي لجأ إليها اليونانيون للحصول على علوم المصريين (انظر [٢٥]، ص۱۸۷–۱۸۹، ٢٠٥؛ [۷] ص١٦، ٥١؛ [۳۹]، ج۱، ص٢٧؛ [٢٤]، ج٢، ص٤٣٢-٤٣٣) ولهذا نرى أنه اعتقاد خاطئ الظن بأن اليونانيين أقاموا — بجهودهم الذاتية — وعلى أرض مصر جامعة كبرى بالإسكندرية، وتخرَّج فيها أعداد كبيرة من الباحثين والمفكرين. وحيث إنها، من ناحية أخرى، حقيقة معروفة أن مصر كانت أرض المعابد والمكتبات؛ إذن نستطيع أن نتبين كم يسيرًا على اليونانيين أن يجرِّدوا المكتبات المصرية الأخرى من محتوياتها من الكتب بغية الإبقاء على مكتبة الإسكندرية الجديدة، بعد أن كان قد نهبها بالفعل أرسطو وتلامذته. لقد حوَّل اليونانيون (أعني الإسكندر الأكبر، ومدرسة أرسطو، ومن جاء من بعدهم من البطالسة) مكتبة الإسكندرية الملكية إلى مركز أبحاث بأن نقلوا مدرسة أرسطو وتلامذته من أثينا إلى هذه المكتبة المصرية العظمى، ومن ثَم فإن الطلاب الذين كانوا يدرسون هناك تلقَّوا تعليمهم على أيدي الكهنة والمعلمين المصريين إلى أن وافتهم المنية. وغني عن البيان أن صعوبة اللغة والترجمة ألزم اليونانيين الاستعانة بمعلمين مصريين.
إن اليونانيين لم يحملوا معهم ثقافة وتعليمًا إلى مصر، بل وجدوا هذا جاهزًا هناك، واختاروا — عن فطنة وذكاء — الاستيطان في هذا البلد بغية استيعاب أكبر قدر ممكن من الثقافة.
(ب) مكتبة طِيبة الملكية
ولكن إذا ما اطَّلعنا على تخطيط موجز لعظمة مكتبة طيبة الملكية، أو المنيفثيون، فإننا سنرى الصورة على نحو أفضل، وسوف نسلِّم — مضطرين — بأن مصر مستودع الثقافة قديمًا، وأنه تم الاحتفاظ بالثقافة في صورة أعمال أدبية مودَعة في مكتباتها ومعابدها العظيمة. ومع أن مكتبة طيبة الملكية تضارع مكتبة الإسكندرية الملكية عظمة، إلا أننا نتبين في مكتبة طيبة الملكية شيئًا أكثر جلالًا وأصدق تعبيرًا عن حقيقة عظمة مصر القديمة.
ونشاهد بعد ذلك بقايا قاعة مساحتها ١٣٣ في ١٠٠ قدم، يدعمها ٤٨ عمودًا، من بينها اثنا عشر عمودًا، ارتفاع كل منها ۳۲ قدمًا، ومحيطها ۲۱ قدمًا. ونجد، على أجزاء مختلفة من الأعمدة والجدران، صورًا تمثل الملك يتضرع — وفاء — إلى كبار الآلهة في بانثيون طيبة أو هيكل جميع الآلهة، كما نشاهد البركات السخية التي تنعم بها الآلهة على الملك استجابة لضراعاته. ويصور لنا نحت آخر كبيري آلهة مصر يقلدان الملك رموزَ السلطة العسكرية والمدنية، وهي سيف معقوف وسوط وصولجان مقدس. وترى أسفل النحت موكبًا يضم ٢٣ من أبناء رمسيس يحمل كلٌّ منهم رمز منصبه الرفيع في الدولة، وقد نُقِشت أسماؤهم فوق رءوسهم، ووراء القاعة تسع غرف أصغر حجمًا، لا تزال غرفتان منهما باقيتين وقد دعمتهما الأعمدة. ونشاهد عند باب أول غرفة نحتًا يصور الإله تحوت الذي أبدع حروف الكتابة، ونحتًا للإلهة ساف تحمل اسم «سيدة الأبجدية»، ونرى صورة رئيس قاعة الكتب يصطحب الأول حاملًا رمز إحساس البصر، ويصطحب الثانية حاملًا رمز السمع.
ولا ريب في أن هذه هي المكتبة المقدسة التي يصفها ديودور، حسب عبارة منقوشة تقول «دواء العقل»، وسقف هذا المبنى معبَّر فلكيًّا؛ إذ يمثل شهور السنة الاثني عشر في التقويم المصري مع نقوش استخلص منها الباحثون دلالات هامة تتعلق بتأريخ فترة حكم رمسيس الثالث.
ونجد على الجدران صورة موكب للكهنة يحملون الفنون المقدسة، وفي الغرفة التالية، وهي آخر ما تبقى الآن، صورة الملك يقدم القرابين إلى الآلهة المختلفة (انظر [٢٤]، ك١، ص۱۲۸–۱۳۱).
(ﺟ) متحف ومكتبة الإسكندرية كانا جامعة
بلغت شهرة متحف ومكتبة الإسكندرية أقصاها في العالم القديم حتى إننا نعجب لماذا لم تصلنا معلومات أكثر عن هذا المركز التعليمي. ولا ريب في أن بضع إشارات إلى المصادر الثقات قد يساعدنا على توضيح الأمر في هذا الصدد.
نعرف من كتاب سيد جويك وتيلر «تاريخ العلم» (الفصل الخامس، ص۸۷–۱۱۹) أن إخضاع الإسكندر الأكبر لمصر عام ۳۳۰ق.م. قد عاق الحضارة اليونانية عن تحقيق المزيد من التطور على أرضها، اليونان نفسها.
وألحقت بالمتحف مكتبة عظيمة بها قاعة طعام وقاعات للمحاضرات يستخدمها أساتذة الجامعة. وتحوَّل المتحف إلى مدرسة للفلاسفة ولعلماء الرياضيات والفلك، وأصبح هذا المكان، وعلى مدى سبعمائة عام بعد ذلك، الموطن الرئيسي للعلم.
ولكن جدير بنا أن نتذكر هنا أن العبارة السابقة التي قالها سيد جويك وتيلر عبارة مضلِّلة نظرًا لأن اليونانيين لم يحملوا معهم حضارة خاصة بهم إلى مصر، بل العكس هو الصحيح؛ إذ إنهم وجدوا في مصر ثقافة مصرية متطورة إلى أقصى حدٍّ بمقياس العصر، أمكن الحفاظ عليها إلى حين بفضل استخدام الكهنة والعلماء المصريين للعمل معلمين بها.
(د) اليونانيون يطبقون سياسة عسكرية للحصول عنوة على المعلومات من المصريين
من بين السياسات العسكرية التي اتَّبعتها السلطات اليونانية في الإسكندرية — كسلطات احتلال — إصدار أوامر إلى كبار الكهنة المصريين للحصول منهم على معلومات بشأن التاريخ المصري، والفلسفة والديانة في مصر. وهذا النهج القديم لا يختلف — في كثير أو قليل — عن نظيره في العصر الحديث؛ إذ من المعتاد — في الزمن الحديث — أن تعقد الجيوش الغازية المنتصرة اجتماعات مع رجال العلم في البلد المهزوم بغية اكتشاف ما إذا كان في جعبتهم شيء جديد أم لا في مجال العلوم التي قد تكون في حوزتهم. وحري بنا هنا أن نتذكر ما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية حين عقد العلماء الأمريكيون مؤتمرًا مع العلماء اليابانيين في طوكيو. ورُوي — بناء على ذلك — أن بطليموس الأول الملقَّب بالمخلص أراد أن يستكشف أسرار الحكمة المصرية أو الأسرار فأمر مانيتو كبير كهنة معبد إيزيس في مدينة سيبينيتوس في الدلتا أن يكتب فلسفة المصريين وتاريخ ديانتهم.
وبناء على ذلك نشر مانيتو عديدًا من المجلدات، عن هذين الموضوعين، وأصدر بطليموس أمرًا بحظر ترجمة هذه الكتب التي يتعين الاحتفاظ بها — من باب الاحتياط — في المكتبة لتعليم اليونانيين على أيدي الكهنة المصريين. ويتضح هنا — بجلاء — أن أول أساتذة مدرسة الإسكندرية هم الكهنة المصريون، وأن الباحثين وتلامذة أرسطو نقلوا المدرسة، وتلقَّوا تثقيفهم العلمي مباشرة على أيدي الكهنة المصريين، ومن الأهمية بمكان ملاحظة أن الكتب الدراسية الأساسية في مدرسة الإسكندرية هي كتب مانيتو.
وقيل، على لسان أبوملودوروس، والذي استقى منه سينكيلوس معلوماته، أن بطليموس الثاني أمر إراتوستين الكيرنياني (أي رجل أسود من مواطني المدينة اليونانية كيرين) وأمين مكتبة الإسكندرية أن يكتبا تأريخًا لملوك طيبة، وأنجز إراتوستين ما طُلِب منه بمساعدة رجال الدين المصريين في طيبة (انظر [٢٤]، مجلد ۲، ص۸۱).
علاوة على هذا، أصبحت العادة المتبعة في ظل الاحتلال اليوناني والروماني استخدام الكهنة والمفكرين المصريين أساتذة في مدرسة الإسكندرية.
ورُوي أنه في عهد تيودوسيوس (۳۷۸–٣٩٥) ألَّف الأستاذ المصري هورابولُّو منظومة عن اللغة الهيروغليفية المصرية. ومعروف أن منظومة اللغة الهيروغليفية المصرية التي ألَّفها هورابولُّو هي أفضل ما وصل إلينا في العصر الحديث، ورُوي — أيضًا — أن هذا الأستاذ لم يعلِّم فقط في مدرسة الإسكندرية، بل علَّم أيضًا في القسطنطينية (انظر [٢٤]، ك١، ص٢٤٢ و٤٠).
(٣) المصريون أول من علَّم اليونانيين المدنية
عرفت اليونان — قديمًا — المدنية بواسطة مستعمرات تابعة لمصر ثم فينيقيا وتراقيا. كانت هذه الأقطار خاضعة لحكم رجال دولة حكماء، لم يقهروا فقط ضراوة العامة الجهلاء بفضل المؤسسات الدينية؛ وإنما هيَّئوا لهم لجام العقيدة الدينية المكين والخوف من الآلهة. وأيًّا كانت العقائد التي تعلَّموها — كلٌّ في بلده — عن الأمور الإلهية والبشرية، إلا أن هذه المجتمعات — حديثة التكوين — تلقَّت مذهبًا، في الفضائل، قادرًا على أن يحقق ضبط النفس. لقد كان فورونيوس وكيكروبس مصريين، وكان كادموس فينيقيًّا وأورفيوس من تراقيا، وحمل كلٌّ منهم إلى اليونان — من خلال مستعمرات بلاده — المذاهب الدينية والفلسفية الخاصة ببلده.
وممارسة تعليم مبادئ العقيدة الدينية للناس، تحت ستار الأساطير، إنما نشأت بداية على أيدي المصريين. واتَّبع نفس النهج من بعدهم الفينيقيون والتراقيون، ثم دخلت بعدهم إلى اليونان القديمة.
ويقول سترابو إنه لم يكن ممكنًا — في العصور القديمة — توجيه حشد متنافر إلى الدين والفضيلة عن طريق محاضرات فلسفية، وإنما كان هذا ليتحقق بوسيلة واحدة فقط هي الاستعانة بالخرافة والمعجزات والحكايات الخيالية. ومن ثَم كانت الصاعقة الرعدية، والدرع، والرمح، والسهم، والمشاعل، والحيَّات هي الأدوات التي يستعين بها مؤسسو الدول لإرهاب الجاهل والعامي وإخضاعه لسلطانهم؛ وهذه إشارات واضحة الدلالة بذاتها.
ولقد استخدم اليونانيون اسم كيوبس وكيكروبس بديلًا عن الاسم المصري خوفو الذي يعود إلى الأسرة الرابعة المصرية أو إلى عصر الأهرامات، أي ۲۸۰۰ق.م. (انظر [٩]، ك١؛ [٤١]، ك٢، ص٦٢).
(٤) الإسكندر الأكبر يزور كاهن معبد آمون في واحة سيوة
لن يكتمل أي نقاش عن غزو الإسكندر مصر دون الإشارة إلى زيارته الشهيرة لكاهن معبد آمون الواقع في واحة سيوة. أقام الإسكندر حامية عسكرية في بيلوزيوم، ثم اتجه، بعد ذلك، عبر الصحراء بمحاذاة الضفة الشرقية للنيل حتى وصل إلى هليوبوليس، وعبر النهر إلى ممفيس؛ حيث كان أسطوله ينتظره هناك، وحيث رحَّب به المصريون وتوَّجوه فرعونًا. وبعد أن قدَّم الإسكندر الأضاحي والقرابين إلى الإله أبيس، وإلى غيره من الآلهة، نزل إلى النيل قبيل الفرع الكانوبي، فرع رشيد، وبدأ رحلته إلى كاهن معبد آمون في واحة سيوة. كان الطريق طويلًا على امتداد الساحل الشمالي إلى ليبيا وقطَعه حتى وصل إلى بارايتونيوم، ثم اتجه، بعد ذلك، إلى قلب الصحراء في طريقه إلى واحة سيوة. تُرى ما هو الدافع الذي حفز الإسكندر إلى زيارة معبد آمون؟ لعل وصفًا سريعًا وموجزًا للأهمية الدينية والاقتصادية لمدن هليوبوليس وممفيس وطيبة وأمونيوم يساعد على تحديد هذا الدافع.
أولًا كانت هذه المدن قلاعًا للعقيدة الدينية المصرية، غنية بمعابدها ومدارسها وكهنتها؛ ومن ثَم كانت تمثِّل الحياة الدينية المصرية. ثانيًا، كانت هذه المدن مراكز للتعليم قصدها طلاب العلم اليونانيون الذين سافروا إلى مصر بعد الغزو الفارسي لتلقي العلم فيها، ولكي يثقفهم كهنة إحدى هذه المدن أو جميعها على نحو ما أسلفنا.
ويروي التاريخ أنه في وقت احتلال الفرس لمصر حشد الإسكندر قوات مهولة، واتجه بها إلى هناك، وطرد الفرس وسيطر على مصر. وأستميح القارئ عذرًا أن أسأل السؤال التالي: هل كانت هذه دعابة أم كان ثمة حافز؟ وإذا قلنا أن وراء الأمر حافزًا، فأي حافز آخر غير أن الإسكندر طمع في ثروة الكتب والذهب والفضة والعاج والعبيد والجزية التي كان الفرس يستنزفونها من المصريين التعساء؟
والجدير بالذكر أنه في العصور القديمة كان كاهن معبد آمون — في واحة سيوة — هو الأشهر بين الجميع، وكانت معابد هليوبوليس وممفيس وطِيبة ممثِّلة لأفضل ما في الثقافة المصرية (انظر [٢٤]، ك٢، ص٤٣٣–٤٣٥؛ [۷]، ص١٥، ١٦؛ [٣١]، ك٣، ص١٢٤؛ [٣٤]، ك٣، [۲۱]).